الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / لاضطرابات الجامعة (30) الطب النفسى الطوبائ(2)

لاضطرابات الجامعة (30) الطب النفسى الطوبائ(2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 7-2-2016

السنة التاسعة

 العدد: 3082  

    الأساس فى الطب النفسى  

 الافتراضات الأساسية الفصل السابع: 

ملف الاضطرابات الجامعة (30)

الطب النفسى الطوبائى

ثانياً: الطب النفسى التطورى (أ)

مقدمة:

   يبدو أن الله سبحانه قد شاء أن أكتب بنفسى ما وصلنى بهذا الشأن من خلال هذه الفرصة التى أتاحها لى لأتعرف على ما هو “ربى كما خلقتنى”، ذلك لأننى بعد أن عدَّدْت بعض أنواع الطب الذى اسميتها – خطأ غالبا – الطب النفسى السلبى، خطأ لأنه لكل منها طالبها، ولأنه “وفى كلِّ خير!”، وكما أن كلاًّ منا مهيأ لما خَلِقَ له، فيبدو أن كلا منا أيضا “يمارس ما تعلمه”، وليسهم كلٌّ من موقعه بما تيسر له، مع أملى أن يراجع نفسه – ولو ألقى معاذيره، ومعاذير الناس هذه الأيام براقة لامعة مصقولة جاهزة وحسب الطلب!! والأطباء عموما، والأطباء النفسيون ضمنا، هم ناس من الناس، ويبدو أننى أنتهزتها فرصة لأبدأ بنفسى وأعيد النظر فى “محاذيرى”!

هذا علما بأننى طوال هذه الفترة حوالى أربعة عقود إلا عامين: بعد أن نشرت مقاطع متفرقة لا تعدو أن تكون الخطوط الأساسية للنظرية، يبدو أننى لم أكف عن المراجعة والتعديل، حتى آن الأوان تجتمع أبعادها ليعاد ترتيبها بدءًا بنقدها فى هذا السياق  وقد اتهمتها ضمنا بالطوبائية كما ذكرت.

سوف أبدأ اليوم أولا “بالطب النفسى التطورى” عامة، ولن أتطرق لتاريخه تحديدا حيث أن فكرته الأساسية – حتى من منظور طبى – ظهرت فى منظومات معرفية أخرى سابقة كثيرة ومتنوعة: قبل أن يختص أحد فروع الطب النفسى بهذا الاسم، ولعل أهم ما جمع معالمه مؤخرا هو كتاب بهذا الأسم “الطب النفسى التطورى” بعنوان فرعى يقول: “بداية جديدة” لمؤلفيه أنتونى ستيفن وجون برايس (1).

سوف أكتفى بهذه المقدمة الآن لأقدم مقتطفات دالة من كتاب ستيفن وبرايس، ثم أعقب عليها.

ابتداء أود أن أذكر الأسباب التى دعتنى أن أضع الطب النفسى التطورى الأصلى ثم الطب التطورى الإيقاعحيوى فيما هو الطب النفسى الطوبائى، وأن أتهمهم بالسلبية: ذلك لأنى أعتقد أن الاهتمام بالفرد ممثلا للنوع بغض النظر عن جنسيته أو معتقده أو لونه أو موقفه الاجتماعى، هو أساس الانتماء للفكر التطورى بكل تجلياته وتشكيلاته، وبما أن هذا الانتماء أصبح بعيدا عن الواقع الذى تركز بحق: إما فى السعى لارضاء الحاجات الأكثر إلحاحا للاكتفاء العملى الاختزالى المتواضع بالمطالب الأساسية إن وجدت، وهذا ما يسمى “مستوى الضرورة”، أو تركز بغير وجه حق فى واقعية سطحية تقوم بتقزيم الوجود البشرى عند ما حصَّل عليه من معارف ومعلومات وقيم مشكوك فى عمق موضوعيتها ومدى إرجاع جذورها لأصل الحياة، وامتداد فروعها إلى خالق الحياة، وبديلا عن هذا أو ذاك تقوم برفع شعارات ملتبسة مثل الحرية الشخصية والحقوق المكتوبة، أقول إنه لما صار الأمر إلى هذا أو ذاك أصبح كل من ينادى بالنظر فى جذور الإنسان، ثم حفزه إلى إطلاق فروعه إلى كل المدى بغير مدى، أصبح طوبائيا مرفوضا غالبا، (إن لم يسمع الكلام!!).

لكن ماذا نفعل وقد انقرضت الأحياء جميعا، وما بقى منها وهو واحد فى الألف من كل الأحياء منذ بدء الحياة، والإنسان أحد هذه الأحياء الباقية، ويبدو أن الدور قد جاء عليه للانقراض أولا إن لم يلحق نفسه (ولو بالطب النفسى التطورى!!).

إن الحضارة لم تتقدم لا بالاختزال والتوقف عند مستوى الضرورة ولا بالانخداع فى قيم مشبوهة مكتوبة لصالح الأقوى والأكثر انغلاقا على نفسه أو على ناسه، حتى لو رفعت شعارات مثالية ملتبسة.

من هذا المنطلق انتبهت أنه ما لم يقدم لنا الطب النفسى التطورى منهجا “عمليا” للمرضى يبين لنا ضرورة إسهام كل المعارف والمهن طول الوقت أفرادا أو جماعات فى محاولة تأنيس الإنسان، فإنه سوف يستحق أن يعد طبا سلبيا بالضرورة، إن لم يقدم لنا سبيلا نتعلم منه ونمارسه ونتأكد من خلاله أن الاهتمام بالفرد هو اهتمام بكل الناس، وأن تانيس المريض ومعه تأنيس الطبيب هو مجرد عينة قابلة للاقتداء والامتداد، ما لم يحدث كل ذلك فإنه مرة أخرى جدير بأن ينضم إلى فصيلة الطب النفسى السلبى دون الإيجابى.

دعونا نبدأ بالطب النفسى التطورى المستورد من “بلاد بّره” وهو رائع وعميق وإنسانى وتطورى فعلا و”ناقص”، نعم ناقص مثل كل عمل عظيم لا يكتمل إلا بنقصانه.

المقتطفات والتعليق:

سوف أكتفى اليوم وغدًا بالاقتطاف من مقدمة الكتاب السالف الذكر تأليف: ستيفن وبرايس والتعليق على عدد محدود من المقتطفات.

أولأً: جاء فى مقدمة الكتاب ما يشبه الوعود أو الآمال المنتظر تحقيقها من هذا النوع من الطب وخاصة وأن العنوان الفرعى للكتاب كان “بداية جديدة” A New Beginning  فهل هو كذلك فعلا؟

يقول الكتاب فى المقدمة أن هذا الطب:

(1) إنه – الطب النفسى التطورى – سوف يتيح إمكانية إعادة توصيف ماهية الأبعاد الأساسية لما يسمى “الصحة النفسية”، وبذلك تتكامل معطيات وملاحظات الطب النفسى مع كل من: “علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) – البيولوجيا الاجتماعية – الأنثروبولوجيا عبر الثقافات وغيرها.

التعقيب:

هذا المأخذ أخدته على ما يسمى الطب النفسى الإيجابى، فمع اقتناعى بأن الطب النفسى بالذات والطب عامة يستحيل أن ينفصل بذاته عن سائر مصادر المعرفة والعلوم المتكاملة معه، إلا أن التأكيد على أهمية ذلك ووضعه أولا قد ينقل التركيز على ما هو الطب المهنة الفنية الحرفية لعلاج المرضى فردا فردا إلى الصحة النفسية كقيمة عامّة إيجابية وقائية لها مؤسسات أوْلى بها وأقدر على تنميتها، ومن هنا يجئ الاتهام بالطوبائية إذْ مَا دخل المريض الفرد بالأنثروبولجيا عبر الثقافات، وغاية مراده أن يشفى ليعود لعمله ويلملم أسرته؟

(2) إن الطب النفسى التطورى سوف يسمح بأن نضمّن ما نعرفه عن النمو البشرى كإنسان مع ما نعرفه عن النمو عند الكائنات قبله، وبالتالى سوف يفتح لنا آفاق وضع فروض جديدة تشرح لنا كيفية حدوث نشأة وتطور النفسمراضية (السيكوباثولوجيا) لكثير من الأمراض والمرضى.

التعقيب:

يبدو لى أن هذا المقتطف أقل مثالية، بمعنى أن به حفز طيب يدفع الطبيب أن يستمد معلوماته التطورية العملية ليس فقط من تاريخ نمو الفرد أو حتى الإنسان، وإنما تمتد رؤيته إلى النمو (والتطور) عند الأحياء السابقة، وأرى أن هذه الإضافة لها تطبيقات عملية ليست فقط فى فهم النفسمراضية وإنما فى العلاج عامة بما فى ذلك انتقاء العقاقير، وتحديد جرعتها وتوقيتها، بما يتناسب مع كل مرحلة من مراحل السيكوباثولوجى، والعلاج.

(3) نظراً لأن الطب النفسى التطورى يعطى ثقلا مناسبا ومتوازنا لكل من الجوانب العضوية والنفسية فإن ذلك سوف يسمح بالسعى إلى مزيد من البحث فى العلوم النفسية والعلوم العصبية معا بهدف التكامل مع بعضها البعض، ومع الجسد ككل، ليصب كل ذلك فى معلومات لازمة للطب النفسى.

التعقيب:

أعتقد أن هذه المزية ليست خاصة بالطب النفسى التطورى، فهى شائعة ومكررة، بعمق وبغيره، فى نماذج أخرى مثل النموذج النفسى البيولوجى الاجتماعى، وحتى فى النموذج الطبى بامتداده الأشمل،  وربما تكون الإضافة هنا بالنسبة للتطورى هى فى الأمل فى تكامل أعمق وليس مجرد إضافة إلى جهد الأخصائى النفسى أو الاجتماعى، بمعنى أن يكون الطبيب نفسه قادرا على معايشة هذا التكامل وعلى الرجوع إلى هذه الحقائق الأصلية الأساسية بحيث يصعب عليه  فصل أى منها عن طبيعة العلاقة  المتكاملة مع مريضه.

وبعد

إلى هنا وانتهت المقتطفات من المقدمة، وبرغم ما تحمل من آمال طيبة إلا أننى افتقدت فيها – وفى غيرها – أشارات كافية إلى الخطوات العملية لإمكانية تحقيق هذه الآمال فأجلت الحكم حتى أقرأ قدرا كافيا من هذا الكتاب الرائع.

ولكن قبل أن أختم النشرة أود أن أذكر بالفضل أن الطب النفسى التطورى موجود ظهور من قبل هذا الاسم فمثلا بالنسبة لمدرسة وتوجهات كارل جوستاف يونج الذى لم يغب عن المؤلفين ذكر فضله والاقتطاف منه كلما لزم الأمر، يعتبر أراؤه تطورية بامتياز، لذلك سوف أختم بمقتطفين من ذلك:

الأولى: استشهد المؤلفان بكارل يونج وهو يقول:

 فى النهاية فإن حياة كل فرد فى نفس الوقت: هى الحياة الأبدية لنوعه.

التعقيب:

لاحظ كل “فرد” فى نفس الوقت

 (ثم): الحياة الإبدية لنوعه!!!

الثانية: استشهد المؤلفان أيضا بقول يونج:

“إن التفرد (العملية التى يتكامل بها الإنسان بشرا سويا) هو ممكن إذا أتيحت الفرصة للشخص أن يتكامل فيه ما هو “إنتوجينيا” مع ما هو “فيلوحينيا”، وبالتالى يتوحد وجوده الذاتى مع كل إمكانات الإنسانية وهو يستعمل نفس الآلية التى مُنِحْنَا إياها بأقصى ما تستطيع قدراته.

التعقيب:

لاحظ فى رأى يونج كيف أن تكامل تطور النوع (الفيلوجينيا) مع تطور الفرد (الأنثوجينيا) وراد، وليس فقط الاستعادة recapitulation

ولاحظ أيضا ربط الوجود الذاتى مع كل إمكانات الإنسانية

………

وغدًا نواصل عرض بعض مقتطفات من نفس الكتاب بها ملامح عملية نأمل أن نستوعبها،

 لننتقل الأسبوع القادم إلى نقد الطب النفسى الإيقاعحيوى،

وربنا يستر

 

[1] Evolutionary Psychiatry, A New Beginning second edition by Anthony Stevens  and John Price. Copyrighted:  ROUTLEDGE Taylor & Francis Group. London and Philadelphia. 2000.

وقد طبع الطبعة الأولى سنة 1996 والطبعة الثانية (التى سوف أقتطف منها) سنة 2000.

وجدير بالذكر أن جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى، وهى الجمعية التى احتوت فكرى الموازى قد تم تسجيلها رسميا سنة 1978، وظهرت المجلة الخاصة بها (الإنسان والتطور) من يناير 1980 فصلية وحتى عدد إبريل/يوليو 2000/2001، ثم توقفت حتى تواصل نشر نفس الفكر فى نشرة يومية بموقعى بنفس الاسم “الإنسان والتطور” منذ سبتمبر 2007، وحتى تاريخه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *