نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 1-7-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5782
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثالث:
“قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)
اللوحة الثانية:
السويقة!!
حركية البشر:
حين أعدت قراءة متن هذه القصيدة، فوجئت بهذا التكثيف المركز، والنقلات السريعة، تقتحم شعرى من نافذة رحبة الاتساع والجمال هى عيون ريفية عفية من بلدنا.
الصورة هنا كانت أكثر تنوعا وتداخلا وتدفقا، لو صح الحدس الذى شكلّها إذن فمهمة الطبيب النفسى تزداد صعوبة ومسئولية، وهو ما يصلنا حين نقرأ صلاح جاهين فى رباعيته الرائعة:
إيه تطلبى يا نفس فوق كل ده،
حـَظـِّك بيضحكْ وانتى مِتـْنـَكـِّدَه،
ردِّت قالت لى النفس قول للبشر،
ما يبصّـوليش بعـْيونْ حزينة كـِدَهْ.
حتى تحترم هذا التلقى لعمق عيون البشر ووصفها بأنها حزينة، الأمر لا يتوقف عند تصنيف جاد مبدع: شعرى أو طبى، بأن هذه نظرة حزينة، وتلك نظرة باهته، وأخرى فرحة، وغيرها مندهشة، إذْ يبدو أن هناك بعدا، بل أبعادا أخرى، على مستوى إنسانى كلى، ومن خلال العيون أساسا، وهو مستوى أكثر ثراءً وازدحاما من أن يوصف!
هل يمكن رصد هذه النداءات وهذه اللغات وهذه الألوان فى العيون مع العجز التام عن تسميتها؟ وما العمل لكى نستطيع بعض ذلك؟
الجانب الآخر الذى وصلنى حين قرأت هذه القصيدة من جديد، هو أن الحياة الطبيعية الحقيقية قد تكون بنفس هذا التداخل والتكثيف، وأن أى اختزال أو تحليل لها يكاد يكون نوعا من الاغتراب أو التشويه، فالسويقة (والسوق، والمولد، ومحطة القطار، وميدان فى حى شعبى.. إلخ) فى حركتها المتداخلة المتكاملة تكاد تكون هى الوجه الخارجى لهذه الوجدانات المتنوعة كما تطل من عيون تجلت فى هذا التشكيل.
الطبيب القادر على أن يتلقى هذا الازدحام دون الإسراع باختزاله أو تصنيفه يمكنه أن يتعرف على مريضِهِ بشكل أكثر حركية فى وعىٍ أكثر رحابة، يسرى ذلك على سائر العلاقات الحقيقية المبدعة بين البشر.
هل يمكن أن ينمو هذا النوع من العلاقات من خلال مواصلة ممارسة الحياة بطريقة أقرب وأعمق؟
هل يمكن أن نتواصل دون الإسراع بحبس مشاعرنا فى ألفاظ هى غير قادرة على احتوائها إلا بعد تفتيتها وتسطيحها وحبسها داخل ما لا تحتاجه من تعبير أو تعريف؟
هل يمكن التدريب على تعليق الحكم بعض الوقت قبل الإسراع فى لصق أقرب صفة (أو اسم عَرَض) لما يصلنا من الآخر (مريضا أو سليما) أولا بأول؟
حين نقرأ هذه القصيدة، برغم أنها – مثل كل قصائد هذا الفصل – لا تصف تحديدا حالة بذاتها: مرضية، ولا سوية على أرض الواقع، لا بد أن نتردد بعد ذلك فى أن نسارع بوصف المرض والناس والعيون استقطابا: إما حزين وإما فرحان، إما خائف وإما مطمئن. هذا أمر وارد، وقد يكون مفيدا أحيانا، لكنه ليس كل القصة، وليس غاية العلاقة ولا غـَوْرها ولا طبقاتها.
يبدأ تشكيل اللوحة من أرض الواقع الخارجى، من السويقة، وأعتقد أن منظر السويقة التى كانت تعقد مرتين فى الأسبوع فى قريتنا([2]) – الإثنين والخميس – كان مازال عالقا فى وعيى وأنا أكتبها، السويقة هى تصغير سوق غالبا، لكن هل يوجد تصغير للسويقة نفسها؟
بالإضافة إلى السويقة التى كانت تعقد على طرف البلدة فى نهاية مبانيها مع بداية حقولها، كانت هناك سُوَيقـِيـَّة السويقة (إن صح التصغير) تعقد صباح كل يوم سبت على شريط قطر الدلتا قرب محطته، هى تجمـُّعٌ صغير يعقد قبل طلوع الشمس على قضبان القطار فعلا، ولم يكن مـُـعـْـترفا به من كل الناس باعتباره سويقة رسمية!! (مثل سويقة الاثنين والخميس)، كان بمثابة تسهيل مرحلى لتبادل الأغراض والحاجات قبل ركوب قطار الدلتا إلى سوق السبت فى قرية أكبر على بعد خسمة كيلو مترات (أصبحت هذه القرية هى مركزنا مؤخرا) ([3])، سُوَيقـِيـَّة السويقة هذه كانت تغنى بعض الذين عزموا على شد الرحال إلى المركز من السفر، هذا إذا نجحوا أن يقضوا حاجتهم شراء أو بيعا أو كليهما أثناء انتظار قطار الدلتا ذى الخط الواحد، وهكذا يوفر الذى أتم غرضه قبل السفر على نفسه المشوار، ويعود وقد تحقق مأربه من السوق المصُغـّر هذا (سُوَيقـِيـَّة السبت الصغرى على قضيب قطر الدلتا قد تغنى من شد الرحال إلى سوق السبت الكبير فى “بركة السبع”).
قطار الدلتا له شخصيته الخاصة ومواقيته المتباعدة غير المنتظمة وآثاره فى كل من عايشه طفلا، وهو يمثل لطفولتى علامة شخصية جدا لم أستطع أن أنساها، هذا المنظر الذى بدأت به هذا التشكيل كان يثير دهشتى، بل وخوفى طفلا حين تصر نسوة البلد أن يكون اجتماعهن لتسويق حاجياتهن على شريط القطار ذاته، وهن يعلمن تمام العلم أن القطار قادم، ولكن يبدو أن جميعهن (بعكسى طفلا) كن متأكدات أنه لن يدهسهن من ناحية، وفى نفس الوقت فإنه ليس له ميعاد ثابت فلا داعى لوضعه فى الحساب، ومع ذلك فقد كان يداخلنى خوف من أن تخيب حساباتهن مرة، ويدهمهن القطار على غرة، رغم أنه لا يعرف المباغتة.
كان القطار يأتى ويصفر ويتلكع حتى يتفرقن فى مرح وفزع حقيقى أو مصطنع، ولا يلبثن أن يـَعـُـدْن كما سبق بعد مروره، وبعد أن يركبه منهن من سوف تواصل السفر إلى سوق السبت.
(1)
والنظرةْ الصاحـْـيـَـهْ الواسعهْ الزحمهْ ،
زىّ سُوَيقـِيـَّة السبتْ، فى بلدنا.
زى القفف المليانهْ حاجاتْ وحاجاتْ،
محطوطهْ بالذاتْ،
على قلب شريطْ قطر الدَّلتا.
كلّ ما القطر يصفَّر، بتلاقى الزحمة اتفضتْ.
والقفف السودا النسـِّوان بتشيل القفف البيضاَ الملْيَانهَ
حاجات وحاجات.
وَمَّا القطر يعدى: ترجعْ كومْة القففِ النسوانْ، القففْ النسوانْ:
تتلخبط على بعض، كما دقن الشايب.
المرأة فى بلدنا ليست مجرد قفة تنحط وتنشال، تـُملأ وتفرغ، التشبيه هنا لا يحط بالمرأة لتصبح مجرد قفة، بل آمـَـلُ أنه يرتقى بالقفة (الشىء) لتصبح كائنا حيا تشارك صاحبتها التشكيل.
أظن أن ما جاء بعد ذلك فى هذه العيون هو غير قابل للشرح دون أن يتشوه، بل لعله أيضا لا يمكن استلهامه ليفيدنا فيما نحن بصدده لفهم النفس الإنسانية، شعرت أنى لو حاولت شرح هذه المشاعر المتداخلة المُعـَبـِّرة فى هذه العين كما جاءت فى اللوحة، لاضطررت أن أشرح الطب النفسى كله وعلم السيكوباثولوجى والعلاج النفسى معا، إن غاية ما يمكن أن أتوقف عنده آمِلاً ألا يخل بتكامل الصورة كلها على بعضها بشكل أو بآخر، هو بعض الإشارات، كما يلى:
1) إن العين، فى لحظة بذاتها، قد تقول كل شىء معا، فى نفس الجزء من الثانية “كل كلام الدنيا، وف نفس الوقت“. هذه الحقيقة تذكرنا بجهلنا بقيمة هذه الوحدة الزمنية المتناهية الصغر، والتى بلغتنى بشكل رائع من “باشلار” فى “حدس اللحظة”، ثم من العلوم الكوانتية مؤخراً [4] والتى أعتبرها ثروة للعلاج النفسى، الجمعى خاصة، وفى نفس الوقت أتصور أنها هى هى لحظة التحول النوعى فى أزمات التطور، وبعض خبرات الإبداع، “كل كلام الدنيا وفْ نفس الوقت”.
2) الغوص فى العين فى هذه اللحظة واستيعاب كليتها هو ممكن وفقط، أما ترجمتها إلى ألفاظ أو إلى أى تشكيل آخر فهى الاستحالة نفسها، هذه المحاولة هى ليست إلا تقريبا لا يمكن أن أكون قد قصدت إليه بوعى ظاهر حتى أجمعها هكذا.
3) إن الشعر، هو الأقدر على احتواء مثل هذا التكثيف من أى تعريف علمى أو نثرى مجتهد.
4) إن ممارسة الطب النفسى الحديث بدون تدريب مثل هذا الحدس الفنى على هذه الإحاطة الكلية، قد تكون تراجعا عن ممارسات علاجية كانت فى يوم من الأيام أقدر وأشمل.
5) إن الأمل معقود فى الاستفادة والإفادة مما استـُـحـْـدث من إضافات علمية أمينة (لا استثمارية ملتبسة)، يمكن أن يثرى هذه الخبرة التشكيلية النقدية التى نزعم أنه يمكن تدريبها بشكل أو بآخر.
هيا نقرأ هذه الفقرة ونكتفى بها دعوة لما قصدنا إليه من إبداع التلقى بشكل آخر:
(2)
أهى نظرة عينهْ زى سويقة السبت
فيها كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت
فيها”رغبهْ” على ”دعوهْ”، على ”إشمـِـعـْـنَى”، على”رعشِةْ خوفْ”،
على “صرخة طفلْ”، على حَـلَمةْ بزْ،
على “عايزه اختارْ”،
“وانا مالى ياعمْ”،
”مش عايزه ألمْ”،
على “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيشْ”،
”خلينى معاكْ”، “خلينىْ بعيدْ”،
التناقض هنا ليس تناقضا بقدر ما هو تداخـُـلٌ حركىّ جدلىّ متضفر، إذْ يختلط النداء بالدفع فى نفس اللحظة، ويتداخل الألم مع الرغبة.. إلخ إلخ، مما يمكن أن يمسخ التشكيل كلما تمادينا فى التوصيف. قف!! ينتهى هذا المقطع بإعلان الرغبة فى الحياة بالمعنى البسيط، وفى نفس الوقت بالمعنى الحقيقى.
قرار “أن تعيش” هو أصل كل الوجود، وهو قرار يستحيل بنوعية بشرية حقيقية إلا فى وجود آخر، إن مجرد الاعتراف بهذا القرار “قررت أن أعيش بشرا“، يعلن اعترافا ضمنيا بأنه لا عيش هكذا إلا فى رحاب وعى بشرٍ “آخر” يقرر نفس القرار.
اكتشفت، برغم طول الخبرة، ندرة رصد حضور الطور الاكتئابى الأكثر نضجا على مسار النمو عند أغلب الناس مع أنه هو الذى يميز (المفروض يعنى) الإنسان الحالى النامى وهو يواصل تطوّره ليتحمل مسئوليته الجديدة، لم تتضح لى ندرة هذا الموقف (الطور) الاكتئابى إلا مؤخرا جدا، فما هو؟
عن الطور العلاقاتى البشرى: (سابقا: الاكتئابى):
اكتسب الإنسان الوعى، ثم الوعى بالوعى، كمرحلة متأخرة هى الغالبة الآن، وبما أن هذا قد تم حديثا – بحسابات التطور– فإن مسيرة نموه عليها أن تمر بكل المراحل السابقة([5]) لتحتويها وتتجاوزها وتتكامل بها لتنطلق منها:
تكرر عرض فروضى فى هذه المسألة (أطوار التطور : طبيعتها، ودلالاتها ومغزاها، وحركيتها) فى السنوات الأخيرة فى أكثر من موقع، وخلاصة ما يتعلق بالنقطة الحالية هى : أن أغلب البشر اليوم لم يصلوا إلى هذه المرحلة العلاقاتية البشرية الحقيقية بحق، وأن أغلب الجهود الصحيحة المبذولة إبداعا، وتربية، وتصحيحا، وتكافلا إنسانيا إنما تهدف لزيادة حجم جرعة هذا النوع من العلاقات التى تميز البشر دون غيرهم من الكائنات، لكن يبدو أننا نسير ببطء شديد فى الاتجاه الصحيح.
المصيبة أن مزاعم الحب والتضحية والسماح والمساواة ومثل هذا الكلام، تمثل أغلبها ردة شيزيدية أكثر من أنها محاولات تطورية لاقتحام المرحلة التالية بما فيها من خبرة علاقاتية مؤلمة رائعة.
الإنسان المعاصر ما زال يعيش الطور الكرَ فرّى، وأغلب المحاولات الجارية، لتجنب هذا الطور أو التخفيف منه تجري بالنكوص إلى الطور الشيزيدى، وليس بالتقدم إلى الطور العلاقاتى البشرى.
الطور العلاقاتى البشرى الصعب: هو الذى يضع الإنسان على قمة هرم الحياة التى نعرفها، فهو يعلن أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا فى وجود – ومع– إنسان آخر، ويكون هذا الإنسان الآخر، هو مصدر الاعتراف به، وهو مرصد شوفانه، وهو أيضا مصبّ مشاعره المتبادلة من نفس هذا النوع، وهنا يبدأ التميز البشرى فى فرض صعوباته الرائعة.
لما كان الإنسان قد اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى كما قلنا، فقد أدرك أن ثم “آخرا” هو ضرورى لأنـْسَنـَتـِه، الآخر الحقيقى هو مصدر الحياة الأرقى الذى يسمى “الحب”، ثم يكتشف الإنسان فى منطقة ما من مناطق وعيه، ليست ظاهرة على السطح عادة، أن هذا الآخر الذى هو مصدر هذا الحب (الحياة كإنسان) هو هو أيضا مصدر التهديد بالترك، بالهجر، تبعا لطبيعة حركية العلاقة لا أكثر:
هنا لا يصل الحذر من هذا المُحب (بدءا بالأم) لدرجة إلغائه كما هو الحال فى الطور اللاعلاقاتى (الشيزيدى)، وهو أيضا ليس حذرا لدرجة تبرير استمرارية الكر والفر كسبيل أوْحَد للحفاظ على الحياة (الطور البارنوى) ، لكنه حذر من فقد المحِبّ بالهجر (أو الترك أو النسيان) مع أنه هو مصدر الحب (انظر بعد).
ولقد طورتُ تفسير الموقع الاكتئابى الذى قالت به ميلانى كلاين حيث اعتبرتُ أن ثنائية الوجدان فى الطور الاكتئابى (الشعور بالتهديد بالترك من مصدر الحب وبالتالى الحب والكره معا)، اعتبرت أن هذا دافع أن يدفع الطفل أن يتخلص من أمه بالقتل فى خياله (وليس فقط بالهجر)، ثم ينشأ الاكتئاب نتيجة لشعور الطفل بالذنب باعتبار أنه قام بإعدام مصدر الحب([6]) وقد رفضتُ ذلك تماما واعتبرت أن ثنائية (بل تعدد الوجدانات) هى علامة تميز البشر على مسار النمو ، وأن المعاناة فيها أمر طبيعى ونمائى ودافع.
فيكون خلاصة هذا الطور هكذا:
أنا على يقين من أن مصدر بشريتى هو هذا الآخر المحــِـب
أنا لا أستطيع الاستغناء عنه أو عن من هو مثله
أنا على يقين – فى نفس الوقت – من أنه قد يتركنى
أنا سوف أتألم حين يتركنى،
بل إننى متألم الآن لمجرد التفكير فى هذا الاحتمال
أنا لن أتركه
أنا لن أتركه يتركنى
أنا أحبه
أنا أمارس معه نفس الدور تماما
هو يحبنى
هو يمارس معى نفس الدور تماما
كيف أحتفظ بهذا وذاك الآن هنا معا
هذا مؤلم جدا
لكنه بشرى جدا
وهو أفضل من أى حل آخر، أفضل من العودة إلى الكر والفر
وأفضل من إسقاط آخر من داخلى بالمواصفات التى لا تهددنى
وأفضل من العودة إلى قوقعتى لاغيا كل آخر
يا لروعة الألم الحب الرؤية الاستمرار
يا لفخرى بى ساعيا، فرحا، متألما (معاً) [7]
حيوية المكان والزمن، وحيوية العلاقة:
لا يمكن أن تفهم إشكالة العلاقة البشرية الناضجة بحجمها وموضوعيتها إلا من خلال بُعـْدىْ الزمن والحركة.
“حتمية بُعد الحركة” هو هو الذى علّمنى أنه لا علاقة بشرية حقيقية إلا بتفعيل برنامج الدخول والخروج مع ترجيح جانبه الإيجابى الذى يحتم عدم تساوى ذراعىْ الدخول والخروج، لا يمكن اختزال هذا البرنامج إلى ما هو إيجابى خالص، أو ما هو سلبى خالص، إذ يبدو أن المراوحة هى أيضا بين الحركة اقترابا وابتعادا نشطا، وبين التوقف ترقبا وجمودا وخوفا،
”خلينى معاكْ”، “خلينىْ بعيدْ”،
يمكن أن نقرأ هذا الطور باعتباره طور تردد سلبى قبيح، أو تناقض للوجدان، لكننى أقدمه ايجابيا باعتباره وعى بالجانبين معا، دون إيقاف نبض الحركة، مع تحمل الألم، واستمرار تبادل الوعى والرؤى، فهو الحزن النمائىّ المتحدى الصابر الدافع، فهو الحضور الإنسانى العلاقاتى المتعدد المستويات!!
عن حركية المسافة أيضا
الفقرة التالية فى اللوحة تركز على : “المسافة” وحركيتها:
وِاذَا قلت أنا أههْ، أنا جىْ،
يـِسْمعنى كَمَا صُفارة القطر، ويْخَافْ.
وينط كلام العين جُوَّهْ: فى البطنْ،
أو تحت الأرضْ.
وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض،
زى النسوان اللى بتجرى بقففها.
ثم نكمل :
ترجع كلِّ الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات،
و”تعالَى” و”رُوحْ” و”قوامْ” و”استنَّى”،
”وانَا نِفسى تْقَـرّب .. إٍلا شويةْ” “طبْ حبّه كمانْ”
”يانهار مش فايتْ!!
”أنا خايفة “
“أنا ماشْيهْ”
إن إحياء حيوية المكان هو ضرورة لفهم وتأكيد وتعميق حيوية العلاقة، جنبا إلى جنب مع حركية الزمن.
لا توجد علاقة حقيقية بدون مسافة متغيرة، المسافة الثابتة تعلن ضمنا أن العلاقة إما خامدة متجمدة، وإما هى غير موجودة أصلا، وأن كلا من برنامجى “الدخول والخروج” و”الإيقاع الحيوى” إما يعملان بطريقة آلية فى المحل، وإما هما متوقفان فعلا أو وظيفيا، وإما أنها علاقة التهامية يحتوى طرف منها الطرف الآخر داخله أو العكس.
نرجع نتذكر نقدنا فى الكتاب الأول للتحليل النفسى التقليدى من مسألة غلبة التركيز على الماضى والتداعى الحر، ثم نضيف هنا هامشا على رؤيتنا لشكل المسافة وطبيعة الحركة فى هذا الطور.
يبدو أن التحليل النفسى التقليدى قد ارتاح بوضع المريض ممددا على الحشية، والطبيب (أو المحلل) قابع خلف رأس المريض دون النظر فى عينيه تحديدا، فى العلاج الأحدث “وجها لوجه”، لكن فى العلاج الجمعى، يختلف الأمر تماما، حيث تتحرك المسافات ونحن جلوس فى مواقعنا تحركا فاعلا واقعا يكاد يرى بالعين المجردة.
نكتشف أثناء الخبرات النمائية العميقة – ومنها العلاج النفسى العميق – أن الإنسان (مريضا أو غير مريض) قد يُرعب رعبا شديدا من الاقتراب الحقيقى من إنسان حقيقى من لحم ودم، له وعى ووعى ووعى بالوعى مثله، هذا هو ما أسميه فى كثير من صورى الشعرية: خطر الحب، برغم تحفظاتى من الالتباس المحيط بهذه الكلمة كما ذكرت مكررا، الخوف من الحب (مثل الخوف من الحرية) هو أعمق خوف يمكن أن نقابله فى أعماق النفس الإنسانية وبالتالى فى المريض، حتى وإن لم يظهر بشكل مباشر أو ظهر العكس.
نحن نواجه هذا الطور فى خبرة النمو أثناء العلاج الجمعى خاصة حيث لا يكون “الآخر” عدوا ولا منافسا فقط، بل رفيق طريق أيضا، مما يفتح الباب لاقتحام هذه المنطقة البشرية بديلا عن لعبة الكر والفر تحت أوهام المطاردة، وأيضا مختلفا عن الحب الناعم اللاغى للآخر برغم زعم وجوده. هذا الرعب من هذا النوع الحقيقى من الحب هو نتيجة الخوف من التخلى عن دفاع الكر والفر، الذى يوهمنا أنه هو وحده الذى يحافظ على الحياة والبقاء، وأيضا التخلى عن دفاع العمى التسكينى المؤقت.
وبما أن هذا الخوف من الحب له ما يبرره فى الواقع حيث المجتمع التنافسى مازال يحافظ على بقاء الأفراد فيه بآليات الكر والفر، فعلى المعالج أن يضع ذلك دائما فى اعتباره قبل أن يحاول أن يكسر هذا الدفاع الواقى أو ذاك.
ثم تنتهى القصيدة نهاية قاتمة، لكنها مفتوحة.
(3)
والقفف المليانهْ الغلّهْ الكوسهْ البادنجانْ،
الحُـبّ العطفْ الخوفْ العَوَزَانْ،
تِفْضَى من كلهْ.
ولا يفضلْ غير قضبان القطر.
زىّ التعبان الميتْ.
مستنيَّه السبت الجىْ،
اللَّى ما بــيــجيشْ.
هذه النهاية تقول إن ما يبدو من استحالة تحقيق النقلة البشرية المنتظرة، مع تزايد ألم المحاولة، قد يبدو مبررا للتنازل عن مواصل المحاولة، فتنسحب كل هذه الحركية إلى المجهول، إلى الداخل، إلى سكون الظلام، إلى جحر الثعبان الميت، كل هذا وارد لكنه ليس نهاية المطاف ما دام الإنسان إنسانا مازال به وعى ينبض.
نوع الانتظار هنا لم يقفل تماما بالرغم من هذه الصورة القاتمة، ذلك لأنه لم يترتب عليه انسحاب مطلق عودة إلى كهف الدار، استغناء عن زخم السويقة، بل إن علينا أن نستنتج أن صاحب أو صاحبة هذه العيون الحية، تظل قابعة بجوار قضبان القطار حتى لوبدت ثعبانا ميتا فربما ذلك هو نوع من الاحتجاج وليس إعلانا للانسحاب، حتى لو قالت “أنا ماشية” فهى لم تمش، وهى لم تعلن أن “السبت الجى” “عمره ما هو جى”، وإنما التعبير يوحى أنها سوف تنتظر مثلها مثل قضبان القطار، وأن هذا الانتظار واعد، وبرغم أن القطار لا يأتى “الآن”، فهو سوف يأتى،
وإلا فلماذا ثبات القضبان فى موقعها؟
هنا تتجلى أهمية فعل الانتظار الإيجابى، تتحدَّى سلبية التوقع الانسحابى.
وبعد
إليكم القصيدة كاملة فهى الأبقى رغم مكابدة الشرح وعلميته:
(1)
والنظرةْ الصاحـْـيـَـهْ الواسعهْ الزحمهْ ،
زىّ سُوَيقـِيـَّة السبتْ، فى بلدنا.
زى القفف المليانهْ حاجاتْ وحاجاتْ،
محطوطهْ بالذاتْ،
على قلب شريطْ قطر الدَّلتا.
كلّ ما القطر يصفَّر، بتلاقى الزحمة اتفضتْ.
والقفف السودا النسـِّوان بتشيل القفف البيضاَ الملْيَانهَ
حاجات وحاجات.
وَمَّا القطر يعدى: ترجعْ كومْة القففِ النسوانْ، القففْ النسوانْ:
تتلخبط على بعض، كما دقن الشايب.
(2)
أهى نظرة عينهْ زى سويقة السبت
فيها كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت
فيها”رغبهْ” على ”دعوهْ”، على ”إشمـِـعـْـنَى”، على”رعشِةْ خوفْ”،
على “صرخة طفلْ”، على حَـلَمةْ بزْ،
على “عايزه اختارْ”،
“وانا مالى ياعمْ”،
”مش عايزه ألمْ”،
على “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيشْ”،
”خلينى معاكْ”، “خلينىْ بعيدْ”،
وِاذَا قلت أنا أههْ، أنا جىْ،
يـِسْمعنى كَمَا صُفارة القطر، ويْخَافْ.
وينط كلام العين جُوَّهْ: فى البطنْ،
أو تحت الأرضْ.
وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض،
زى النسوان اللى بتجرى بقففها.
ترجع كلِّ الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات،
و”تعالَى” و”رُوحْ” و”قوامْ” و”استنَّى”،
”وانَا نِفسى تْقَـرّب .. إٍلا شويةْ” “طبْ حبّه كمانْ”
”يانهار مش فايتْ!!
”أنا خايفة “
“أنا ماشْيهْ”
(3)
والقفف المليانهْ الغلّهْ الكوسهْ البادنجانْ،
الحُـبّ العطفْ الخوفْ العَوَزَانْ،
تِفْضَى من كلهْ.
ولا يفضلْ غير قضبان القطر.
زىّ التعبان الميتْ.
مستنيَّه السبت الجىْ،
اللَّى ما بــيــجيشْ.
*****
………………….
………………….
ونواصل الأسبوع القادم لقراءة اللوحة الثالثة: “القـط!!”
ــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – هورين
[3] – بركة السبع
[4] – Quantum Sciences
[5] – كنت قد كتبت فى أصول هذا العمل بتفصيل متوسط عن هذه المراحل السابقة: الطور اللاعلاقاتى (سابقا الموقع الشيزيدى: مدرسة العلاقة بالموضوع، والطور “الكرّ فرّى”) (سابقا: الموقع البارنوى : نفس المدرسة) لكننى فضلت أن أحذف – فى المراجعة – هذه التفاصيل التى قد تبعدنا عن النص الشعرى، ثم تمادى الحذف (مقارنة بما صدر فى نشرات الإنسان والتطور اليومية ) ليس بالنسبة لهذه اللوحة فحسب وإنما فى كل العمل الحالى.
[6] – وهذا هو ما صوّرته شعراً فى ديوانى “سر اللعبة” منذ خمسين عاما حين كنت معتقدا بصحته، حين قلت:
لكن البقرةْ، قد تذهب عنى
وأنا لم أشبعْ لا .. لن أسمحْ ليسـَـتْ لـُـعـْـبـَـة هـِىَ مـِلـْـكـِى وحدي: أضغطْ: تحلبْ أتركْ: … تنضبْ |
أضغطْ تحلبْ،.. أتركْ تنضب،
لكن هل تنضبُ يوماً دوما؟؟ أفلا يعنى ذاك الموت؟ ملكنى الرعب .. واللبن العلقم ..، يزداد مرارة فكرهتُ الحبْ وقتلت البقرة |
[7]- لا أعرف ما الذى اضطرنى لهذا الاستطراد الطويل المعاد (فى كتاباتى الأخرى) غالبا، لكن يبدو أن التكرار ضرورى نظرا لحداثة وجسارة تطوير فروض مدرسة العلاقة بالموضوع.