نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-6-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5779
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (4)
……………..
…………….
فى أول الأمر: يتمذهبون يمينا أو يسارا، سلفا أو ادعاءَ ثورة،
ثم ينقلبون أبواقا مردِّدة بعد أن كانوا مصانع أفكار مجددة.
وبعد ذلك يلبسون قميص أكتاف الزوجة، فالوظيفة، فالقرش أحيانا، والخوف كثيراً، حسب حظ أى منهم من الإعارة أو التجارة.
وما إن ألتقى بأحدهم بعد سنوات من “تحويل مجرى الوعى” هذا، حتى أجدنى أمام كهل بارد عاقل مفضال (نعم “مفضال” وليس فاضلا فقط!!)، فأشوّح له بيدى فى سرى أن “تشاو” (وداعا: مازلنا فى إيطاليا)؛ ذلك أن حديثى مع هذا ا”لرجل المفضال”، الذى كان صديقى طفلا ثم صار “هكذا” لايمكن أن يخرج عن بعض “السباب السياسى”، و”السخط الاقتصادى”، ثم يتعثر الحديث، ثم يتوقف، وسرعان ما أنصرف داخليا، فينصرف زاهدا أو مشفقا علىّ، أو رافضا أيامى، ولاحول ولا قوة إلا بالله. فأنتقل إلى الجيل الأصغر، ويتكرر “النص”، حتى أنى أستطيع أن أعد الآن أربعة أجيال من الشباب (أو الذين كانوا شبابا) على الأقل ممن تخطّونى جميعا: الجيل تلو الآخر، وأنا واقف فى “محطتى” الطفلية السرية ذاتها. أقف فاغرا فاهى، متعجبا من الشيخوخة المبكرة التى تجرى على هؤلاء الأطفال والشباب ضد كل حسابات الفطرة الواعدة، أو على الأقل ضد حساباتى الآملة من هذه الفطرة الواعدة، وكل ذلك لم يعلمنى أن “أعقل” أو”أيأس”، ولكنى تعلمت ماهو أهم، هو أن أتوقع هجرهم وتعقلهم وشيخوختهم المبكرة دائما أبدا، فأستقبلها بما ينبغى من واقعية وصبر وألم طبعا، ولكن دون دهشة أو احتجاج أو مقاومة مثل الأول. ومادامت الأجيال تتعاقب، فلا ضير علىّ، وسأجد الرفاق الأصغر دائما فى انتظارى، اللهم إلا إذا نجحت “أسرة المستقبل” أن توقف عجلة المستقبل.
وذات مرة، سألت أحد “العقلاء”من زملائى عن سر هذه الظاهرة، ظاهرة صداقتى للأصغر، فقال لى لابد وأن شخصى أو شخصيتى هى”أى كلام”، لذلك فإنى أستسهل الضحك على ذقون الأصغر، ولكنى لا أحتمل الصراع التنافسى فى مواجهة الأكبر. رعبتُ من احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح، ومرة قال آخر (لعلها زوجتى) إنى أستغل انبهارهم بى فأستعملهم لملء فراغ وجودى، ياخبر!!. محتمل!؟. ولكن هؤلاء الأكبر الذين يهددون وجودى الهش، بوجودهم الراسخ هم لايحاوروننى أصلا. هم يزدادون قوة وبطشا فيزدادون إصرارا وثباتا، فأين التنافس والخوف مما يمثلون؟. هل يستدرجوننى لأعمل معهم أو كنظامهم مع تبادل الأدوار، وكأننا نتحاور؟ إن إصرارى على الاحتفاظ بطفولتى، وفى نفس الوقت على رفض البراءة المغشوشة والمسطحة، هو الذى أتاح لى أن أستمر ولا أتنازل مهما كان (أنظرالترحال الثالث إن شئت).
تدرّبت بعد طول السنين أن أجدد صداقاتى مع العمر المناسب، وما دامت النساء تنجب أطفالا، فأنا سأجد الأصدقاء دائما مهما اعتبرنى الكبار “أى كلام”، ومهما اعتبرنى الصغار مجرد “محطة” لابد من تجاوزها. غير أنى أتعجب: ألم يكن العكس هو الأرجح؟. ألم يكن المفروض هو أن أعتبر أنا الصغار حالمين مثاليين فأنتظرهم- بعد السماح- فى المحطة التالية: محطة العقل والتدبر، أو محطة المكسب والشحم الزاحف حول الأوعية الدموية، وأيضاً حول الأفكار الباهتة المعادة، أو عند محطة تكرار العُمْرات غير الخالصة، أو فى سراديب الصفقات الدينية السرية، فلماذا انقلبت الحال، لأصبح أنا المتخلف عند محطة الطفولة الدائمة المزدحمة بالدهشة والقلقلة!!؟.
نرجع مرجعنا إلى صديقىّ الطفلين الفرحين بالألبادورو، وهما يساعداننى فى تهيئة المكان المعد للجلوس أمام الكوخ (البنجالوز)، وعلى بعد خطوات تقبع خيمتنا لأول مرة منذ بدأنا الرحلة. وتذهب بناتى الأربع إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت) ليبضعوا عشاءنا، وكنا قد نوينا أن نقبع هذا المساء لنطبخ لأنفسنا شيئا يناسب النسيم العليل والمخيم الفخيم. ونكتشف أننا لا نملك آنية للطبيخ أصلا، فنـلمح طاسة أمام الكوخ المجاور، ورجلا خواجة (شديد الخواجاتية) وقد تخطى منتصف العمر يلبس “شورتا”، يروح ويجئ، فنبدأ ممارسة هواية المخيمات فى “التعاون بالعشم”. وكنت قد لاحظت منذ قديم، أن هذا المبدأ هو من أساسيات التعامل فى المخيمات، فضلا عن غلبة الكرم التلقائى فى كثير من الأحيان.
كانت بداية تعلّمى ذلك فى مخيم فى سويسرا/جنيف (1969) حين تقدم جار لنا، ونادانى، وأشار إلى وعاء واسع، عميق، حديدى وأسود له أرجل رفيعة، وبجواره كيس من النايلون أشد سوادا، ولم يكن لى عهد بكل هذا “السواد”. للاستعمال الآدمى. وبعد عدة إشارات دالة، مع بضع كلمات فرنسية، تصورت أن الرجل يظن أن هذه الأشياء ملكى، وأنها كانت سببا فى تلوث بعض أمتعته- مثلا- فأخذت أشرح فى حماسة أنها ليست أشيائى، وأنا مالى، وإنى آسف، وإنى مبتدئ، وطالع فى المقدر جديد،…وجميع عبارات الدفاع المحتملة، والرجل يبتسم ويهز أكتافه، ويشرح عرْضه بلغة لا أعرف فيها حرفا ، لكننى لاحظت طيبته وتواضعه بشكل لا يخفى، مما اضطرنى إلى أن أردد، فى استسلام: “نعم”..أو.. “ليكن”…أو.. “ماشى”. ولم أكن أعرف ماهذا الذى يمكن أن يكون أو يمشى. فإذا به يذهب متحمسا، ويحضر الأشياء السوداء، ويضعها بجوار خيمتنا، ثم يكتشف قلة خبرتنا فى نصب الخيمة كما تبدى من عدم انتظامها، وهشاشة مقاومتها، فيترك سيارته وأهله؛ ويساعدنا فى إصلاح ما أفسده المطر. وقلة الخبرة، ويستغرق ذلك وقتا هو أوْلى به خاصة وهو قد كان على وشك الرحيل الفورى، وأستشعرُ هذه الفروسية الخواجاتية، وأن مسألة عصر السرعة، وقيمة الوقت، لا ينبغى أن تكون علامة دالة دائما على تدهور الخلق، وموت الشهامة، وخاصة فى المعسكرات. وربما كان الحنين إلى التخييم، هو لإنماء هذا الخلق التعاونى، ورعاية الكرم الفطرى. فالسواد الذى أعطانى إياه، كان شوّاية وفحما، لم يعد هو فى حاجة إليهما، وقد كان حوارنا الأصم عبارة عن محاولته أن يستأذننى أن يهديهما لى، ثم إن العون الذى بذله كان تلقائيا وطيبا. وكنا فى أشد الحاجة إليه.
تذكرت كل ذلك وأنا أنبِّهُـنى إلى طيبة الخوجات وكرمهم، فتشجعت وذهبت لفورى لاستعارة “الطاسة” من جارنا الخواجة جدا، فيبادر الرجل بالاستجابة باسما مرحبا، ونشعر من جديد أن “الدنيا بخير”، وأن الناس لبعضها، وأن هذه الاستعارات الصغيرة بين الجيران – مع مشاكلها الطريفة- تعطى للحياة معنى آخر يتحدى “الاستكفاء الذاتى”(“الذواتى” فى العادة)- ذلك أنه- حتى مع الكفاية والغنى- لا يكون للعلاقات الإنسانية طعم إلا بـ”خذ..وهات”. وهذا الاستكفاء الذاتى إذا زاد أصبح استغناء قبيحا يشوه الدنيا، ويكثف الجليد على طرق المواصلات بين البشر. ونوقد الموقد (البوتوجاز) الصغير لنعمل شايا مصريا ونستعد لأكلة شهية، وتعود “لجنة المشتريات” بحمولتها الثمينة، وأسألهن إن كن قد راعين نوع اللحم حتى لايكون خنزيرا، فيؤكدن أنه ليس كذلك. ولكنى أشك فى منظره، ويَـعُدْن إلى السوق ليتأكدن، فإذا بالشك يصبح يقينا، وتبدى إحداهن استعدادها لدفع ثمن الخطأ، وتصر الأخرى على إرجاع اللحم “بالعافية”، ويظهر أن السبب أنهن نطقن “الخنزير” بالفرنسية Pork والإنجليزية Ham (أو بعد طلْيَنَتِـها بالمطّ: بوركو مثلا)، والبائع ليس عنده فكرة، فاسم الخنزير بالطليانى، شئ أقرب إلى “ميالى”، وهذا من مقالب الحذْق المصرى (الحداقة) فى نحت لغة من لغة أخرى؛ إذ يبدو للحاذق المصرى منا أن مط كلمة فرنسية إلى أسفل، أو أعلى، أوعلى ناحية يقلبها إيطالية بقدرة قادر. فالجبن “فروماج” تصبح “فروماجو”، و”بونجور” تصبح “بونجورنو”، وبالتالى لابد أن “بورك” (خنزير)، تصبح بوركونو… فيقع المحظور.
وأتذكر أننى حين ذهبت إلى فرنسا اتبعت القاعدة ذاتها فى تحوير اللغة الإنجليزية إلى فرنسية. حين رحت إلى بقال أشترى جبنا، وهى بالانجليزية Cheese قلت لنفسى: لاعليك، ببعض المط تمشى الحال. وطلبت من البائع Chaise بإذن الله، ونظر لى الرجل مندهشا. أنا أشير إلى الرف وهو يشير إلى محل “الموبيليا” المقابل، وأُصِر على تكرار الطلب، ويصر الرجل وهو يمسك بالمقعد الذى فى محله ويرفعه، ويهزه فأتصور أنه قد”فاض به”، وأنه سوف يناولنى به، لكننى أطمئن طبعا إلى استحالة ذلك لما أعلمه عن أدب هؤلاء الناس “الكُمَّل”، وأخيرا يستسلم لتصميمى ويسمح لى بالدخول إلى المحل لآخذ بيدى ما أريد، فأفعل وينتهى الموقف بسلام. وأكتشف بعد أسابيع أن مافعلته بكلمة جبن بالإنجليزية Cheese لتصبح فرنسية Chaise قد قلبها إلى “مقعد”، وليس إلى جبن متفرنس، وسبحان لاوى الألسن فى كل اتجاه.
وتنجح بنتاى فى استبدال لحم الخنزير بمياه غازية؛ إذ لايوجد لحم إلا هذا المحرم. ويتراجع أملنا فى وجبة ذات رائحة تليق بالهواء الطلق والجو الصحى، ويبدأ إعداد الحساء المتعدد المحتوى، والصالح لكل الأغراض: (شراب ساخن، ومن رائحة اللحم، وسائل دسم جاهز لأىة “فتة” محتملة، ووهم بأن ثَمَّ طبيخا يـُعد.. ولى فيها مآرب آخرى). ونفرح بهذه الوجبة “الجوكر” التى أصبحت بعد ذلك غذاءنا الرئيسى، وأحيانا الوحيد، ليتطور الأمر ليصبح عقابا (أنت حاتسكت: ولاّ أعملك شوربة !!). وتنتهى الوليمة، ونعيد إلى الرجل طاسته، مغسولة وآخر تمام، وأتمنى على الله أن يحتاج شيئا ليتأكد مبدأ “هات.. وخذ”، ويستجاب الدعاء بأسرع مما أحسب؛ فيطلب الرجل بعد قليل ثقابا، فأفرح بدرجة لا تتاسب مع تواضع الطلب.
فى المقهى البار الملهى الخاص بهذا المعسكر الفخيم، يتجمع الرواد حول المناضد، وآلات لعب الحظ والمهارة. ويسرى صخب موقظ يوحى بالحيوية المستحبة، فأذهب وأحضر أوراقى دون أن أقول لأحد على مكانى. فقد آن الأوان لإجازة منفردة، ولو ساعة أو بعض ساعة. فما أنا بالشخص الذى يحتمل ألا يختلى بنفسه وورقه أكثر من يوم، وها قد مر على يومان (دهران: بالحسابات الجديدة للزمن). وأنا لم أختل بأوراقى ولم أسامر قلمى. وهأنذا أضعها أخيرا أمامى معتذرا واعدا بحوار أعمق وإنَصات طيب.
وتتلقانى أوراقى- كالعادة- بسماح شديد، فهى واثقة دائما من أنى لا أملك منها فرارا، وأنه على عينى هجرى لها كل هذه الدهور، فأمسح جبهتها، وأداعب أطرافها، وأنصت إلى همسها وسط هذا الصخب المتداخل، وأقول وتقول، وأنظر وتوافق، وأقترح وتُعارض، وآمل وتحذّر، وأبتسم فتتذكر، وأتطلع إلى الوجوه من حولنا فتعلـّق، ويمر وقت ليس بقصير.
أنظر إلى المائدة، فإذا الورق خال من غير سوء، والقلم متراخ فى غير كسل، فألملم ورقى راضيا بهذا الائتناس الصامت، الذى لم تجرح بكارته شقاوة وشهوة الكتابة.
وننام نوما جديدا، فالهواء غير الهواء، والأصوات غير الأصوات، والناس غير الناس..؟.
……………………..
……………………….
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net