الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / المواجهة – المواكبة – المسئولية الفروق الثقافية والعلاج النفسى(2)

المواجهة – المواكبة – المسئولية الفروق الثقافية والعلاج النفسى(2)

“نشرة” الإنسان والتطور

  25-2-2008

العدد: 178

تمهيدا لتقديم تجربة مصرية عن علاج أسميناه علاج:

المواجهة – المواكبة – المسئولية:  م.م.م.

Confrontation Togetherness Responsibility Therapy CTRT

الفروق الثقافية والعلاج النفسى(2)

الحاجة لكل أنواع الحوار

…… لا‏ ‏شك‏ ‏أن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏هو علاج ‏ ‏حسن‏ ‏السمعة، ‏برغم ‏ما‏ ‏يثار‏ ‏حوله‏ ‏أحيانا من‏ ‏اعتراضات‏ ‏ساخرة، ‏أو‏ ‏تقويمات‏ ‏مقللة‏ ‏من‏ ‏شأنه، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏علاج‏ “‏طيب‏”، ‏(يقال أنه) يستعمِل عادة ‏ ‏أرقى ‏أدوات‏ ‏الإنسان‏ ‏وهى ‏الرمز‏ (‏الكلام‏) ‏مع‏ ‏أقل‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏التدخل‏ ‏المشكوك‏ ‏فى ‏قبوله‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏المريض‏ ‏إراديا، ‏وهو‏ ‏علاج‏ ‏يستغرق‏ ‏وقتا‏ ‏يلتقط‏ ‏فيه‏ ‏المريض‏ ‏أنفاسه، ‏وقد‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏اختياره‏ ‏إزاء‏ ‏ما‏ ‏يطرح‏ ‏عليه، ‏وما‏ ‏يصل‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏تفسيرات‏ ‏تسكينية‏ ‏حينا‏ ‏أو‏ ‏باهرة‏ ‏أحيانا‏ .. ‏تصلح‏ ‏للنقل‏ ‏والرواية‏ !!! ‏وقد‏ ‏يصل‏ ‏شئ ‏ما‏ ‏من‏ ‏خلالها‏.‏

ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏معرف‏ ‏عنه، ‏وبيان‏ ‏ذلك‏:‏

‏1- ‏إن‏ ‏العلاج‏ ‏الذى ‏يزعم‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏يتعلق‏ ‏باستعادة‏ ‏ذكرى ‏أو‏ ‏تفسير‏ ‏حلم‏ ‏أو‏ ‏تفريغ‏ ‏شحنة‏ ‏إنما‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏ظاهر‏ ‏ما‏ ‏يجرى، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ – ‏فى ‏حقيقة‏ ‏الأمر‏ – ‏ليس‏ ‏سوى ‏مجرد‏ ‏وسائل‏ ‏تواصلية‏ ‏ربما تسمح‏ ‏بالإسهام‏ ‏فى ‏أن يمضى الحكيم والسقيم معا (المواكبة)‏ ‏عبر‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو‏ ‏لاستعادة‏ ‏انطلاق السقيم، ودفع مسيرة الحكيم، أما الكلام والتفسير والتأويل فهى ليست‏ ‏وحدها‏ ‏العلاج‏.‏

‏2- ‏كذلك‏ ‏العلاج‏ ‏الذى ‏يزعم‏ ‏بتعديل‏ ‏سلوك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تشريط‏ ‏معين، ‏إنما‏ ‏يستعمل‏ ‏هذا‏ ‏التعديل، ‏ربما‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى،  ‏كوسيلة‏ لتحقيق ‏إرادة‏ ‏تنظيم‏ ‏أخفى، ‏أو‏ ‏إخفاء‏ ‏نشاط‏ ‏أعمق‏، يجرى بين السائرين معاً (المواكبة).‏

‏3- ‏إن‏ ‏الحماس‏ ‏لهذا‏ ‏وذاك‏ ‏يدل‏ ‏على ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏بدوره‏ ‏الإنسانى ‏فى ‏جوار‏ ‏إنسان‏ ‏أخر‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إليه‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أسميناه‏ “‏المواكبة‏”‏ ‏مما‏ ‏سيأتى ‏شرحه‏.‏

4- ‏إن‏ ‏نتائج‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏وحده‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تقويمها‏ ‏بمقياس‏ ‏واحد، ‏ما‏ ‏لم‏ ‏نضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏معنى ‏المسيرة‏ ‏البشرية‏ ‏للنمو‏ ‏ومراحلها‏ ‏المختلفة، ‏ونوعية‏ ‏التحسن‏، ‏تحت‏ ‏الفحص‏.‏

وبقدر‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏البساطة‏ ‏والشجاعة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نقول‏:

 “‏إنه‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يوجد‏ ‏شئ ‏اسمه‏ ‏علاج‏ ‏نفسى ‏بالمعنى ‏الصناعى ‏التكلّفى ‏الشائع‏” ‏

أو‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏بنفس‏ ‏القوة‏ ‏والبساطة‏ ‏أيضا‏:

“‏إنه‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏علاقة‏ ‏علاجية‏ ‏أيا‏ ‏كانت‏ ‏نوعها‏ ‏أو‏ ‏مدتها‏ ‏أو‏ ‏وسيلتها‏ ‏إلا‏ ‏وهى ‏هى ‏العلاج‏ ‏النفسى”

هذا‏ ‏التوضيح‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏فكرة‏ ‏أساسية‏ (‏أو‏ ‏عدة‏ ‏أفكار‏) ‏نوجزها فيما يلى:

‏1- ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏إنسان‏ ‏إلا‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏إنسان آخر ‏ ‏بكل‏ ‏أبعاد‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏من‏ ‏اعتماد‏ ‏وعطاء‏ ‏ورعاية‏ ‏وتواصل‏ ‏.

‏2- ‏إن‏ ‏المريض‏ ‏النفسى، ‏فى ‏أزمة‏ ‏نشاطه‏ ‏التطورى ‏المعوِّق‏ ‏أو‏ ‏المجهَض‏ ‏أو‏ ‏المشوَّه، ‏أو‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏انسحابه‏ ‏وتوقفه‏ ‏المستتب‏ .. هو ‏أشد‏ ‏حاجة‏ ‏من‏ ‏غيره‏ ‏إلى ‏هذا‏ “‏الآخر‏”.‏

‏3- ‏إن‏ ‏العلاقة‏ ‏البشرية‏ ‏بين‏ ‏إنسان‏ ‏وإنسان‏ ‏إذا‏ ‏أخذت‏ ‏الشكل‏ ‏الطبيعى ‏لها‏ “‏الرسالة‏ – ‏العائد‏” ‏أو‏ “‏المعنى – ‏التغذية‏ ‏المرتجعة‏” ‏هى ‏الدعامة‏ ‏الحقيقية‏ ‏والضمان‏ ‏لاستمرار‏ ‏عملية‏ ‏النمو‏ ‏الإنسانى.

‏4- ‏إن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏ليس‏ ‏سوى ‏التنظيم المهنى لتحقيق هذا التواصل البشرى والمواكبة.‏

5- إنه عينة خاصة، مهنية مسئولة، مما يجرى فى الحياة العادية

‏‏الفروق‏ ‏الأساسية‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏النفسي‏:‏

‏(‏أ‏) ‏تتم‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏بهدف‏ ‏محدد‏، يُجَدد عبر مسيرة العلاج، (‏وهذا‏ ‏بُعد‏ ‏له‏ ‏وعليه‏).‏

(‏ب‏) ‏أنها‏ ‏تتم‏ ‏بوعى ‏نسبى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏المعالج‏، وقبول مبدئى من جانب المريض.‏

‏(‏جـ‏) ‏أنها‏ ‏تتم‏ بأساليب متعددة ويختلف كل أسلوب ‏باختلاف‏ ‏نوع‏ ‏كل‏ ‏علاج‏ ‏وتفريعاته، وأيضا باختلاف المرضى.

(ء) ‏أنها تتم فى وقت محدد لمدة محددة قابلة للتجديد حسب شروط محددة

‏ ‏فكيف‏ ‏يمكن‏ – بعد ذلك- ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏طبيبا‏ ‏يعطى ‏مريضا‏ ‏قرصا، ‏أو‏ “‏حقنة‏”، ‏أو‏ ‏صدمة، ‏أو‏ ‏يقول‏ ‏له:‏ “‏صباح‏ ‏الخير‏”، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ممارسا‏ ‏فعالا‏ ‏لهذه‏ ‏العلاقة‏ ‏الهادفة‏ ‏المسئولة‏..‏؟‏

‏بل‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏ممرضا‏ ‏أو‏ ‏عاملا‏ ‏فى ‏وسط‏ ‏علاجى ‏لا‏ ‏يقوم‏ ‏رغم‏ ‏أنفه‏ (‏أو‏ ‏من وراء وعيه الظاهر) ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة؟

‏من‏ ‏هذا‏ ‏المدخل الواضح البسيط يمكننا‏ ‏أن‏ ‏نقول‏:‏

‏1- ‏إن‏ ‏علاجا‏ ‏ما‏ ‏يكون مناسبا وصحيحا إذا ما قارب‏ ‏وتماثل مع ما‏ ‏يجرى ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏السليمة‏ (‏السامحة‏ ‏بالنمو، ‏المؤمِّنة‏ ‏لمسيرته‏)، مع إضافة الشروط المهنية الضابطة المناسبة.

‏2- ‏إن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يخالف‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏السليمة، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يُؤخذ‏ ‏بحذر‏ ‏ومراجعة، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏مثل‏ ‏مرحلة‏ ‏قصيرة‏ ‏ومحددة، ‏يطغى ‏بعدها‏ ‏الأسلوب‏ ‏الحياتى ‏الداعم العادى ‏المسئول‏.‏

‏3- ‏فالعلاج‏ ‏النفسى ‏الحقيقى، ‏هو‏ “‏النموذج‏ ‏المصغر‏ ‏المختصر‏ ‏للحياة‏ ‏كما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏” ‏ وتعبير‏” ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تكون‏” ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏موقفا‏ ‏مثاليا، ‏ولكنه‏ ‏يعنى ‏موقفا‏ ‏تصحيحيا فى إطار الحياة الطبيعية، لأننا‏ ‏لو‏ ‏قلنا‏ “… ‏للحياة‏ ‏كما‏ ‏هى” ‏لكنا‏ ‏نتناسى ‏أن‏ ‏موقفا‏ ‏شاذا‏ ‏قد‏ ‏حدث‏ (‏وهو‏ ‏المرض‏) ‏وهو‏ ‏الذى ‏ألجأ‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏طلب‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏الخاص‏ ‏من‏ ‏المعونة‏.‏

4- مادام الأمر كذلك، فلكل ثقافة “حياتها العادية” التى يقاس بها ويتم من خلالها هذا العلاج.

العلاج عامة:

يجدر بنا‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏ألا‏ ‏نقدم‏ ‏توصيفا‏ ‏للعلاج‏ ‏النفسى بوجه خاص، ولكن الأفضل  ‏أن‏ ‏نقدم‏  ‏توصيفا‏ “‏للعلاج‏” ‏عامة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هو‏ “‏مواكبة‏” ‏ولا‏ ‏بأس‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏هنا‏ ‏تكرارا‏ ‏وتأكيدا‏ ‏لكل‏ ‏كلمة‏ ‏فيه‏ ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏الإضافات‏ ‏اللازمة‏:

“‏العلاج‏ ‏هو‏ “‏مواكبة‏” ‏مسيرة‏ ‏النمو، ‏يقوم‏ ‏بها‏ ‏شخص‏ ‏مسئول‏ ‏ذو‏ ‏خبرة‏ ‏ووعى ‏وحركة‏ ‏شخصية‏ ‏مستمرة‏ ‏على ‏مسار‏ ‏النمو (حكيم)، ‏لصالح‏ ‏شخص‏ ‏معاق أو متألم لدرجة يمكن أن توقفه أو تحوّل مساره (مريض).

يحدث هذا أو ذاك (الإعاقة والألم المفرط)‏ ‏نتيجة‏ ‏لضغط ‏ تنشيط مستوى من الوعى كان كامنا، ثم تنشَّط ولم تِستوعبه بقية مستويات الوعى.

‏أو‏ ‏نتيجة‏ ‏لجمود‏ ‏مفرط‏ ‏مانع‏ ‏لانطلاق مثل هذا النشاط

فيجرى  العلاج  ‏بقصد‏ كل مايلى:

  • ‏إزالة‏ ‏معوقات‏ ‏المسيرة على درب النمو الممكن
  • أو‏ ‏تأجيل‏ ‏نبضها حتى تهيئة ظروف ملائمة
  • أو ‏تعديل‏ ‏مسارها إذا تبين انحرافه من البادية
  • أو‏ ‏إيقاف‏ ‏انعكاسها، ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏بيولوجى ‏كلى – ‏أساسا، ‏

فيستعمل العلاج “‏كل‏” ‏المتاح‏ ‏المقابل‏ ‏لطبيعة‏ ‏تركيب‏ ‏الإنسان‏ ‏واحتياجه‏ ‏معا. ‏

o       من‏ ‏كيمياء‏

o       ‏وتنظيم إيقاع

o       وكلام

o       وحركة

o       وتعليم

o       وفُرصَ إبداع

يجرى كل ذلك بالتزام مهنى محدد بعد تدريب كاف. وتعاقُدٍ متعدد المراحل

مع مراعاة طول الوقت كلٍّ مما يلى :

  • التوقيت المناسب
  • ‏والتحريك المتدرِّج

فإذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏العلاج‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏فقد‏ ‏يصح‏ ‏القول‏

 “‏إنه‏ ‏إذا‏ ‏غلب‏ ‏على ‏هذه‏  ‏المواكبة‏ ‏فعل‏ ‏التواصل‏ ‏البشرى ‏بالكلمة‏ ‏والمعنىوالمشاركة‏ ‏والمعية‏ .. ‏كأسلوب‏ ‏لتحقيق‏ ‏هذه‏ ‏الأهداف‏ … ‏فهى ‏جديرة‏ ‏أن‏ ‏تسمى ‏باسم‏ “‏العلاج‏ ‏النفسي‏”‏

أنواع الحوار :

‏العلاج‏ عامة، والعلاج النفسى خاصة  ‏” ‏بمعنى ‏إطلاق‏ ‏إعاقة‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو‏ ” ‏يحتاج‏ ‏إلى “‏المواكبة‏” كما ذكرنا، وإن‏ ‏كانت‏ ‏المواكبة‏ – ‏كما‏ ‏سنرى – ‏هى ‏قمة‏ ‏التواصل‏ ‏البشرى .. ‏فإن‏ ‏المراحل‏ ‏دونها‏ ‏لا‏ ‏شك‏ ‏نافعة‏ ‏ومفيدة‏ ‏حسب السياق والهدف المتوسط.

 ‏وحتى ‏نفهم‏ ‏مفهوم‏ “‏المواكبة‏” ‏المتصل‏ ‏مباشرة‏ ‏بمسيرة‏ ‏النمو‏ ‏يستحسن‏ ‏أن‏ ‏نستعرض‏ ‏ماهيات‏ ‏التواصل‏ ‏أو‏ ‏محاولات‏ ‏التواصل‏ ‏بين‏ ‏اثنين‏ ‏و‏أكثر‏ ‏من‏ ‏البشر‏، ونبدأ بما يسمى “الحوار” من أول “حوار الصُّم” حتى “المواكبة”.

‏1- ‏حوار‏ ‏الصم (الطرشان) ‏:

 ‏هذا تعبير مشهور، وقد بدأنا به لأنه غلب مؤخرا – للأسف –  وأيضا لأنه أحيانا يكون خفيا على من يمارسه حين يستعمل ما يشبه المعنى، بلا معنى. حوار الصم يمثله ما ورد فى قصيدة “اللبن المر” فى ديوانى سر اللعبة كالتالى:

“‏ما‏ ‏حال‏ ‏الدنيا

‏- ‏الدفع‏ ‏تأخر

‏…‏

‏- ‏هل‏ ‏نمتَ‏ ‏الليلةْ

‏- ‏الأسهم‏ ‏زادت

‏….‏

‏- ‏كم‏ ‏سعر‏ ‏الذهب‏ ‏اليوم؟

‏- ‏المأتم‏ ‏بعد‏ ‏العصر

‏هو‏ ‏حوار‏ ‏لا‏ ‏يؤدى ‏وظيفة التواصل بقدر كاف من خلال‏ ‏الاتفاق‏ ‏على ‏معنى، ‏أو‏ ‏حتى ‏على ‏لفظ، ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يؤدى ‏وظيفة‏ “‏الرسالة‏ ‏والعائد‏” ‏وهو‏ ‏يدل‏ ‏على ‏تباعد‏ ‏الناس، ‏وعجز‏ ‏اللغة‏ ‏عن‏ ‏أداء‏ ‏وظيفتها‏ ‏الأساسية، ‏ولكن‏ ‏لماذا‏ ‏يستمر‏ ‏مثل هذا الحوار بدرجةٍ‏ ‏ما‏ ‏فى ‏حياتنا‏ ‏المعاصرة إذا كان بكل هذا الخواء؟‏ ‏لابد‏ ‏وأنه‏ ‏يؤدى ‏دورا‏ ‏ما‏… ‏ووظيفة‏ ‏ما‏(!!).‏

هذا النوع من  الحوار، ‏برغم‏ ‏أنه‏ ‏يعلن‏ ‏مصيبة‏ ‏عصرية‏، حتى نكاد ننكره ونتبرأ منه، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏يعلن‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏غير‏ ‏قادر‏ ‏على ‏تحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏الكلمة‏ ‏بما‏ ‏أصبحت‏ ‏تحويه‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏وتحد، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الأصوات‏ ‏البديلة‏ ‏عن‏ ‏الكلام‏ ‏ذى المعنى، هى – بشكل ما – ‏حماية‏ ‏من‏ ‏المعنى ‏الموضوعى ‏المترابط‏ جدا ‏الذى قد ‏يهدد‏ ‏بالامتداد‏ ‏بالوعى ‏إلى ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏حدود‏ ‏الدفاعات‏ ‏القائمة، ‏وبالتالى ‏فقد‏ ‏يكون‏ “‏حوار‏ ‏الصم‏” ‏دفاعا‏ ‏ضد‏ “‏الخوف‏ ‏من‏ ‏المعنى” (المطلق).

(يهتز الكون، لو يعنى القائل “أهلا”:أنْ “أهلا”) (1)

فإذا‏ ‏قام‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى – ‏وبعض‏ ‏أشكال‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏تقوم‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تدرى – ‏بتأكيد  ‏حوار‏ ‏الصم‏ ‏(الذى كنا نهجوه حالا) حتى ‏ليعود‏ ‏المريض‏ ‏يمارسه‏ ‏بقدر‏ ‏ما، ‏فهذا‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏تقوية‏ ‏للدفاع‏ ‏اللازم‏ ‏لاستمرار‏ ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏ولو‏ ‏على ‏مستوى ‏متواضع – ‏مرحليا‏ – ‏ربما‏ ‏استعدادا‏ ‏لجولة‏ ‏قادمة‏ ‏أقوى ‏وأنجح‏.‏

‏هنا‏ ‏يتبين‏ ‏الخلاف‏ ‏بين‏ ‏الرفض‏ النظرى (الفنى)  ‏لحوار‏ ‏الصم‏،  ‏والتقبل‏ ‏العملى ‏والعلاجى ‏لبعض‏ ‏أشكاله بدرجات مختلفة، بما يلائم ‏ ‏بالضرورة‏ ‏الحياة‏ ‏الواقعية‏ ‏التى ‏تلزم‏ ‏للتكيف‏ ‏والاستمرار‏.‏

نقطة‏ ‏أخرى ‏لصالح‏ ‏حوار‏ ‏الصم‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏التواصل‏ ‏الظاهرى، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يحمل‏ ‏احتمال‏ ‏تواصل‏ ‏غير‏ ‏لفظى ‏مواز، ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الأمان‏ ‏بين‏ ‏المتواصلين‏ ‏لأن‏ ‏أحدا‏ ‏لا‏ ‏يسمع‏ ‏الآخر‏ ‏مباشرة، ‏بمعنى أنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏استبعاد‏ ‏أن‏ ‏البعد‏ ‏الموازى (‏حوار‏ ‏بمحاذاة‏ ‏الألفاظ‏) ‏قد‏ ‏يقوم‏ ‏بوظيفة إيجابية، ‏بدليل‏ ‏استمرار‏ ‏الحوار‏.‏

‏2- ‏حوار‏ ‏الكر‏ ‏والفر‏:‏

هذا‏ ‏النوع‏ ‏أكثر‏ ‏مباشرة‏ ‏وأكثر‏ ‏انتشارا‏ ‏بين‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الناس، ‏وهو يغلب‏ ‏على ‏بعض‏ ‏الأشخاص‏ ‏الذين‏ ‏توقفوا‏ ‏فى ‏نموهم‏ ‏عند‏ ‏معتقدات‏ “‏جاهزة”‏ ‏فى ‏العادة‏، ‏تحمى ‏ذات‏ ‏الشخص‏ ‏وتُحَوْصِلهُ‏ (‏حتى ‏ليقترب‏ ‏من‏ ‏مفهوم‏ ‏الإعاقة‏ ‏فى ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏) ‏ويصبح‏ ‏الحوار‏ ‏عندهم‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏المناورة، ‏بما‏ ‏يدخل‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏إغارة‏ – ‏وتعمية ‏.

مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏ ‏ويتناوب‏ ‏الأدوار‏ ‏فيه‏ ‏الأفراد‏ ‏بكفاءة‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏بالاستمرار‏ ‏أيضا،

أما‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى، ‏فهو‏ ‏يتكرر‏ ‏فيما‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏المعالج‏ ‏من‏ “‏تفسير‏” ‏مقحَم، ‏فى مقابل ما يقوم‏ ‏به‏ ‏المريض‏ ‏من‏ “‏مقاومة‏”، ‏وكذلك‏ ‏فيما‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏المعالج‏ ‏فى ‏محاولة‏ “‏كشف‏ ‏المخبوء‏” ‏ويقوم‏ ‏به‏ ‏المريض‏ ‏من‏ “‏تستر‏ ‏شعورى ‏أو‏ ‏لا‏ شعورى”

‏وبالعكس‏ ‏فيما‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏المريض‏ ‏من‏ “‏تحد‏ ‏صامت‏ ‏أو‏ ‏صريح‏” ‏ويقوم‏ ‏به‏ ‏المعالج‏ ‏من‏ “‏تجنب‏ ‏النظرات‏ ‏والصمت‏ ‏(وكأنه‏ ‏يفكر‏، أو لعله يفكر) !!”…‏الخ

هذا‏ ‏الحوار‏ ‏أيضا‏ ‏يؤدى ‏وظيفة‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏النفسى (‏كما‏ ‏يؤديها‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏)، ‏وهو‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏نوع‏ٍٍ ما ‏من‏ ‏التواصل‏ ‏يمكن‏ ‏للذات‏ (‏أو‏ ‏الذاتين‏ ‏إذا‏ ‏أردنا‏ ‏الدقة‏) ‏أن‏ ‏تواصل‏ ‏تماسكها‏ ‏دفاعا ‏وهجوما، ‏كما‏ ‏يحمل‏ ‏احتمالا‏ ‏أقل‏ – ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مجرد‏ ‏الاستمرار‏ – ‏لتواصلٍ‏ ‏مواز‏ٍٍ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏سابقا‏.‏

وقد‏ ‏يشمل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏صورة‏ ‏فرعية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تسمى “‏حوار‏ ‏الهجاء‏ و‏الفخر” ‏حين‏ ‏يظهر‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏مناقبه‏ ‏ومثالب‏ ‏الآخر‏ ‏بطريق‏ ‏مباشر‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مباشر،

 ‏وفى ‏هذا‏ ‏أيضا‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ ‏الذات‏ ‏ويحافظ‏ ‏عليها (على شرط ألا يتطور الأمر إلى إعلان الحرب!!!) ‏.‏

‏3- ‏حوار‏ ‏شيل‏ ‏الهم‏:‏

هذا‏ ‏النوع‏ ‏شائع‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏المجتمعات‏ ‏الشرقية، ‏وربما‏ ‏المصرية‏ ‏بوجه‏ ‏أخص،ويمكن أن تندرج تحته أنواع فرعية نذكر بعضها فيما يلى:

        أ‌-    ‏ حوار‏ ‏المناحة‏” ‏وفيه‏ ‏يتواصل‏ ‏الشخصان‏ (‏أو‏ ‏الناس‏) ‏بأن‏ ‏يشكو‏ ‏كلٌّ‏ ‏همه‏ ‏للآخر، ‏ليخفف‏ ‏بعضهم‏ ‏عن‏ ‏البعض، (“‏يواسيك‏ ‏أو‏ ‏يأسوك‏ ‏أو‏ ‏يتوجع‏”) (2) وتقوم الندابة فى المآتم (أوكانت تقوم) بتحفيز مثل هذا الحوار بين أهل الميت والمعزين.

       ب‌-   “‏حوار‏ ‏التشفى ‏الخفى” ‏وهو‏ ‏الذى ‏يتمثل‏ ‏فى ‏المثل‏ ‏القائل‏ “‏من‏ ‏شاف‏ ‏بلاوى ‏الناس‏ ‏هانت‏ ‏عليه‏ ‏بلوته‏” ‏وبرغم تصور كثير من الناس بعض الإيجابية فى مثل هذا الموقف، حتى شاع خطأ أنه من بعض ما يبرر أفضلية العلاج الجمعى (ياه!! هكذا أرى أن هناك حالات أسوأ من حالتى!!) ، فإنه ليس بنائيا ولا طيبا مع أنه قد يفيد فى بعض المراحل، وقد ينفع فى بعض ‏ ‏العلاجات‏ ‏السطحية لذوى الشخصية “الذاتوية” بقدر أو بآخر، خاصة إذا ألحق بحمد الله أنّ ما نحن فيه هو أقل مما يعانيه الآخرون.

هذا الموقف يكاد يكون عكس ما نعنيه بالمواكبة. كلما أثير مثل هذا القول فى جلسات العلاج  الجمعى ، نعرج بالتفاعل إلى احتمال بديل آخر يقول: ‏”من شاف بلاوى الناس زادت عليه بلوته”، لأننا نحمل هم بعضنا البعض معاً، آملين أن يخف عن كل واحد منا معاً

       ت‌-   حوار‏ ‏المواساة‏” ‏بما‏ ‏يحمل‏ ‏من‏ ‏معانى ‏الإشفاق‏ “‏والطبطبة‏” (‏طب‏ ‏الشيء‏: ‏تلطف‏ ‏به‏ ‏وترفق‏) ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحوار‏ – ‏ككل‏ – ‏له‏ ‏فائدة‏ ‏علاجية‏ ‏وهى ‏الإيهام‏ ‏بالمشاركة‏ ‏وبكسر‏ ‏الوحدة، ‏وهذا‏ ‏الإيهام‏ ‏فى ‏ذاته، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏خفى ‏على ‏صاحبه، ‏له‏ ‏وظيفة‏ ‏دفاعية‏ ‏مفيدة‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏لا‏ ‏محالة، ‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏المثالية‏.‏ (الإيهام اللاشعورى لا يعنى “الكذب”

‏4 – ‏حوار‏ ‏التغافل‏:‏

هذا‏ ‏الحوار‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏يتغافل‏ ‏كل‏ ‏واحدا‏ ‏عما‏ ‏يراه‏ ‏فى ‏الأخر‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏يروقه‏ ‏أو‏ ‏يهدده‏ ‏أو‏ ‏ينفره‏ .. ‏الخ، ‏سواء‏ ‏بوعى ‏أو‏ ‏بغير‏ ‏وعى، ‏والأخير‏ ‏أفضل، ‏وبهذا‏ ‏يستطيع‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏المسيرة‏ ‏بجوار‏ ‏الآخر، ‏وفى ‏بعض‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏يكون‏ ‏التغافل‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏المريض‏ ‏أكثره‏ (‏أو‏ ‏كله‏) ‏بغير‏ ‏وعى، ‏ويكون‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الطبيب‏ ‏كذلك‏ ‏ولكن‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏أقل، ‏لذلك‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏ “‏الطَّنْبَلَة‏” (‏والذى ‏يعنى ‏بالعربية‏ الفصحى ‏تَحَامَقَ‏ ‏بعد‏ ‏تَعَاقُلْ، ويقابل بالعامية “طنّشَ”‏) ‏وفى ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يحمل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى (‏الإيهام‏ ‏بالقبول‏) ‏وهى ‏وظيفة‏ ‏هامة‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏الإنسانية‏ ‏تحفز‏ ‏على ‏الاستمرار، ‏الذى ‏يحمل‏ ‏احتمال‏ ‏حوار‏ ‏أعمق‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏الأحوال‏ ‏السابقة‏.‏

5- ‏حوار‏ ‏المعية شبه‏ ‏الصامت‏:‏

وهو‏ ‏حوار‏ ‏مسالم‏ ‏على ‏درجة‏ ‏لا‏ ‏بأس‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏الدماثة‏ ‏واحترام‏ ‏حدود‏ ‏الآخر،‏ ‏وهو‏ ‏قد‏ ‏يشمل‏ ‏معانى “‏معا‏ .. ‏رغم‏ ‏الاختلاف‏” ‏وكذلك‏ “‏معا‏ … ‏وكلُّ‏ ‏فى ‏حاله‏” ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏يصف‏ ‏الشيزويدية‏ ‏الغربية‏ ‏بالذات، ‏وهو‏ ‏يؤدى ‏وظيفة‏ ‏تأكيد‏ ‏الوحدة‏ ‏والاعتراف‏ ‏بضرورتها‏ ‏واحترامها‏ ‏فى ‏آن‏ ‏واحد، ‏مع‏ ‏إمكان‏ ‏المسيرة‏ ‏الموازية‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏هذا، ‏وقد‏ ‏يمارس‏ ‏هذا‏ ‏الحوار من جانب واحد‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏التحليل‏ ‏النفسى حيث يغلب إنصات المعالج على كلامه، ‏وكذلك يجرى بعضه‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏المسمى ‏بعلاج‏ ‏المجموعة‏ ‏ككل‏ Group as a whole ‏حيث‏ ‏يشمل‏ ‏الاعتراف‏ ‏الضمنى ‏بصعوبة‏ ‏التواصل‏ ‏الأعمق بين الأفراد مستقلين، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يؤكد‏ ‏على ‏احتمال‏ ‏التواصل‏ ‏بالحفاظ على المسافة إلا مايجمع الكل معا فى شبكية ضامّة.

كل‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏من‏ ‏أنواع‏ ‏قد‏ ‏تصلح‏ – ‏فعلا‏ – ‏لعلاج‏ ‏العصاب، ‏وبعض‏ ‏اضطرابات‏ ‏الشخصية، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏هدف‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العلاج‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏هو‏ ‏تثبيت‏ ‏الواقع‏ ‏على ‏صورة‏ ‏أحسن، ‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏دفع‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو، لكنها أبعد ما تكون عن الحوار مع الذهان تحديدا‏.‏

‏6- ‏حوار‏ ‏المواكبة‏:‏

هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحوار‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏عنيناه‏ ‏طول الوقت ‏كإضافة‏ ‏توضيحية‏ ‏محددة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفرض‏ ‏المطروح‏ ‏وهو‏ ‏يشمل‏ ‏عدة‏ ‏مواصفات‏ ‏يصعب‏ ‏شرحها‏ ‏لأنه‏ ‏ممارسة‏ ‏كلية‏ ‏عملية خبراتية أساسا، ‏ولكن‏ ‏لا‏ ‏مناص‏ ‏من‏ ‏المحاولة‏، فهو يشمل كلا مما يلى.

1)‏‏ ‏استعمال‏ ‏الكلام‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏اللفظنة‏ Verbalism (استعمال الألفاظ للألفاظ)

2) ‏‏توصيل ‏المعنى ‏المراد‏ ‏بأى وسيلة على قنوات متعددة: بالإشارة، وتعبير الوجه، وبريق العين، ولون الجلد… الخ

3) ‏ ‏رفض‏ ‏التقريب‏ ‏والتعميم‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏.‏

4)  ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الألفاظ‏ ‏مجرد‏ ‏إحدى ‏الأدوات‏ ‏لما‏ ‏بها‏ ‏وما‏ ‏حولها، ‏بالمقارنة‏ ‏ببقية‏ ‏قنوات‏ ‏التواصل‏.‏

5) ‏يشمل‏ ‏الحوار‏ ‏المحاذى ‏للألفاظ‏ Para-verbal ‏سواء‏ ‏بمعنى ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى: التخاطب على أكثر من مستوى “ذات” لأكثر من هدف معاً، وهو ‏الذى ‏أفاض‏ ‏فى ‏شرحه‏ ‏إريك‏ ‏بيرن، ‏أم‏ ‏بمعنى ‏أشمل‏ ‏لأى ‏حوار‏ ‏مواز‏ ‏للألفاظ‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏مستوياته‏.‏

6)  ‏‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التراجع‏ ‏بمعنى ‏النكوص‏ ‏الواعى ‏حتى ‏يوازى ‏المتحاوران‏ ‏أحدهما‏ ‏الآخر‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏رحلته‏ ‏للداخل‏ ‏والخارج، ‏للقبـْل‏ ‏والبعد، ‏ثم‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الصحبة‏ ‏للرجوع‏ ‏معا‏.‏

7)  ‏‏ ‏مخاطرة‏ ‏التغيير‏ ‏نتيجة‏ ‏أى ‏رسالة‏ ‏صادقة‏ ‏مغَيِّرة‏ ‏تصل‏ ‏من‏ ‏الآخر، ‏فصاحِبَىْ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏جاهزان ‏للتقبل ‏المتبادل ‏بقدر طيب من ‏المرونة.

8)  ‏‏ ‏الاعتماد‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ ‏على ‏تلقائية الذات موضوعيا، ‏إذ‏ ‏يصبح‏ ‏الحوار‏ ‏مع‏ ‏الآخر باعتباره “آخر” وليس بما أسقطه عليه بما يسمح بتواصل الحركة الحقيقية‏‏: ‏منه‏ ‏وإليهم، ‏وبالعكس

9)  هو ‏يبدأ‏ ‏من‏ ‏قاعدة‏ ‏ذاتية‏ ‏ثاتبة، تسعى نحو ذاتية الآخر مع الاحترام المتبادل، ‏ثم يعود‏ ‏إليها‏ ‏دون‏ ‏تخلخل‏ ‏عنيف‏ ‏فى ‏حركية‏ ‏الذهاب‏ ‏والعودة‏.‏

10) ‏التقبل‏ ‏النشط، ‏وأعنى ‏به‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏ممارسة‏ ‏الحياة‏ ‏مع‏ ‏المختلفين، ‏وتقبل‏ ‏الاختلاف‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ، ‏وبصفته‏ ‏حقيقة موضوعية‏ ‏حتمية، ‏مع‏ ‏التفاعل‏ ‏والالتحام‏ ‏الصادق‏ ‏المستمر‏ ‏بين‏ ‏البداية‏ ‏والنهاية‏ ‏دون‏ ‏وضع‏ ‏أى ‏افتراض‏ ‏جامد ‏مسبق‏.‏

فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏ ‏يندر‏ ‏أن‏ ‏يتواتر‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحوار‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏مجتمعا‏ت ‏شديدة‏ ‏النضج‏ ‏والخصوصية‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏الحديث‏ ‏عنها‏ ‏أو‏ ‏أخذها‏ ‏مثلا، ‏أما‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏فإن المعالج هو الذى‏ ‏يقوم‏ ‏بهذه‏ ‏المواكبة‏ ‏أساسا‏ ، ‏وهو يتحمل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏لاثنين‏ (‏فى ‏العلاج‏ ‏الفردى) ‏أو‏ ‏لأكثر‏ (‏فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏وعلاج‏ ‏الوسط‏)، ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏فاعليته‏ ‏ورحلاته‏ ‏الصاعدة‏ ‏الهابطة‏، الداخلة الراجعة، وهى الرحلات الدالة على حركية‏ ‏ونشاط‏ ‏نموه‏ ‏المتواصل‏ .. ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يواكب‏ ‏ويعدل‏ ‏مسار‏ ‏حركة‏ ‏النمو‏ ‏المعوقة‏ ‏بكل‏ ‏قنوات‏ ‏التوصيل‏ (‏والأدوات‏ ‏المساعدة‏ ‏التى ‏تتمثل فى كل ‏العلاجات‏ ‏الأخرى).‏

وبعد

‏ أى عبء ذلك ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يلقى ‏على ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المعالج‏ ‏مما‏ ‏يستلزم‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عضوا‏ ‏فى ‏فريق‏، يمارس مهنته مؤتنسا بإشراف ذاتى وجمعى ملاحق، محترما ‏ ‏مدى ‏ما‏ ‏يلزمه من تدريب مستمر، ومراجعة يقظة تمكنه من ‏القيام‏ ‏بهذه‏ ‏المهمة‏ ‏بكفاءة‏ ‏ما‏ أمكن.

لهذا:

لا‏ ‏ينبغى ‏التقليل‏ ‏من‏ ‏أهمية‏ ‏أى ‏علاج‏ ‏دون‏ ‏ذلك‏، ‏أو‏ ‏حوار‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرنا‏، ‏لأن‏ ‏لكل‏ ‏نوع‏ ‏من العلاجات مريض‏ ‏يناسبه‏، ‏ومرض‏ ‏يحتاجه‏، ‏والتعميم‏ ‏مستحيل‏، ‏بل‏ ‏وشديد‏ ‏الإضرار‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏فرض‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏المواكب‏ ‏على ‏من‏ ‏هو‏ ‏فى ‏غير‏ ‏حاجة‏ ‏إليه‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مستعد‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏المرضى ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏حاجة‏ ‏المعالج‏ أن يفعله لصالحه ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الاستجابة‏ ‏إلى ‏قدرة‏ ‏المريض‏، ‏فلا‏ ‏يخفى ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المعالج‏ ‏يشعر‏ ‏بوحدة‏ ‏حقيقية‏ ‏لا‏ ‏حل‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏مواصلة‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو‏ ‏بكل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏وروعتها‏ ‏وأعبائها‏، ‏ولكن‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏تحميل‏ ‏الآخرين‏ – وخاصة المرضى –  ‏مواكبته‏ ‏إلا‏ ‏ليستقيموا‏ ‏على ‏طريقهم‏ ‏هم‏، ‏أو‏ ‏يستريحوا‏ ‏فى ‏محطة‏ ‏النمو‏ ‏التى تصلح لهم‏  ‏.‏

الخلاصة :

إن كل أنواع الحوار التى تجرى بين البشر بتلقائية دون اختيار، هى لازمة ومفيدة كما لاحظنا، بما ذلك، العلاجات “سيئة السمعة” مثل “حوار الصم”

من خلال هذا التقبل المرن وعلى قدر خبرة المعالج ودرجة نضجه، يتحرك المعالج ذهابا وجيئه، مستعملا معظم أنواع الحوارات بمرونة وتنقل دون حرج، تحدده حركية المسيرة العلاجية، متوجها إلى الهدف منها، يقيس خطواته مع المريض على مسارها بمحكات متفق عليه.

وغدا نستكمل علاج المواجهة – المواجهة – المسئولية: م.م.م.

[1] – من قصيدة “أنهار المسعى السبعة” ديوان البيت الزجاجى والثعبان، 1983، للكاتب

[2] – فلابد من شكوى لذى مروءة             يواسيك أو يأسوك أو يتوجع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *