نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 23-12-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4862
الأربعاء الحر:
مقتطف من: دليل الطالب الذكى فى علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
الفصل العاشر:عن الحلم والإبداع والنوم (5)
مقدمة:
انتهت حلقة الأسبوع الماضى والطالب يسأل عن المخ المتنحى (من بين الأمخاخ الكثيرة التي أشار إليها المعلم)،
ونكمل اليوم.
……………..
الطالب: لن أسأل (عن كل الأمخاخ التى أشرت إليها)، حتى لا تضيـِّـعنى فى التفاصيل، وسوف أكتفى بالتساؤل عن وجود أية أدلة على طبيعة عمل المخ المتنحى.
المعلم: وصفت عالمة سوفييتية اسمها لوريا Luria من قديم تفوق هذا المخ فى الموسيقى، فقد وصفت حالة ملحن اخرج أعظم أعماله بعد أن أصيب بالعجز عن النطق (الأفازيا Aphasia) نتيجة لإصابة مباشرة للجانب الايسر، وقد ثبتت هذه الظاهرة من قديم فقد وصف دالين Dalin منذ سنة 1745 حالة من فقد المنطق التسلسلى (وهو أساس اللغة الرمزية مثلا) مع الاحتفاظ التام بالقدرة الموسيقية كما وصف شخصا أصيب بشلل أيمن تام وفقد النطق ومع ذلك احتفظ بقدرته على غناء ترنيمة تسبيح كما هى تماما بمجرد أن يساعده آخر على بدايتها، وقد اعتبر “هنشن” أن الجانب الأيمن بدائى فى أغلب النواحى، واعتبر – إذاً – أن الأنغام تابعة للجانب الأيمن بعد فقد النطق نتيجة لإصابة الجانب الأيسر.
الطالب: بدائى، أليس فى ذلك ما يفسر ما اخذناه فى الثانوية العامة من أن الشعر سابق فى تاريخ الأدب للنثر المرسل وأن الشعر موسيقى والنثر تسلسل.
المعلم: هذه إشارة طيبة..تطمئننى على أنك فاهم، لكن مع التذكرة أن الشعر لا يمثل البدائية، بل هو إبداع على أعلى مستوى.
الطالب: والله ولا فاهم ولا يحزنون ولكنى أصبِّر نفسى.
المعلم: هل تكفى هذه الإشارة فى هذا المجال؟
الطالب: لا .. لا .. إن هذا الموضوع هو موضوع يبهرنى ويطمئننى إلى ما قلت لى من أن علم النفس هذا هو وظيفة المخ مثله مثل بقية فروع الفسيولوجيا التى ندرسها، هات كل ما عندك حتى ولو لم يكن علينا للامتحان.
المعلم: مادام هذا هو طلبك فاعلم أنه قد ينطبق على ما وصف أيضا فى حالة الموسيقى الشهير رافل Ravel الذى أصيب فى قمة مجده بفقد القدرة على التعرف التحليلى للموسيقى وقراءة النوته فى حين لم يفقد القدرة على العزف، كما أنه لوحظ أن بعض الخبرات الشعرية قد تظهر لأول مرة بعد الإصابة الجزئية أو المؤقتة بفقد النطق نتيجة للاصابة يتلف المخ الأيسر .
الطالب: إذن يحق لى أن أتخيل أنى لو شرحت مخ موسيقار أو ملحـّـن لوجدت مخه الأيمن اضخم وأزحم.
المعلم: نكتة هذه أم سخرية؟ إن وظائف المخ فى قمة كفاءته تكلم بعضها بعضا، فكل مخ (وحتى كل نصف مخ إذا شئت أن تتكلم بلغة التشريح أو الفسيولوجيا العادية) له تخصصه، وهو يكمل النصف الآخر، ثم الكل الآخر.. الخ.
الطالب: ولكنى أذكر وأنت تحدثنى عن ظاهرة الرؤية السابقة Déjà vu ان النصفين تصلهما نفس الصورة فى الإدراك بفارق جزء من جزء من الثانية، وقد فَسَّرتَ لى بذلك أن الإنسان فى هذه الحالة يخيل إليه أنه رأى نفس المنظر قبل ذلك، وقد فهمتُ أن النصفين يقومان بنفس الوظيفة وهى الإدراك هنا مثلا.
المعلم: ذاكرتك تمام التمام، نعم لقد حصل، ولكن تبدو أن التفاصيل تختلف، أى أنهما يشتركان فى الوظائف من حيث المبدأ، ويختلفان فى التفاصيل.
الطالب: وكيف كان ذلك؟
المعلم: أغلب الدلائل تشير إلى أن المخ الطاغى الأيسر عادة هو المختص باللغة والتفكير الرمزى أو الإسنادى.
الطالب: وما التفكير الإسنادى لو سمحت؟
المعلم: ألم تأخذ فى النحو المسند والمسند إليه، إن هذا هو التفكير الإسنادى اسمه بالإنجليزية Propositional وقد اعتبر جاكسون من قديم ان وظيفة المخ الطاغى ليست امتلاك Possession الكلمات ولكنها استعمالها، فالإسناد ليس مجرد تتابع الكلمات ولكنه أن تشير كلمة للأخرى بحيث تعطى للكلمتان (أو الكلمات) معاً معنى لما تجمعـَـا له.
الطالب: أخشى أن يستدرجنا الإطناب – وهو طابعك مثلما هو طابعى – إلى الخروج عن الموضوع، فهلا اختصرت لى الحكاية فى الفروق بين عمل النصفين؟
المعلم: لا بأس سأحاول أن أبسط لك الأمر، واحدة واحدة، كل ما أريد منك أن تعرفه الآن هو عدة أساسيات متعلقة بهذه القضية.
الطالب: لست متأكدا أننى سوف استوعبها؟
المعلم: لكنها أساس جوهرى فى فهمك بعد ذلك للأمراض النفسية وخصوصا الجنون، وهى أساس فهمك لعملية الترابط على أعلى مستوياته فى فشلها ونجاحها، وبالتالى للإبداع، وهى أيضا أساس تصديقك أن علم النفس هو فسيولوجيا المخ ككل على أرقى مستوى.. هل تذكر؟
الطالب: اذكر، ولكن… دعك من كل هذه التفاصيل، وهيا نوجز ما علينا معرفته
المعلم: حاضر، خذ عندك:
(ا) أن المخ مخان ( على الأقل (فتح كلام!!) وليس نصفين.
(ب) أن عمل كل منهما يكمل الآخر.
(جـ) أن المخ الطاغى يشبه الشخص العالم المنطقى، المتحذلق، الذى يحسن استعمال اللغة والرموز فى تسلسل ويحسن تعلم العلاقات فى سببية متتالية.
(د) أن المخ المتنحى (مع خطأ التسمية) يشبه الشخص الفنان الذى يتعامل بالصور أكثر مما يتعامل بالرموز المحددة، ويحسن التركيب لا التسبيب، ويهتم بالكليات والتخيل والتراكم والتكيف والأنغام.
الطالب: عندك عندك إن ما أعلمه أن العالم مبدع، والفنان مبدع، فكيف تفصل بينهما هكذا وأنت تتكلم عن الإبداع؟
المعلم: أنا لم أفصل، ولكننى أحاول أن أهز ثوابت معطلة، ثم إننا نحتاج إلى إعادة تعريف الإبداع، حتى لا يقتصر على بيت شعر أو رسم لوحة أو إخراج فيلم، الإبداع هو عملية تجديد حيوى نوعى نوابىّ طول الوقت.
الطالب: أمن اجل ذلك قلت أن الشخص العادى يبدع مادام يحلم، فماذا تقصد؟ لأننى لم أسألك ساعتها.
المعلم: يا خبر! لقد زغت منك، فهذه أصعب منطقة، عموماً أنا اعتبرت أن أى تغير ولو واحد فى الألف فى اتجاه النمو هو إبداع وهذا ما يحدث لكل منا كل ليلة.
الطالب: لست فاهما.
المعلم: هل تسمح لى أن نؤجل هذا الموضوع الآن.
الطالب: وهل أنا أملك غير ذلك، خلنا فى المخ الطاغى والمتنحى.
المعلم: أؤكد لك على تكافل عمل المخين فى الإبداع خاصة.
الطالب: وكأن الـCorpus callosum مهمة جداً فى الإبداع.
المعلم: اسمها بالعربية: الجسم المندمل(2)، وقد درسوا عمل نصفى المخ منفصلين أيضا من خلال قطع هذا الجسم فى بعض الحيوانات الأعلى، ومن خلال دراسة بعض حالات الصرعيين الذين تجرى لهم عملية شق هذا الجسم المندمل، ومن خلال بعض الأورام التى توقف عمل هذا الجسم، ووجدوا الأدلة لعمل المخين معاً فى الإبداع كما أشرتَ.
الطالب: يا سلام، لقد كنت استهين بهذا الجسم المندمل فى التشريح لأنه جسم منتظم ليس له علاقات كثيرة وحفظ علاقاته سهل جدا فلم أكن أتوقف عنده ولكن ما أنت تفاجئنى أن له وظيفة بالغة الخطورة.
المعلم: حصل، وقد قال عالم إسمه فيجان Fegan “إن كل الملاحظات تدل على أنه بعد الجراحة التى يلغى فيها عمل هذا الجسم المندمل، نجد أمامنا إنسانا له عقلين ومجالين للوعى منفصلين، والسؤال المطروح هو “هل قطع الجسم المندمل يحدث شقا فى وظيفة العقل، (أو ازدواجا) أم أنه يظهر ازدواجا قائما بالفعل.
الطالب: كدت أقتنع أن لنا مخان فعلا.
المعلم: على الأقل، ثم إن لاشلى Lashley ( وهو من أشرت إليه من قبل فى هذا الدليل) يقول بأن علماء النفس – على الأٌقل فى الفترة الأخيرة – لا يجدون سببا أو منطقا فى التمسك بفكرة واحدية العقل.
الطالب: إنى أخاف أن تكون كل الدراسات السابقة للتفكير لم تـَدْرُس إلا تفكير النصف الطاغى، أو قل المخ الطاغى حتى لا تحتج، فاللغة والكلام والمنطق والحساب كلها تابعة له كما فهمت، وعلينا إذن أن نبدأ دراستنا من جديد للمخ الآخر وبذا يتضاعف المقرر.
المعلم: كل همك المقرر، المقرر..!! نعم يا إبنى لابد من تنظيم معلوماتنا بعد هذا الفتح الجديد.
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – يقول ماك كولوش Mc Culloch وجارول Garol منذ سنة 1941 أن الجسم المندمل يحوى من الألياف ما يساوى ويزيد عن مجموع الألياف الهابطة والصاعدة فى أحد النصفين الكرويين، ومع ذلك فالمعرفة عن حقيقة وظيفته ضعيفة للغاية.
وقد وافق جليس Glees ما استنتجه كل من ميرزوسبرى Myers & Sperry من أن الجسم المندمل هو الوسيلة التى يستطيع بها النصفان الكرويان أن يشاركا فى العمل معاً بحيث يستفيد أحدهما من خبر الآخر.
وقد كتب ف . بريمر .F. Bremer “لقد تبين الآن أن وظيفة الجسم المندمل تصاحب أعلى وأكثر النشاطات تعقيدا فى المخ”.