نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 6-12-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4845
كتاب: مقدمة فى العلاج الجمعى
“من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” (1)
الفصل الثامن
التقنيات الأساسية فى العلاج الجمعى (2)
……………
المقتطفات:
نبدأ بهذه الجملة من الفصل الأول من الكتاب المعنون بعنوان:
البيولوجية النيورونية البينشخصية فى العلاج الجمعى والعمليات الجماعية (2)
الفصل اسمه “التكامل بين النيوروبيولوجية البينشخصية وبين العلاج الجمعى”
وفيما يلى بعض المنطلقات الأساسية الأحدث
(1):
“…إن علاقاتنا البادئة تشكل التركيب الجوهرى لأمخاخنا ونشاطها فى بحر من الالتقاءات البينشخصية التى تواصل تعديل تربيطات مخنا باستمرار، إن هذه الخبرات تخلّق توقعات لكيفية علاقاتنا مع بعضنا البعض، وهى تنتظم ممتدة فى ما هو “ذاكرة طويلة المدى” Long term memory، مؤثرة باستمرار فى كل مناحى حياتنا، فهى ترشدنا فى انتقاء شريك حياتنا، وطريقة أبوتنا وأمومتنا، ومستويات مرونتنا وآمالنا، وقدرتنا على ابتداع معنى لحياتنا وغير ذلك من قدرات معيشية وبينشخصية”.
(2):
“…إن العلاج الجمعى بوجه خاص أكثر من أى علاج نفسى يعطى الفرصة لتلامس عوالمنا الداخلية، وأن يدعم بعضنا البعض، وكل ذلك داخل الوسط المتماسك الذى يهيئه المعالج ابتداءً، ثم كل أفراد المجموعة معا فيما بعد”.
(3):
“…إن نهرا جاريا من التواصل يجرى دائما تحت مستوى الوعى الظاهر، إن تغيرات تشكيلات التكامل تؤثر فى التغيرات النوعية الميكروثوانية التى تتجلى من خلال “النظرات” و”نغمة الصوت”، و”رنين الكلام” و”وضع الجسد”، و”الحركة” جنبا إلى جنب مع الرسائل الصوتية والبصرية التى تنشأ من النشاط الضمنى للنصف الكروى الأيمن”.
(4):
“…إذا استوعب المعالج فى العلاج الجمعى – بداخله- “هذه” المفاهيم فإنه لا يتعامل فقط مع معلومات النصف الكروى الأيسر (الطاغى)، وإنما أيضا يتعايش بإحساس النصف الأيمن، ثم إن أفراد المجموعة يستطيعون بدورهم التجاوب مع بعضهم البعض بنفس الطريقة”.
التعقيب استلهاما من الفقرة الأخيرة:
إن هذا المدخل يضعنا فى إشكالة تبدو بلا حل من حيث البحث العلمى بالطرق التقليدية، وحين لاحظت كل ذلك بشكل كلىّ مرة، ثم فى حضور فروض تقفز لى أثناء الممارسة: لم أتحمس (أو لم أستطع، أو لم أجرؤ) أن أصيغها بهذا الحسم الذى ظهر مؤخرا فى كتب أحدث، ومنها هذا الكتاب الحالى الذى اقتطفت منه بعض المنطلقات الأساسية، لكننى حين رجعت إلى الألعاب النفسية التى مارسناها وجدت أنها كلها تقريبا تكشف بشكل أو بآخر معظم هذه الاحتمالات الأخيرة،
وسوف أخصص فصلا أو أكثر – ربما كتابا بأكمله – لأقدم ألعابا (3) أثبتت بعض جوانب هذه المشاهدات والآراء والملاحظات السابق اقتطافها، وأكتفى هنا بمثالين:
اللعبة الأولى: “يا خبر دانا لما ما بفهمشى يمكن …”
وكان المقصود إظهار قنوات التواصل المتعددة: “إن الكلام المنطوق السائد المفهوم ليس هو الوسيلة الوحيدة للتواصل، وربما ليس الوسيلة الأمثل”
واللعبة الثانية هى: “أنا أخاف أقول كلام من غير كلام لحسن ….” (4)
وبرغم ما فى إيراد هذه العينات من تكرار فإنه يبدو أنه لا مفر من ذلك لأن هذا كتاب وذاك كتاب آخر، والهدف مختلف فى الحالتين.
الخطوط العامة لطبيعة ومسار العلاج النفسى (والجمعى خاصة):
لما كان الباحث قد حمّلنى مسئولية هذه الطريقة التى قام بالبحث فيها، فإنى انتهز الفرصة فى هذا التقديم المطول لأحدد معالمها فى خطوط عريضة، تتفق مع ما جاء فى البحث حينا، وتختلف معه حينا آخر .. فأقول:
1- إن العلاج النفسى هو جوهر الطب النفسى، وهو المميز الحقيقى لهذه المهنة، وهو الممارسة التى جوهرها تلك العلاقة بين إنسان ذى خبرة وإنسان فى محنة، بهدف تغيير سلوك أو تعديل تشكيل مضطرب، أو معطل، أو طفيلى أو مغترب (بغض النظر عن المسمى التشخيصى فى كثير من معظم الأحوال)
2- إن العلاج الجمعى بصفة عامة هو صورة نشطة ومتطورة من العلاج النفسى (بالتوصيف السابق).
3- إن مجرد تغيير السلوك (خاصة فى شكل أعراض)، أثناء العلاج النفسى أو بدونه، من خلال علاقة إنسان بإنسان ليس إيجابيا بصفة مطلقة، لأن اختفاء سلوك ما، مهما كان مزعجا، قد يتم على حساب نمو الشخصية أو على حساب التفاعل الوجدانى الأعمق أو على حساب “شخص آخر” (فى تفاعل وجدانى عميق مع صاحب الأعراض)، وعلى ذلك يكون اختفاء الأعراض ليس هدفا نهائيا فى كل الأحوال بل هو علامة على الطريق ننطلق منها إلى النمو الممكن.
4- إن الطريقة التى تختفى بها الأعراض، والهدف من اختفائها، ومسيرة الفرد بعد اختفائها هى التى تحدد نوع هذا العلاج وموقعه بين العلاجات الأخرى.
5- لكل معالج أن يختار الطريقة التى تشحذ رؤيته، أو تعميه عن موقفه، هذا حق إنسانى صرف ليس لأحد أن يحرمه منه إلا بقدر حظه من ضريبة التنوير العام التى تتناسب مع مرحلة نمو مجتمعه عامة، لأنه من البديهى أن كل فرد – وكل معالج بالتالى – فى لحظة ما من مسار تطوره لا يستطيع غير ذلك، وبالتالى فإنه يحدد –شعوريا ولا شعوريا- طريقة العلاج والهدف منه على قدر الجرعة التى يتصور أنه يتحملها، وإلا فمن ذا ينقذه إذا تعرض لجرعة فوق طاقته وهو متحمل مسئولية علاج آخرين؟.
وبعـد
كأنى بكل هذا أقرر أن العلاج النفسى عامة، والعلاج الجمعى خاصة تختلف طرقه بعدد اختلاف الأفراد الذين يمارسونه، وأن انتقال معالج ما من مرحلة إلى مرحلة: مثلا من العلاج الفردى إلى الجمعى: (مثل روجرز الذى أعلن أنه لم يعد يستطيع أن يمارس العلاج الفردى ثانية، وقد أصبحتُ أنا كذلك – تقريبا- منذ عامين (5)، ثم بيرلز الذى أعلن أنه حتى العلاج الجمعى كاد يصبح بعيدا عن متناوله … الخ) أو حتى التغيير الفرعى فى نفس نوع العلاج : مثل الانتقال من علاج “الفرد فى المجموعة” إلى نوع “علاج المجموعة ككل” أو العكس ..، كل ذلك إنما يدل على تطور المعالج ذاته، أو تراجعه، حسب مرحلة نموه أو درجة خوفه.
من خلال كل ذلك نستطيع أن نخلص إلى نتيجة بسيطة ومنبهة للغاية، وهى: “أن كل أنواع العلاج القائمة بعيوبها ومزاياها مطلوبة لأن المرضى يختلفون، وبالتالى ينبغى أن يكون هناك من يقابل احتياجاتهم من المعالجين المختلفين بنفس قدر اختلافهم”، والتلاقى بين هذا الطبيب (أو المعالج) وبين ذلك المريض واستمرارهما معا هو تحديد ضمنى لمرحلة تطورهما، وتلاقى مجموعة بالتالى واستمرارها مع معالج بذاته هو تحديد أيضا لمرحلة هذه المجموعة (6).
وهكذا أستطيع أن أقرر معالم هذا العلاج بالنسبة لى من واقع خبرتى كالتالى:
1- إن هذا العلاج يتفق مع احتياجاتى فى هذه المرحلة من الرؤية والتطور، فأنا لم أعد أستطيع أن أمارس العلاج الفردى بنفس الكفاءة إذا أردت الحفاظ على أمانتى مع نفسى.
2- إنه – فيما عدا فترات محدودة للضرورة القصوى- يكون الحضور باختيار كامل للمريض، يتجدد كل مرة، وبالتالى بمسئولية كاملة.
3- إن الأسلوب الجارى فى هذا العلاج هو أسلوب تلقائى خبراتى، به عدد محدود من القواعد أهمها التركيز شبه المطلق على الـ“هنا والآن”، فضلا عن القواعد التنظيمية العادية بالنسبة لمواعيد الحضور ومدة الجلسة وما إلى ذلك.
4- إن هذا العلاج له توجه نمائى يقول: “إن الإنسان عامة قادر على ان يستمر فى النمو، وهو يواصل التنازل عن الاحتياج إلى اللجوء المتزايد للحيل الدفاعية، وأن هذا وحده هو السبيل لإطلاق قدرات إبداعه وإعطاء حياته معنى ولمسيرته هدفاً”.
5- إن ظهور الأعراض يعتبر فى كثير من الأحيان من الآثار الجانبية (الإيجابية) لمواصلة هذه المحاولات المستمرة للتغير على مسار النمو فى ظروف ليست كاملة الملاءمة.
6- إن طلب زوال الأعراض يتضمن إعلان طلب العون من آخر، (يعرف الحكاية أو يحاول أن يعرفها باستمرار)، سواء تم العون فرديا، أو فى حالتنا هذه، مع آخرين يحاولون نفس المحاولة (العلاج الجمعى وعلاج الوسط)، باعتبارهم شركاء على نفس الطريق.
7- إنه إذا حققت هذه المشاركة هدفها الأصلى –تخفيف الألم وكسر الوحدة – دون التوقف عند مرحلة الاعتماد على هذه المجموعة بوجه خاص دون غيرها، فإن الفرد قادر بعدها على الاستمرار بعد اكتساب ميزتين هما نتيجتان طبيعيتان لكل ذلك.
(أ) الاعتماد على المصادر الذاتية معظم الوقت: إذ يصبح احتياجه للآخرين موقوت، ومرتبط بمواقف معينة، ويصبح قادراً على أن يمارسه دون ارتباط معوِّق، لأنه فى رحلته منه وإليهم، وبالعكس، يبدأ من قاعدة ذاتية ثابتة، ويعود إليها دون تخلخل عنيف فى رحلات الذهاب والعودة.
(ب) التقبل النشط: وأعنى به القدرة على ممارسة الحياة مع كل الناس دون استثناء بالقدر الذى يضطر إليه فى سلوكه اليومى المختار (7)، وهذا التقبل نشط وخال من مزاعم الحرية الشخصية المبالغ فى قيمتها واليقين من تحقيقهما.
8- إنه انطلاقا من هاتين الركيزتين: (الاعتماد على المصادر الذاتية والتقبل النشط)، تتواصل مسيرة النمو للفرد فيستغنى الفرد باضطراد عن احتياجه للدفاعات المشوهة.
……………..
نؤجل الباقى للأسبوع القادم
[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – The Interpersonal Neurobiology of Group Psychotherapy and Group Process, Susan P. Gantt, Bonnie Badenoch, Karnac Books, Jan 1, 2013
[3] – هذا فضلا عن ما سوف أنشره من عدة كتب عن “الألعاب العلاجية” و”المينى دراما” فى خبرتنا فى العلاج الجمعى!
[4] – وقد سبق تناولهما بالتفصيل فى “الإنسان والتطور” الإدراك بتاريخ ( 21-8-2012)، ( 22-8-2012)، (28-8-2012) . بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[5] – سنة 1972
[6] – ويمكن تعميم ذلك على المجتمع الأوسع بصورة مجملة بالنسبة للقائد والشعب : “كيفما تكونوا يولىّ عليكم!”.
[7] – لاحظ التناقض الظاهرى بين الاضطرار والاختيار ..