نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 01-07-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4687
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس
انطلاقا من: قصر العينى (1)
مقدمة:
انتهى المقتطف السابق كالتالى:
الطالب: هل تعنى أن النسيان كله وهم فى وهم؟
المعلم: النسيان حقيقة هامة، ولكن شيئا مما نتعلمه لا يختفى من ذاكرتنا أبدا، كل ما هنالك أنه يبتعد عن متناول وعينا، ويستعصى أحيانا على استدعائنا إياه.
الطالب: أفهذا هو النسيان.
المعلم: بالضبط.
الطالب: وكيف نقلل من النسيان.
الفصل الخامس: الذاكرة والاستذكار (4)
المعلم: بأن نحسن الحفظ Retention، وهذا يترتب على حسن عملية الاستذكار حسب ما ذكرنا، كما يتوقف على التثبيت، والمراجعة، والتنسيق للمادة المحفوظة، وأخيرا فإنه يتوقف على الزمن حيث يزيد معدل النسيان بعد الحفظ بدرجة سريعة ثم يتباطأ بعد ذلك مع مرور الزمن.
الطالب: وما أسباب النسيان؟
المعلم: خذ عندك يا سيدى:
(1) الزمن يا أخى هو أهم سبب، وليس الزمن فى ذاته ولكنها الاحداث التى تستجد أثناء مرور الزمن هى التى تتراكم فوق الذكريات الأقدم فتتباعد أكثر وأكثر فى مخزن الذاكرة بعيدا عن تناول التذكر والاسترجاع (قالوا أحبَّ غدَا تنسى هوى أمس).
(2) وقد يقال أن عدم استعمال المادة المحفوظة يصيبها بالضمور كما ضمرت ذيولنا إذْ كنا قرودا ونحن فى طريقنا إلى البشرية لأننا لم نعد نستعملها.
الطالب: ولكننا أحيانا ننسى ما يمر بنا من خبرات “فورا” دون زمن يمر.
المعلم:
(3) هذا نسيان نشط، حين ننسى ما نـَـكــْـره، فننسى ميعاد طبيب الأسنان إذا كانت خبرتنا السابقة معه مؤلمة، وننسى موعد اجتماع ثقيل الظل لا جدوى منه، وهذا ما يسمى أحيانا النسيان بالكبت.
الطالب: ولكنا إذا نسينا حادثا ما أو شيئا ما، فقد نذكره بعد مدة وحدنا دون استعادة حفظه أو مراجعته مع أن مزيدا من الزمن يكون قد مر عليه.
المعلم: ما أذكى أسئلتك، ولكنها تحتاج إلى مجلدات للرد عليها، على كل حال، دعنى أكمل:
(4) إن من أسباب النسيان أن يتغير موقف التهيؤ Change of Set، فإذا حفظت شيئا فى موقف ما ثم تغير الموقف، فإنك قد لا تذكره، فإذا رجعت إلى نفس الموقف الأول تذكرته، وقد تعود الذكريات نتيجة لترابطات مثيرة ويحدث ذلك أحيانا فى المرض الذى يسمى الهوس Mania مثلا.
الطالب: فى المرض!! كنت أحسب أننا فى المرض ننسى أكثر فأكثر، وأن العلاج وظيفته أن نتذكر عقدنا القديمة ونواجهها.
المعلم: ألم يصلك منى أن هذا هو جانب واحد من بعض ما شاع عن التحليل النفسى، وهو جانب ضئيل نسبيا، ولكنى رأيت العجب العجاب بالنسبة للتذكر المزعج فى خبرة المرض.
الطالب: حدثنى عن ذلك، فإن سيرة المرض والعلاج تجذبنى أكثر من هذه المادة الجافة والنصائح والإرشادات.
المعلم: دعنى أكتفى هنا الآن بأن اذكر لك بضعة أمثلة توضيحية، فقد شاهدت فى مرض الاكتئاب (الذهانى خاصة: أى الاكتئاب الأعمق المقترب من حافة الجنون) هجوم الذكريات الحزينة، وتذكر الأخطاء التافهة التى حدثت ربما بمحض الصدفة، والمغالاة فى استرجاع الأخطاء التى يعتقد المريض المكتئب أنها لا تغتفر، هكذا دون مبرر، ويستحيل أن نعيد للمريض منطقه السليم من أنه كان يعيش قبل ذلك بكل هذه الأفكار والذكريات سليما معا فى، فهو يصر على أنه ما كان له أن ينساها….إلخ
الطالب: وهل يتذكرها المريض هكذا فجاة دون مبرر.
المعلم: أحيانا تهجم عليه فعلا فجأة مع بداية المرض بطريقة غير مفهومة، وأحيانا تتسلسل بعد حادث بسيط يذكّره بإحدى هذه العينات من الذكريات.
الطالب: وهل يحدث هذا فى كل حالات الاكتئاب؟
المعلم: إياك وأن تستعمل كلمة “كل” هذه فى علمنا هذا، ولا فيما يستجد من علوم متعلقة به، إن اختلاف الأعراض وارد بكل التشكيلات حسب نوع المرض ومرحلته، ذلك أن هناك أمراضا مثل حالات البارانويا تثور فيها ذكريات الاضطهاد والظلم والاعتداء والتهوين بدلا من ذكريات الذنب والأخطاء والعجز، وهناك مرض ثالث اسمه الهوس تثور فيه ذكريات القوة والانتصار والاعتداد بالنفس.
الطالب: عجيب أمر أمراضكم هذه، كأن كل مرض منها يملك مفتاح حجرة معينة من حجرات المخازن العمومية للذكريات، فإذا نشط فتح الحجرة الخاصة به فانطلقت الذكريات التى تتفق مع طبيعته، أى التى كانت فى حجرة ذاكرة هذا المرض.
المعلم: عليك نور!! ما أذكاك!! والله العظيم أنت طالب عالم معلم.
الطالب: لا تنفخ فىّ حتى لا أنفجر
المعلم: أكلمك بصراحة، فقد راعتنى هذه الاستعادة الذكرياتية النوعية حتى وضعت فرضا خاصا بى يربط بين نوعية المرض والمستوى العصبى الدوائرى المقابل لحدوثه، والمستوى الخلوى الذكرياتى المثار معه، والمستوى الكيميائى المقابل والمستهدف إحباطه لعِلاج هذا المرض، كل ذلك كان بعد أن لفت انتباهى مثل هذه الملاحظة التى ذكرتها أنت الآن وأنا أحكى لك عن أنواع الذكريات المستعادة وهى تنشيط ذكريات بذاتها مع مرض بذاته.
الطالب: هكذا يبدو أن النسيان قد يكون أحيانا نعمة كما قد يكون نقصا.
المعلم: هذا صحيح.
الطالب: ولكن ما الذى يساعدنى أن أتذكر ما حفظت فى الامتحان.
المعلم: أنت وشطارتك، ولكن عليك أن تعرف أن التذكر، وهو العملية الثالثة فى الذاكرة بعد الاستذكار والحفظ، له صورتان: الاستدعاء Recall والتعرف Recognition، الأول تمارسه فى امتحان التحريرى العادى حيث تستدعى من الذاكرة ما حفظت دون أن يكون أمامك، أما التعرف فهو يشمل أن تتعرف على ما سبق أن عاينته، مثل امتحان التعرف Spotting فى علم التشريح ومثل بعض “امتحانات الأسئلة المتعددة” M.C.Q
الطالب: صحيح.. صحيح ما تقول.
المعلم: كما أحب أن أنبهك أيضا إلى أن التذكر درجات ومستويات، فقد تتذكر الذكرى ألفاظا بلا صور، وقد تأتى صورة الذاكرة بكلـيـّتها إليك، وقد تتجسد حتى لتصبح صورة وكأنها الرؤيا، وهكذا.
الطالب: أكاد اقول كما بدأنا إن الإنسان هو مجموعة ذكريات ومعلومات.
المعلم: إنه كم من المعلومات بلا حدود، ثروة متنقلة، وكلما عايشت مدى أوسع من هذه الثروة واستفدت منها واستعملتها وتمثلتها وربطت بين مكوناتها كانت حياتك أعمق وأثرى، فأنت أغنى الناس لو عرفت مفاتيح خزائنك.
الطالب: صدقنى أنى كدت أشعر بالثراء فعلا، ولكن يبدو أن كلمة السر لا يعرفها الكثير منا.
المعلم: أحيانا أتصور أن هذا أحسن، وأحيانا أتصوره قمة الغباء البشرى قاطبة.
الطالب: أحس بى أقرب إليك حين أشاهد حيرتك الحقيقية وتذبذبك.
المعلم: شكرا للصحبة يا ابنى.
الطالب: أعلم أنه لا مجال للحديث عن اضطرابات الذاكرة ونحن فى مجال علم النفس وليس المرض النفسى، ولكن هلاّ أشرت ولو إلى أنواعها أو اسمائها.
المعلم: حاضر حاضر: قد تحتد الذاكرة، وتسمى “حدة الذاكرة” Hypermnesis، وقد تقل أو تمحى تماما وتسمى “فقد الذاكرة” Amnesia وقد يكون فقد الذاكرة فى فجوات Amnesic Gaps وهذا متعلق بالكبت الذى أشرنا إليه بالنسبة لذكريات محدودة غير مرغوب فيها، وقد تـُوَلـَّفُ ذكريات لم تحدث أصلا، وهذا ما يسمى “تزييف الذاكرة” Falsification حيث تذكر تفاصيل لم تحدث ويبدو هذا فى الشهادات غير الدقيقة والمزورة فى ساحة القضاء False Testimony وحين تملأ فجوات الذاكرة بما لم يحدث إطلاقا تسمى أراجيف Confabulation بل وحتى نوع معين من الهلوسة Hallucinations يمكن أن يعتبر أحيانا نوعا من اضطراب الذاكرة، وهكذا وهكذا.
الطالب: إذا كان الإنسان هو كم من المعلومات الموروثة والمحفوظة بالخبرة فماذا هو صانع بهذه الزحمة من المعلومات المالئة مخه وخلاياه.
المعلم: إن هذه الثروة هى أدوات حياته جميعا وخاصة وهو على قمة الهرم الحيوى إذ هو بها يستطيع أن يكمل ويتطور، وحين نشأت اللغة وفرت عليه جهدا هائلا لأن الرمز اصبح يقوم مقام المعلومة الأصلية، ولما نشأت الكتابة فالطباعة اصبح له مخزن آخر خارج مخه وذاته هو الكتب والشرائط المدمجة والحاسوبات والنت، وأصبح امتداده عبر الأجيال ليس قاصرا على النقل بالجينات ولكنه امتد إلى النقل بالكتابة والتكنولوجيا الأحدث فالأحدث أيضا.
الطالب: عفريت هذا “الإنسان”.
المعلم: أى والله عفريت، ولكن أحيانا يتعفرت على نفسه.
الطالب: كلامك يجعلنى أقف لحظة أراجع ما هو أنا، حتى يكاد يملؤنى الفخر.
المعلم: الفخر.. و.. والمسئولية.
الطالب: والمسئولية، وإن كانت هذه حكاية تحتاج إلى تفكير.
المعلم: والتفكير من أعظم ميزات الإنسان ومسئوليته معاً.
الطالب: ولكن قل لى أين يقع التفكير من التعلم والذاكرة!
(المعلم: لكن هذا موضوع يطول شرحه، فلنؤجله للأسبوع القادم)
(الطالب: شكرا)
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net