نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 27-5-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4652
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس
انطلاقا من: قصر العينى (1)
مقدمة:
كان أخر ما نشر في حلقة الأسبوع الماضى هو:
………..
المعلم: يسمونه التعلم بالمحاكاة.
الطالب: المحاكاة!! ألسنا نقول إن القرد هو الذى يحاكى والببغاء أحيانا تحاكى الصوت، فهل هذا ما تعنى؟
المعلم: فى الحقيقة أنى وقفت أمام اللفظ وهذا النوع من التعلم وقفة طويلة طويلة:
(أ) ذلك لأنه حقيقة نشاهدها فى نمو الأطفال خاصة.
(ب) ومع إنه يبدو ظاهرة شديدة السطحية، إلا أنه فى حقيقته قد يشمل أبعادا أكثر مما يبدو.
(جـ) ثم إنه بالوسائل الحالية الشائعة للدراسة يصعب شرحه وتطبيقه.
الطالب: فمن أين لنا بهذا الحديث عنه؟
المعلم: من خبرتى فى العلاج عامة والعلاج الجمعى خاصة، فهل يروق لك الحديث عن ذلك؟
الطالب: يروق أو لا يروق وهل أنت تترك لى خيارا.
(تابع) الفصل الرابع: التعلم (3)
ونكمل الآن:
الطالب: يروق؟ يروق ونصف، ثم إنى بدأت أنتبه أكثر فأكثر حين تتكلم عن ما يميز الإنسان بصفة خاصة، وما يثير استطلاعى ويشوقنى هو أن يرتبط ذلك بتطبيق عملى يتعلق بمهنة مستقبلى، ورسالة وجودى طبيبا حتى لو لم أتخصص فى تخصصك، هات ما عندك، ماذا رأيت فى العلاج فعلـّمك ما هى المحاكاة منذ الطفولة؟
المعلم: رأيت أن ما يسمونه “المحاكاة” له ثلاث مستويات على الأقل.
المستوى الأول: هو محاكاة السلوك السطحية المؤقتة فى موقف بذاته، مثل أن يحاكى الطفل وقفة والده، أو صوته غاضبا وهو يخاطب أخاه الأصغر .. وهكذا، وهذه تفيد فى التعلم، ولكن أثرها مؤقت وظاهرى.
أما المستوى الثانى: فهو المحاكاة بالتقمص (2)Identification، وهى عملية تشمل الشخصية ككل وهنا يصطبغ نمط السلوك الكلى بالشخص المحاكِى (أى المـُـتقمص) وهذا يساعد فى أن يكتسب الطفل (أو الآخر) صفات جاهزة تعينه على مواجهة ضغوط أكبر من قدراته الحالية، ولكن هذا التقمص لا يغوص فى داخل الذات حتى يصبح جزءا منها، وهو أعمق من النوع الأول، وأطول مدى، وأشمل مجالا إذ يشمل أكثر من ناحية من نواحى السلوك لا موقفا محدداً بذاته أو خبرة جزئية، أما إذا أصبح الكيان المتقمص جزءاً لا يتجزأ من الشخصية فإنه يصبح نوعا جديدا وهو:
المستوى الثالث: ويسمى التعلم بالبصمImprinting ، وهو مثل التقمص إلا أنه أعمق، وأثبت، حتى ليصبح ليس فقط سلوكا جزئيا، ولا نمطا عاما، وإنما جزءا غائرا فى الشخصية، ويحدث هذا النوع من خلال التقمص أيضا ولكن فى أوقات خاصة يكون فيها النمو نشطا، والذات عارية فيتم التقمص بشكل ِأعمق يحافظ على الحياة، بل ويساهم فى رسم معالم الشخص فعلا، فحين يتعمق التقمص ويتثبت يسمى بصماً Imprinting (وأحيانا يسمى الطبع).
الطالب: لا .. لا .. لا .. لقد زودتها ولم أعد أفهم، ولكن قبل أن أستفسر عما غمض على، هل رأيت كل ذلك فى العلاج كما تقول؟
المعلم: نعم .. رأيته كما أراك الآن، فإذا كنت تذكر طريقة البحث الفينومينولوجى التى أشرت إليها فى أول حديثنا، فهى الطريقة التى أرتنى ذلك رأى العين.
الطالب: لقد فهمت أن الإنسان إذ يواجه البيئة يقلدها سلوكا، أو تلبسه تقمصا، أو تنطبع فيه بصمات غائرة دائمة تقريبا أليست هذه الدرجات التى ذكرت؟
المعلم: شكرا، أنت تحاول معى، هى كذلك شكرا، بارك الله فى انتباهك وذكائك.
الطالب: ولكن أين الإنسان الفرد فى كل هذا؟ أنا أتصوره هكذا وكأنه مرآة تعكس ما يجرى (المحاكاة السلوكية) أو تمثال يلبس ما يعطى له (التقمص) أو وعاء يحتوى ما يدخل فيه ويلتحم به (البصم).
المعلم: شكرا مرة ثانية لمحاولتك الفهم بهذه الدرجة من العمق، ولكن لابد أن تعرف أن كل ذلك مجرد خطوة على طريق التعلم والتغيـّـر، ولعلك تذكر أننا فى تعريفنا للتعلم ذكرنا أنه يشمل تغير فى السلوك وتغير فى التركيب على المستوى الأعمق، كل هذا خطوات على الطريق.
الطالب: أى طريق؟
المعلم: طريق النمو، الذى هو التغير الحقيقى، الذى هو عمق التعلم.
الطالب: وكيف يتم ذلك.
المعلم: إنى سوف أوجز لك هذا الأمر هنا (3) بما يسمح به حجم هذا الدليل:
إن التقمص والبصم يتمان حين يكون الموقف المواجه ومتطلباته أكبر من قدرة استيعاب اللحظة، وفى نفس الوقت تكون حاجة الإنسان إلى الاستعانة بالخارج مُلِحـَّة فى نفس اللحظة فيأخذ الخبرة كلها كما هى جاهزة يتصرف بها وكأنها صادرة منه فعلا، ولكن مع نبضات الكيان البشرى (وهى التى تظهر فى تبادل النوم واليقظة، وتبادل النوم الحالم مع النوم غير الحالم وغير ذلك) تنفصل هذه الكيانات المستوعـَـبـَة بالتدريج، ليعايشها الإنسان من جديد ويهضمها ويتمثلها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من وجوده وليست مجرد رداء ظاهريا (تقمصا) أو حتى طبعا لاصقا (بصما) وقد شبهت هذه العملية بالحيوانات المجترة التى تأخذ أكثر من قدرتها على الهضم والتمثل، فتختزنه لتعود إليه تجتره بعد حين، فالعقل الإنسانى يفعل ذلك فى اليقظة ثم يعود يتمثل مادته بعد ذلك وخاصة فى نشاط الحلم، وكذلك فى ظروف أكثر أمنا وفترات يكون فيها أقدر على الاستيعاب.
الطالب: بصراحة يبدو الكلام صعبا، إلا أنه يخيل لى أنى أفهم أبعاده العامة، ومادام ليس علينا فى الامتحلن فسآخذه هكذا جميعه، ثم قد أعود أجتره فى الصيف على مهلى لأهضمه وأتمثله كما تقول، أو حتى لأحلم به، ولكن ياويلى لو حلمت أنه جاء فى الامتحان! ولكن قل لى بربك كيف رأيت هذا رأى العين فى العلاج؟
المعلم: إن العلاج الجمعى الذى أمارسه يشمل خبرة تفكيك هذه المكونات المنطبعة ويحدث ذلك فى العلم لا فى الحلم، فى الصحو لا فى النوم، وفى العلاج لا فى الجنون، وذلك عن طريق السيكودراما مثلاً، وأثناء “المأزق” الذى يضطر فيه المريض إلى إعادة النظر فى تكوينه جزءا جزءا، وكيانا كيانا، ثم يعاد التوليف الجديد من خلال هضم واستيعاب هذه الكيانات التى إذا ظلت كما هى ملتصقة متداخلة كانت كالأحذية الصينية التى تمنع نمو القدم كما يقولون.
الطالب: شوقتنى يا عمنا، ولكن أخشى لو سألتك المزيد أن تزيد الأمر تعقيدا، فسأكتفى بوعدك أن ترجع إلى هذا الموضوع لاحقا.
المعلم: بصراحة: لست متأكدا إن كان حوارنا هذا سوف يتواصل حتى نتناول عمليات هضم وتمثـُّل واستيعاب ما نتعلمه كأساس جوهرى فى نمو الشخصية، أو إعادة تشكيلها خاصة فى العلاج الجمعى.
الطالب: دع الآتى يأتى فى حينه.
المعلم: والآن هل عرفت أنواع التعلم.
الطالب: تداخلت الأمور لدىّ، ولكنى أستطيع أن أسمّع لك، فالتعلم إما بالتجربة والخطأ، وإما بالارتباط الشرطى (وهما متداخلان)، وإما بالتفكير والحسابات وبعد النظر وهو ما يسمى التعلم البصيرى كما تقول، وأخيرا يأتى التعلم بالمحاكاة بعد ذلك ثم بالتقمص ثم البصم، ثم استيعاب ذلك وهضمه فى حينه.
المعلم: يعجبنى فيك أنك نابه يقظ، ولكن إياك أن تجعل المحاكاة قاصرة على محاكاة السلوك وتفصلها عن كلٍّ من التقمص والبصم فهى أنواع متداخلة متكاملة بشكل أو بآخر، ثم أنى أحببت تعبيرك عن “التعلم بالتفكير والحسابات” أفضل من تعبيرى عن نفس النوع على أنه التعلم البصيرى، وهكذا أتعلم منك، ما أروع ذلك فعلا.
الطالب: تضحك علىّ، لأغتر بنفسى فتلقى إلىّ ما تريد.
المعلم: ليس فى الأمر ضحك أو ما أريد، وأنت تعلم أنه حتى لو جاريتـَـنِـى أو حاكيتنى أو تقمصتَ ما أقول ثم استمررت فى نموك فأنت لا محالة ستعيده وتستعيده لتهضمه فيصبح أنت، أو تلفظه لو لم يـَـرُقْ لك أو تنتفع به، فاطمئن.
الطالب: أطمئن؟!! كيف أطمئن إذا كنتُ لست على يقين من استمرار نموى.
المعلم: هذا شأنك وهو هو شرفك وهو مسئوليتك بل مصيرك.
الطالب: لا لا واحدة واحدة علىّ، اعمل معروفاً
المعلم: أنت ذكى وتحب المعرفة، فاصبر، فلكل شىء أوانه.
الطالب: ولكنك ذكرت فيما ذكرت أن النوع الفلانى يحدث فى أوقات النمو النشط، أظنه البصم أو الطبع على ما أذكر، وأن المحاكاة السلوكية تحدث موقفيا، أما التقمص فيقع بين البصم والمحاكاة، فما هى العوامل التى تحدد كل هذا من بعضه البعض؟
المعلم: على ذكر “البصم” أحب أن أقول لك إن هذا النوع من التعلم قد شغل الباحثين فى السنوات الأخيرة، فـَـشـُـغـِـلتُ معهم ولم أكن أريد أن أطيل عليك فى هذه العجالة، ولكنك شاب وهذه مسئوليتك أن تنشغل معنا، وإليك ما شغلهم وشغلنى، وسيشغلك بإذن الله وحب العلم.
الطالب: هاتها ودعها تكمل.
المعلم: لا يا عم، الباقى أصعب دعنا نؤجله حتى تأتينى أكثر نشاطا وأقل احتجاجا
الطالب: وبعدين؟!، أنا ما صدقت أن شدنى الموضوع، لكن أحسن، فعندى واجبات أخرى بالكوم
المعلم: جاءت سليمة خلينا للأسبوع القادم.
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – بعض الزملاء يترجمون الـIdentification إلى “التعيين” ولكن بالرجوع إلى المعاجم العربية لا نجد أن مادة “عاين” تفيد ما يحدث هنا، فى حين أن مادة “تقمص”.. ليس قميصه” .. الخ تفيد ما يراد هنا تماما، لذلك لا ينبغى الاقتصار على المعنى اللغوى دون الرجوع إلى “مفهوم” الظاهرة أساسا.
[3] – يمكن الرجوع إلى مزيد من توضيح ظاهرة البصم فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” صفحات 30 – 31 – 78 – 468 – دار الغد للثقافة والنشر 1979 – القاهرة.