نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 5-4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4600
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (12)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
تصالح مع الذات؟ أم تكامل الذوات؟ (2)
يزعم أفلاطون أنه “مثل الفرد مثل الدولة”، وهو حين رسم جمهوريته بكل ما لها وما عليها، يشير إلى أنه إنما يرسم النفس البشرية أساسا، ولكنه مضطر أن يقوم بتكبيرها حتى تبدو جمهورية لعله يستطيع من خلال رسم طبقاتها وعلاقاتها ببعضها البعض أن يوصـّـل فكرته – عن النفس – من خلال هذا التكبير المضاعف، ثم إنه راح يتحرك بين الفرد والدولة، جيئة وذهابا معظم الوقت، تهربا أو إيضاحا.
خطر ببالى مؤخرا أن البدء بالعكس يمكن أن يكون أولى، وذلك بعد ما وصلنا كم من المعارف عن النفس الانسانية يمكن أن نجعله قياسا لما يجرى خارجها، على مستوى الجماعة و العالم.
أعرف ما يؤكد عليه علم نفس الجماعة وعلم النفس الاجتماعى من ضرورة التمييز بين قوانينهما وبين قوانين علم النفس الفردى، ومع ذلك فإننى ما زلت أميل إلى تصور أقرب إلى الحدس الأفلاطونى منه إلى هذا التحذير المميز.
إن التطور الأحدث لمفهوم الذات يشير إلى عدة مبادئ لا غنى عن سردها فى البداية ونحن بسبيلنا إلى نقد فكر “التصالح” التسوياتى للتحذير من الاستسلام لفكرة “الحلوسطية” سواء مع الذات أو مع الآخر، أو حتى بين الدول، أتعمد استعمال هذا اللفظ المنحوت “الحلوسطية”، لما يصلنى منه من قبح “القص واللصق”.
خداع التسكين بالتصالح
كثر الحديث مؤخرا عن التصالح، والتسوية، والحوار، وقبول الآخر، وهو حديث دمث يبدو وكأنه يمكن أن يريح جميع الأطراف، لكنه فى عمقه قد يثبت أنه حل باهت لا يدفع حركة ولا يحدد موقفا، بل إنه كثيرا ما يكون خدعة لصالح الأقوى الذى هو ليس بالضرورة الأفضل، يبدأ مثل ذلك فى شكل مفاوضات أو حوار فى جو من افتراض حسن النية، وشىء من الحذر، وما تيسر من حسابات الممكن، وينتهى بالمعاهدات أو البيانات أو المواثيق التى تعلـن أن “الجميع بخير وعمل لهم اللازم، ما دامت”السلامة أولا”، وليس هذا هو التصالح المأمول.
تساؤلات حول التصالح مع الذات
هل يملك أى منا ذاتا واحدة، أم عدة ذوات؟
وما هى حكاية البحث عن الذات ؟ لإقرارها؟
هل الذات هى كيان محدد مفقود نبحث عنه فنجده، أم أنها مشروع نسعى فى اتجاهه فـنخلـّـقه؟
وهل المطلوب – إذن- كما يشاع فى معظم العلم، وعند أغلب العامة ـ هو تحقيق الذات أم تواصل إبداع الذات، امتلاءً وتجديداً وامتداداً؟
إن أوهام أن يكون لك ذات محددة، جاهزة، (أو بالتعبير الأحدث: سابقة التجهيز( Pre-fabricated)، متميزة عن الآخر وما عليك إلا أن تجدها أو تحققها هى شائعات شبه علمية لا أكثر.
****
إن البديل الأحدث لهذا الزعم الذى اهتز مؤخرا يمكن أن نلخص خطوطه العريضة فيما يلي:
أولا: يولد الإنسان وهو يحمل مشروعا متكاملا لشخص متميز فعلا من واقع برامج الجينات التى يحملها من والديه الذين يبلغونه - بإنجابه وتحميله برامج أجداده البيولوجية – تاريخ أجداده الأقربين (تمييزا عن سواهم من البشر) والأبعدين (تمييزا عن سواهم من الأحياء جميعا).
ثانيا: مشروع الذات المتفردة هذا ليس تخطيطا مبرمجا مؤمنا عليه بداية ونهاية، لكنه مشروع مرن: له بداية محددة ونهاية مفتوحة، نهاية قابلة للتفرع، والتجدد، والتخليق باستمرار.
ثالثا: يقوم الـوسط المحيط (الأسرة فالمجتمع بما فى ذلك الدولة) بالاعتراف بهذا المشروع من حيث المبدأ، وذلك بتقديم الرعاية الأولية، والفرص الأساسية.كل بحسب درجة نموه ووفرة إمكانياته.
رابعا: مع تمادى حصول الفرد على الفرص الضرورية، أو الحرمان منها، يتولد الوعى الخاص بالتدريج لتتواصل مسيرة النمو باستمرار Always in – the – making
خامسا: إن هذه الذات المتخلقة التى لا تكتمل أبدا فى صورتها الفريدة تبدو وكأنها اكتملت مستقرة فى بعض فترات النمو، فترات تطول أم تقصر، لتبدأ من جديد فى دورة نمو جديدة، وهكذا.
سادسا: لا توجد للشخص الواحد ذات واحدة، إن ما يبدو على ظاهر الوعى والفعل أن هذا الشخص ليس إلا إعلان أن إحدى الذوات دون غيرها – فى لحظة بذاتها- هى التى تقود وتوجه جماع الذوات الأخرى الكامنة فى تلك اللحظة.
سابعا: إن مفهوم تعدد الذوات (تعدد حالات الذات) فى الشخص الواحد، يتجاوز ويصحح المفهوم التحليلى النفسى التقليدى، الذى يقوم بتشريح النفس (إلى: ما هو”أنا”، و”أنا أعلى”، و”هو”) إن النفس البشرية هى عدة ذوات معا وليست مجموع أجزاء، مغلفة بما يسمى “الأنا”.
ثامنا: يتم التبادل بين الذوات المختلفة بشكل تلقائى: سواء بطريقة إيقاعية بيولوجية منتظمة (كما ينظمها الإيقاع الحيوى بين النوم والحلم واليقظة)، وأيضا حسب المواقف والمتطلبات المتنوعة فى كل حال، ووسط، ومطلب، فتسود الذات الطفلية، مثلا فى اللعب الحر والإجازات، وتسود الذات الوالدية فى المواقف التى تستدعى الحنو والرعاية (حتى حنو الطفلة على دميتها العروسة)، كما تسود الذات اليافعة للقيام بأداء الالتزامات لكسب العيش وحسابات الواقع مثلا.
تاسعا: إن هذا التبادل، مع ضرورته وروعته، ليس نهاية المطاف، ولا هو غاية المراد، ولكنه الوسيلة الطبيعية (البيولوجية/ النفسية) التى تسمح بأن يتخلق – باضطراد- مشروع الذات النامية الدائبة السعى إلى مزيد من التكامل مفتوح النهاية.
عاشرا: إن بعض مظاهر تكامل الذوات قد يتجلى مؤقتا عند من تتاح له الفرصة، ويحذق الأدوات، فى شكل إبداع أصيل، ويظل هذا الاحتمال واردا بديلا عن التكامل الوجودى النامى، أو تسهيلا له.
التصالح مقابل التكامل
أين يقع التصالح مع الذات فى كل هذا ؟ وكيف يمكن أن يكون التصالح تكاملا؟
التصالح عمل إيجابى من حيث المبدأ، شريطة ألا يكون تنازلا ساكنا، أو حلا دائما خاملا، إن الترويج لمسألة التصالح هذه بشكل غير دقيق، وغير تفصيلى تحتاج منا إلى وقفة ومراجعة.
على العكس من ذلك فإن التكامل هو تفاعل إيجابى دائما حيث يتم من خلاله تفعيل مواجهة كل مستوى مع المستوى الآخر فى حيوية متصاعدة، إنه تصنيع متضفر لجديد يتشكل من خلال العلاقات المتفاعلة مع بعضها البعض.
لا يمكن أن يصل بنا الحذر من سكون التصالح لدرجة رفضه كلية باعتباره العملية الأدنى الأقرب إلى السلبية. إنه قد يكون التمهيد الضرورى للتكامل، أى أنه قد يكون خطوة أساسية لا تتم الخطوات التالية نحو التكامل إلا بالمرور بها، ولو على فترات متباعدة، حسب إيقاع دورات النمو.
أشكال للتصالح
سوف أقصر حديثى المبدئى أساسا على مراحل التصالح فالتكامل بين الذوات، ثم أحاول تطبيقها على نماذج الجماعة، فالدول، فالعالم.
لا يتم تصالح إيجابى إلا من خلال الحركة والتغير معا، إن الحركة وحدها لا تكفى حيث لا تعتبر إيجابية وبناءة إلا إذا كانت فى سياق يحقق التمهيد إلى، ثم تحقيق، التغير الذى لا يمكن أن يتم إلا من خلال الحركة.
من هنا يكون التصالح الساكن (الحلوسط) هو التجمد المضاد لحتمية النمو ومتطلباته، حتى لو بدا السطح ساكنا أو راضيا، فهو ليس تصالحا، وإنما هو خمود وتسكين لصالح الأقوى عادة.
أما التصالح الذى يتفق مع الحركة فيحقق التغير فهو الذى يتم بالتبادل والتناوب والتفاعل أولا، تمهيدا للتكامل، وليس بالتنازل أو بالانتقاص من كل من الطرفين.
لكن: لو أن التبادل ظل مجرد إعادة الأدوار كما هى، فإن الحركة مهما تستمر، لا تساهم فى التكامل، ومن ثم فإن “التصالح بالتبادل” لا يكون إيجابيا إلا إذا كان تمهيدا لخطوات التكامل حيث الأطراف المتبادلة ليست منفصلة فى دوراتها المتلاحقة.
إن ما يسمى “الصراع” ليس مرضا أو عيبا، إنه إعلان مرحلة صعبة ضرورية وهو لا يحله التصالح الساكن، أو التنازل الحلوسطى، وإنما يـُحل باحتواء شقيه فيما يسمى ”جدل المواجهة” الذى يهدف إلى تخليق المستوى الأعلى بما يحقق من اضطراد مسيرة النمو.
تصالحات ساكنة مرفوضة
(1) سوء فهم “النفس المطمئنة“: شاع مؤخرا تفسير للنفس المطمئنة باعتبار أنها النفس الهادئة الساكنة حتى أكاد أقول الآسِنَة، حتى فهم البسطاء من العامة أن النفس المطمئنة هى الراضية بمعنى السكون الصامت. إن هذا التفسير السلبى، يكاد يتجاهل أن هذه الدعوة للنفس المطمئنة إنما أطلقت فى سياق ختام رحلة العودة “إرجعى إلى ربك”، وأن على هذه النفس أن تمر على ”عباد الله سبحانه” بأن “تدخل فيهم”، “أدخلى فى عبادى”، وهى فى طريقها إلى الجنة ”وادخلى جنتى”، إن كل ذلك بالإضافة إلى ما نعرفه من جهاد النفس الذى هو أكبر من الجهاد الظاهر فى الحرب مثلا، ينبه إلى أن المفهوم التسكينى للتصالح هنا هو ضد حركية التكامل.
إن النفس المطمئنة تكون كذلك بقدر اتساقها مع هارمونية الجماعة ومع لحن الكون الأعظم فى رحاب الله، وليس بقدر سكونها واستكانتها.
من هذا المنطلق تصبح الدعوة إلى أن تكون النفس مطمئنة، هى دعوة إلى اتساق نغمتها المنفردة مع اللحن الأشمل، وليس إلى سكينة استقرارها فى الرضا المستسلم.
(2) قبول الآخر: حين يكون هدف الحوار بين “الأنا” و”الآخر” هو التنازل لتجنب الدخول فى مناطق الاختلاف، وهو ما شاع أخيرا باسم “قبول الآخر”، فإن الناتج هو تباعد ساكن لا أكثر، الأمر الذى أتصوره مثل تعقيب أولاد البلد حين تحاول صديقة إقناع صديقة لها بقبول خطيب ثقيل الظل، بأن تعصر عليه ليمونة. إن قبول الآخر بهذا المعنى هو تأجيل لمعركة أصعب، وربما أقذر، إنه كما سيضيع مفعول عصيرالليمون من على الخطيب الثقيل بمرور الأيام، سوف تنكشف أية معونات أو رشاوى أو وعود عن تلفيقات التصالح بين الجماعات والدول بمجرد بداية اختبارها بمرور الزمن .حينئذ سوف تتصادم المصالح وتتناطح الأيديولوجيات والأديان، لحساب الأقوى دائما.
(3) سلام السلامة: إن السلام بمعنى فض الاشتبكاك الساخن لالتقاط الأنفاس بهدف التفرغ للتوجه لإعادة البناء هو تصالح يمكن أن يقبل فى سياق تفاهم شامل ممتد متغير تحت مظلة العدل. أما السلام الذى يكون هدفه الحفاظ على الأرواح (أو الأجساد بلا أرواح) بأى ثمن، فهو التصالح الذى يحتاج كل الحذر، إن معاهدات السلام ما لم تكن بداية جهاد أكبر بزخم التكامل وحركيته، تصبح تسكينا مخادعا من الأقوى للأضعف.
(4) الصحة بالبلاهة: إن غلبة الترويج – فى مجال الطب النفسى المعاصر – للحصول على نوع من الصحة عن طريق تعاطى المهدئات المطمئنة، ومزيلات الألم إنما يقدِّم نوعا من الصحة الخامدة، وهى التى تروج لها شركات الدواء ليل نهار، إن هذا النوع من الهدوء الظاهرى يصل أحيانا إلى معادل الموت النفسى رغم لافتات التعافى والخلو من الأعراض.
(5) تفريغ ما بالداخل: على الجانب الآخر، نجد أن المفهوم الشائع عن التحليل النفسى (والعلاج النفسى)، بمعنى التفريغ، والفضفضة، واسترجاع نقط التثبيت المؤلمة لتسكينها، هو أسلوب مبنى على نوع من التصالح الذى يقال له أحيانا فك العقد، هذا النوع قد يحقق خفض التوتر، لكن التوقف عنده هو ضد حقيقة إطلاق مسيرة النمو للتكامل.
(6) الوسطية التلفيقية: إن التركيز على ما يسمى الوسطية، فى شرح بعض الأديان، يمكن أن يكون تصالحا ظاهريا أكثر منه تكاملا واعدا، مثال ذلك ما ذهبت إليه كثير من التفسيرات التلفيقية لما يعنيه التنزيل الحكيم من وصف أمة المسلمين بأنها “أمة وسطا”. لقد وقع توفيق الحكيم فى هذه التصالحية الخامدة فى الطبعة الأخيرة لما أسماه “التعادلية”، فراح يلصق بالإسلام فلسفته الباهتة الخامدة، وكأنه أتى بالجديد، حتى كدت لا أصدق أنه هو هو المبدع الخطير الذى استوعب السيرة النبوية حتى حدثها فى مسرحيته الرائعة “محمد”.
(7) الحل الثالث: على نفس المنوال ظهرت حلول اقتصادية، وأحيانا سياسية، تحت مسميات تشترك فى تسميتها بـ”الحل الثالث”، إن كثيرا منها ليس إلا تسويات حلوسطية مائعة، لا تحمل إبداعا يقدم حلا أصيلا فعلا.
التكامل جدل إبداعىّ مستمر
* الذات ليست كيانا مفقودا نبحث عنه فتجده، بل مشروع نسعى فى اتجاهه لنكونه ونتشكل به فنجدده باستمرا.
التصالح مع الذات، لا يتم بطغيان وعى ظاهر على “لاوعى” كامن، ولا بطغيان النصف الطاغى من المخ (النصف الأيسر فى الشخص الأيمن مثلا) على النصف المتنحى، ولا بطغيان العقل الأحدث (الرمزى/التجريدى/ المنطقى/ الحرفى) على العقول الأقدم (الكلية/الصورية/ذات المعرفة الكلية)، وإنما يتم بتنشيط آليات التفاهم والتبادل والجدل بين النصفين الكرويين نحو تكامل محتمل.
لا يمكن للأحدث أن يستوعب الأقدم بإلغائه أو تهميشه أو كبته، وإنما بالتبادل معه اعترافا، واحتياجا، ثم بالتفاعل، ثم بالجدل، ثم يتخلق الأحدث منهم معا.
إن هذا التكامل المحتوِى يشمل تصالحا حتميا دون إلغاء أو إهمال أى من جانبى الصراع والمواجهة.
طريق التكامل الفردى
فى نظرية التحليل النفسى التفاعلاتى Transactional analysis (إريك بيرن (Eric Berne يستمر التبادل بين الذات الطفلية والذات الوالدية والذات اليافعة طول الوقت، نحو أن يتكون قرب اكتمال النضج مشروع ذات نامية تسمى اليافع المتكامل Integrated Adult هى ذات تقترب من النضج الذى لا يتحقق خلال حياة الفرد أبدا باعتبار أنها عملية مفتوحة النهاية دائما. هذه الذات الناضجة تحتوى سمات إيجابيات الفطرة (الذات الطفلية)، وقد أسماها إريك بيرن Pathos، بما يمكن ترجمته إلى “الوجدانية” (وليس الانفعالية)، كما أنها تشتمل على سمات والدية أقرب إلى الحكمة الواقعية (الذات الوالدية) دون وصاية أو موقف فوقى نصائحى، وقد أسماها إريك بيرن Ethos مما يمكن أن ننحت له كلمة مناسبة مثل “الحـِـكـْـمـَـوية” إن هذا الناضج المتكامل يظل فى دورات نمو مستمرة، أى فى تخلق باستمرار Always in-the-making وهذا هو التصالح الحقيقى المتجدد الذى هو تكامل يتخلق باستمرار.
من الفرد إلى العالم
استلهاما من أفلاطون، يمكن أن نتخذ ما يجرى للنفس الإنسانية من أطوار نمو: نموذجا قابلا للتحقق على مستوى العالم.
إن الفشل الذى يمكن أن يلحق بالعالم هو أن تتصور أمريكا السلطة- مثلا- أنها بحصولها على أدوات السيطرة وآلة الحرب القادرة تستطيع أن تحقق تصالحا مع العالم بفرض نموذجها الحديث المتفوق على الجميع (على المستويات الأدنى كما ترى، أو مستويات الشر حتى لو لم تسمـّـه كذلك)، نحن لسنا فى حاجة إلى أن نرفض هذا النموذج الأقدر المتقدم أو أن نضيع وقتنا فى تعداد عيوبه حتى نثبت قصوره، كما أننا لا نحتاج أن نعلى من شأن نموذجنا المتخلف وكأنه البديل القادر على أن يحل محل هذا النموذج المتغطـرس الأعمى.
إن صح القياس على مسيرة تكامل النفس النامية، فإن الأمل ليس فى تصالح يتنازل فيه الأضعف عن سيادته وقيمه مقابل رشاوى المعونات، و التلويح بمغريات الرفاهية، ولا أن يتنازل الأقوى والأقدر عن أدوات تفوقه فيوزع فيض ناتجه وآلياته على الأدنى والأضعف.
كما أن الحل لن يكون فى استمرار ما يزعمون من حوار بين هذا وذاك، حوار ليس فيه عدل أو تكافؤ أو جدل حقيقى، رغم مزاعم التصالح والتسويات والسلام.
فكيف نستلهم الحل من التكامل الفردى؟
التكامل فى عولمة إنسانية
هل يكون الحل فى أن نحذو حذو النفس البشرية على درب التطور الدائم؟
هل يمكن أن تعطى الفرصة للقديم الأضعف وهو يحتفظ بنوعية ما يميزه، ثم يتبادل فى دورات يظللها العدل بانتظام مع الحديث القادر؟
هل نأمل أن يكون فى ذلك فرصة ليستكمل الأول ما ينقصه، ويشتمل الثانى ما يحتاج إليه.؟
هل ثم سبيل أن يتم تحديث القديم الرخو، فى نفس الوقت الذى يجرى فيه ترويض وتشذيب الجديد المتغطرس؟
إن معطيات التكنولوجيا مؤخرا تلوح بتعاون قد يسمح بمثل ذلك ولو لم تظهر تفاصيله فى الأفق القريب.
دعونا نتصور أننا نستعد لتخليق عالم واحد جديد وأننا أيضا فى حالة تخلق مستمرAlways in – the – making ونحن نستعد لجدل قادم مع عوالم متكاملة أخرى تتخلق فى كواكب أخرى.
هذا إذا لم يتماد الأقوى فيما هو فيه حتى ينتحر، ويأخذنا معه، وهم السابقون فى لعبة الانتحار الجماعى.
إننا نرتقى بهم وبنا، إذا رحمناهم من أنفسهم، ولم نستسلم.
****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد سبتمبر 2002)
آسف: قد يجد القارىء بعض التكرار لما جاء فى مقالة “الاعتمادية الإيجابية تحت عباءة أكبر” ص 75 وقد تركت التكرار عامدا ربما لأننى أريد التأكيد عليه.