نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 25-3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4589
الأربعاء الحر
مقتطف من كتاب:
دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى (1)
الفصل الثانى: تقديم وتعريف، واعتبارات أساسية (7)
انتهت نشرة الأسبوع الماضى كالتالى:
“خلاصة القول: إن ما قبل الفصام يشير عادة – بغض النظر عن نوع البيئة أو نوع الوراثة – إلى جوع شديد لاستقبال “رسائل” لها معنى (2)، كما أنه يفتقر إلى إرسال “رسائل” تجد من يستقبلها بقدرها وبمعناها الذى تحمله، وعلى ذلك فإن العائد يصبح ضعيفا للغاية “منه وإليه” والنتيجة أن تتقطع المواصلات البيولوجية القادرة على حفظ التوازن البشرى بالدرجة التى تسمح له بالاستمرار والنمو” فيتخلخل التوازن ويحدث المرض (الفصام)”.
……………….
الطالب: ما بقى إلا أن تقول لى إن العلاج هو إعطاء المريض جرعات من “المعنى”، مثلما نعطيه جرعات من الفيتامينات.
المعلم: عليك نور، هل تتصور أنه يوجد علاج اسمه العلاج اللوجوسى (نسبة إلى “اللوجوس” وهى الكلمة المتناغمة ذات المعنى) وقد ترجمته إلى “علاج إحياء المعنى”(3).
الطالب: الحقيقة أنى لا أفهم كل ما تقول، ولم أتصور أن “الناس بالناس” ستجرنا إلى كل هذا.
المعلم: وأنا بالتالى لن أطيل عليك، يكفى أن تعرف يقينا أن علمنا يحتاج إلى يقظتك وجهدك، وإلى جديتنا ومثابرتنا معاً، وقبل أن نترك هذه النقطة أذكرك بالإشاعات حول التحليل النفسى فإنى أتصور أن الوجود الطويل للمحلل المعالج بجوار المريض بإخلاص وصبر هو أهم العوامل التى تساعد فى العلاج وليس بالضرورة التفسير الذى يقدمه المحلل أو النظريات التى يعتنقها، وهذه صورة اخرى أن الناس بالناس.
الطالب: إذا كان هذا هو معنى الناس بالناس فكيف أن “الناس للناس”.
المعلم: هذا أمر أقل تحديدا من سابقه ولن أطيل فيه، ولكنى أبدأ من قولى أن الرسالة الواصلة من الناس لابد وأن تثير ردا “إلى الناس”، وأن حاجة الإنسان للأخذ ليست أكبر من حاجته للعطاء، بل إنك تستطيع أن تفسر تناحر الناس على المناصب فى الخدمة العامة على ما بها من إرهاق وعنت، ليس فقط بسبب الرغبة فى الوصول إلى مراكز الانتهازية والانتفاع الجشع، ولكن لحاجة بعضهم أن يكون وجودهم للناس…، فإن مصب الوجود الفردى هو سائر البشر رضى الواحد منا أم لم يرض، فإن فعلناها بذكاء فسيولوجى فى حياتنا فنحن نحترم وظيفة مخنا وتركيبه، وإن أجـَّـلناها فسيتولى عنا الموت تسليك المسار الذى عطله وجودنا النشاز المضاد للطبيعة البشرية.
الطالب: شعرٌ هذا أم ماذا؟ حلوة “ذكاء فسيولوجى” وحلوة أيضا “وجودنا النشاز”، ما علينا، لقد خيل إلىّ أن فهم الطبيعة البشرية بهذه الصورة، وجعل العطاء فعلا فسيولوجيا، سيسرق من الفضيلة روعتها.
المعلم: أظن أنه آن الآوان لنكف عن الكلام العام والاستدراكات الأدبية، ولكن أن تكون الفضيلة هى كفاءة الفسيولوجيا البشرية خير من أن تكون إخفاءً لاعتداءات جنسية وشهوات مكبوتة كما يزعم من أساؤوا فهم التحليل النفسى،.. وأنا لا أنكر الاحتمال الأخير ولكنه صورة مرحلية لا ينبغى التوقف عندها، بل الانطلاق منها.
الطالب: جعلتنى الآن حين أسمع أن الناس للناس أو أن الناس لبعضها أتصور المخ وهو يفعلن المعلومات، ويضطر لدفع العائد، فحرمتنى يا سيدى من سحر الجهل.
المعلم: للجهل سحر يا بطل، ولكن للعلم رونق أعظم، وأنت عرضت نفسك أن تنظر إلى جسم المرأة المتناسق فتبحث عن اسم الترقوة فى عظام حول الرقبة فى التشريح السطحى Surface Anatomy، أو قياسات بروز عظمتى الحوض، فلماذا لا تدفع نفس الثمن وأنت ترى فسيولوجية علم المخ… على المستوى الكلى الأعلى، إنى أشعر أننا نقترب من التصالح إذ نقارب بين طبيعة العلوم التى ندرسها رويدا رويدا.
الطالب: لقد تحدثنا عن كيف ان الانسان بالإنسان وللإنسان، ولكنك لم تحدثنا عن الصراع بين الإنسان والإنسان.
المعلم: هذا حق، فالصراع بين الإنسان والإنسان من طبيعة الحياة، سواء كان فى شكل تنافس أم تقاتل أم استغلال…الخ، ولكنى آمل أن تكون مرحلة مؤقتة مهما طالت وأن تكون قرب نهايتها بعد أن اتسعت مدارك الإنسان من خلال ثورة التوصيل (بالمحمول والنت وغيرهما) والمواصلات (بالطيران الأسرع من الصوت)، وبالتالى أخذ الصراع – أو ينبغى أن يأخذ – شكلا أرقى وأكثر فائدة وأطيب ثمرا وبصفة عامة فالإنسان له قدرة هائلة على التكيف مع اخيه الإنسان، بل ومع البيئة بصفة عامة.
الطالب: ماذا تعنى بالتكيف على وجه التحديد؟
المعلم: التكيف هو العملية التى يزداد بها الإنسان تلاؤما مع البيئة.
الطالب: يزداد تلاؤما؟ هل يعنى ذلك أن يخضع لها أم يعنى أن يرِّوضها لحسابه.
المعلم: الاثنان معا أيها الذكى، فالذى يمهد طريقا مليئا بالمطبات يروّضه لحساب راحته وأمان سيارته، والذى يتجنبه ويسلك طريقا آخر، يتركه وكأنه يستسلم لعجزه عن اجتياز هذا الطريق الصعب لوعُورته ولكنه يحل مشكلته الشخصية إذ يغير طريقه.
الطالب: وهل يسرى هذا على العلاقات الإنسانية؟
المعلم: إنه يسرى بوجه خاص على العلاقات الإنسانية، فالزوج الذى ينزل عند رأى زوجته فى اختيار لون الحجرة، قد خضع لها، والذى يفرض رأيه فى اختيار مدرسة ابنه، قد اخضعها.. وهكذا.
الطالب: وفى الحالين هو “يتكيف”؟
المعلم: نعم بكل تأكيد، والتكيف الذى يتم بأن يغير الإنسان نفسه لصالح ثبات ما حوله يسمى “تكيفا بالإذعان“، وأحيانا يسمى “التشكل” conforming، أما التكيف الذى يتم بأن يغير الإنسان ما حوله لصالح بقائه هو، وفرض قيمه: يسمى “تكيف بالسيطرة”، وأحيانا يسمى “تكيفا بالإبداع“ إذا صنع جديدا من خلال هذه السيطرة.
الطالب: وأيهما أفضل أن نذعن أو أن نسيطر؟
المعلم: الاثنان يا اخى، قلنا الاثنين، حسب مقتضى الحال ومقدار القدرة، ومناورات الاستمرار.
الطالب: العلم صعب، كنت أتمنى ألا يكون التكيف إلا بالسيطرة والإبداع.
المعلم: العلم علم.. ولن يخضع لأمانيك أو لرعونة شبابك يا بطل.
وفى الكتاب بقية
وبقايا
[1] – يحيى الرخاوى: “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس انطلاقا من: قصر العينى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)، والكتاب قديم مهم (الطبعة الأولى سنة 1982 ) ولم يتم تحديثه فى هذه الطبعة، موجود فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – (تذييل فى المرجع الأصلى) “المعنى” كما سبق أن أشرت إنما يقصد به هنا تناسب وكفاءة “المعلومات” الواصلة لجهاز فعلنة المعلومات، فى مرحلة بذاتها.
[3]-إشارة إلى”علاج إحياء المعنى” أو ”علاج اللوجوس” Logotherapy الذى ابتدعه فيكتور فرانكل . وهو يعتبر “مدرسة فيينا الثالثة للعلاج النفسى” جنبا إلى جنب مع التحليل النفسى فرويد وعلم النفس الفردى أدلر.