نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-11-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4473
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثالثة عشر)
…………
…………
تطبيقات
1- فى المرض والعلاج
يصدق ما ورد فى هذا الفرض فى مجال المرض النفسى، كما يصدق فى مجال النمو النفسى، ولكن صدقه فى مجال الإبداع الأدبى خاصة هو أكبر وأخطر. فإذا كنا نتكلم عن الجنون وطبيعته الحرة المطلقة، فقد سبق أن أشرنا كيف أنها تنتهى إلى سجن مطلق أيضا، فالمجنون حر ولكن، فى اتجاه واحد، ولايصبح الجنون مشروع حرية بالمعنى المتكامل إلا حين يصبح حركية لها أكثر من اتجاه، ومتى أصبح كذلك اقترب من الإبداع حتى قد يتحول – بالعلاج المكثف وأحيانا: تلقائيا- إليه بجدلية فائقة.
إلا أن تناول بعض القضايا التطبيقية من منظور الحرية كما قدمناها فى هذه الدراسة، قد يعيد تعرفنا على المفهوم الذى حاولنا تقديمه بطريقة عملية، مما قد يدعم أو يهز ما ذهبنا إليه، وهاكم بعض ذلك:
2- فى الإبداع الأولى إنشاءً ونقدا
فإن النص الحر، إن صح التعبير، هو النص المتحرك المحــَرك، وليس النص الذى يحوى حديثا عن الحرية أو دفاعا عنها، أو رؤية لها، كما شاع فى بعض أوساط النقد السطحى (والسياسة)، أو كما طغى فى بعض مراحل التاريخ حين تجمدت حركة الفكر انخداعا بتحقيق الثورة. فقارئ بيت الشعر “إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر” إلخ، قد يُـبلغ شيئا ما عن الحرية، وقد يدفعه هذا إلى قدر من الحماس أو التضحية، لكنه لا يعايش حركية توجه وجوده من خلال تحريك هادف، وأقصد هادفا هنا بمعنى الغائية، وليس بمعنى القصد الواعى، ومن المعاد أن نقول إن مثل هذا الشعر الوطنى أو الحماسى أو الثورى ليس هو المثل الدال على حرية النص ومدى حركيته وعمق أصالته، فى حين أن قصيدة لأنسى الحاج أو سعيد عقل أو امرؤ القيس تعلن عن مساحة الحركة بقدر ما تحرك وعى المتلقى بشكل قد لا يسمح له بالتراجع بعد التلقى. ليست المسألة مفاضلة بين شاعر وشاعر، أو بين كاتب وآخر، بل إن المقياس ينطبق على نفس المبدع من عمل إلى آخر. فنحن نرى فى ليالى ألف ليلة لنجيب محفوظ زخم الحركة بما يعلن بشكل مباشر اتساع المساحة ووثب التناسخ حتى إحياء الموتى، فى حين نعيش فى الحرافيش حركية دورات الحياة بكل نبضها ووجوهها، وفى أولاد حارتنا، تهدأ المسألة حتى تصبح إعادة رصينة لدورة عتيقة بلا مفاجآت فى الكاتب أو الكتابة، ونحن لا نحكم على حركية النص بعدد الثورات التى تحققت استجابة لمحتواه، ولا بكم البطولات، وإنما نعايش حركيته بقدر اتساع الرقعة وقوة التحريك وحيوية النبض.
تتصل بهذا البعد مسألة واقعية النص، فالنص واقعى- من منطلق الحرية- بقدر ما أن ذات المبدع ثرية بواقعها الذى هو ليس ذاتها وإنما تركيباتها المرنة المتواصلة ذهابا وجيئة مع واقع موضوعى حقيقى، وهذا إنما يظهر فى إفراز واقع أوقع من الواقع، وهو الواقع الإبداعى وهو التخليق الأكثر موضوعية الذى شكله المبدع الحر، مثل هذا المبدع ليس واقعيا فحسب، وإنما هو خالق لواقع حقيقى آنىَ وماثل (وواعد قادم أيضا).
يترتب على ذلك أن النسخة المسطحة من الواقعية الاجتماعية أو الواقعية الاشتراكية التقليدية هى أبعد ما تكون عن الحرية، وهذا أمر لم يعد يحتاج إلى أن يؤكـَّـد عليه كثيرا. الواقعية الموضوعية هى التى تتم من خلال الحرية (حركية الوجود المرنة) التى تسمح برحلة الذهاب والعودة بين “الذات/الموضوع”- و”الموضوع/الذات” معظم الوقت دون تحديد زائف لذات بعيدة عن الموضوع، وبالتالى فأوْلى بها أن تسمى “الواقعية الإبداعية” من حيث أن الإبداع يخلق واقعا أكثر موضوعية بشكل ما.
3- الحرية وقبول الاعتمادية لتجاوزها
يبدو لأول وهلة أن الحرية لا تتفق مع الاعتمادية، وأن الإنسان الحر هو الإنسان الناضج المستقل عن الآخرين بنفسه لنفسه، وهذا فكر قد يكون سليما فى الظروف التى ظهر فيها حتى تَقَدّس، وقد تقدس أساسا فى مواجهة قهر سلطات دينية وسياسية لا ترضى بأقل من التبعية المطلقة. لكن هذا الأمر يحتاج إلى مراجعة خاصة بعد تراجع هذه الظروف ظاهرا على الأقل، وفى هذا الصدد علينا أن نتذكر أن ثمة اختلافات بيئية جذرية تلزمنا بإعادة النظر فى هذه المسألة، وهى اختلافات بيئية تتعلق بمصر أولا، والعالم العربى لدرجة أقل، وعالم الشرق الأقصى بدرجة ما، لكن جانبها الإيجابى بدأ يظهر أكثر وضوحا من ناس الغرب أيضا الذين انتبهوا إلى ضرورة نقد ما الوا إليه، أو ما شاع عنهم. إن قضية الحرية الغربية تتبلور معالمها من خلال مقولات ظاهرة ومتكررة مثل “أزمة الهوية فى المراهقة” وحفز الاستقلال المبكر فى أوائل منتصف العمر، والاقتصار على العائلة النواة أوالعائلة الصغيرة المغلقة الحدود، والتأكيد على تقرير الذات، والطلاق المتكرر، وكلها قضايا ليست معيشة عندنا بنفس الصورة، أو بنفس الدرجة، فالاعتمادية على الكبير فى ثقافتنا – قبل التشويه الأخير- هى حق معلن لا نتهرب ولا نخجل منه، ورعاية الكبير للصغير (الصغير حتى سن الخمسين وأكثر أحيانا) هى ممارسة طبيعية سلسة، وعلاقة هذا وذاك بالحرية هى علاقة إيجابية. إن الاعتمادية الطبيعية والمعلنة قد تخلق الحرية وتؤكد الحركية بعكس المتصور لأول وهلة. فى مصر بوجه خاص قد تمتد هذه القضية إلى النظام المصرى القديم، ثم ترتقى بالتوحيد الأخناتونى، وتعود لتأخذ شكل الاستعباد، لترتقى مرة ثانية بالأديان السماوية الحديثة، المتممة بالإسلام فى عمث رسالتها الإبداعية الإيمانية، بما تتجلى فيه جرعة اعتمادية خلاقة من خلال التمحور حول محور التوحيد المركزى بـ”لا إله إلا الله ” إذا مورست بحقها فى الفعل اليومى.
إذا انتقينا من كل هذا التراث معنى أضحية إسماعيل وإبراهيم، لوجدناها تمثل أقصى صور الطاعة حتى الذبح، ثم إعادة الولادة. وصلتنى الاعتمادية فى هذا الرمز فى صورة طاعة الصغير للكبير حتى الموت ذبحا، ولكن ليس باعتبار أن الكبير هو الأعرف والأقدر لمجرد أنه كبير، ولكن باعتباره الأقرب إلى الأكبر فالأكبر إلى وعى المطلق إلى وجه الله ذلك أن إسماعيل حين أطاع أباه إبراهيم لم يقل له “إفعل ما ترى”، أو ما تريد، وإنما قال له “افعل ما تؤمر”، وكأنه ما أطاعه إلا لأن إبراهيم بدوره يطيع الحق الأكبر، ولا تخفى دلالة وصول هذا الأمر من خلال الحلم ليصبح واقعا ملزما (إنى أرى فى المنام أنى أذبحك) . هذا التفسير ليس دعوة إلى الاعتمادية بقدر ما هو محاولة إشراك دوائر أكبر فأكبر فى فعل الاختيار والمسئولية، الدوائر الأكبر هى امتداد للوعى الشخصى فى الوعى الكونى، وليست تفويضا لأى سلطة كائنة ما كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية. هذا التأويل شديد الخطورة إذا تصورنا أن أحدا غير الأنبياء له مثل هذا الحق فى الطاعة، وحتى الأنبياء ليس لهم حق الطاعة المطلقة الا بقدر مصداقية تواصل وعيهم مع الوعى الكونى إلى وجه الله.
حين يكون الحديث عن الحرية والإبداع فإن المقصود هنا هو الإشارة إلى أن الاعتمادية المختارة، والمفهومة والمتصلة بالوعى الكونى، والطبيعة الفطرية، هى اختيار فى ذاتها يكاد يكون أكثر حركية من تشنج مدع على الجانب الآخر.
إن الإقرار بحق الاعتمادية “معا” فى رحاب وعى ضام، يسمح بالاعتمادية المتبادلة، كما قد يهئ الفرصة لمساحة أكبر، وحوار أعمق بما يتيح حركية أرحب. أما الدخول مبكرا أو دائما فى مسألة البحث عن هوية ذاتية متميزة، ثم الاستمرار فى هذه الحساسية طول الوقت، فهذا أمر متعلق بثقافة أخرى ربما اضطرت لذلك حين تيقنت بتربص السلطات (الدينية خاصة) باستغلال هذا المفهوم قهرا وتبريرا كما ذكرنا.
يمكن أن نتابع هذا الفرض الفرعى من خلال بعض الأمثلة:
1- صورة الأب فى إبداعات نجيب محفوظ شديدة الحضور قوية التأثير، وأشهر أب عند محفوظ هو السيد أحمد عبد الجواد فى الثلاثية، صورته الأبوية العملاقة تلك لم تمنع أولاده الثلاثة أن يشبوا مبدعين جميعا، كمال مبدع عقلانى شيزيدى رائع، وفهمى مبدع واقعى ثورى رائد، ويس مبدع لذى حر منطلق، ولا واحد منهم يشبه أباه (بما فى ذلك يس)، ولا واحد منهم عصى أباه، ولا واحد منهم لم يعتمد على أبيه، ولا واحد منهم ارتضى أن يتوقف عند تسليم عادى ماسخ .
ثم الأب الإله عند محفوظ : سواء كان زعبلاوى (2)أم الجبلاوى (3) أم الرحيمى (4) أم عاشور الناجى (5) كان يغرى دائما بالتبعية والحماية، ولكنه كان يغرى ويعد بالكشف ويسمح بالابتعاد عنه فى نفس الوقت.
والشيخ الصوفى الوسيط فى “اللص والكلاب” مثلا بين الأب الإله وبين العبد الجائع إلى الاتباع كان دوره يتكرر عند محفوظ بشكل يفتح باب نوع من التبعية رائقة وإرادية وغير مشوهة أو مرفوضة بالمرة.
2- فإذا انتقلنا إلى ديستويفسكى واجهتنا صورة الأب المباشر بطريقة مختلفة، فكثير من آباء وأجداد روايات ديستويفسكى فيهم قدر من الطفولة لا يخفى، بل إن أبناء وبنات روايات ديستويفسكى كانوا يقومون بدور الأب فى كثير من الأحيان، من أول نيتوتشكا نزفانونا حتى الفارس الصغير (6)، ثم الطفلة نللى فى مذلون مهانون، وكذلك أليوشا فى كارامازوف (7)، ومع ذلك فإن الاعتمادية هنا على الإبن لها نفس وظيفة الاعتمادية على الأب، وكلتاهما تؤكدان الاعتمادية التى نريد هنا الاعتراف بإيجابيتها إذ لا تتعارض مع الحرية التى نزعم أنها فى شرقنا إنما تنبع من قبول الاعتمادية لتجاوزها، وليس من أزمة الهوية والمبالغة فى التأكيد على تحقيق حدود الذات بالاستقلال المبالغ فيه كما يشيع فى الغرب.
ثم ننتقل إلى اعتمادية المبدع نفسه على كبير (رئيس دولة، مبدع أكبر، شيخ راع) ويحضرنى هنا مثالان بارزان:
الأول: اعتمادية المتنبى على سيف الدولة التى لم تعق إبداعه، ولم ترهق حركية توجهه، بل حفزته وحفظته وباركت إبداعه و أزكت تواصله سواء فى أوقات الرضا أو أوقات الهجر.
والثانى: (دون تفصيل) اعتمادية محمد عبد الوهاب على أحمد شوقي.
بل إن إعلان هذه الاعتمادية المتكرر فى باب المديح فى الشعر العربى بأكمله، الباب الذى لم أكن أستسيغه فى حياتى وحتى هذه اللحظة، ثم جاءتنى هذه الرؤية التى صالحت بين الاعتمادية والحرية بشكل مختلف عما تعلمته من قيم الغرب.
وأخيرا: فإن الاعتمادية المطلقة فى الإبداع الصوفى الحقيقى: إبداع الذات فى الكون (العبودية التوليدية إن صح التعبير) هى فصل الخطاب فى هذه المسألة.
الاعتمادية المعلنة والصريحة قد تخدم الحرية بالمعنى الذى تقدمه هذه الدراسة، ولكنها قد تعوقها إذا وصلت إلى الاعتمادية الرضيعية المشلولة المشِلّة فى آن.
ربما كان من أهم ميزات إعلان الاعتمادية الصريحة على دعم الخارج هو التخلص من ألعاب الاعتمادية الخفية التى تستعمل ألفاظ استقلال زائف، واختيارى أحادى المستوى. الاعتمادية المعلنة اختياراً هى قضية مرحلية يمكن حسمها بجدل الخارج يوما ما، ما دامت شروطها واضحة ومقبولة، إن كل ذلك يسمح للذات أن تكون أكثر مرونة وأرحب مجالا فى تناولها الدورة بعد الدورة فى مرونة حرة، بدلا من المناورات الداخلية تقمصا وغمدا وإدخالا، ثم يا ترى!
ربما أدت هذه الاعتمادية المعلنة إلى التقليل من المبالغة فى الخوف من خطورة القفزة إلى المجهول، (المستوى الثالث للاختيار: أتجمد أو أطفر) وبالتالى قد تشُجع على الاختيار الأصعب (الإبداع الوثبة أو الاندفاعة)، يتم ذلك أو مثله فى بعض خبرات التصوف (8) حتى يواصل المبدع لذاته كدحه إلى الحق مبدعا حرا مطمئنا إلى أن ثمة من يتلقى القفزة لو أخطأ الحساب.
………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – نجيب محفوظ: ”زعبلاوى” فى مجموعة قصص “دنيا” – مكتبة مصر 1963.
[3] – نجيب محفوظ : رواية “أولاد حارتنا”
[4] نجيب محفوظ (الطريق) مكتبة مصر 1984
[5] – نجيب محفوظ (ملحمة الحرافيش) مكتبة مصر 1985
[6] – يحيى الرخاوى. (1982) قراءة فى ديستويفسكى (من عالم الطفولة). الإنسان والتطور، 12 : 171-137. تحدثت فى ” تبادل الاقنعة” الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006
[7] – يحيى الرخاوى عن ديستويفسكى: (1) زخم الحياة وصلابة الموت فى الاخوة كارامازوف (تبادل الأقنعة: منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006)، وكذلك: قراءة فى ديستويفسكى (2) نشوة البغض وألوان الحب فى مذلون مهانون لديستويفسكي (دراسة لم تنشر بعد).
[8] – بعد كتابة هذه الأطروحة بسنين تواصلتْ قراءتى لمواقف “النفرى” تعقيبا محاورا وصلنى من خلاله هذا القدر الرائع من الاعتمادية الحرة الخلاقة فى أغلب ما تناولت من مواقف، ومما وصل للنفرى استلهاما، وما حاورته فيه نقدا، وكالنقد.
– يحيى الرخاوى – إيهاب الخراط ” كتاب “مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام” سنة 2000
– نشرات الإنسان والتطور اليومية “حوار مع الله ” من 20-10-2008 إلى 3-11-2012
– نشرات الإنسان والتطور اليومية “حوار مع مولانا النفرى” من 10-11-2012 إلى 26-11-2019