نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 16-9-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4398
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الثالث: “فى ضيافة المرأة المُهرة” (14)
…………
…………
الجو شديد الإنعاش والحنان معا، أقرب إلى الدفء الذى يتوارى فى وداعة أمام نسمة ليل تتهادى قبل الأوان. والمخيم به مطعم، وسوق أعظم (سوبر ماركت)، وخدمة هاتفية، وحمام سباحة، وناس. نعم ناس بحق (وحقيق)، لا معتقلون، ناس من كل بلد وجنس. وأقول للأولاد: هذا هو المخيم…، ويوافقوننى دون سابق خبرة ، فأصدّق..
تبدو السعادة بغير حدود على ولدىّ الأصغرين، أحمد وعلى. تنتقل إلىّ بسهولة، أكتشف أن عدوى الفرحة الطفلية التى أصابتنى، هى ناتجة من إطلاق سراح طفلىِ من داخلى بمثير مباشر لم يستأذِن. أعنى أنها ليست فرحة والد أو جَدٍّ يفرح لفرح أطفَاله أو أحفاده، بل إننى فرحت أكثر لأنى وجدت من يشارك “هذا” الأنا الذى تأهب للانطلاق من وراء ظهرى وظهورهم، انطلق طفلى من داخلى ربما ليسترد بعض الحقوق المغـتصبة من عشرات السنين،انطلق فعلا مع أطفال مثله دون كلام كثير.
لى موقف خاص متعلق بصداقتى للأطفال والشباب عبر تاريخى كله، فمع أنى لا أبدو طفلا أبدا فى ظاهر وجودى الحالى، كما أنى لاأذكر أنى كنت طفلا كما أسمع عن الأطفال، أو كما درست عن الأطفال، أو كما أدرّس (وأفتى) عن الأطفال. ثم إننى لا أحترم الإشاعات التى تُطلق على براءة الأطفال وطهارة الأطفال دون الجانب الآخر من أنانيتهم وقسوتهم. بل إننى كتبت ذات مرة فى الأهرام أهاجم حكاية “براءة الأطفال فى عينيه”، مذكرا القارئ بمنظر طفل (أنا) يربط عصفورا اصطاده هو وأقرانه، ثم إنه قد يقضم رأسه فى برود مرعب، أو منظر مجموعة من الأطفال وهم يجرجرون صغار القطط بحبل من رقابهم، حبل قد يخنقهم فى أىة لحظة.
أتذكر منظرنا ونحن بعد أطفال فى بلدنا، نصطاد زنبورا، ثم ننزع ذبانه، ثم نحبس أرجله فى شق بوصة مشقوقة من جانب تدور أفقيا فوق شوكة (سِــلة: بكسر السين) – قال ماذا، قال: نعمل ساقية. وكم خرجتْ أمعاء الزنبور المسكين أثناء هذه العمليات الجراحية البدائية، فنعاود المحاولة مع زنبور آخر، وهكذا.أىة قسوة.
حين أصاحب الأطفال لا أعنى تقديسا لبراءة مزعومة، وإنما مواكبة “لفطرة واعدة”.
بلغ بى هذا الموقف المختلف (الشاذ حتما عن الشائع) أن كتبتُ ” فى هجاء البراءة،” كلاما يفزعنى كلما قرأته، وأنا الآن أتأكد أننى لا ألجأ إلى ما يشبه الشعر-رغم كل شىء-إلا حين تكون الجرعة أكبر من أن تستوعبها صورة أخرى. حين قرأت هذه القصيدة على شيخى نجيب محفوظ رفضَهَا وجهه رفضا أزعجنى، ولم أستطع أن أدافع عن نفسى، صنّفتْ فى هذه القصيدة أنواع البراءة التى أرفضها : براءة قاسية، تقتل بالإغفال والمسالمة”- براءة ساكنةٌ، تقطّعت أطرافها، فساحتْ الحدودُ، مائعةٌ مرتجّة”، – “براءة مخاتلة، وتاجرة، تطل من بسمتها المسطحة، معالم المؤامرةْ، والصفقة الخفيّة”،
هذا الموقف الحذر من الطفولة، من سوء استعمال وفهم ما هو طفل، يجعلنى أقرب لطفولتى، وليس أبعد، وأيضا هو الذى يجعل صداقتى للأطفال ليست صداقة الرعاية الفوقية، أصدقائى الأطفال هم “الأطفال” الذين خلقهم الله، أما الأطفال البلاستيك للاستعمال الظاهرى والاستثمار والإسقاط، الأطفال المصنَّعون بنعومة يستعملون من الظاهر فهم ليسوا هم، ليسوا أنا، أنهيت قصيدة هجاء البراءة هذه باحترام فطرتنا القوية الفتية، فى مقابل هذه الاستعمالات الظاهرية. “جحافل البــشرْ، كالدود والجذورْ، تغوص فى اشتياقْ فى الطين والعفَـنْ”،
تغمرنى وأنا أقرأ هذه النهاية رائحة النتن الرطب ونحن نجمع دود الأرض من جوف الطين لنجعله طُعما لما يمكن أن نصطاده من سمك المصرف ذى الماء الراكد تعلوه طبقة من الريم الأخضر ذى الرائحة الأخرى المكملة لهذا العبق الملئ بالزفارة والدم، كنت أشعر آنذاك أننى أقرب إلا شبق الأرض ووعد الجنس.
(حين قرأت هذه الفقرة الآن، سبتمبر 2000 لم أخف منها مثتما كان الحال عندما كتبتها منذ خمس عشرة سنة، ذلك أننى كنت أقرأ فى رواية “العطر”لـ “زوسكيند، آنستنى الرؤية المشتركة)
أرجّح أنهم – سامحهم الله- قد سرقوا منى طفولتى قديما بغير علمى، فأخذت كل هذا الحذر من كل ما هو طفلىّ يتلقّــى، وتحيّزت كل التحيّز لما هو فطرى يتفجّر.
مع أصدقائى الأطفال وفى حضن الطبيعة تنشط طفولتى الحالية بمعايشة جديدة (وليس بتذكّر مُعاد). أعيش صحوتها وكأنها حضور طازج، فأهتف مع أولادى الأصغر لمخيم “الألبا دورو”، ممنين أنفسنا بسباحة وجرى وانطلاق.
صداقتى لأحمد رفعت وعلى عماد هذه وهم بعد فى السابعة والثامنة، فى هذه الرحلة، فى هذه اللحظة، لم تكن صداقة الوالد، بل القرين.
أفضل مصاحبة الأصغر؛ يفهموننى أكثر، كما أنى أتحملهم-“بما هم إجمالا”-أكثر فأكثر. وكثيرا ماكتبت كلاما يقول عنه الكبار إنه غامض، فيلتقطه أصدقائى الأصغر بشكل يطمئننى. وكلما زرت أقارب لى هنا أو هناك، فى القرية أو فى المدينة، وصعُبَتْ علىَّ مجالسة الكبار ومجاراة أحاديث القيل والقال، وكثرة السؤال، وأحوال المال، هربت إلى الأصغر، فأجدهم فى انتظارى بما أنتظر منهم، فأشاركهم وأحتمى بهم من حديث الكبار. تتراوح أعمار أصدقائى هؤلاء بين الثالثة، والسادسة عشرة، (تقريبا)، لا أدرى أين يذهبون بعد ذلك. انتبهت إلى أنه بمرور الأيام أجد هؤلاء الأصدقاء يشيخون (لا يكبرون) بمجرد عبور حاجز العشرين عاما أو قبل ذلك، وأنا كما أنا، الطفل العنيد أبدا، ماذا يحدث؟. هل هم يعقلون..؟. طيب..، وأنا؟. أليس من حقى، أو من واجبى، أو حتى قدَرى، أن أهمد وأعقل؟. ثم ماذا يعقـّلهم هكذا إلى درجة الانطفاء الباهت؟.
فى أول الأمر: يتمذهبون يمينا أو يسارا، سلفا أو ادعاءَ ثورة،
ثم ينقلبون أبواقا مردِّدة بعد أن كانوا مصانع أفكار مجددة.
وبعد ذلك يلبسون قميص أكتاف الزوجة، فالوظيفة، فالقرش أحيانا، والخوف كثيراً، حسب حظ أى منهم من الإعارة أو التجارة.
وما إن ألتقى بأحدهم بعد سنوات من “تحويل مجرى الوعى” هذا، حتى أجدنى أمام كهل بارد عاقل مفضال (نعم “مفضال” وليس فاضلا فقط!!)، فأشوّح له بيدى فى سرى أن “تشاو” (وداعا: مازلنا فى إيطاليا)؛ ذلك أن حديثى مع هذا ا”لرجل المفضال”، الذى كان صديقى طفلا ثم صار “هكذا” لايمكن أن يخرج عن بعض “السباب السياسى”، و”السخط الاقتصادى”، ثم يتعثر الحديث، ثم يتوقف، وسرعان ما أنصرف داخليا، فينصرف زاهدا أو مشفقا علىّ، أو رافضا أيامى، ولاحول ولا قوة إلا بالله. فأنتقل إلى الجيل الأصغر، ويتكرر “النص”، حتى أنى أستطيع أن أعد الآن أربعة أجيال من الشباب (أو الذين كانوا شبابا) على الأقل ممن تخطّونى جميعا: الجيل تلو الآخر، وأنا واقف فى “محطتى” الطفلية السرية ذاتها. أقف فاغرا فاهى، متعجبا من الشيخوخة المبكرة التى تجرى على هؤلاء الأطفال والشباب ضد كل حسابات الفطرة الواعدة، أو على الأقل ضد حساباتى الآملة من هذه الفطرة الواعدة، وكل ذلك لم يعلمنى أن “أعقل” أو”أيأس”، ولكنى تعلمت ماهو أهم، هو أن أتوقع هجرهم وتعقلهم وشيخوختهم المبكرة دائما أبدا، فأستقبلها بما ينبغى من واقعية وصبر وألم طبعا، ولكن دون دهشة أو احتجاج أو مقاومة مثل الأول. ومادامت الأجيال تتعاقب، فلا ضير علىّ، وسأجد الرفاق الأصغر دائما فى انتظارى، اللهم إلا إذا نجحت “أسرة المستقبل” أن توقف عجلة المستقبل.
وذات مرة، سألت أحد “العقلاء”من زملائى عن سر هذه الظاهرة، ظاهرة صداقتى للأصغر، فقال لى لابد وأن شخصى أو شخصيتى هى”أى كلام”، لذلك فإنى أستسهل الضحك على ذقون الأصغر، ولكنى لا أحتمل الصراع التنافسى فى مواجهة الأكبر. رعبتُ من احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح، ومرة قال آخر (لعلها زوجتى) إنى أستغل انبهارهم بى فأستعملهم لملء فراغ وجودى، ياخبر!!. محتمل!؟. ولكن هؤلاء الأكبر الذين يهددون وجودى الهش، بوجودهم الراسخ هم لايحاوروننى أصلا. هم يزدادون قوة وبطشا فيزدادون إصرارا وثباتا، فأين التنافس والخوف مما يمثلون؟. هل يستدرجوننى لأعمل معهم أو كنظامهم مع تبادل الأدوار، وكأننا نتحاور؟ إن إصرارى على الاحتفاظ بطفولتى، وفى نفس الوقت على رفض البراءة المغشوشة والمسطحة، هو الذى أتاح لى أن أستمر ولا أتنازل مهما كان (أنظرالترحال الثالث إن شئت).
تدرّبت بعد طول السنين أن أجدد صداقاتى مع العمر المناسب، وما دامت النساء تنجب أطفالا، فأنا سأجد الأصدقاء دائما مهما اعتبرنى الكبار “أى كلام”، ومهما اعتبرنى الصغار مجرد “محطة” لابد من تجاوزها. غير أنى أتعجب: ألم يكن العكس هو الأرجح؟. ألم يكن المفروض هو أن أعتبر أنا الصغار حالمين مثاليين فأنتظرهم- بعد السماح- فى المحطة التالية: محطة العقل والتدبر، أو محطة المكسب والشحم الزاحف حول الأوعية الدموية، وأيضاً حول الأفكار الباهتة المعادة، أو عند محطة تكرار العُمْرات غير الخالصة، أو فى سراديب الصفقات الدينية السرية، فلماذا انقلبت الحال، لأصبح أنا المتخلف عند محطة الطفولة الدائمة المزدحمة بالدهشة والقلقلة!!؟.
………..
نكمل الأثنين القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ فى ضيافة المرأة المُهرة ” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net