نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 11-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4362
الكتاب الثانى:
“جدلية الجنون والإبداع” (1) (الحلقة الرابعة)
……….
……….
المستوى المعرفى البدئى فى الجنون والإبداع:
انطلاقا من هذا الاعتراف بالعجز، واختراقا لهذا المأزق، أبدأ بمحاولة تحديد متواضعة للكشف عن الوحدات الأولية للحركية الجدلية على الرغم مما فى ذلك من مخاطرة الابتعاد عن جوهر الطبيعة الشمولية لما أحاول تقديمه، لكننى لا أجد سبيلا آخر. وسوف أكتفى فى هذه المرحلة بالتحرك الممكن فى محاولة استيعاب مستوى “الصورة”، ومستوى “المكد” على أساس ما يتمتعان به من حرية الحركة من ناحية، ومرونة الكلية غير المتميزة من ناحية أخرى. كذلك فإن التوقف عند مرحلة تنشيطهما إنما يظهرهما –لأول وهلة- كما لو كانا بديلين متنافرين، ومعوقين، ومفككين للحياة المفهومية، وهذا من أظهر أعراض الجنون إذا ما تمادى هذا التوجه دون ضم جدلى لاحق.
فى الجنون:
تظهر المعرفة البدائية فى الجنون فى شكل مباشر، أو غير مباشر، فمثلا يمكن أن نعد الهلوسات الحسية بعامة، والبصرية بخاصة، تنشيطا لمستوى “الصورة”. وكذلك فإن ظاهرة التعيين النشط Active Concretization – أى تجسيم المجرد فى شكل عيانى تدركه الحواس حاضرا بشكل مباشر، هى ظاهرة تماثل إلى حد كبير تفكير الطفل والبدائى (مع التحفظات اللازمة لتجنب الترادف الساذج). وقد يظهر المكد بما هو حدثٌ غامض ملح ويقينى، حتى لو لم يعبر عنه فى ألفاظ، يظهر على نحو قد ينعكس على تعبير وجه الفصامى الذى يعيش فى يقين ما. …. فالفصامى إذ يتراجع إلى منطقة عميقة من وجوده، يعيش إحياء هذه الوحدات الأولية بعد تفككها. وهو لا يستطيع التعبير عنها بشكل مباشر كما أشرنا سالفا، كما جاء فى المتن، فإذا استطاع فإنها (قد) تخرج فى شكل أعراض جسمية غير متماسكة:
”شئ يتكور فى جوفى
يمشى بين ضلوعى
يصّـاعد حتى حلقى
فأكاد أحس به يقفز من شفتى ” (2)
وكثيرا ما نشاهد هذا العرَض عند الفصامى حين يهم بالكلام فعلا، ويفتح فمه ثم يغلقه فجأة، وكأنه إما أن يكون قد عدل عن القول، وإما أنه عجز عن القول”.
لابد أن أعترف هنا بما خطر لى لاحقا من ترجيح أن تحريك هذا المستوى الإبداعى لدىّ لأصف معايشتى لخبرة الفصامى فى متن شعرى (هكذا) قد يكون نتيجة لمحاولة ضمنية، من ناحيتى لكى أواكب المريض بما أحدَث بى من تنشيط، إلى ما عجزت عن وصفه ، فقد رحت أتقمص مريضى الفصامى وهو يبحث عن اللفظ الذى يترجم صرخته أو استغاثته، فلا يجد لفظا قادرا يستطيع أن يحتوى تلك المشاعر النشطة اللامتميزة، وهو لا يأمل فى أن يجد من يسمع له - صامتا – فيتقبل عجزه هذا بوصفه لغة حقيقية، حتى لو لم تَمْثُل فى ألفاظ:
”أحكى فى صمت عن شيٍء لا يُحْـكي
عن إحساس ليس له اسم
إحساس يفقد معناه
إن سكن اللفظ الميت “.
وكأن المسألة ليست مجرد عجز عن التلفظ، وإنما هى – ضمنا – رفض للاغتراب فى الكلمات بعيدا عن نبض الوعى، إذ يظهر أن الفصامى إنما يتخذ قرارا بأن الألفاظ الجامدة المحددة الأبعاد قد ماتت حين سكنت فى قالب واحد لا تتغير أو تتجدد حتى أصبحت بمثابة قبر مظلم لأى من الخبرات المعرفية المنشطة. الفصامى برغم علمه بطبيعة وفائدة الأداة اللفظية المتاحة للتعبير عن استغاثته، لايجدها (كافية) فيصرخ بصمته حين لاتسعفه حروفها الجامدة المقوْلَبة، ثم المتعيـَنة تجسيدا، ثم المنقضة عليه تهديدا:
وبحثتُ عن الألفِ الممدودةْ
وعن الهاء
وصرختُ بأعلى صمتى
لم يسمعنى السادة” (3).
وعلى الرغم من أن الفصامى هو الذى لم ينطقها أصلا فإنه يلوم الآخر، وكأنه هو المسئول عن الإهمال الذى لحقه، أو تصور أنه لحقه، وكأن الفصامى يفترض أنه كان على هذا “الآخر” أن يسمع صرخة صمته مادام هو قد اجتهد – بما استطاع – أن تكون صرخته أعلى مما لم ينبس به (وصرخت بأعلى صمتى).
بدءا من هذا المفترق يختلف موقف المبدع عن المجنون.
فقد يصف المبدع هذه الخبرة نفسها بألفاظ، وقد يترجمها إلى مفاهيم، وقد يحتويها فى كلٍّ أكبر، وقد يغوص بها إلى مستوى (مستويات) أعمق، ليصعد من خلالها إلى ما يتخلق منه الكل الجديد.
أما الفصامى فهو ينسحب، ويحتج، ويستغنى عن المعرفة المفهومية التى لم تسعفه، بل هو أيضا يستغنى عن الآخر الذى لم يسمعه، فيتمادى التفكك والتناثر، بدءا باللفظ، ليحل محله العيانى، والبدائى، والمجسد، ثم المُنقَضّ:
”وارتدّت تلك الألف الممدودة
تطعننى فى قلبى
وتدحرجت الهاء العمياء ككرة الصلب
داخل أعماقى ” (4).
إذا انتقلنا من هذا المستوى السيكوباثولوجى (الإمراضى) لشرح كيفية تنشيط المستوى المكدى عند الفصامى (دون الانتقال إلى مابعد التنشيط)- إذا انتقلنا إلى عرض بعض الأعراض كما تظهر مباشرة فى سلوك الفصامى، التى يمكن أن نعزوها إلى الإعاقة نفسها، فإننا يمكن أن نعد عرض “عرقلة التفكير” (5) عجزا مؤقتا عن ترجمة التنشيط إلى مفاهيم تواصلية، أحيانا نتيجة لتنشيط مستويين من الوعى معا بشحن متكافئ مواجه حتى التصادم المعيق. كذلك يمكن قراءة عرض “الربكة “ (6) الذى يظهر فى بعض بدايات الفصام على أنه إعلان لتداخل مستويين منشطين أو أكثر معا، مع العجز عن ترجيح أيهما أوْلى فى لحظة بذاتها، وكذلك نفهم “الخلط “ (7) على أنه درجة أخطر من التداخل لما هو أكثر وأغمض، كما قد يدل عرض الانحراف بالمسار (8) أو الاستجابة فى غير الاتجاه (تخطّى الهدفْ) (9) باعتباره إعلانا لانحراف عن الهدف الأول نتيجة المزاحمة بين تيارات وعى منشطة معا. وأخيرا قد يكون الناتج المرضى أظهر ما يكون فيما يصيب المستوى المفاهيمى من تفكك نتيجة للمزاحمة فالإفشال فالتفسخ، وهو ما يظهر فى شكل أعراض مثل: تراخى الترابط، (10) والتفكير العهنى، (11) وفرط التداخل (12)
هذا وقد قابلت فى دراسات ومشاهدات متلاحقة مقارنة بين أعراض مختلفة، وبين أشكال مقابلة لمراحل الإبداع أو مظاهره، مما لا مجال لتفصيله هنا، فأكتفى بأن أقدم إشارة مجدولة (جدول أ) إلى بعض هذه المحاولات لمن شاء أن يلم بالخطوط العريضة.
جدول (1) يقارن بين التفكك المرضى (13) المتمادى فى الفصاموالتعتعة المرحلية (14) إلى التضام فى الإبداع |
|
تراخى الترابط (مرض) |
تراخى الترابط (إبداع) |
تراخى مبدئى عشوائى |
تفكيك قصدى (من حيث المبدأ) |
بلا توجه غائى فى البداية |
التوجه غائى ولو لم يكن شعوريا |
التمادى فى التباعد باضطراد |
التباعد مرحلى إلى ضمّ لاحق |
وجود أعراض مرضية مصاحبة |
لا توجد أعراض مرضية مصاحبة |
وجود إعاقة ممتدة فى التفكير المفاهيمى |
التفكير المفاهيمى جاهز للعمل |
هكذا نرى كيف أن تنشيط المعرفة البدائية إنما يظهر فى الجنون مستقلا ومزاحما وعلى حساب المعرفة المفاهيمية. لكن تنشيط وتعتعة هذه المعرفة البدائية نفسها بوحداتها الأولية “.. هى مرحلة مهمة فى تكوين الفكر، وفى الإبداع، إذا ما استُوعبت وعُمقت وطُورْت.” (15).
فكيف ذلك؟
تكامل، وجدلية، مستويات المعرفة فى الإبداع:
جدير بنا الآن أن نذهب إلى أقصى الجانب الآخر لنستشهد ببعض خبرات المبدعين ممن استطاعوا أن يلتقطوا بعض معالم هذه المرحلة فى بدايات الإبداع خاصة (أو قبيل الإبداع أصلا)، على أساس أن هذا التنشيط البدائى هو المدخل لما تلاه. وسوف أحاول أن أركز على ماهو “صورة”، وماهو “مكد” فى بعض أنواع الإبداع الأدبى أساسا. إن هذا المنطلق قد يتبين أكثر وأقرب فى الإبداع الموسيقى والتشكيلى البصرى، لما يتميز به هذا وذاك من لغة خاصة متحررة نسبيا من وصاية أبجدية لفظية مفاهيمية محددة جاثمة (16)
1 – يصف نيتشه رؤية عمله “هكذا تكلم زرادشت،” وكيف جاءته إرهاصاته فى شكل “صورة موسيقية” فى أحد أيام فبراير 1883 فى بلدة ريكاردو الإيطالية، حيث استشعر علاقة منذرة فى شكل تغير غائر. وفى هذه المرحلة لم يكن عند نيتشه أدنى فكرة عما سيحدثه به زرادشت، فقد أخذت مرحلة الحضانة أكثر من عدة أشهر (17).
2 – يصف بيتهوفن عملية تأليفه قائلا: “… وفى رأسى أبدأ بتطوير العمل بعرضه وامتداده وطوله وعمقه، وبما أنى أكون واعيا بما أريد أن أنقله، فإن الفكرة الخلفية لاتغيب عنى أبدا، إنها تتمطى، وتتنامى، فأسمع وأرى الصورة أمامى من كل زاوية كأنها تمثلت..” (18).
3 – وصف روزنبرج – فيما يتلقى الإبداع – ظاهرة تجسيدية عيانية أسماها عملية التماثل المكانى (19)، وهى نوع من المعرفة التى ترتكز على الصورة المكانية الماثلة، بدءا لما هو إبداع. وقد استشهد بمن يلى:
أ - هنرى مور (أحد النحاتين المبدعين المعاصرين) وهو يصف عملية إبداعه بقوله:”.. هذا هو ماينبغى أن يفعله النحات: عليه أن يجتهد دائما فى أن يفكر، وأن يستعمل الشكل فى حضوره المكانى المتكامل. إنه يحصل على الشكل المجسم داخل رأسه… وهو يرى بعقله الشكل المركب فى كل مايحيط به، فهو يعرف كيف يكون الجانب الآخر وهو ينظر إلى الجانب المقابل”.
ب – أحد علماء الميكروبيولوجى (من الحاصلين على جائزة نوبل) يصف كيف جاءته فكرة جديدة تتعلق بسلوك أحد الإنزيمات، أنه: “…رأى نفسه واقفا فوق إحدى الذرات داخل جزئ الإنزيم…” .
4 – جاء فى خطاب من أينشتاين إلى جاك هاد مارد ما يؤكد: …. إن الألفاظ كما تستعمل فى اللغة المكتوبة أو المنطوقة لاتقوم بأى دور فى ميكانزمات تفكيره، وإنما تبدأ عملياته المعرفية بصورة بصرية وعضلية، ثم تتدخل الكلمات بعد ذلك فى شكل سمعى تماما. وقد كتب أينشتاين ما يفيد “… إنه يستطيع أن يسترجع بإرادته هذه الصور وأن يؤلف بينها…، فقد كان يستطيع أن ينتقل مباشرة من التخيل إلى التجريد (الرياضى)”.
نلاحظ فى الأمثلة السابقة دور حركية الصورة، والتجسيد العيانى، والرؤية البصرية، والحضور الجسدى – فى العضلات – بوصفها جزءا لايتجزأ من إرهاصات العملية الإبداعية وبداياتها وتخطيطها، فى مجالات متعددة من الإبداع الأدبى والعلمى والتشكيلى.
فى الفقرة التالية سوف نركز على الاستشهاد والاقتطاف من نوع من الإبداع الأدبى، وهو القصة القصيرة (المصرية/ العربية).
[1] – هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص( 30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.
[2] – هذا المقطع هو جزء من المتن الشعرى (فى السيكوباثولوجي) الذى يصف هذه المرحلة من تحريك المعرفة الهشة، وقد ورد شرحه فى العمل الأساسى للمؤلف، ونظرا لتكرار الاستشهاد بهذا العمل رأيت هنا أن أعلن للقاريء طبيعته وطريقة وضعه حتى لايأخذ من استشهادى إلا ماتسمح به هذه الحدود: فقد كتبت هذا العمل أصلا فى متن شعرى (ديوان سر اللعبة) أردت أن أثبت به قدرة لغتى على احتواء نبض خبرتى وأصول علم تخصصى، فخرج- لظروف معايشتى لمرضاي- شعرا يكشف أكثر مما حسبت أنى أعرف (وليس نظما يـسـهل حفظ المادة ويزركشها، شبيها بالألفية). وحين وجدت أن حدسى الشعرى قد أحاطه علمى، عدت إلى المتن أستقرؤه، فشرحته شرحا مطولا من واقع خبرتى فى مرجع علمى مستقل، أسميته “دراسة فى علم السيكوباثولوجي”. فالاستشهاد بهذا وذاك (المتن والشرح) هو تأكيد لما هو خبرتى عبر هذه السنين فى هذا المجال. وقد أثبت رأيى الذى اقتطفته هنا قبل أن أطلع تفصيلا على مفهوم “أريتي” عن المعرفة الأخرى، أو مستوى ماهو “مكد”، فقد كتبت المتن سنة 1970/71، ثم بدأت قراءتى لأريتى من 1974، ورأيت إثبات هذا التسلسل التاريخى لعل فيه بيانا لبعض ما أسميته الصدق بالاتفاق التاريخى Historical consensual validity، وأعنى به أن إعادة اكتشاف نظرية سبق اكتشافها، أو اكتشاف بعضها، دون معرفة بها دليل على مصداقيتها (بالإضافة إلى أنه دليل على جهل المكتشف التالى لها!! ذلك الجهل المعرفى المفيد، على الأقل لتحقيق مثل هذه المصداقية).
[3] – نفسه ص: 417.
[4] – نفسه ص: 417، 418.
[5] – Thought Block
[6] – Perplexity
[7] – Confusion
[8] – Derailment
[9] – Past Pointing
[10] – Looseness of Association
[11] – Wooly Thinking
[12] - Over-Inclusion هذه الأعراض هى من أعراض الفصام النموذجية. ويمكن مراجعتها فى أى مرجع تقليدى مثل:
Slater E. and Roth، M (1969) Mayer-Gross Slater Roth، Clinical Psychiatry. William and Wilkins co.Baltimore
[13] – Incoherence
[14] – Temporary dislodgement
[15] – يحيى الرخاوى “دراسة فى علم السيكوباثوجى” (ص 123) (1979) دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة.
[16] سيجموند فرويد: “تفسير الأحلام” ترجمة مصطفى صفوان، ص62 – دار المعارف(1981)، القاهرة.
[17] – نفسه، ص63.
[18] – Schoenberg A.(1950)”Style and Idea.(p113.)Philosophical Library Inc.
[19] – Rothenberg A. (1976)”Homospacial Thinking and Creativity. Arch. Gen. Psychiat. vol. 33 Ian p. 17-.26.