نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4305
الكتاب فى حلقات:
حركية الوجود وتجليات الإبداع
[جدلية الحلم والشعر والجنون] (1 من ؟)
مقدمة:
أنا أسف
أرجو أن تسمحوا لى أن أؤجل نشر ما بدأناه من “استشارات نفسية” وقد بلغت – حتى الآن – عشرة استشارات حتى أجمع من بعض من يهمه الأمر: ما تيسر من آراء وتعليقات وتساؤلات ليتواصل الحوار ما أمكن ذلك.
وبعد
بدءًا من اليوم سوف أخصص يومَىّ السبت والأحد لنشر بعض ما نشرته من فروض باكرة فى كتب جامعة ظهرت لى فعلا فى طبعات ورقية، وذلك لأعرّف الأصدقاء بتاريخ فكرى من ناحية، وقد أضيف إن لزم الأمر فى هوامش جانبية بجوار فى المتن: ما يلزم من شرح أو مراجعة أو تعديل أو تطور.
الكتاب الذى سأبدأ به هذه المرحلة هو “حركية الوجود وتجليات الإبداع” (1)
استهلال
نحن قادرون على الإضافة البادئة، وليس فقط على التطبيق الملتزم أو التحوير المتردد من منقول ليس مقدسا، وهذا لا يعنى الدفاع عن صحة أو جدارة ما أقدم بقدر ما يؤكد حق المبادأة بما يحتمل الخطأ والصواب.
هى محاولة لعلها تكون إضافة أصيلة تساهم فى التخفيف من شعورنا بالنقص، والخضوع لقهر التبعية، وهو الشعور الذى يحرمنا أن نقول ما نرى، وما نعرف، وما نخبر، إلا إذا سبق “لأصحاب السبق الحديث فى الشمال، والشمال الغربى بالذات”، قوله: قبلنا، أو تفضلوا بالإشارة إليه، أو حتى بالسماح لنا بالتفكير فيه، علما بأن أغلب ذلك هو ما نصوره لأنفسنا ونفعله بنا، وليس بالضرورة نتيجة مؤامرتهم علينا، فكثير منهم – أحيانا على الأقل - أحرص منا على الاستماع لنا، لما هو نحن، لا لما نقلناه مشوها ـ فى الأغلب ـ عنهم.
كما آمل أن تـثبت هذه التجربة أن البحث فى الإبداع بمناهج تقليدية وكمية، على أهميته، ليس هو بالضرورة الإضافة الوحيدة المنتظرة منا.
والكاتب يأمل أن يشاركه القارئ فى استقبال النص مبدعا متلقيا.
كما تجدر الإشارة إلى أنه قد لا يتم استيعاب المراد من المتن دون الرجوع تفصيلا إلى الهوامش التى تعتبر، بذلك، جزءا لا يتجزأ من المداخلة و الفروض.
كذلك قد يحتاج الأمر للرجوع إلى فصل سابق بين الحين والحين حتى تصل رسالة فصل لاحق، والعكس صحيح بمعنى أن انتظار ما تتم به النظرية أو الفرض قد يوضح بعض الغموض الباكر.
وعن المنهج: فلابد من نفى أنه استبطانى أو تأملى، (ليس من قبيل تنظير المقعد الوثير)، ولسوف ترد الإشارة تحديدا إلى فينومينولوجية المعايشة من واقع الخبرة الذاتية حالة كونها منصهرة فى الممارسة المهنية الموضوعية، وفى تجارب القراءات النقدية المختلفة، والإبداع الخاص، وسوف تتكرر الاشارة إلى بعض تفاصيل ذلك كلما لزم الأمر، سواء فى المتن أو فى الهوامش.
المقطم: 28 سبتمبر 2006
*****
الفصل الأول
الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع (2)
تقدم هذه المداخلة فرضا يقول بأن الحلم هو نشاط معرفى، يقوم بوظيفة تنظيمية أقرب إلى الإبداع، سواء تم ذلك مع إعلان تأليف حلم يرويه الحالم عند استيقاظه، أم ظهرت نتائجه المعرفية والتنظيمية تؤكد كفاءة أدائه لهذا النشاط المنتظم المعاود، كجزء من الإيقاع الحيوى الشامل.
يستتبع ذلك إعادة النظر فى مستويات الحلم من أعمق حركية التنشيط البيولوجى الإيقاعى الراتب، حتى التقاط بعض آثار هذا التنشيط من معلومات هى مادة صياغة الحلم المحكى قبيل اليقظة (هذا إذا حكاه الحالم أصلا)، وما بين هذا وذاك تقع مستويات وسطى من التنشيط العشوائى غير المعلن إلى إعادة التنظيم الإبداعى، مع احتمال تزييف بديلٍ بخيالٍ مصنوع، يحل محل إبداعية الحلم.
كما تتناول المداخلة مقارنة قياسية بين مراحل إبداع الحلم، ومراحل إبداع الشعر خاصة، مع إشارة للإبداع القصصى (والروائى)، كذلك تمتد المقارنة لموازاة قراءة الحلم بالنقد الإبداعى، بدلا من تفسيره الملتزم بقواعد من خارجه. تماما مثل التذكرة برفض محاولة تقييم النص الأدبى بعـلْـمَنَةٍ نقدية تقيسه بمقاييس جامدة، مهما بدت مُحْكمة.
تنتهى المداخلة بتفضيل التزام النقد الأدبى بقراءة النص إبداعاً، لتكون الاجتهادات التى يقال عنها إنها أكثر “علمية ومنهجية” بمثابة الاجتهادات النقدية المساعدة، وليست بديلا عن إعادة إبداع النص نقدا خلاقا.
حركية الإبداع الذاتى ونوابيته:
منطلق الدراسة
هذه الدراسة هى من منطلق شخصى خبراتى (*)أساسا،
(*)- “شخصى” بالمعنى الفينومينولوجى، وليس الذاتى بمعنى “الشخصنة Personification، وهو يشمل أن تقل جرعة الذاتية الإسقاطية، لحساب استيعاب الموضوع فى وحدة “الذات لموضوع الكلية”، التى تفرز الخبرة بمقدار نجاحها فى التخلص من الشخصنة والإسقاط.
حيث تتحدد أبعاد هذا المنطلق من ممارستى لفن اللأم Art of Healing أو ما أسميته “فن المواكبة العلاجية” (3) ومن محاولاتى الإبداعية المتواضعة فى مجالات القص، وقرض الشعر، والتنظير فى علم السيكوباثولوجي، ومن موقفى بوصفى إنسانا “يحلم”، ويتعلم، ويقرأ النصوص الأدبية ناقدا بقدر ما يقرأ النصوص البشرية فى تعريها وتحديها فيما يسمى: الممارسة الإكلينيكية توصيفا وعلاجا.
الإيقاعية الحيوية
أشير فى عجالة إلى المنطلق النيوروبيولوجى (*) الذى أتناول من خلاله ظاهرتىْ: الحلم والإبداع معا.
(*)- أعنى بكلمة “بيولوجي” طوال هذه الدراسة، المعنى الأشمل للكلمة، وهو “علم الحياة ”، بادئا بما هو دون الجزيئى، شاملا التفاعل البيوكيميائى، حتى الوجود الواعى فى حالة الظاهرة البشرية – مارا بمختلف أشكال وتجليات السلوك ـ وعلى هذا فلابد من الانتباه إلى رفض قصر استعمال كلمة “بيولوجى” على المعنى الضيق الذى شاع بسوء الاستعمال بوصفها تـعنى ما هو كيميائى أو فسيولوجى. إن هذا المعنى الشامل لكلمة بيولوجى، هو الذى استعملته فى أغلب كتاباتى، ويبدو هذا التحديد ضروريا وبخاصة فيما يتعلق بما أسميته فيما بعد، هنا فى هذه الدراسة، “الواقعية البيولوجية”. إن جاك لاكان وهو يرفض بحدة ما هو بيولوجى عاد يعلن أو يقترح أنه ينتمى إلى ما أسماه البيولوجيا غير البيولوجية Non-biological Biology ، كما أن ميلانى كلاين (ممثلة للمدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى)، رفضت بيولوجية سيجموند فرويد بما تشير إليه من أولوية الغرائز ودفعها، لتُحل محلها “العلاقة بالموضوع” كأساس للنمو وفهم المسيرة البشرية فى السواء والمرض. إن مفهوم البيولوجى فى هذه الدراسة وكما يتبناه الكاتب هو مفهوم تطورى نوعا وأفرادا.
1- تمثل ظاهرة تناغم الإيقاع الحيوى (*) امتدادا على متدرج يبدأ مما هو قبل الجزئ إلى الكون الأعظم.
(*)- الإيقاع الحيوى Biorhythm الذى هو محور هذه الدراسة هو كل عمليات التوازن الحيوى المتكرر فى إيقاع منتظم لا يتوقف، مع اختلاف وحدة الزمن : حيث تتراوح من الميكروثانية فى تفاعلات الكيمياء الحيوية، إلى الملليثانية فى نشاط الإطلاق Firing النيورونى المنتظم، إلى الثانية الكاملة فى دورة القلب، إلى تسعين دقيقة فى نشاط النوم النقيضي- الحالم- إلى الدورة الليلنهارية / اليوماوية /السركادية Circadian، يوما كاملا: نهارا وليلا واحدا، إلى دورات النمو المتعاقبة فى= = حياة الفرد Macrogeny، إلى جماع دورات النمو الفردى Ontogeny إلى الطفرة فى تاريخ النوع كله Phylogeny.
إن الإيقاعية الحيوية Biorhythm هى دورية منتظمة ـ بالنسبة لنشاط المخ بالذات (الذى كان يبدو قبل ذلك: إما كمشتبك توصيلات، أو مخزن معلومات) وذلك من أول الإطلاق النيورونى الدورى Periodical Neuronal Firing إلى الجهد الفاعل Action Potential لمحور الخلية العصبية المفردة، إلى محصلة النشاط الكهربى للمخ ككل. وقد أوردت كل هذه التفاصيل لأن هذا البعد الإيقاعى الحيوى هو المحور الأساسى الذى تدور حوله الدراسة، وهو المحور الذى بنى عليه الكاتب نظريته المسماة “النظرية التطورية الإيقاعية Evolutionary Rhythmic Theory لتفسير السلوك البشرى فى وحدة سيكوبيولوجية متصلة- فى الصحة والمرض.
2 – تقع الظاهرة البشرية فى موقع متوسط على هذا المتدرج الإيقاعى الحيوى، حيث تعد ظاهرة البشرية ظاهرة حيوية نابضة، تمثل كونا أصغر متداخلا فيما هو أعظم من أكوان، حاويا لما هو أصغر فـأصغر.
3 – كل ذلك متضَّـمن فى دورات هيراركية – متناغمة التناوب والدوائر- ديالكتيكية الحركة، من خلال الإيقاع الحيوى الدورى على كل المستويات.
4- يستتبع ذلك أن يظل التركيب البشرى فى حالة حركية متناوبة، تشمل فى أحد أطوارها تفكيكا، يهدف إلى إعادة التنيسق والولاف على مستوى أعلى، مستعملا فى ذلك المتاح من المعلومات الموروثة والمكتسبة(*)، فى تصعيد تدريجى متناوب من خلال دورات الاستيعاب والبسط.
(*)- حتى المعلومات الموروثة من الأسرة أو من النوع- هى قابلة للتعتعتة والتحريك; فمزيد من التمثيل، وأعنى بالتمثيل مايقابل العملية الحيوية التى تقلب العناصر الأولية البسيطة إلى التركيب العضوى الحى المركب لتصبح جزءا لا يتجزأ منه، وهو ما يقابل الأيض البنائى Metabolism، وبالنسبة للمعلومة فى المخ فإن هذا الفرض المتضـمن فى النظرية السالفة الذكر يعامِـل المعلومة مبدئيا كجسم غريب مُـدخل، ثم يأخذ الإنسان فى هضم وتمثيل هذا الجسم/المعلومة ـ مع كل نبضة حيوية، على كل المستويات لتواصل النمو، وتغـير النوع معا . إن هذا البعد له علاقة بالأنماط الأولية Archetypes عند يونج Jung، كما أن له علاقة بظاهرة “البصم” Imprinting. عند لورنز وتينبرحن بوجه خاص (أنظر بعد)
5- يتجلى بعض نتاج ذلك فى نوع الإبداع الذى يظهر فى صوره المختلفة، والذى يصنف فى النهاية بحسب اللغة المستعملة (الأدوات – والأبجدية)، أو النتاج الظاهر، أو كليهما، أو لا يصنف أصلا.
ويظهر الإبداع بالمعنى الأشمل والأعمق فى صورة متنامية ومتعددة.
أ- فهو يشمل مفهوم “النمو” المتصل فى دوراته الإيجابية على المستوى الفردى، حيث يعاد تخليق الإنسان على مسار النمو فى كل أزمة إبداع بلا انقطاع.
ب – كما يمثل الحلم إبداعا بيولوجيا آخر على مستوى الدورة الليلنهارية (اليوماوية).
جـ- وأخيرا، فإن الناتج الإبداعى (وأحد صوره الإبداع الأدبي) هو الصورة المتاحة لعطاء هذه العملية الحيوية، وهو الصورة التى تتجلى بالأدوات والمهارات الممكنة: على مستوى فائق من الوعى والإرادة.
أرجو ألا ينزعج القارئ من فرط هذا الإيجاز المبدئى، أو من إقحام كلمات مثل المخ والإيقاع الحيوى، فى حديث عن النقد والإبداع، ذلك أن المخ بأعقد ماوصل إليه تركيبيا ووظيفيا هو الممثل الأول للوجود البشرى ـ و إن كان ليس الأوحد، بعد أن استعاد الجسد دوره المحورى فى الإسهام فى المعرفة، ومن ثم جدل الإبداع. وحدة “المخ / الجسد”(*)
(*)- هذا الاصطلاح “المخ/الجسد” هو تحديث أدخل بدلا من التركيز على ” المخ” فى صورة الفرض الأولى وإن كان استعمال لفظ المخ سيغلب حتما إلا أنه سوف يعنى دائما هذه الوحدة المشتملة “المخ/الجسد”، تأكيدا لما كشف عنه العلم المعرفى الأحدث لدور الجسد فى التفكير والإبداع!، حتى أننى صرت أتحدث عن الجسد باعتباره وعى متعين قبل وبعد كزنه عضلات وأعضاء
هذه الوحدة هى بمثابة “الوجود الجامع” فى كل نتاج إبداعى، سواء كان استمرارا فى نمو خلاق، أم حلما معززا يعيد التشكيل، أم جنونا مقتحما فاشلا (إبداعا مجهضا)، أم إضافة خلاقة أصيلة متميزة (الناتج التشكيلى الإبداعى بكافة تجلياته) .
تتبين مشروعية هذا المدخل من خلال التأكيد على أن بداية هذه المداخلة هى “الحلم”.
التحدى الملقى فى وجوهنا هو التوفيق بين معطيات معامل الأحلام الأحدث (والمبنية أساسا على تسجيل إيقاع المخ الكهربى أثناء النوم)، وبين الحلم بوصفه ظاهرة نفسية (معرفية/إبداعية)، لها لغتها الخاصة، شغلت الناس والنفسيين عبر التاريخ بمحتواها ودلالاتها.
يتناول المخ معلوماته (محتواه/تركيبه/ذواته…إلخ) بطرق متعددة لامجال لتفصيلها هنا. وسأكتفى بالإشارة إلى تنظيم نشاط الحلم من جانب، ونشاط الإبداع من جانب آخر، وهما محور هذا التناول الحالى:
الحلم هو نشاط مناوِبْ تنظيمى غائى(*) “لمستوى آخر” من الوعى البشرى.
(*)- غائية الحلم تعنى هنا أنه ليس عشوائيا مطلقا، كما أنه ليس أساسا “تحقيق رغبة” كما شاع عن فرويد خطأ وصوابا، وإنما أعنى بالغائية هنا تحقيق برمجة تنظيمية مُكَمـِّلة لغائية اليقظة فى تجليات الوجود.
الحلم يحاول بانتظام إيقاعى أن يحكم التناغم، ويعزز التعلم، فى حالة من وعى نشط – متبادِل- آخر(*).
(*) – أستعمل كلمة الوعى هنا ـ مبدئيا ـ بمعنى تركيبى محدد; فهى تعنى أية: “منظومة بنيوية ، متناغمة فى مستوى بذاته، (يمك أن يسمى مخا أو عقلا آخر) تصبغ كل نشاط المخ وحركية محتوياته بصبغتها وقوانينها على كل المستويات ، كل فى موقعه من تطور ودورات النشاط، وتبادل التنظيم”، وعلى ذلك فكلمة الوعى هنا لا تشير بالضرورة إلى إدراك معرفى أو حسى فى حالة اليقظة، فثمّ “وعى النوم” و “وعى الحلم” و”وعى اليقظة” وأى مستوى تطورى كامن ومتبادل. من هذا المنطلق أنبه إلى رفضى للاستعمال الشائع لكلمات مثل اللاوعى، واللاشعور (4) هذا وقد تطور عندى مفهوم الوعى بعد ذلك حتى عدلت عن الاكتفاء بأن يكون الوعى بمثابة وساد للوظائف الأخرى، ذلك أنه ليس أرضية لمحتوى غيره، بقدر ماهو هو متداخل فاعل طول الوقت على مستويات متعددة متداخلة ومتبادلة ومتجالة معا.
الإبداع يقوم بالمحاولة نفسها، إلا أنه ليس دوريا بالضرورة، كما أنه يتم بقصد إرادى نسبى بشكل ما، وهو يتم فى حالة “وعى فائق” (جدلىّ مشتمل، لا وعى عادى، ولا وعى بديل).
الحلم – أساسا – ”بسط” (*) دورى مناوب، والإبداع – أساسا – بسط إرادى ولافى.
(*)– ستتكرر كلمة “بسط” “Unfolding” طوال هذه الدراسة، لذلك يلزم أن يتضح معناها وتتبين استعمالاتها بشكل كاف ومحدد منذ البداية، حيث أعنى بها “الطور النشط”ُ فى الدورة الإيقاعية الحيوية لحركية المخ، وهو الطور الذى تُـَقـلْـقَـل فيه المعلومات المدخلة والسابقة التى لم يكتمل تمثيلها بوجه خاص، وذلك بغية استكمال تنظيمها وتناغمها واستقرارها حتى المواءمة الولافية والتمثيل”. إن نشاط المخ يتراوح بين طورين (آخذين حركة القلب كنموذج قياسى): طور التمدد Diastole، حيث تكون العملية التحصيلية هى الغالبة (وهو مايقابل طور ملء عضلة القلب بالدم) ثم طور الاندفاعية Systole، وهو مايقابل انقباض عضلة القلب لدفع محتوى القلب إلى الدورة الدموية فى سائر أنحاء الجسد. (تعبير “ما يقابل” لا يعنى مثل) لكننا إذا قبلنا مضطرين فكرة التمدد مجازيا فى نوابية المخ ، فإن كلمة الاندفاعية لاتصلح حتى أن تكون مجازا. لذلك سوف نستعمل هنا كلمة بسط Unfolding، لتفيد التنشيط الدورى، وفى الوقت نفسه تفيد فكرة “الاستعادة”، بمعنى أن يستعيد نشاطٌ ما أطواره السابقة بالترتيب نفسه، ليضيف إليها ما لم يكتمل= = فى الطور الحالى بولاف جديد، وهو ما كان الطور السابق يعده به (تطوريا) . إن هذا هو ما يقول به، ما سمى بالقانون الحيوي Biogenic Law،(نظرية الاستعادة Recapitulation Theory) من حيث إن الأنتونجينيا (تاريخ تطور الفرد) تعيد أطوار الفيلوجينيا (تاريخ تطور النوع)، ثم التطبيقات القياسية اللاحقة على وحدات أصغر فأصغر، (الماكروجينيا – الميكروجينيا)، وفى المرض تجرى الاستعادة أيضا ولكنها تتحول إلى نبضة مجهضة أو متفجرة.
أما الجنون (النشط) (*) فهو – أساسا- بـسـط قهرى مقتحِم.
(*)– يستعمل لفظ “الجنون” عند معظم الذين يكتبون فى النقد أو الإبداع استعمالا فضفاضا لا يجوز، وخاصة بعد تعدد تصنيفات الذهان (الجنون Psychosis) إلى عشرات الأنواع، لذلك أحدد من ناحيتى أن الجنون العضوى التشريحى المباشر مستبعد فى هذه الدراسة (مثل الخرف أو الجنون الناتج عن أورام فى الدماغ..إلخ). إن ما أعتبره الجنون الأم أو الجنون الأصل (إن صح هذا التعبير) الذى يرد فى هذا الفصل، وفى كل الفصول هو الفصام بكل مراحله، وبالذات فى شكله التفسخى Disorganized وأحيانا التدهورى Deteriorated مضافا إليه – أحيانا– بعض أنواع الجنون الأخرى التى ليست سوى محاولة بديلة للحيلولة دون التمادى فى التفسخ والتدهور بأشكال أقل إمراضية (وإن كانت أخطر أحيانا) من العملية الفصامية (5)تحديد الجنون فى هذا السياق الحالى بأنه “الجنون النشط” يشير إلى نوع الجنون ذى الأعراض الإيجابية مثل: الهلاوس والضلالات والتفسخ النشط، والهياج، فى مقابل الجنون المندمل أو السلبى الذى هو أقرب إلى الانسحاب والهمود والتبلد والتخثر، أو لتقريب الأمر للقارئ: فإن الجنون النشط هو أقرب إلى مرحلة إضرام الحريق، أما الجنون المندمل فهو أقرب إلى الرماد المتخلف بعد الحريق ، كما أن العملية الذاهانية المؤدية إلى التفسخ الفصامى هى المراد بها الجنون أساسا، وهى العملية التى تصل فى نهايتها الأخطر إلى نوع من التدهور السلبى الذهانى أيضا، لكنه أبعد ما يكون عما يراد به حين نستعمل لفظ الجنون فى هذه الدراسة بوجه خاص.
الحلم: إبداع الشخص العادى
يتواتر الحديث عن الحلم، فى سياق النقد، بشكل وصل إلى أن يطلق اسم: “الأدب الحلم” (*) على بعض أشكال الأدب.
(*)– أنظر مثلا: يحيى عبدالدايم: “تيار الوعى والرواية العربية المعاصرة” ص 158، المجلد الثانى، العدد الثانى 1982 “مجلة فصول”، ثم انظر تعبير أدونيس “إنه يرفع الواقع إلى مستوى الحلم”، أو “فالأحداث التى تجرى فى هذا المسرح تشبه الأحداث التى تجرى فى الحلم”، ” وهى لذلك كأحداث الحلم” ثم “بل هو الحلم”، “الحلم هو ذلك الزمن الآخر الذى يختلف عن الزمن ” “أدونيس زمن الشعر”، دار العودة، 1979.
ومؤخرا (2005) يمثل ما يصدره نجيب محفوظ تباعا بعنوان “أحلام فترة النقاهة” نقلة مركزة متواصلة تسمح بتناول هذه الظاهرة بشكل تفصيلى، وبرغم أن نجيب محفوظ لجأ إلى هذا الشكل مضطرا (مع الاعتراف بأن إرهاصاته ظهرت فى أعمال سبقت، وخاصة أصداء السيرة الذاتية)، إلى أن طبيعة هذا الإبداع الأخير تؤيد الأطروحة الحالية بشكل يكاد مباشرا ، برغم أن معالمها (معالم الأطروحة) قد ظهرت فى إنتاج محفوظ قبل عقدين على الاقل من توالى صدور أحلام فترة النقاهة، وقد قمت بدراسة نقدية للأصداء (6) ، ثم لأحلام فترة النقاهة (7)
وقد بلغت الثقة بمن يستعملون هذا التشبيه درجة توحى – بشكل ما- بأن المشبه به (الحلم) هو ظاهرة واضحة المعالم، تسمح بهذا القياس، وتبرر تأصيل حضور الحلم وعيا تركيبيا غائيا يحتمل التأويل المباشر بشكل يحتاج إلى مناقشة.
[1] – يحيى الرخاوى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”[جدلية الحلم والشعر والجنون] المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2007- القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – نشرت فى صورتها الأولى فى مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها.
[3] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (ص 698- 702، 788-790، 783-784) – دار الغد للثقافة والنشر (1979) – القاهرة.
[4] – أنظر كتاب “دليل الطالب الذكى فى: علم النفس: انطلاقا من قصر العينى” منشورات جمعية الطبنفسى التطورى 2018 – القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[5] – أنظر هامش رقم (3)
[6] – يحيى الرخاوى ” أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ ) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى الطبعة الثانية 2018
[7] – يحيى الرخاوى “عن طبيعة الحلم والابداع أحلام فترة النقاهة” الناشر دار الشروق 2011