القاهرة في: 23-3-2019
مجلة الاهرام العربى
صفحة “حياة الناس”
مازلت في حاجة إليها
إن الأم ليس لها تعريف آخر، هى صفة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى أن توصف بالحنان، أو بالحب، أو بالدفء، أو غير ذلك، ويرفض أغانى الأم، لشعوره أن الأم لا تحتاج لكل هذه الأغانى والألفاظ لنتعرف على دورها أو نـُقـِرّ بفضلها.
كانت وثيقة الصداقة مع الخادمات اللاتى لم يكـّن يقل عددهن عن ثلاثة فى أغلب الأوقات، كما كانت تفضل أن تأكل معهن.
ويروى كيف كانت تصر على معرفة موعد بدء امتحاناته وإخوته. بالتحديد حتى تنطلق الدعوات والتسبيح والابتهالات فى نفس وقت، كأنها تطلق صاروخ أرض جو، بتحديد شديد الانضباط، حتى تصوّر أن استجابة دعواتها لا بد أن تكون مبرمجة حتى تصل وتُسجّلُ فى الوقت المحدد لا قبله ولا بعده،
وكان يلاحظ تكرار سؤالها عن الساعة، وأحيانا تسأله: “هل يتفق موعد بداية الامتحان مع موعد توزيع الأسئلة؟ وكأن الدعوات التمهيدية شىء، والدعوات التنفيذية شىء آخر، وقد ظلت هذه الطقوس تتطور حتى صدّق أنها من أهم المتغيرات المسئولة عن نجاحه وإخوته أو العكس.
كان شعور غريب انتابنى بعد سماع نبأ رحيلها كان عمرى قد تعدى الخمسين عاماً، هذا الشعور بالضبط، ليس حزنا فحسب، كلها أحاسيس مختلفة تملأ قلبى وكيانى بالشجن، وظل يراودنى مزيج من المشاعر، استمرت معى تطاردنى العديد من التساؤلات الغامضة المحيرة: ما معنى أنها ذهبا وأنا ما زلت في حاجة للتعرف إيها أكثر؟ ألم تكفينى خمسون عاما لأعرف أمى؟ صورتُ لى قراءاتى أن على الأم أن تكون لتسمح لنا أن نكون، لم أكن بعد قد تجاوزت هدف الكينونة الذاتية (أكون أو لا أكون) إلى حتم الصيرورة، لم أكتشف إلا أخيرا أن كل ما على الأم أن تكونه، هو أن تكون أما لا أكثر ولا أقل، تكون “أمَّا” بغض النظر عما هي لذاتها بذاتها”.
“اكتشفت أنها ذهبت وأنا اقترب من الستين، وما زلت في أمس الحاجة للتعرف عليها”.
أ.د. يحيى الرخاوى
استشارى الطب النفسى