نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 23-1-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4162
الأربعاء الحر:
نبذة: قراءة نقدية لفكرة “البطل” تاريخا وسيرة دوراً مع إشارة إلى مفهوم “الأسطورة الذاتية”(1)، وأن كل فرد – دون استثناء – هو مشروع بطل بوعى أو بدون وعى، وأن فكرة البطل (والبطولة) ليست قاصرة على بعض المتميزيين والقادة وأن الإنسان الفرد يخلق ذاته باستمرار، لا يستلمها جاهزة، ولا يقرها ساكنة، وأن البطولة الحقيقية هى فى الحفاظ على زخم هذا الإيقاع المتجدد لتخليق الذات، ثم إنه بعد فتح آفاق المعرفة للجميع بكل الوسائل تراجعت الحاجة اللحوح لتخليق بطل بين الحين والحين نعتمد عليه وننساق وراءه.
من تقديس البطل إلى تخليق الذات (2 من 2)
التعرية:
تعرت صورة البطل تاريخا حين اكتشفنا أكثر وأكثر أن البطولة فى عدد غير قليل من الحالات تقيم بعدد القتلى (الذين يقتلهم البطل)، أو عدد النساء اللائى يسبيهن (أو يتزوجهم،)، البطل، أو عدد (وحجم) المفاجآت التى يـبهــر بها البطل تابعيه، أو مساحة الأراضى التى يغتصبها البطل (أو يغير عليها)، أو عدد الأكاذيب التى يروجها البطل (أو يروجونها عنه)، أو عدد الحيل التى يحذقها البطل، أو عدد البلهاء الذين ينخدعون فى البطل، أو عدد الوعود المؤجلة التى يلوح بها البطل، أو كل ذلك أو غير ذلك.
على الجانب الآخر انكشف البطل المعاصر حين عجز عن القيام بإشباع تلك الاحتياجات المسئولة عن تصنيعه وتقديسه والحفاظ عليه، أضف إلى ذلك حقيقة أنه لم تعد مرحلة الإنسان الحالية تسمح بتفريخ أبطال قادرين على استيعاب حاجتنا إليهم بالصورة التى تحققت عبر التاريخ وسجلت أساسا فى الملاحم والاساطير.
.. شعارات ومهارب
لما وصل الأمر إلى هذا التعرى والموضعة قفزت إلى السطح عدة محاولات :بعضها أقرب إلى الهرب، وبعضها يلوح كبديل، وبعضها يعد بحل ما: أول هذه المهارب كان الإنكار المباشر الذى عادة ما يعلن من جانب البطل نفسه فى صورة شعار يطلقه البطل وهو يعلن (فى زهو متواضع!!) أنه ” ليس بطلا ولا حاجة !!” يريد أن يقنعنا أنه مثله مثل عامة الناس جدا، فيبدو ذلك أقرب إلى النكتة، خاصة حين يصدقه الناس أو يزعمون ذلك،. كذلك كثيرا ما تعلو الأصوات زاعقة (خصوصا لإخفاء الهزائم !!) أن “الشعب هو البطل” ليتم الإخفاء بالتجريد والتمويه.لا أحد يعرف شخصا اسمه “الشعب” لينصبه بطلا يعتمد عليه، ولا الشعب نفسه “عنده فكرة”.
كذلك نلاحظ كيف يتصاعد الحديث بين الحين والحين (مثل هذا المقال ) أنه لم تعد بنا حاجة إلى البطل أصلا، ذلك لأن “الفرد العادي” هو الجدير بلقب البطل دون منازع !!فيتحقق بذلك نفس الخداع والتمويه.
ومن ذلك أيضا تلك الإعلانات (الشعارات) التى تختصر آلام حياتنا بكل مشاكلها إلى زعم وثقانى سحرى يلوحون به أنه الحل، مثل أن “الإسلام هو الحل” أو “التنوير هو الحل” أو “الديمقراطية هى الحل” أو “العلم هو الحل” أو “المعلومات هى الحل” هذه الكلمات السحرية أصبحت تقوم مقام البطل إذ نسقط عليها-أيضا-ما نعجز عن تحقيقه على مسار تطورنا الذاتي.
بدائل أحد أيضا: بعد أن انكشف دور البطل بهذه الصورة التى تكاد تعلن انتهاء (أو قرب انتهاء) عمره الافتراضي، ومع عجز الشعارات والمهارب والحيل عن طمس حاجتنا إلى تصنيع أبطال ينوبون عنا فى تحقيق أسطورتنا الذاتية، ظهرت بدائل جديدة لاتدعى البطولة بشكل مباشر، لكنها تقوم بدورها المعدل إذ نتوجها بتاج البطولة باستعمال الجديد من الألعاب والحيل الأحدث. من ذلك أن نختلق بطلا آليا أو تقنيا أو حتى رمزيا فى صورة تقديس ما يسمى المعلومات، أو الروبوتات الأحدث فالأحدث.
وبعد هذه المهارب جميعا تبدو وكأنها نقلة نوعية تحاول أن تعلن الاستغناء عن تخليق البطل خارجنا، وأن الدور الذى كان يمكن أن يؤديه البطل قد انتهى باعتبار أن الإنسان المعاصر قادر على أن يسير أموره دون بطل أو بطولة. هذا غير صحيح طالما أننا لم نهيئ له بعد فرص اعتمادية أخري، وخلود آخر، ومسار أخر لتخليق أسطورته الذاتية (أنظر بعد)
من الجلى أن عمر هذه البدائل قصير لأن أى وهم مصنوع أو مجرد، مهما بلغت دقته أوحذقت مهارته أو لوح بوعوده، لا يمكن أن يكون بديلا مناسبا لتخليق أسطورتنا الذاتية التى تكونت عبر ملايين السنين من الحوار والتفاعل والجدل الذى مارسته الأحياء طول الوقت مع المحيط والكون بكل مستوياته، ثم توجهه الإنسان بوعيه وعقله وإبداعه.
تحقيق الذات أم تخليقها إبداعا ممتدا؟
اقترن زعمنا بانتهاء دور البطل بحلمنا ومحاولتنا أيضا أن نؤكد ما يسمى “تحقيق الذات”. شاع هذا المفهوم كأنه غاية المراد نتيجة للإعلاء من قيمة “الحرية الفردية” على مستوى الوعى والسلوك الظاهري، فكانت النتيجة هى تعميق الاختلافات الفردية بشكل مستعرض، على حساب إبداع ما هو ذات تتخلق باستمرار مع ذات وذوات أخرى فأخري: إبداعا وتطورا.
إن التركيز على ترسيخ الحدود الفردية تأكيدا لتحقيق الذات يكاد يفترض أن لكل منا ذاتا قائمة، ما عليه إلا أن يؤكدها ليحدد معالمها أكثر فأكثر من خلال ممارسة حقوق مكتوبة. غلب هذا الاتجاه خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات تقريبا حين بدأت المراجعات تتمادى (مع أنها لم تكن جديدة تماما) بدءا من كارل جوستاف يونج وصولا إلى سيلفانو أريتى ثم امتدادا إلى مدارس عبر الشخصية فى علم النفس والطب النفس فإتضح أن ما يسمى تحقيق الذات ليس إلا مرحلة متواضعة مؤقتة على مسار أطول وأعمق يؤكد حيوية الجدل الحيوى والنبض الحيوى . ثم راح يتأكد أكثر فأكثر أن الذات لا تتحقق إلا لتمتد، ولا تتحدد معالمها إلا لتعيد النظر فى هذه الحدود وتلك المعالم دورة نمائية بعد دورة، وإبداعا نابضا بعد إبداع ،انطلاقا من “مشروع وجود” كل منا وهو ما أطلقت عليه اسما استعرته من “جوزيف كامبل” وهو “الاسطورة الذاتية”.
الخلاصة:
إن البطل يتخلق ويتنامى ثم يقدس ليخلد، بقدر عجزنا عن تخليق أنفسنا، بإبداع مفتوح النهاية، انطلاقا من أسطورتنا الذاتية، وكلما زادت فرص تخليق أسطورتنا لنكونها فى جدل متنام (بالإبداع والتصوف والإيمان واستمرار النمو الذاتي) تراجعت حاجتنا إلى تخليق أسطورة البطل خارجنا إسقاطا فتقديسا.
مسار النمو من الأسطورة الذاتية إلى إبداع الذات المتجدد
لا يمكن فى حدود هذه المقدمة إلا أن نكتفى بالإشارة إلى الخطوط العريضة لتلك الفروض التى نرجو من خلالها أن نفسر تراجع دور البطل من ناحية، مع زيادة فرص الإبداع لتخليق ذواتنا باستمرار من ناحية أخري:
أولا: يحمل كل منا تاريخ الحياة برمتها منذ ملايين السنين
ثانيا: تتوج هذا التاريخ بتطور الإنسان نوعا واعيا له عقل، ووعي، وحرية (بدرجة ما)
ثالثا: استوعب الإبداع المحكى والمسجل فى الأسطورة التاريخيه بشكل خاص، بعض معالم هذا التاريخ الذى ظهر فى شكل الملاحم والعقائد وغيرها
رابعا: تطورت الأساطير بالذات بما احتوت من زخم البطولات لتعلن بعض هذا التاريخ خارجنا وعلينا أن نتعامل معها كمرحلة لا أكثر حتى لا تحل محل حركية وإبداع أسطورتنا الذاتيه حالا.
خامسا: ظل كل واحد-برغم ذلك وبسببه-يحمل أسطورته الذاتية كامنة وواعدة، ثم متخلقة فى جدل دائم مع الواقع ونبض الكون
سادسا: زادت أدوات المعرفة وفرص الإبداع وتقنيات التواصل حتى صار الإنسان أقدر على مواصلة تخليق أسطورته المتنامية أبدا
سابعا: نتيجة لذلك تراجعت حاجة الانسان لتخليق أبطال خارجه يسقط عليهم ما عجز عن تحقيقه بنفسه كيانا متطورا ناميا متصوفا مؤمنا مبدعا جميلا.
خاتمة
وأنا أنهى المقال تذكرت ما أستلهمته يوما من أحد أصدقائى (المجانين) أثبته فى كتابى “حكمة المجانين” قائلا “لسنا فى حاجة إلى دين جديد لكننا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء” كان ذلك سنة 1979 أستطيع أن أعدل الرقم الأن إلى ما هو أكثر من ذلك هذا بعض ما استنتجه أيضا محمد اقبال تفسيراً لختم النبوه بمحمد عليه الصلاة والسلام.
****
بعض المراجع
– جوزيف كامبل (سلطان الأسطورة) المشروع القومى للترجمة ترجمة بدر الديب- المجلس الأعلى للثقافة – 2002
– دانييل دنيش (تطور العقول) ترجمة مصطفى فهمى المكتبة الاكاديمية 2003.
– يحيى الرخاوى (جدلية الجنون والإبداع) فصول 1986.
– يحيى الرخاوى (الايقاع الحيوى ونبض الإبداع) فصول 1985.
– يحيى الرخاوى (حكمة المجانين) القاهرة – 1979.
– Anthony Storr: “Jung” Wm. Collins Sons & Co. Ltd، 1974.
- Silvano Arietiy “Creativity” The Majc Synthesis Library of Congress Cataloging in Publication Data 1976.
[1] – نشرت فى مجلة سطور- عدد مارس 2003، يستحسن الرجوع إلى الجزء الأول الذى نشر الأربعاء الماضى.