“يوميا” الإنسان والتطور
5-11-2007
حالات وأحوال (عن الفصام..)
إن لم ننجح مع عصام، فلننجح مع أنفسنا!
بعض أحوال: حالة عصام، الجزء الثالث
(؟؟؟:وليس فقط : حالة فصام)
انتهى الجزء الثانى كما يلى:
- تشوهت الفطرة، على أنقاض القشرة، وظهر الفصام.
شرحنا فى ذلك الجزء، فى استطراد طال منا، هذين اللفظين اللذين قفزا إلى السطح (القشرة، والفطرة) ربما ليحلا محل الشعور واللاشعور، والوعى واللاوعى، والظاهر والباطن، ولست متأكدا إن كان هذا الاستطراد قد أوضح المقصود أم زاده غموضا،
نرجع الآن إلى أحوال عصام[1]
حين سئل عصام عن شكواه قال ثلاثة جمل متلاحقة دون فاصل (ذكرناها فى الحلقة الأولى وسوف نكررها هنا على الوجه التالى):
(1) “…كنت فى ثانية ثانوى سنة 1988 ما كنتش مذاكر كويس وربنا عدّاها “وانا اعتبرته وحى” … إلى أن قال:
“الوحى ده كان قوة دامغة إنى أعمل حاجات كتير” ليه؟ لأن ده مين يقول كلام فى نافوخك غير ربنا
(2) وفى أجازة تانية ثانوى كان حفل بتاع أختى ، بابا كلفنى ..
إلى آخر ما ذكرنا من حادث صفع أبيه له إلى أن قال (الجزءالأول)
“أنا ما فهمتش بابا ضربنى ليه”
ثم قال:
(3) وبعدين استمر الوحى فى قلبى أسمعه بقلبى ، إللى يقوله أنفذه
الفاصل بين الأحداث التى شملتها هذه الجمل المتلاحقة فى “شكوى عصام” هو فاصل زمنى واضح،
فما بين توفيقه غير المتوقع فى الامتحان (الدرجات النهائية فى الرياضة) وبين حادث الصفع مضى شهر أو أكثر، كما أن الفاصل الزمنى بين حادث الصفع وظهور الأعراض الذهانية الخطيرة (الفصام) كان أكثر من سنة،
لكن عصام ذكر هذه الأحداث وراء بعضها وكأنها حدثت متلاحقة تماما الواحد وراء الآخر،
وقد بيَّنا معنى ذلك فى الحلقة الأولى أساساً لكنه يحتاج إلى تذكرة للتأكيد على دلالته. هذا الربط ما بين “أنا اعتبرته وحى”
وبين “أنا ما فهمتشى بابا ضربنى ليه”
ثم بين ظهور الأعراض الجسيمة، حين انقلب الوحى الذى أنجحه إلى وحى يقول له
“قلّد صوت الديك، فيقلده .. ثم يستنتج أن
“ده معناه حان وقت الانتصار”
كل هذا هو بمثابة إعلان على ما تم بالمرض من إعادة تشكيل الذوات فى هذا التركيب المرضى الذى وإن بدا عشوائيا إلا أننا سنجتهد فى قراءته كالتالى:
عودة إلى الفرض الذى جاء فى الحلقة الأولى بألفاظ أخرى:
1) إن فطرة عصام (حركَيّةِ كليّتِه دون استثناء القشرة : انظر الحلقة الثانية) كانت يَقِظَةْ ومتماسكة ونشطة حتى لحظة الصفع (وكانت تنمو، وتفوّت لوالده، بل وتستعمله -تستعمل الوالد- أحياناً)
2) إن قشرة عصام (ظاهر سلوكه وإنجازه مع ربط متواضع بالفطرة) كانت جافة ومطيعة ومغتربة حتى لحظة الصفع (وكانت تنجح، وتستر عصام بما يحقق من إنجازات) وفى نفس الوقت تُرضى والده
3) كانت ثمة علاقة تَصَاُلحْ بين القشرة والفطرة تكمل حياته، وتنجحه، فتستمر مسيرته (مرة أخرى: مع التذكرة بأن الفطرة لا تكون كذلك إلا بهذه الوصلة مع القشرة: (الحلقة الثانية).
4) إن الذى أنجحه متفوقا – على عكس توقعه ورفضه دخول الامتحان – هو هذه العلاقة التصالحية بين القشرة والفطرة، مع غلبة دور الفطرة (توفيق الله)
5) عزى عصام نجاحه متفوقا للفطرة دون القشرة (تقريبا) ، وأسماه وحيا (من هنا بدأ تعظيم الفطرة منفصلة عن القشرة، بل وناكرة دور القشرة ” لأن ده مين يقول كلام فى نافوخك غير ربنا” (الفطرة النامية هى الأقرب لربنا)
6) حتى حادث الصفع لم يحدث ما يعلن أى درجة من التباعد بين القشرة والفطرة، اللهم إلا إذا أخذنا حدْس الوالد فى تفسيره لحكاية الصداع فى الابتدائى.
7) حدث حادث الصفع (الإهانة أمام غريب + عدم رؤية موقف عصام المدافع عن أبيه (الذى هو هو مَنْ صفعه) –> السحق–> انهيار صورة الوالد –> انهيارالدعم الخاص انهيار حدود الذات Loss of Ego Boundaries (وتأجيل إعلانها) حدث كل ذلك والقشرة منفصلة، وكانت قد جفت لبُعْدِهَا عن الفطرة الذى لم يكن قد أُعْلِنَ إلا لاحقا: بالمفارقة بين عزوفه عن دخول الامتحان (القشرة) ثم توفيقه فى أدائه هذا التوفيق غير المتوقع الذى عزاه إلى الوحى (الفطرة) دون اجتهاده الشخصى (القشرة).
8) تشققت أو رقّت القشرة لكنها ظلت متماسكة على السطح لمدة عام، محتجة بما يشبه الخصام مع الوالد، ثم تزايدت العزلة، وتراجع التفوق، ثم حدثت الإعاقة فى الدراسة كلها، إذْ لم يعد شىء يغذى تماسكها، لا تصفيق الوالد ، ولا اقترابها من الفطرة، ولا التفوق الدراسى فى ذاته (لم يعد عصام “الديك الفصيح” فى الدراسة)
9) انهارت القشرة بحادث الصفع لكنها لم تتمزق تماما وفوراً،
وانسحبت الفطرة إلى ظلام غائر حتى تحولت فيه إلى بدائية محتجَّة، متفسخة، معلنة المرض العقلى الخطير
أصل المسألة فى خلفية الحالة
برغم حرصنا على عدم الربط المباشر بين ما يبدو سببا وما يظهر على أنه نتيجة إلا أننا فى هذه الحالة، ومع عدم وجود تاريخ للمرض النفسى فى الأسرة ، ومع احترام حدْس الوالد برغم خطئه وغروره وشكوكه واغترابه، نضع خلفيات للخلل الذى حدث فى تركيبةْ عصام كما يلى:
(1) يقول الوالد عن “فطام” عصام
“..أول إنسان اتظلم فى الجمهورية، ظل 21 يوم بدون أكل وشرب، يعنى حاجات بسيطة خالص، بسكوتة بتاع، لدرجة إنى قلت ده حايموت” لو طلت أبوس جزمته وياكل كنت عملتها،
وقد فوجئنا أن الوالد يربط هذه الـ 21يوماً –بعد الفطام- بتوقف عصام عن الاستذكار!! ثم يلحق الوالد -بنفس الحدْس_
لمّا بطّل يذاكر فى الثانوية العامة ربطت ده بده (ربط جوعه بعد الفطام بعدم استذكاره).
ولغرابة هذا الربط سأله الزميل كاتب المشاهدة: ربطت فطام عصام بمرضه النفسى؟ فيجيب الوالد:
“أكيد ده أحد عوامل عياه، ولكن هل الطب بيقول كده، ولا بيبتعد عن رأيى؟”
(2) ربط الوالد أيضا، بنفس الحدْس، بين “صداع الابتدائية” الذى أصاب عصام ثم اختفى وبين مرضه لاحقا (كما جاء فى الحلقة الأولى)
” العيا فى أساسه خالص إنه حصل واشتكى من دماغه ..الكلام ده كان فى الابتدائى، .. رحنا لدكتورعيون قال ما فيش حاجة، وراح الصداع، ظل الموضوع تمام التمام لحد الثانوية العامة، (بعد الحادث)، وماكانشى راضى يخش الامتحان.. لكن أنا دخلته إجبار، ونجح وجاب الدرجات النهائية فى الرياضة” وقتها أنا اطمأنيت وحسيت إن موضوع ابتدائى (الصداع!!) ده ما أثرشى عليه !!
هذا والد له وضع خاص، استطاع أن يربط بين صداع ابنه فى الابتدائى، وبين درجاته النهائية فى الرياضة فى الثانوية العامة؟
ولكن أى طبيب – أو معالج أو عالم – يمكن أن يصدق هذا الربط العجيب ؟
نحن صدقناه –تقريبا- وكان من أساسيات ما بنينا عليه فرضنا هذا الآن.
هذا الوالد هو هو الذى استطاع أن يربط بين جوع ابنه 21 يوما بعد الفطام فى سن سنة، وبين ما أصابه بعد عشرين سنة؟
يبدو أن هذا الأب له رؤية خاصة، وحدْس متميز لايمكن إغفالهما، فهو برغم تحفظه وتقليديته، واستعماله عصام ثم أخته للتجسس على بقية الإخوة إلا أنه يبدو أن عنده صفات ليست مألوفة عند الأب الجبار المألوف المتمثل فى “سى السيد” مثلا، كما أنه هو هو الذى صفع عصاما بلا داع أمام غريب فانهار لاحقا!!
هنا يجدر بنا أن نثبت وصف الأب لنفسه
“أحب الأخلاق العالية، وألتزم جدا بالشريعة الإسلامية، أصوم وأصلى، وأكره الموبقات، بس فىّ طبعى عصبى شوية ، أقدس عيالى بعد الله … “
(قارن ذلك بوصف الابن له، وأيضا وصف الأم (لزوجها) الحلقتين السابقتين)
يبدو أن جوع هذا الأب العاطفى لم يمتلئ أبدا، وأنه كان يستعمل أولاده، وخاصة عصام، لإشباع هذا الجوع بشكل ما، فلم يتواجدوا أبدا بذواتهم لذواتهم.
عودة إلى معنى الوحى عند عصام
(1) عصام استعمل كلمة “الوحى” ليفسر بها توفيقه فى حصوله على الدرجات النهائية فى الثانوية،
(2) ثم تمادى فى استقباله لهذا الوحى (المفيد فى البداية) بعد أن تعملق وتخطى الحدود فأصبح “قوة دامغة” إذْ راح يأمر بما ذكرنا ..قلد صوت الديك…الخ.
(3) ثم عاد يستعمل كلمة الوحى الناحية الأخرى بعد ظهور المرض، ثم الإفاقة المؤقتة منه حين يقول:
“لما جانى الوحى فى سنة رابعة (جامعة) إنى ما اخشش الامتحان، قلت لابويا، قال لى انشالله تأجل تلات آلاف سنة، ولا يهمك”
(لاحظ مساحة السماح عند الأب لو صدق!)
هل هو نفس الوحى؟
فى الاستعمال الأول (لكلمة الوحى) : افترضنا أن الفطرة (مثل الجسد والعواطف، والوعى على مستوياته المختلفة) تساهم فى التحصيل واعتمال المعلومات، حتى لو أنكرتها القشرة، وبالتالى هى التى أدّت الامتحان من خلال القشرة وحصلت على الدرجات النهائية.
فى الاستعمال الثانى: انفصلت الفطرة، وتعملقت البدائية، وصدرت الأوامر الذهانية (الجنون) لما تبقى من القشرة فأطاعت الأخيرة
فى الاستعمال الثالث الأخير (الأمر بعدم دخول الامتحان) يبدو أن الفطرة بعد انفصالها النسبى عن القشرة، أصبحت ترفض أن تقدم خدماتها للقشرة بعد أن تشوهت وتشققت واهتزت إثر الحادث (الصفع).
النكوص إلى البدائية
حين انهارت القشرة، بعد حادث الصفع، رقت وتشققت دون أن تفقد تماسكها، لكنها لم تتفتت إلا بعد مايقرب من سنة، وفى نفس الوقت لم تحل الفطرة محلها بل تمادت فى الانفصال عن القشرة المهتزة على وشك التمزق، لتصبح أقرب إلى البدائية كبديل ، وكاحتجاج معا، وهكذا، ظهرت دلائل تنشيط المخ البدائى
فسرت إحدى الزميلات تبول عصام بجوارالسرير باعتباره إعلاناً لعزلته، وتحديداًً لجزيرته (منطقة نفوذه)، حتى لا يتخطاها غريب، كما تفعل بعض الحيوانات وهى تحدد منطقتها بمثل ذلك، ليصبح قوة طاردة بما ينبعث منه من روائح كريهة.
علامات أخرى على مسار المرض:
كان عصام يتحسن لفترات تسمح باستمرار الدراسة، والنجاح المتقطع، وفى نفس الوقت كان المرض يتمادى:
“فى رابعة كلية بدأت أحس ان تصرفات أبويا وأمى اتغيرت، يقولوا عصام مش عصام، العلاقة ما بقتشى زى الأول، عصام كان بالنسبة لهم حاجة كبيرة، وهما كانوا بالنسبة لى حاجة كبيرة، حسيت إنهم مش أبويا وأمى، …. فكرت أسيبهم، لكن ما اقدرتش على الأكل والشرب والنوم”
هذا الإعلان عن تغير العلاقة مع الوالدين حتى الانكار (وهو أمر متواتر فى هذه الأمراض خاصة فى سن المراهقة، وحول ذلك)، هو يدل –عادة- على اكتشاف المريض مدى غياب الوصلة اللازمة لتكون الأم أمه، والأب أباه (ربما بمعنى افتقاد الدعم، والانصات، والاستجابة، والإنقاذ، والتفاهم، والرعاية..إلخ)، ومن هنا يكون التعبير “أنهم تغيروا، أو أنهم ليسوا الوالدين” هو إعلان لهذا الاكتشاف أكثر منه تقريراً للشعور بالتغير، ولم يقتصر الأمر عند عصام على إنكارهم، بل تمادى إلى شجهم دينيا، وواقعيا، حين تصوّر – أو تمنى – موتهم، ليكمل هو المسيرة بدونهم “عشان أعيش واتجوز وتستمر الحياة!”
“…. لاحظت إنى لمّا أدّن (يقيم الأذان بناء على أوامر الوحى) أبويا يخرج من الأودة لأى سبب، وأمى تقول أنا حاروح أأكل الفراخ، فعرفت إنهم جان. وكنت ساعتها أشم ريحة حاجة بتتحرق، أقول إن فيه جن بيتحرق.
حين ارتدت الفطرة إلى البدائية، وانهارت حدود الذات، اتخذت البدائية بعض اللغة الدينية (الأذان) وظيفة تبريرية أخرى، فالأذان يطرد الوالدين، ومن ثم يصبحان “جانا” يستأهلان الحرق.
وراحت تبرر السلوك بسوء التأويل الضلالى:
ثم يصل الأمر إلى الرغبة فى التخلص منهما، أو حتى إنكار وجودهما، باعتبار أن هذه هى الوسيلة التى تسمح له بانطلاقة مستقلة بشكل ما (وتستمر الحياة).
“…لذلك، أبويا وأمى لازم يموتوا ، – احتمال ماتوا- عشان أنا أعيش واتجوز، وأخلف، وتستمر الحياة”
مزيد من أدلة على فقر التواصل
يقول عصام:
“لما ابتديت أفهم ، وتصرفاتهم بدأت تتغير، عرفت أفسر الآية: بسم الله الرحمن الرحيم “يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”، يعنى لو كان فيه ودّ ، ماكانوش الناس حايتفرقوا فى الآخرة، ولا فى الأرض.
نلاحظ هنا تفسيره الخاص، الذى ينتهى إلى حقيقة بسيطة، مهمة، نفهم منها كيف أن أعراضه إنما تعلن أنه ليس هناك تواصل “ود”، وبالذات: فى محيط الأسرة، ثم يمتد تفسيره إلى الآية الكريمة ، فلا يخصها بالآخرة أو بيوم القيامة، وإنما يطلقها على “الآن أيضا” (ولا فى الأرض).
مظاهر أخرى لمدى التفسخ
وبرغم أن المريض كان يصلى بانتظام نسبى إلا أنه حين سُئل عن الصلاة قال:
أنا اتعلمت الصلاة فى سِنّ سنة ،
وبسؤاله عن معنى ذلك أجاب
” الإنسان أول حاجة بيحبى على إيديه ورجليه، ولو حيوطى يجيب لعبة من على الأرض حا يتكفى على وشه زى السجود، وبعدين بيقف!!
وبسؤاله عن موضوع التبول بجوار السرير قال :
الواحد بيتوضا بإيه، بالمية، إذن الماء أطهر شىء، والبول ده ميه، إذن ماينفعشى ترمى ميتك فى الحمام، عشان كده كنت باتبول جنب السرير.
العلاج والتحسن المتقطع
ومع خطورة كل هذه الأعراض، إلا أن عصام استطاع، بالعلاج المتقطع أن يواصل دراسته، فبرغم رقة القشرة، ونفاذيتها لنشاط البدائية (التى كانت فطرة) ولسلوكيات النكوص، إلا أنها –كما قلنا- تشققت فقط ولم تتحلل تماما وتتباعد، وكان ما تبقى منها قادراً على الاستمرار والتحصيل بشكل يدل على كفاءة وقدرة البرمجة والتدريب السابقين على التحصيل، يقول عصام عن أدائه فى الجامعة (بعد الحادث)
كنت باروح فارد عضلاتى، مافيش أصحاب ماثقشى فى حد،
لكن الكتاب أفهمه من نظرة واحدة بإذن الله،
وبرغم كل هذا المرض واَصَل المريض دراسته وحصل على الليسانس وسنه 23 سنة فقط، (بعد تأخر سنتين لم يدخل فيهما الامتحان).
الخلاصة والمناقشة :
لست متأكدا إن كانت الحالة، بعد أن شرحنا “أحوالها” هكذا، قد أصبحت أقرب إلى الفهم فالعلاج، أم أنها أصبحت أكثر تعقيداً وإلغازاً؟
تفسيرات بديلة
ثمة حلول وتفسيرات جاهزة بدلا من كل ماقدمنا إليكم بعضها:
(1) هذا الشاب مصاب بفصام من النوع التفسخىDisorganized Schizophrenia ، وأعراضه تدل على أن التفسخ أصاب التفكير والكلام ، ثم إن عنده أعراض ذهانية صريحة من “هلاوس وضلالات” ولابد له – حتى لو لم نعرف السبب – من جرعات هائلة من المهدئات الجسمية أو ما تيسر من صدمات كهربائية إن لم يتحسن، وكل ما عدا ذلك باطل لا لزوم له، لأنه لا يمكن اثباته.
(2) هذه حالة فصام صريح نتيجة خلل فى كيمياء المخ، فى الموصلات النيورنية، وربما داخل الخلايا، نعم، لقد حدث نقص فى مادة “كذا” أو زيادة فى مادة “كيت”، ويمكن إصلاح ما حدث بتعويض النقص، أو معالجة الزيادة بما يقللها بعقاقير قادرة على ذلك.
(3) هذا شاب ملبوس، ترك الصلاة وعق الوالدين، فلبسه جان خبيث، يأمره بالأذان دون أن يصلى ويشوه عقيدته، وبجرعة من الرقى والقراءة وطرد الجان يمكن أن يعود إلى صوابه.
النقد المحتمل للفرض المطروح
إن من يقرأ هذا الفرض الذى أوردناه، وهو يعرف تلك التفسيرات الجاهزة التى ذكرناها حالاً، لابد أن يتهمنا أننا نكبِّر الصغيرة، ونتعسف فى التفسير، وأن كل هذا الجهد لا لزوم له فى النهاية، وخاصة أنه لايوجد دليل علمى صحته، فهو إضاعة للوقت بلا طائل.
وبمنتهى الصراحة أنا ليس عندى رد مقنع فى مواجهة مثل هذا النقد الوجيه، ومع ذلك سوف أرسم خطة العلاج كما تصورناها، وكما أمِلْنا أن نمارسها، فى ظل الفرض الذى وضعناه:
أولاً: نحن لا ننكر أن ما أسميناه الفطرة، حين انفصلت عن القشرة قد انقلبت إلى البدائية، فهى قد أعلنت –بذلك- نشاطاً بيولوجيا محددا صادراً عن المخ البدائى مستقلاً بلا رادع، مع العجز عن احتوائه من مستوى مُخّى أنضج، وبالتالى وجب إعطاء العقاقير التى تعمل على هذا المخ البدائى انتقائيا -المهدئات الجسيمة- أى على هذا المخ الأقدم، على ألا تشُله هذه العقاقير تماماً ودائماً، ولكن لتحدّ من نشاطه مستقلا Major Tranquilizers (Neuroleptics) بشكل مؤقت.
ثانياً : إن احترام معنى أعراض عصام وإعلانها لافتقاده التواصل فى الأسرة وخارجها، وغير ذلك مما ذكرنا، لابد أن يكون حافزاً إلى أن يشمل العلاج توفير نوع من التواصل أعمق وأصدق، تواصل له معنى ومصداقية وهدف: بدايةً: عن طريق المعالج/ أو المجتمع العلاجى، ثم نقلا إلى الأسرة بشكل تدريجى، حتى يشاركوا فى “استرداد” عصام متكاملاً “إليه“، حين يتبين عصام (كما نتبين نحن) من خلال كل ذلك أننا لسنا بعد “يوم يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه”.
ثالثا : إن احترام حدْس الوالد وحسن نيته (برغم عيوبه وخطئه الجسيم) يوجهنا إلى محاولة تصحيح بعض مواقفه، التى يبدو أنها اقتصرت فى الماضى على تغذية القشرة دون الفطرة، بالاضافة إلى امتلاكه للأولاد بزعم التقديس (بعد الله!)
إن تغذية احتياجات الوالد من خلال العلاج أو غيره، من مصدر مناسب، بجرعة مناسبة، يمكن أن يغنيه عن استعمال ابنه هكذا حتى التفريغ فالكسر.
رابعاً: إن الحفاظ على ما تبقى من كفاءة القشرة عند عصام، مع التذكرة بأن تلك القشرة هى التى نجحت أن تواصل الدراسة حتى الحصول على الليسانس، يجعلنا نحافظ على مكاسبها، ونسارع بأن يعمل عصام – وقد تخرج- عملاً يومياً، نأمل أن يوفق فيه كما وُفِّق فى الدراسة .
خامساً : إن احترام الفطرة، برغم مآلها المؤقت المنهار إلى البدائية ، قد يسمح لنا بترجمة ما ذهب إليه من تنويعات فى استعمال لفظ “وحى” ترجمتة إلى لغة التكامل البشرى. الذى يتجلى فى لغة الإيمان البسيط العميق معا، وليس فى صورة القهر التدينى السطحى، وكل ذلك قد يكون قادراً على أن يجمع عصام إلى نفسه بمساعدة كل ما سبق من عوامل علاجية مجتمعه، الأمر الذى يجعل هذا النوع من الإيمان من أروع تجليات الفطرة السليمة باعتباره القوة الضامة لمستوياتنا إلى بعضها، ولبعضنا إلى البعض الآخر، بأقل قدر من القهر السلطوى السطحى.
تذكرة أخيرة :
يسير كل ذلك جنبا إلى جنب مع تعاطى العقاقير بطريقة مذبذبة انتقائيا، بحيث لا تشل حركة المخ القديم نهائياً وطويلا كما قلنا، وإنما تسمح بإطلاق نشاطه تدريجياً ليتكامل مع سائر المستويات، متصالحا، ثم متجادلا، مع القشرة طول الوقت عْوداً إلى اطلاق مسيرة النمو فى اتجاهها الصحيح، ثم تسحب العقاقير بقدر ما يتجمع عصام على نفسه، وتنطلق طاقته فى الناس إلى الناس، إليه.
اعتذرا وإصرار
كل هذا ليس خيالا طوبائيا
ذلك أن أى قدر منه، فى الاتجاه السليم، هو قادر على تحقيق بعض ما نرجوا لأنفسنا
إن لم يكن لعصام.
والله أعلم