نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3948
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة:
نبدا من اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) كما أشرنا الأسبوع الماضى.
وهذا هو الفصل الأول
بصراحة حين قرأته لمراجعة أية أخطاء مطبعية، لم أستطع أن أصدق أننى أنا كاتب هذا النص منذ أربعين عاما، فأمِلتُ أن يقرأه معى أحدكم مثلما قرأته، كما آمِلـْتُ أن تكون بقية الفصول فى مستواه.
أنا آسف
الحمد لله
*****
(رواية “مدرسة العراة”)
الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”
الفصل الأول
“فردوس الطبلاوى”
مالى أنا؟ يكفينى ما بى، عيالى أولى بى، همى بيتى، مطبخى، ستائر حجرتى، ألا يكفيه أنى أهتم به، حتى بإصلاح جواربه، ماذا يريد منى بعد ذلك؟
صبرت حتى على العجز نفسه، وعلى فضيحة انتحاره، لكنه لايتركنى فى حالى، يريد منى أن أذهب معه إلى العلاج؟ أى مصيبة وصلنا إليها، أى علاج هذا المجنون، ماذا بى للعلاج؟ كلام فارغ فى فارغ أنا عرفت حركاته، يريد أن يلصقها بى فى النهاية، لن أذهب ولو انطبقت السماء على الأرض.
تنازلت له عن كل شئ، نسيت نفسى إرضاء لأنانيته: الليسانس، وأحتفظ بورقته مع خزين البصل، أهلى، وانقطعت علاقتى بهم، أصدقائى، وانصرفوا عنا هربا من قلة ذوقه، حتى قراءة الفنجان التى كنت أعرف من خلالها نفوس الناس أحسن مما أسمعه عن طبيبه المخلول، نسيتها وما كان قد كان، ثم ها هو ذا لا يدعنى فى حالى، أريد أن أعيش مثل الناس، ما لها الست محاسن جارتنا، وابنة خالتى صباح، وتماضر الجحش زوجة سعد عرفة، بل ما لها أم عنتر زوجة عم عبده البواب؟
عشت معه طول هذا العمر وتحملت ما تحملت على أمل أن يكف عن الجرى فيما لاطائل وراءه، كاد أملى يتحقق بمرور الأيام حين أصبح مطيعا سلسا بعد سنوات، ثم حدثت المصيبة التى لا أدرى من أين جاءتنا، مصيبتى كبيرة فى هذا الرجل، لايعتقد أنى أملك جهازا للتفكير مثله، يحسبنى دائما أعيش فى غيبوبة، أقرأ فى عينيه نظرات الاحتقار وأصبر، أنا أعرف الحياة أكثرت منه، وما صبرت عليه كل هذا الصبر إلا لأنى أفهمه أكثر مما يفهمنى، كان أملى أن يكملها الله بالستر، ولكن..
= مالى أنا بكل هذا يا عبد السلام، الله يهديك.
- هذا هو رأيه، وهذه مهنته، وهو يعرف الصالح أكثر منى ومنك.
= وأنت؟ أليس لك رأى؟ وأنا؟ أنا مالى يا عبد السلام الله يخليك، البيوت أسرار دعنا نعيش فى ستر، دعنى فى حالى.
- أنا لم أذهب مختارا كما تعلمين، اضطررت إلى هذا الطريق عقب نجاتى من الحادث، ليس أمر من المر إلا العجـْز والضياع.
= تقول “الحادث” أنت الذى عملتها فى نفسك، خيل إليك أن العالم انتهى وأن مصر خربت، صدقت الإشاعة واعتبرت الثغرة بداية الهزيمة التى لا نـَصْر بعدها، عملتها ولولا ستر الله وأولاد الحلال ما كنت بيننا الآن، أنت تهرب يا عبد السلام من الحياة عمال على بطال.
- عمر الشقى باق.
= وهذه مصر بخير.
- ليس تماما…. يمكن أن تكون بخير، إذا فعلناه نحن، إذ كنا نحن بخير.
= نحن بخير يا عبدالسلام، وكفى جريا وراء الأوهام.
- لستُ بخير يا فردوس.
= وما الذى يمنعك أن تكون بخير؟
- ، ، ، ، ، ، .
= قل لى ما الذى يمنعك؟
- أنتِ.
= أنا؟ هذا ما عملت حسابه طول عمرى، سوف تلف وتدور ثم تأتى باللوم على رأسى.
- لا أقصد أنت أنت، ولكن أى أنت.
= يا نهار أسود، تريدنى أن أذهب معك هناك حتى يلتوى لسانى هكذا…. لاقوة إلا بالله.
- يا امرأة، إفهمى ليس أمامى خيار.
= سلب هذا الرجل إرادتك يا حبة عينى، أين أنت يا عبد السلام؟
- يا ولية، إفهمينى… ليس لى خيار، المصيبة داخلى وأريد أن أحافظ على بيتى، لم أعد أستطيع الكذب، هذه هى الحكاية.
= أى كذب وأى هباب، أنت لاتحافظ على شئ إلاعلى جنونك، أنا التى دفعت عمرى لأحافظ على بيتنا، وأنت لست هنا من أصله.
- ما أعجزنى إلا العجز.
= العجز؟ قل شاء الله يا أم العواجز.
- أنت لا تدركين الخطورة، هذا البيت مهدد بالانهيار.
= تهددنى بعد أن صبرت كل هذه السنين، تأكلنى لحمة وترمينى عظمة.
- أنا مريض وأعالج، والطبيب طلب حضورك.
= لا تضع الفأس فى الرأس.
- جرّبى من أجل الأولاد.
= ما لك أنت بالأولاد، أنت لاتعرف عنهم شيئا، أحيانا أتصور أنك لا تعرف حتى أسماءهم، كفى تهديدا، لى رب اسمه الكريم وعندى شهادة، ولا أحد يموت من الجوع.
- وحبنا؟
= تتكلم عن الحب يا عبد السلام؟
- أبحث عن أى لغة تفهمينها، ولو كانت بلا معنى.
=… تضحك على… ولا تلبث أن تستهين بعقلى كالعادة، لا تنكر أنك لم تعد تطيق رؤية اثنين يحبان بعضهما البعض، ولو فى التليفزيون.
- لا أطيق الكذب.
= ما تسميه صدقا هو الجنون ذاته.
- إسمعى، إما أن تحضرى أو أكف عن العلاج، أو،
= تهددنى يا عبدالسلام؟
– أنا مضطر لإكماله يا فردوس.
=…. يا ليتنى أفهم شيئا.
-1-
آخر زمن..
علاج هذا أم قهوة للمساطيل، مالى أنا وكل هذا، هذا الرجل ليس طبيبا ورحمة أمى، هارب من مستشفى المجاذيب بلا أدنى شك، هو أكثرهم جنونا، خيبته تفوق غباءهم المستـَسْلـِمْ، لم يوجه لى أية كلمة، لعله حسبنى لا أملك ذلك الجهاز فى الدماغ الذى يفكرون به، أنا أستطيع أن أزنهم جميعا بنظرة واحدة، نظراته تخترق مالا يعرف، لن ينال منى شيئا لأنى أذكى منه ومنهم.
****
ما هذه الأشكال كالتحف التى لا تصلح إلا للمتحف؟ تلك المرأة التى اسمها إصلاح طبيبة مساعدة أم وسيط منوم مغناطيسى؟ تكاد تأكله بنظراتها، يجمع حوله الضحايا ويفعل بهم ما يريد.
****
قلبى يتقطع على تلك الوردة التى لم تتفتح “بسْمة” ما الذى أتى بها إلى هذه المجموعة؟ ليس بها إلا ما يمر على البنات فى سنها، أنا نفسى طالما قلت ما تقول حين كنت فى سنة أولى جامعة، ارفعوا أيديكم عنها ياحكماء أخر زمن، دعوها لتختار وحدها وتبحث وسوف تنسى كل شئ، كلنا ننسى كل شئ، مستقبلها فى شبابها وأولادها وبيتها، ما الذى أتى بك إلى هنا يا ابنتى؟
****
لم أستغرب أن وجدتـك هناك يا “غريب”، هذا مكانك الطبيعى، بدأ الفأر يلعب فى عبى منذ لاحظت زيارات زوجى المتكررة لك، طول عمرى أقول عليك أعزب جبان، لابد أنك تريد خراب بيتى لينضم إليكم زوجى متفرجا مثلك، لابد أنك وراء كل هذا ومقام السيدة.
****
فهمت من ”ملكة” وهى تكلم جارها غالى أنهما زوجان، الحمد لله أنى وجدت مصيبة مثل مصيبتى، ملكة غيرى، ثابتة لا تتحرك ولا تهتز، زوجها المتحمس المتكلم يعمل الواجب وزيادة، لا يبدو عليها رائحة مرض أو مشاكل، نادٍ هذا أم عيادة؟ ملكة تكاد تحيط زوجها بسلاسل نظراتها وهو منتش فى حذر، كلما نظرتْ إليه فى وَلـَهْ صَفـَا ذهنه وعلا صوته أكثر، وراءهم حتى أعرف السر، لا يخلو مجيئى من متعة نسائية.
فلتستيقظ هواية حب الاستطلاع، والعاقبة عندك يا عبدالسلام.
****
وهذا الإنسان الحالم، مختار لطفى، إذا لم أكن قد نسيت اسمه، أعتقد أنه ابن ذوات لا يجد ما يفعله ولا ما ينفق فيه نقوده، لعله جاء يتسلى حسب “الموضة” ويتفرج على هذا المسرح الحى، ولابأس من أن يجد فرصة كذا أو كذا، من يعرف؟، طول الوقت ينظر إلى نجوى التى حسبتها مانيكان من طريقة حركاتها وعنايتها بجسمها ولبسها، كل ذلك لم ينجح آن يخفى عنى حزنها، لعلها فقدت عزيزا وتعالج هنا بتعقيد نفسها بالمرة لزوم العصر الحديث، تتسلى بالكلام الفارغ عن الحزن الواجب.
****
وهذا الذى اسمه “كمال” يتجول على رصيف المجموعة طول الوقت، يتسكع ولا يشارك أبدا.
****
أما ”عبد السميع” فهو يغط فى غيبوبة لاتمت إلى عالمنا هذا، شحوب وجهه يكاد يعلن أنه لم ير النوم من زمن سحيق.
“إبراهيم” هو الإنسان الوحيد الذى ارتحت له بين الجميع، ملامح عظيمة وصوت ريفى فخم، وقلب طيب فعلا، قلبه فى عينيه، وروحه فى يديه، ووجهه ينطق بكل أسراره دون كلام.
****
أعدت النظر إلى زوجى عبدالسلام وكأنى أراه لأول مرة، بدا لى غريبا عنى، لا، بل هو عبدالسلام الذى تزوجته أيام الآمال والغباء، قلبى يدق للذكرى أو لعله يدق خوفا من التذكر، أخاف أن يعاودنى الأمل.
بسمة تذكرنى بأيام زمان، وعبدالسلام يبدو مثلما كان، وأشياء تكاد تستيقظ فى، تبدأ بحب الاستطلاع، والبقية ترعبنى.
****
كل ذلك كذب فى كذب، سوف لا أعود ثانية ولو ذبحونى، نبش القبور هو ألعن جريمة فى الوجود، وخاصة إذا كان فى القبر أمل فى حياة ما- الصداع يكاد يقتلنى.
- فاطمة، بنت يا فاطمة، كوب شاى وأسبرينتين.
قال عبدالسلام مقاطعا:
- هه؟ ما رأيك؟ لم تتحطم الدنيا.
= عندى صداع.
- الحمد لله.
= ماذا تقول يا عبدالسلام؟ أقول لك عندى صداع تقول الحمد لله، عندى صداع ويبدو أن أنفى سيرشح.
- ربما تحرك المارد.
= إسمع: لقد طاوعتك على قدر عقلك من أجل خاطر الأولاد- أما أن تنقل هذا الكلام الفارغ ليكون أسلوب حديثنا فى البيت فلا، وألف لا، دعنا نعيش.
- سوف يحدث،
= لابد أن تعقل عاجلا أو آجلا، الناس كلها تعرف كيف تعيش بلا علاج ولا يحزنون.
-…. يعنى.
= إسمع، دعنى أنام.
- تصبحين على خير.
=……
أى خير أصبح عليه؟ لن يكون هناك خير مادام هذا الباب مفتوحا، فى عينيه لمحة انتصار لم أرها من زمن، سوف يغط فى النوم عما قليل يكاد الصداع يفجر رأسى.
= فاطمة، الترمومتر يا فاطمة.
- ماذا بك يا فرودس؟،
=أكاد أغلى… لابد أن بى حـمى.
- لا أحسب ذلك، جبهتك باردة كالثلج.
= دعنى لحالى…. أنت عمرك ما اهتممت بصحتى، ولا بى.
- ما تطلبينه ليس اهتماما.
= أنا لا أفهم ما تقول، أريدك أن تشعر بى، تسأل عنى، تهتم بما أنا فيه مثل كل الناس.
- أنا طول عمرى أهتم، ولكن بطريقتى.
= الله يخرب بيت طريقتك، هى التى جاءت لنا بكل هذه المصائب.
-….
= جسمى يرتجف من الصداع والحمى.
- ننتظر قراءة الترمومتر.
= تتحدانى؟ تكذبنى؟ لن أقيس الحرارة وهذا هو الترمومتر، .. هـِهْ، إسمع: سوف أهرب منك ومما تفعلون مثل حبات الزئبق هذه، فلا تأمل فى شئ، أنا أدرى بنفسى،
- فردوس، هل فكرت فى أصل الحكاية؟
= لا أصل ولا فصل، والله العظيم أترك لك الحجرة، أو أترك لك البيت إن شئت.
- أنتِ حرة.
= لا يا شيخ!!، ماذا تقول؟ منذ متى وأنا حرة؟
- أنت طول عمرك حرة.
= كذاب، كذاب.
- رجعنا إلى أيام زمان.
= بعيد عن شنبك أن يتكرر شئ من زمان، لن تخدعنى بكلمات الحب والعالم الذى ينتظرنا لنصنعه معا! سوف أذهب معك لتشفى أنت، لا لأمرض أنا، أولادى أولى بى، وأنت لن تنفعهم فى شئ.
- 2 -
بسمة يا حبة عينى، لا تغيب صورتك عن بالى يا ابنتى، كم أحبك، كم أشفق عليك، ماالذى جاء بك إلى هنا؟ سوف أحضر من أجل خاطرك، هؤلاء الوحوش لا يعرفون شيئا عنك ولن يقدر أحد منهم ما بك، أنا أدرى بك، أنت شبابى يا ابنتى، سوف أساعدك أن تـَكـُفـِّى عن هذا العبث كله، سوف أقاوم كل أمل لم أحققه، هذا كله طقطقة كلام يا ابنتى، فض مجالس، قد يفيد أحيانا فى الإغراء بالزواج، أما أن يُسكب هكذا فى عيادات الأطباء، فلا، إيش عرفهم بالحب، والجنة، والناس الذين مثل كل الناس؟ أنت تعرفين كل ذلك أكثر بدونهم، كم حلمت أنا به، هو كلام حلو، ولكنه أبدا لن يكون إلا كلاما حلوا، كلام مع وقف التنفيذ، نتزوج لنحققه ولا نكتشف أنه مجرد كلام إلا حين نتورط فى الأولاد، وعندئذ نترك لهم مسؤلية تحقيقه، إنهم هنا يحرقون اللعبة يا بسمة يا ابنتى، يوهمونا أنه إما أن نحققه الآن، أو نأكل بعضنا البعض، يا ساتر يارب، لماذا لا يتركونك تحلمين، من جاء بك إلى هنا يا حبة عينى؟ بسمة يا حبة عينى… لا تأتى بعد اليوم أتوسل إليك، كلمات الحب أصبحت مثل فقاقيع الصابون فى ماء المسح القذر، مسح العقول، مسح المنطق، مسح الشخصية، ليس لنا يا بسمة سوى ذلك المخزن الدافئ الذى يفقس فيه البيض ليصنع فيه العيال، نعدهم للجنة التى لم نحققها، الحكاية أبسط من كل ما يدعون، يريدون أن يوقفوا الزمن ليحققوا بأنفسهم الجنة التى لا يعرفونها، لن تصدقينى يا ابنتى، قلبى يتقطع لما ينتظرك حين تعجزين عن الحركة فجأة، لن ينفعوك، أنت لا تصدقينى، أنا عارفة، سوف أحضر من أجل خاطرك، سوف أهدئ من تحليقك خلف هذا الرجل الذى يلهف منا النقود وليس فى قلبه رحمة، يتظاهر بإطفاء النار وهو يشعلها، يغذى فيك الوهم إلى أعلى وهو يتظاهر أنه يجذبك إلى الأرض، خبيث، جبان، يشعل الحريق بالماء، ألا تعرفين أن الماء الذى لا يكفى لإطفاء النار يزيدها اشتعالا؟ هو يحملك مسئولية أحلامك، مأزقك أيقظ عقلى من جديد، أصبحت أفهم مثل زمان، لا تصدقيه واعقلى يابسمة ياحبة عينى، أنا أحضر من أجلك، وسأحضر دائما من أجلك، كيف أوصل لك كل هذا الذى يدور برأسى بشأنك؟
- 3 -
= لماذا تأتين هنا يا ملكة مع أنك تبدين مع زوجك فى غاية السعادة؟
- نريد الأحسن.
= ولكنكما فى أحسن حال، هذا ما تؤكدانه دائما.
- ………….
= عن نفسى أنا جئت مضطرة، جرجرنى زوجى على وجهى، أحيانا أقول إن تعاستنا تبرر وجودنا هنا فى هذه المسخرة، ولكن أنتما؟ ماذا ينقصكما؟
- فعلا، نحن سعداء تماما.
= إذن، ما الحكاية؟
- غالى طموح، وطموحه لا ينتهى، يحب المعرفة، ويعبد العلم ويسعى بكل وسيلة لتحقيق أفكاره، لذلك فهو مصر على التجربة.
= لكنك عاقلة كما يبدو لى، وتعلمين أن كثيرا ممن يعتنقون مثل هذه الأفكار فى بلدنا إنما يتسلون بها فى الصالونات، أو يعتبرونها متعة ما قبل النوم، ما لنا نحن النساء وهذا الضجيج، دعيهم يستعملونها لمظاهرات الجامعة، أما حكاية تحقيقها فهى نكتة يضيعون بها الوقت، ويصبِّـرون بها أنفسهم على خيبتهم.
- من أين لك بكل هذه الحكمة الخادعة؟ هذه هى السلبية بعينها.
= لا يخدعك ترهلى فأنا أحمل ليسانس تاريخ، ولكن تاريخى الخاص يقول لك لا تنشغلى إلا بمملكتك الصغيرة، لا تبعدى عن عشك السعيد، أما هذا الـ…؟ ماذا تسمين ما نحن فيه؟
- علاج.
= نعالج من ماذا؟
- الأمر لا يسلم.
= لا، الأمر يسلم ونصف، دعينا نلتقى بعيدا عن هذا المكان الصناعى، نجتمع فى الخارج أرخص وأسلم، هيا نقنع زوجينا بالكف عن السير فى هذا الطريق الخبيث.
- ما هذا؟ يبدو أن طول بقائك فى البيت يا فردوس قد أفسد عقلك، رائحة البصل تفوح من أفكارك، أنا مع زوجى إلى النهاية وليس هناك ما يخيفنى، غالى يعرف كل شئ ويدرك طبيعة الذى يسير فيه، هو زوجى وحبيبى، ولا بد للصراع الطبقى من نهاية لصالح أصحاب الحق.
= نعم؟ نعم؟ ما علاقة هذا بذاك؟ ماذا تقولين؟ نهاية ماذا؟
- نهاية الصراع الطبقى لصالح الجماهير.
= إعقلى يا ملكة يا اختى، وهل نهاية الصراع الطبقى سيتم هنا فى هذا المكان، راجعى نفسك يا بنت الناس، أين هؤلاء الجماهير فى عيادة هذا الطبيب؟
- غالى مؤمن بالعلم فى كل مكان وفى أى مكان، يقول إنه يجد الديالكتيك الحقيقى فى هذا الصراع العميق، هنا بين العجـز والإرادة، بين الحياة والموت، نحن نحرر أنفسنا لتتحرر الجماهير.
= ماهذه الألفاظ الكبيرة؟ الذى يجرى هنا ليس إلا الاسترزاق من آلام الناس وحيرتهم.
- مرارة كلامك تذكرنى بالمرحلة الأولى من مجيئى هنا، عليك أن تستمرى حتى تنفضى عن أفكارك رائحة الثوم والبصل، الكسل والخوف كادا يقضيان عليك.
= عبد السلام هو الذى قضى علىّ حين منعنى من العمل، ويدعى كل يوم أنى حرة.
- حاولى يا فردوس، قهر المرأة رمز لقهر الأضعف، حاولى.
= أنت لا تحاولين يا ملكة، أرنى شطارتك لأقلدك، ثباتك لا يوحى بأى محاولة، كأنك وجدت حلا لكل شئ.
- أقدس العلم مثل زوجى، نحرر أنفسنا مع الناس.
= وهل تجدين هنا علما؟ هل سمعت عن عالم يستعمل كل هذه البذاءات؟ هل سمعت عن طبيب يمارس كل هذه القسوة والهجوم بلاحساب ولا ذوق؟
- هو أدرى بأصول مهنته.
= “بسمة” مثلا؟ هل تعجبك هذه التجاعيد التى يفرضها هذا الرجل على وجهها الطفل بما يدعيه من ضرورة المشى على الأرض.
- مصلحتها تحدد خطواتها…. الأمل فى الشباب.
(-……… – ……… – …….).
= يبدو أنى أزعجتك، الصبر طيب.
– تحياتى للأستاذ عبد السلام.
= تسلمين يا اختى.
……
حجر صوان، جرانيت، ليس لها مسام أنفذ منه، أردت أن أستعين بها فخـلت بى، أنا واثقة أنها “تقول” والسلام، لابد أن لها مصلحة فى كل ما يجرى، خلية تدار لحَبـْك مؤامرة ما لقلب النظام؟ قلب أى نظام، وكل نظام، إلا نظامها هى وزوجها، أكاد أفقد سيطرتى على نفسى حين لا أفهم إلى هذا الحد، نجح الكلب عبد السلام أن يهزنى من داخل، “الحرملك بالديالكتيك”، آخر صيحة فى العلاج العصرى، سوف أقاوم حتى النهاية، وإذا لم أستطع، فالله وحده يعلم إلى أين سينتهى بى ما يتحرك بداخلى.
– 4 -
= ماذا تريد منى يا عبد السلام بعد الذى حدث؟
- ماذا حدث؟
= تستعبط حضرتك؟ أصبحت أفهم لغتكم الآن، فاستعـد.
- أستعد لـ ماذا ؟
= لا تحاول يا عبد السلام، أنت الذى بدأت الطريق وعليك أن تكمله بحلوه ومره.
- سوف أفعل.
= لا تكن واثقا من نفسك هكذا.
- أنا فى انتظارك يا فردوس من زمن بعيد.
= لا أظن يا عبد السلام، أنت لا تعرف ما تقول.
- نعم؟ نعم؟
= جاء الدور عليك يا عبد السلام لتبدأ من أول وجديد.
- ماذا؟
= يبدو أن هناك من أسرار اللعبة مالا تعرفه.
- وأنت؟ هل عرفتيه بهذه السرعة؟
= أحس بأشياء كثيرة قبل أن أعرفها.
- الإحساس وحده خداع.
= يتحدثون عن الحب أكثر من اللازم يا عبد السلام وكأنهم يتبادلون السجائر.
- نعم، هذه حقيقة، ولكنها لا تعنى ابتذاله،
= الأمر أخطر من كل تصور، ربما تندم يا عبد السلام يوما ما على أنك فتحت عينىّ، مسامـى تفتحت هى الأخرى فحذار.
- الحقيقة أصدق من كل وهم.
= تقولها بشروطك.
- أية شروط؟
= لا تدعى الغباء وتـَـحـَـمـَّـل مسئوليتك إن كنت رجلا.
- رجعنا للبذاءة، بماذا تهددينى بالله عليك؟
= أنا لا أهدد أحدا ولكنى خائفة من ثقتك بالحدود التى تحاول أن تطـلقنى فى داخلها.
- أية حدود؟
= لن تحتمل لو تخطيتـُها يا عبد السلام.
- يجوز، بصراحة يجوز.
= شئ يتفجر فىّ يا عبد السلام، فهل أستمر؟ هل تتحمل نتائجه؟
- كل واحد مسئول عن فعله.
= هذا كلام للاستعمال الظاهرى، أنا أشك أن أحدا منكم يعرف حقيقته،
- يجوز.
= يجوز، يجور، يجوز! كل شئ يجوز؟ أنت تميّع كل شئ.
- أنا معك إلى النهاية.
= كذاب، تكذب بنفس القدر الذى تكذب فيه حين تقول أنى حرة.
-…
= هل ما زلت مصرا على أن أستمر.
- لا تبالغى، لقد تفجر فى يوما ما شئ مثل الذى تتحدثين عنه، ولم تقم القيامة، جاءت سليمة.
= بل قامت، ولم تكن سليمة كما تعرف.
- ماذا تعنين؟
= النساء غير الرجال.
– هذا كلام قديم.
= أنت لا تعلم ما بى، بداخلى ثور أعمى وقرونه سيوف من ماس.
– عقلك يصحو مثل زمان يا فردوس، تتكلمين مثل الذين يعرفون ماوراء الألفاظ، نكاد نتفاهم من جديد.
= ليس عقلى فحسب، ولكن خلاياى كلها.
- لا تخافى شيئا.
= لست خائفة فلا تـلق علىّ خوفك.
(-……-…. ).
- أنا لا أنكر خوفى يا فردوس، أنا أشم رائحة التهديد أو المساومة.
= صوت بداخلى يقول لى: أنت لست حـِـمـْـلىِ يا عبد السلام، ولا حتى شيخ الطريقة هذا، كفانا هذا يا عبد السلام، ودعنا نربى الأولاد.
(-…….-…….).
- لم يعد لى فى الأمر خيار.
= لا تصدق هذه الأوهام.
- ليس أمامى طريق آخر.
= ذنبك…. على جنبك…. لقد حذرتك يا عبد السلام.
- 5 -
خوفه أكبر من خوفى، سوف أضاعفه حتى نهرب معا، هذا هو طريقى للعودة به إلى عشى الآمن، رأيت بعينى رأسى الفئران تجرى فى عبه، بدأ يهتز وهذا سبيلى الوحيد لأوقف هذا الخطر الداهم، عثرت على كعب عطيل وبدأت اتذكر بعض صفحات التاريخ، سأضرب على هذا الوتر، عرفت الطريق يا فردوس، لو أنى طاوعت غبائى الطيب ومكثت فى عقر دارى لظللت المتهمة طول حياتى بأنى سبب مرضه، وأنى العقـبـة فى طريق شفائه، أما الآن: سوف نسلخ وجه من يزعل، والبادئ أظلم.
= ميعاد الجلسة يا عبد السلام.
- أعرف،
= صاحبك لا يحب التأخير.
-…. هو يتأخر أحيانا.
= هو صنف آخر من البشر لا يسرى عليه ما يسرى علينا، أليس كذلك يا رجل؟
- ليس تماما، وإن كان مثل ذلك يخطر على بالى أحيانا.
= هل سيحضر إبراهيم الطيب.
- طبعا، مثل كل مرة، لماذا تسألين؟ وهو لم يتغيب ولا مرة ؟
= خاطر خطر، وقد علمتمونى التلقائية.
- عندك حق، إبراهيم إنسان رائع، وأنا أحبه، بل إنى أحيانا أحسده.
= أنا أيضا أحبه.
- هو يستأهل الحب.
= لا تصوِّر الأمر ياعبد السلام كما لو كنا نشرب قدحا من القهوة، الحب طريق شائك.
- عن ماذا تتحدثين؟
= هل أفقدك العلاج حـِـمـْـيـَـة الرجال؟
- ماذا تعنين؟
= أقول لك أحب رجلا، تقول لى يستاهل، إنى أحذرك، ذهابى إلى هناك يوقظ فىّ ما كان قد نام من سنين.
-…. ماذا تعنين؟
= أعنى أنى أحاول أن أتمسك ببيتنا، بالستر، أريد أن أحمى الأولاد من تجربة بلهاء، أحاول أن نعيش مثل الناس.
- وما المانع أن نعيش بمشاعر يقظة؟
= هذه المشاعر التى تهدد بالانفجار لا تستأذن أحدا ولا تحسب حسابا لشئ.
- ماذا تعنين؟
= لو تطاوعنى، أتركنى ألزم بيتى، فلا يقدر على القدرة إلا الله.
- عن ماذا تتكلمين؟
= عما أشعر به مما يمكن أن يسمى حبا أو غير ذلك، أنتم تحركون ماردا ليس له روابط ولا حدود، تثيرونه دون حساب، ثم سوف تحمّلوننى مسئولية خراب بيتى.
- خوفك أكثر من كل تصوُّر.
= لا تدعنى أقول لك مايدور بداخلى حتى لا يتوقف قلبك من الهلع.
- كفى غموضك وهات ما عندك.
= لا فائدة، كنت أظن أنك لم تنس رجولتك.
- تحاولين أن تجرحينى من جديد لأتراجع.
= أنا أعرفك فلا تدّعى الهدوء.
- هات ما عنـِـدك.
= هب أنى اكتشف أنى لا أحبك.
-…. قسمتى.
= استسلام مائع.
- يملؤنى كلامك جزعا، ولكن لا سبيل إلى التراجع.
= نحن ما زلنا فيها، المخاطرة ليس لها حدود.
- عندك حق.
= إسمع كلامى، وكفى رعونة.
- تذكرى أنت ما كنا فيه، كان أبشع من كل مخاطرة.
= يكفى ما تعلمناه، لقد أصبحت حياتنا أهدأ، يكفينا هذا.
– إنها أهدأ لأننا فى انتظار الأمل، ولكنها تنهار فورا لو توقفنا.
= وجهك الشاحب يا عبد السلام يقول غير هذا.
- لا أنكر خوفى… ولكنى مستمر.
= الناس يعيشون فى سلام، ولم يعد بك ما يدعو لكل هذا.
- الناس يعيشون فى سلام لأنهم لم يروا ما رأيت.
= وأنا مالى، لماذا تصر على أن أرى أنا ما رأيت أنت؟ على كل: هأنذا أرى ما هو أكبر وأخطر.
- …… هذا قدرنا إن أردنا أن نعيش “معا”، لابد أن نرى “معا”.
= هل تعنى أنه لا حياة إلا مع هذا الذى تسميه علاجا؟
- لا مفر من المخاطرة تحت أى اسم.
= عبد السلام.
- نعم.
= أنت تلعب بالنار.
- اللعب بالنار أهون من الحياة فيها.
- 6 -
خيبت ظنى يا رجل رغم أنى صادقة فى كل مخاوفى، أمـلت أن تخاف أكثر لأستردك ونعود لبيتنا، عينى عليك يا بسمة ياقطعة من قلبى، كيف ستتزوجين لو أحببت كل الناس مثلما يقولون؟ كيف ستجدين من يتحمل رؤية كل ما رأيت؟ بدرى عليك يا ابنتى، وأنت يا ملكة ياابنة مناع، كم أحسدك على هذا الهدوء وهذه الثقة، أنا التى أهرب وأراوغ، أتذكر مرة وأنسى عشرة لا أستطيع أن أطفئ ما بداخلى إذا ما تحرك، فمالك لا تتحرك فيك شعرة خوف، وغالى لا يكاد يرى إلا معك، من خلالك، تجلسين فى هدوء ثم تخرجينه من بين ثنايا صدرك وتضعينه على الكرسى، فيتحمس ويقول ويعيد وأنت لا تتحركين لأنك فى النهاية تضعينه فى مكانه بين ثنايا صدرك، اطمئنانك عليه يفوق طاقة احتمالى، ومجال خيالى، ياليتنى مثلك، إذن ما قاومت المجئ هنا أبدا، سوف أتعلم منك هذا الجمود العظيم الذى تسمينه ثقة، سوف أتعلم من غريب الفرجة من بعيد، بعدها أستطيع أن أنتظر قرنا من الزمان، كل شئ ينتهى إذا انتظرنا بدرجة كافية.
أحلامى تقول غير هذا.
لا أستطيع الصبر، متى أستطيع التوقف عن التفكير فى كل ما يجرى؟ هل أترك الأمور تسير كما يريدون؟ هل يعرفون ما يريدون؟ هل أحاول أن أعرف أنا؟ هل ألعب الدور بنفسى بدلا من هذا الخوف الذى يتضاعف بالانتظار؟ يبدو أنه انتظار بلا نهاية.
أنا أخاف من هذا الرجل، إذا تركت نفسى الـْـتـَـهـَـمـَـنـِى دون ضمان، أتبعثر بلا معالم.
عبد السلام مصر على الاستمرار، وأنا فشلت فى الصبر وفى الفرجة، الحوائط تقترب حتى لا تترك لى إلا هذه الفتحة التى يتسرب منها نور غامض لا أعرف ماذا يضئ، لم أعـد أستطيع الفكاك؟ ماذا أستطيع أن أفعل؟ ماذا نستطيع أن نفعل؟
فى الأول كنت أشفق عليك يا بسمة، الآن، أنا أطلب منك العون كأنى صديقتك الصغرى، أليس هذا هو الجنون ذاته؟
لا أكاد أذكر “كيف” ولكن الآمال عادت إلى الظهور وكأنها لم تمت أبدا، أنا لا أجرؤ على مواجهتها، كيف تغروننى أيها المجانين أن أبدأ من جديد؟ أن آمل من جديد؟ كان الشباب أقوى، والعالم أرحب ومع ذلك لم نفعل شيئا، ثم آتى بعد هذه السن لأحاول من جديد؟ إلحقينى يابسمة، إعمليها أنت بدلا منى إن كنت شاطرة.
دعونى لأولادى وبيتى، صرت أشك أنى أستطيع الرجوع الآن إلى عشى الدافئ المحاط بالخدر والنسيان، بدأت أسمع فيه حفيفا ما، وأخشى أن يكون دبيب الهوام.
إبراهيم الطيب، ملامحه تبعث الطمأنينه فى كـلىِّ، أنتهز الفرصة، أريد أن أعرف حقيقة مشاعرى نحوه، وربما أحـَـسَّ عبد السلام بالتهديد.
= إبراهيم.
- نعم.
= أنا خائفة.
- طبعا.
= هل تعرف ماذايجرى هنا؟
- نعم.
= إبراهيم، لا تبد واثقا هكذا وإلا حسبتك مثل ملكة مناع.
- هذا طريق أعرفه.
= من أين عرفته؟
- من داخلى.
= يا بختك.
- لا بخت ولا يحزنون.
= إذا كان داخلك بهذا الوضوح، لماذا أنت هنا؟
- الوحدة صعبة، لست إلـها.
= هل ستبقى هنا إلى الأبد؟
- حتى أكسرها، أو أكف عن الخوف منها، أو الاحتماء بها.
= كلامك صعب، ولكنه على أى حال ساعدنى على خوفى.
- لا تخافى من خوفك.
= يعنى أخاف؟
- طبعا.
= إن الأمر يخصك يا إبراهيم.
- لا يخصنى وحدى.
= وكيف عرفت؟
- وصلنى.
= أنا أحبك،
- وأنا أيضا.
= يا نهار أسود.
- ليس أسود من قلوب الحقد.
= أنا أحبك بكل ما يترتب على ذلك.
- وزوجك؟
= أحيانا أحبه هنا: وأشاجره بقية الأسبوع.
- أحس أن حبك له “هنا” مثل حبك لى؟
=… تقريبا، ولكن ماذا تريد أن تقول.
- لماذا الخوف إذن؟
= أكاد لا أفهمك.
- بل تفهمينى أكثر من تصورك.
= حرام هذا كله.
- الكذب هو الحرام الأوحد.
ضاقت الحلقة ولا مفر من المواجهة.
- 7 -
= ماذا تريد منى يا عبد السلام.
- أريدك معنا، معى.
= ولكنى كنت معك فرفضت، وركبـنا العجز.
- لم نكن معا أبدا، لم يكن هناك سوانا، أنت وأنا، هذا ليس “معنا”.
= لا أفهم كلمة مَعَنَا هذه التى تصر على ترديدها هل سنأخذهم “معنا” إلى البيت؟
- لا أعنى هؤلاء الناس بالذات، ولكن كل الناس، أى ناس.
= هذا صعب يا عبد السلام، أنا أنهكت وعجزت حيلتى.
- هذا هو الطريق.
= الإنهاك والضياع؟
-… مازال العمر طويلا.
= هذا تخريف، نحن نقضيها أياما.
- فلتكن أياما مليئة بالحياة، أنا أنتظرك يا فردوس.
= كنت أحبك طول الوقت، حتى وأنت فى الأزمة.
- أعرف ذلك، لا أشكرك، عيب، كان حبا عمره الافتراضى قصير، مع أنه حقيقى.
= ربما تـَـوَلـَّـدَ فىّ ما أخاف منه، تريدنى أن أجن مثلك حتى تصدق أنى أحبك.
- مازلت ألمح الحياة فيك بكل نبضها.
= كلام غير مفهوم، ولكنه يكاد يطرحنى أرضا.
- أرى فى داخلك بسمة ما زالت حية ترزق، فردوس، أنا، ابراهيم، الله، كل الناس.
= هذا كلام كبير، أكبر من احتمالى.
- هو الصدق نفسه.
= أعماقى تهتز، أشعر بالدوار.
…………
…………
…………
****
فى تلك الليلة، حين حاولت الاستسلام كالعادة، اشتعل بى شئ آخر، ليست شعلة، شعور يقظ يتحفز، نشوة تغمر كل كيانى، بعثت فىّ الحياة حتى أحسست بها فى أظافر قدمى، لا يمكن أن أصف ما أنا به ولا أعتقد أنه وُصِـفَ عبر التاريخ، عقلى، عقلى نام يقظا، لم يتخاصم مع جسمى هذه المرة، كالمأخوذة فى وعى كامل، أصعد قمة مجهولة، فى سهولة ويسر، أعضاء جديدة تنبت فى أحشائى، تتمطى مثل المارد الخارج من قمقم، تتجول فى خباياى جميعا، كائنات منقرضة تصحو وتقفز من المحيط إلى الأرض إلى عنان السماء، رقصت كل جوانحى رغم أن الخوف لم يتركنى، كان عبد السلام، طيبا مختلفا، أنا امرأة، رجل، الكون كله، أنا لا شئ، أو كل شئ هذه المرة، أول مرة، لم أعد أحتمل، لم أعد أحتمل، “إلحقنى يا عبد السلام، هذه المرة…. المشاعر أكبر منى، ماذا فعلتم بى، شكرا….. عليكم اللعنة، دخلتها بالرغم منى، دخلتها بالرغم منى… داخلى…. داخلك..”.
لم يعد المجهول مجهولا، ولا هو فى حاجة الآن لأن يكون معلوما، حسرة على الأيام الأخرى، أنا ملك يمينك يا عبد السلام منذ اليوم..أنت داخلى…. وأنا فيك…. الحمد لله…. الله حلو، وأنا حلوة، وأنت…. فليعش الكل، تحيا الحرية…. الله أكبر.
- 8 -
بالرغم من كل شئ فأنا ما زلت أعيش نشوتى معظم الوقت، أرقص وأنا أمشى، أغنى وأنا أتكلم، أريد أن أذهب إلى كل الناس أحكى لهم عن معنى الحياة وفضل الأطباء الذين هم ليسوا أطباء، فضلهم على البشر والجنس، لا يكدرنى إلا التغيـر الذى طرأ على عبد السلام، لماذا لا يتقبل فرحتى هذه، أليس هذا ما كان يسعى إليه؟ حين كنت عجوزا يائسة كان هو فى إصراره لا يـُـجـَـارى، يقاوم عنادى ولا ييأس أبدا، وحين أصبحت طفلة سعيدة تغمرنى النشوة بلا حدود تراجع عن ثباته واهتز وتشكك، أنا لا أفهم شيئا من كل هذا، سيدى ومولاى وحبى، ماذا أفعل لك ردا لجميك، أريد أن أسعدك كما أعطيتنى فرصة هذه السعادة، أنا المريدة وأنت شيخى، أنت أخذت العهد على شيخك الطيب، عهدى أن أسعدك بلا تفكير أو هم، فما هو عهدك بالله عليك، لماذا هذا الشك والخوف والتردد.
= أليس هذا هو نهاية المطاف يا عبد السلام؟
- بل ربما بدايته، إن استطعنا،
= لست أفهم ما تعنى.
- قلبى غير مطمئن.
= أما أنا، فأسبح فى بحر الطمأنينة دون حركة ذراع.
- لا بد أن نكمل.
= شاطئ الأمان لا تلطمه الأمواج، هل هناك بعد هذه النشوة شئ نكمله؟
- أخاف أن نكتشف أنها بركة آسنة، لا أشعر فيها بحركة موج أو هزة شراع.
= فأل الله ولا فألك، متى تستغنى عن قلقك الأزلى.
- هناك خطأ ما،
= هل بضاعتى مغشوشة؟ هل أنا ما زلت أعيش النشوة الدائمة.
- قلبى ليس مطمئنا، وأحلامى تؤكد خوفى.
= عارف بالله أنت؟ هذا الوسواس لا يتركك.
- عارف بنفسى، وبالدنيا المؤلمة.
= تعالى نسعد بلا حسابات.
- يخيل إلى أنى عاجز عن ذلك، لا أتقن هذه اللعبة.
= ماذا هناك بعد ذلك، يكفينا هذا ولنبدأ معا فى بيتنا دون تدخل الآخرين.
- هذا هو الخطر بعينه.
= لا أميل إلى الذهاب ثانية.
- لا أحب أن أخدع نفسى.
= إذهب أنت وسأنتظرك دائما لأجعل من بيتنا الجنة بعينها.
- فى الأمر خطأ ما، لا بد من الاستمرار حتى نراه، وربما أمكن أن نصلحه.
= أنا لا أرى هذا الخطأ، ولا أجد مبررا للذهاب بعد ما حدث، ثم إنى خجلة من مشاعرى، أخشى حين أهم بالكلام أن آخذ الجميع بالأحضان، بل أكثر من الأحضان.
-لا عليك، لابد أن نعيش الخبرة حتى أعمق أعماقها.
= لا تعقد علينا الحياة الله يستر عرضك، ليس هناك أعماق أعمق مما كان.
- ما أسهل حلولك.
= ما أصعب وساوسك.
هذا هو عيبه، يخاف السعادة ولا يتمتع بالنعمة، لا يزال مصرا على الذهاب إلى العلاج، علاج من ماذا بعد كل هذا؟ ومع ذلك فسوف أذهب معه، وليغمر الجميع طوفان النشوة.
- 9 -
لماذا الرفض بعد ما تغيرت هكذا، أخشى أن ينطفئ ما بى نتيجة لإصرارهم على الشك فىّ، عبد السلام يكاد ينكر ما بى الآن، وشيخه وبعض رفقته، ينظرون إلى أحيانا كأنى سارقة مع أنى أعلن سعادتى فى وضح النهار، هل علىّ أن أدعى الشقاء حتى يصدقونى، حين كنت ست البيت العاقلة جرجرونى إلى هناك بأمر الطبيب، وحين شفيت، لم يهنئونى بالسلامة، لكن مم شفيت؟ هل كنت مريضة؟ أنا لم أكن مريضة ولكنى شفيت على كل حال، الوحيدة التى شاركتنى فرحتى هى بسمة الحلوة ابنتى الجميلة الغالية، حسرة عليها، ومع ذلك شاركتنى ما بى، أيضا: وإبراهيم الطيب، هو فرحان بى أيضا، مختار لطفى ينظر إلىّ بنهم لكنى لا أهتم، موقف الطبيب يشبه موقف عبد السلام، دعينا منهم يا بسمة يا ابنتى يا حبيبتى وتعالى نرقص رقصة الفرخ الطائر، أريد أن آخذك معى نتعرى على شاطئ بحيرة، نصفق بأجنحتنا مع الأوز، نطير فى سمائها كالنوارس، ثم نعود إلى شاطئها، أقف أنا على كتف عبد السلام، ثم أطويه تحت جناحى، وسوف تجدين أنت أيضا من تفعلين معه ذلك، وأجمل منه، مهما رفضتم ما بى فسوف أظل أسبح فى هذه البحيرة الآمنة، هذا حقى مقابل ألمى طوال السنين، ليس من الضرورى أن أصارع الأمواج حتى أتعلم العوم، أنا أرفض رفضكم، ليس من حق أحد أن يعكر علىّ حياتى بعد ما استسلمت لفرحتى، لجسدى، وخلاص.
****
-.. من يضمن الاستمرار يا فردوس ونحن ما زلنا على الأرض؟
= لا حاجة للضمان، ألا تقولون أن الآن هو “الأبد”.
-..أنت تستعملين ذلك للراحة والتوقف.
= تفسيراتك تشوِّه كل شئ.
- والناس؟ الناس يا فردوس؟
= إياك أن تستعمل حكاية الناس هذه لتبرر هربك الأزلى من السعادة، ما للناس؟ الطريق معروف ومن أراد أن يسعد، فليسعد.
- نسيت يا فردوس.
= أنا لم أنس شيئا، أنا لم أتذكر حتى أنسى، وحتى لو، فلابد للإنسان أن ينسى، ما فائدة التذكرة بالألم مادمت قد دفعت نصيبى منه، ثم استلمت المقابل.
-لا أنكر عليك ما بك، ولكن لابد لـِـلـَّـحـْـم من عظام حتى يصبح كائنا، له معالم.
= نعم، ولكن هناك من الكائنات الحية ما لا عظام لها.
- عمرها قصير.
= أحسن، ماذا تريد منى؟
- أين أنتِ؟ أكاد لا أرى داخلك، كأنه انقلب إلى الخارج جميعه فلم يعد هناك جوهر داخلى، ليس للإنسان كيان إلا بالحفاظ على أعماقه.
= أكاد لا أفهم كلامك مثل زمان.
- هكذا؟ ، على أى حال: عدم فهمك أقرب إلى من حلـك السهل.
= ماذا تريد أن تقول؟
- أحاول أن أكون صادقا.
= إبراهيم الطيب صادق أيضا ولكنى أحس أنه يقبلنى هكذا، ومختار لطفى يريدنى ويشتهينى، هكذا تقول نظراته طول الوقت، وبسمة سعيدة بى.
- ليس تماما.
= ما هذا الذى هو ليس تماما؟ هذه شكوكك، تريدنى كما تحب، وفى الحدود التى ترسمها أنت.
- أعيد النظر فى أشياء كثيرة.
= لا تقلق، فما زلت أنت حبى وسيدى.
- بهذا تتحقق مخاوفى أكثر.
= كيف أثبت لك أنى حية؟ وسعيدة؟
- لو كنت كذلك، لا طمأننت بصحبتك إلى ما لا نهاية….. ولكن..
= جـَـرِّب، هأنذا.
- لا يمكن الاطمئنان إلى إنسان بلا أعماق.
= أمرك عجيب يا أخى، من أين أشترى لى أعماقا حتى أعجبك؟
- إبحثى عن السؤال الذى ليس له جواب، وستجدينه فى أعماقك، ولن تنسين الناس.
= سعادتى أجابت على كل الأسئلة فى لحظة.
- هذه مصيبة المصائب، “فى لحظة”!!! حكاية “فى لحظة” هذه ترعبنى
= إذا كان الأمر هكذا مصيبة كما تقول، فالبركة فيك وفى صاحبك.
- لم تتحملى الحمل والولادة، لا توجد ولادة سليمة دون شهور حمل.
= عندى ثلاثة، وأنا رابعتهم.
- ياليتك عرفت كيف يولد الإنسان من جديد، كيف يلد نفسه مرة ومرات فى هذا العالم الطاحن المطحون، كيف تطول سنين الحمل لسنوات وليس لشهور.
= ماذا تريد الآن؟
- نبدأ كل يوم من جديد.
=…. سورة هى لن تنتهى!!؟
-…. ينبغى ألا ننساهم أبدا.
= من؟
- الناس.
= هذا هو النكد بعينه.
- لاضمان للاستمرار إلا بهم.
= نعتمد عليهم؟ نهرب من أنفسنا فيهم؟ ألم تحذرنى من ذلك طول الوقت.
- بل يختبروننا ونختبرهم، لا مفر من المشاركة طول الوقت.
= لماذا لا تشاركنى إذن؟ ألستُ ناسا؟ لماذا أعتبرك أنا ناسى وأحاول أن أشاركك.
- أنا أحد الناس، لست بديلا عن الناس.
= إبحث فى خوفك من الحياة ولا تستعمل ألفاظا كبيرة، أليس هذا بعض ما علــمتونى إياه؟
- لا أنكر خوفى، ولكنى أعرف ما وراء اختزال الألم.
= كفانى ألما.
- لا تنزعجى منه فداخل أعمق نبضة فيه، ستجدين الحياة.
= سأحاول بطريقتى.
- ياليت.
-10 -
أخرجتُ شهادة الليسانس من بين أكوام الخزين، عدت إلى العمل مدرسة إعدادى، لم يعد أمامى اختيار، التراجع صعب، والتوقف مستحيل، الحلقة تضيق أواصل طريقى بنفسى، لا أتنكـَّر لفضله فى ذلك، لكنه طريقى أنا، أقرأ التاريخ بطعم آخر، أبحث عن تجربة مماثلة، تتراءى أمامى ملامحها فى فجر كل ثورة، ولكنها تختفى سريعا حتى أيأس مما نحن فيه، انزعج عبد السلام فى أول الأمر من استقلالى ولكننا نتقارب بشكل أهدأ، وإن كان أبطأ.
أتساءل: هل كتب علينا أن نكرر نفس الخطوات: اليأس: الأمل: المحاولة: النجاح: اليأس: الأمل: المحاولة:…. وإلى متى؟ لا أحتمل طول التساؤل فى أغلب الأحيان، ولا أستطيع النسيان.
لا يخفف الصعب إلا استحالة البديل.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط