نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 17-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3942
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل نشر فصول رواية “الواقعة” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) كما أشرنا الأسبوع الماضى.
وهذا هو الفصل التاسع
*****
(رواية “الواقعة”) (1)
الجزء الأول: من ثلاثية “المشى على الصراط”
الفصل التاسع:
“الأرض السابعة”
تقول يا عم محفوظ أن الله موجود ورحمن ورحيم، فلماذا لا تنشق الأرض لتبتلعنى حتى ينتهى هذا الموال؟ لا يمكن أن يتحمل إنسان كل هذا الخزى والعجز، فكرت فى الاختفاء بأى وسيلة، فكرت فى السعى للعمل فى إحدى الدول العربية، ربنا أمر بالستر سأكتب إلى أخى فى ليبيا، لن أعدم حجة تبرر ترك أولادى وزوجتى هنا.
ثم جاء اليوم الذى عملت له ألف حساب حين تجرأتْ وحدثتنى فى الموضوع مباشرة:
- أرجو ألا تسئ فهمى.
فلتهبط السماء على الأرض قبل أن تعايرنى صراحة هذه الكتلة من اللحم الأبيض.
- خيرا إن شاء الله.
- لقد بحثت الأمر ودلونى على من “يعرف”.
وقع المحظور، دلوك على من يا امرأة؟ هل أصبحتُ موضوع حديث الصالونات النسائية؟ من الذين دلوك يا ست هانم؟ هل نسيت كل ما أمـْـتـَـعـْـتـُــكِ به قبل ذلك.
طال صمتى حتى أكملتْ حديثها:
- قالوا لى إن هذه مسائل بسيطة ولابد أن بعض بلدياتك ساءه أن ترث طين المرحومة، استكثروا عليك النعمة رغم أنهما فدانان “عـُـمْى”، خافوا أن تأخذ الأرض من مستأجريها، فكادو لنا بذلك، وعملوها، حتى يشغلوك عنهم.
- ماذا تعنين؟
(يا صلاة النبى اتفضحتَ يا عبد السلام، وما كان قد كان)
- كل عقدة ولها حلال،.
يتردد نشيد الابتدائى ”الدوارة” فى عقلى من جديد: “لف القيد، قيدى وافى”، هاهم أولاء قد ربطونى حتى لا أقربك ياست الحسن بعد أن تفجرت حيوتك فى هذه السن بلا مناسبة، لماذا تتفتح خلاياك الآن بلا حساب، تريدين أن تغترفى من بحر اللذة فى الوقت بدل الضائع؟ لا مفر من التمادى فى الحديث.
- وما العمل؟
- سمعت عن بعض من يفكونه الربط فى جلسة واحدة، سيدة سودانية تعمل المعجزات،
(فحالتى تحتاج إلى “معجزة”،… أين أخدود اللانهاية، ..)
- هذا حقك يا ستى، ليس لى أن أعارض، ولكن كيف السبيل إلى ذلك دون فضيحة.
- لاتخش شيئا فهى سيدة سودانية فاضلة تدخل البيوت لترى الطالع وتشفى الأمراض، ولا أحد يسأل عن تفاصيل عملها، كلهم يعتبرونها بركة.
آه لو تعلمين؟ إسألى عم محفوظ، ربما كان هذا هو نهاية المطاف، أمشى فى حب الله مثل عبد الستار النجار، أو أدخل البيوت أساهم فى حل مشكلة العقم بطريقتى الخاصة بعد أن تفكوا ربطى بمعجزة سودانية،
بمهانة لا توصف، ملأنى شعور بالكراهية نحوها ليس له مثيل، فى نفس الوقت دبـت فى شهوة عارمة يصحبها شعور بالرغبة فى القتل، وتحفزت للتجربة بتحد وقسوة، تذكرت خيالاتى فى الحمام أثناء ممارسة اللذة الذاتية وكيف تدور فى كثير من الأحيان حول إحدى السودانيات التى لا يحتاج صدرها إلى رافع، ولا يحتاج إشعالها إلى ثقاب، سال لعابى حين وصلت إلى هذه المرحلة من التفكير، وتوقعت مفاجآت سارة متى أطلقت لجنونى العنان.
قلت فى استسلام خبيث.
- هاتيها، ولكن حدثينى عن التفاصيل.
– أبدا، تحضر، وتأخذ ”الأثر” وتقرأ بعض ماتعرف، ثم تنفرد بنفسها فى حجرة مغلقة، يقولون أنها تتعرى تماما حتى يحضر خادما من خدام السر، فتطرد الشياطين، وينفك العمل بإذن الله.
ولماذا يحضر خادمها ياست هانم بإذن الله، أنا خادمها بإذن الشيطان، أنت لا تعرفين شيئا عن نشاطى السرى فى الحمام، وربما كنت أنت السبب فى كل هذا، كم أبغضك وأنت تمثلين منظر البريئة المجنى عليها، منذ ماتت أمى وأنا أخاف منك دون سواك، قال لى الأخصائى أن أعضائى سليمة، ولكنه لم يقل لى أنك أنت سليمة، أخاف من الاقتراب منك أنت بالذات، هأنذا أتبين نوازعى بعد أن ثار جنونى نتيجة لامتهانك لى وتحديك، أخاف من شهوتك الوقحة، أخشى أن أبيع لك نفسى دون مقابل، أخشى أن تطلبى حياتى مقابل رضا شياطينك، أخشى أن أدخل فيك فلا أخرج أبدا، هذا بعض ما هدانى إليه عقلى الآخر، ذلك العقل السرى الذى يحلو لكم أن تسمونه جنونا، هاهو يأمره فيرقد فى الخط بلا حراك استخسارا لجهده أن يهدر لمن لا تستحقه، لمن لا يراه أو يرانى.
لم أعد أستطيع التعرف على طبيعتها الحنون وتقبلها الصامت، شككت فى رؤيتى لها حتى ونحن مخطوبان، هل كان ينبغى أن أجرب نفسى مع غيرها؟ ولكن ماذا لو فشلت المحاولة فتخطت الفضيحة أسوار البيت؟ وماذا لو نجحت مع غيرها فزاد فشلى معها؟ ما باليد حيلة، سوف أقبل التحدى، شعور يخامرنى أنها ستدفع ثمن تطاولها بشكل ما، قلت فى نشوة غريبة.
- وهو كذلك.
* * *
جاءت فى اليوم الموعود، هى هى كما صورها خيالى، حول الأربعين، لكنها “هى”، كنت مليئا بالتحدى والرغبة واليقظة، أخذت أنصت إلى ما تقول وأنا أكاد ألتهمها ضاربا عرض الحائط بكل ما تقرأ من آيات، وتعاويذ أغلبها غير واضح المعالم، بدأت بالنظر إلى نظرة أعرفها تماما، تلك النظرة القادرة على إرسال إشعاعاتها من عمق سحيق، تبينت أنها تنبعث من الأرض الخامسة، لم أهتز، لم أغض بصرى، أخذت المبادرة، نفذت إلى أعماقها أسرع منها وأكثر ثقة، وصلت إلى أرضها السابعة وما بعدها، اهتزت تحت هجوم نظراتى حتى كادت تترنح، بدأتْ تحاول أن تتجنب اقتحامى، التقينا فى ثوان وتيقنت أن المعركة انتهت لصالحى قبل أن تبدأ، أنا أكثر منك جنونا يا امرأة، هات ما عندك وتعالى معى أرفعك إلى السماء السابعة، ملكنى شعور طاغ بالزهو والمقدرة، ما أروع قوة الجنون السرية.
استمرت فى همهمتها وقد بدا عليها الارتباك وظللت أنا ثابتا كالطود واثقا من تفوقى ورجولتى ثقتى من جنونى، ألقيت نظرة على زوجتى ملؤها الحقد والتشفى، انتقلت إلى الخطوات التنفيذية، فعاودت النظر إلى المرأة بلا رحمة ولا تردد، يبدو أنها أدركت تماما أين أنا وما أنوى وما أقدر عليه، ارتعدتْ أكثر ولم ترد، اهتزت هزة خفيفة لا تخلو من أنوثة بالرغم منها، لو سمح لون بشرتها للاحظت زوجتى درجة احمرارها.
قلت لها فى وقاحة:
- هه؟ ماذا تقولين؟
- يبدو أن حالتك مختلفة.
- أسوأ أم أحسن؟
- أخطر،
انزعجتْ زوجتى وبدا أنها على استعداد لعمل أى شىء حتى تنجح المهمة، لم أتوان فى انتهاز الفرصة، كنت أتصرف دون تفكير مستغلا حرص زوجتى، قلت:
- إذا كانت الحالة بهذه الخطورة فلاداعى للمغامرة.
قالت زوجتى فى انزعاج:
- لا تتعجل ولا تـَـخـَـفْ وسوف يأتى الله بالفرج.
(الفرج يا أيتها الأتان سوف يكون على عينك ياتاجر)، قلت فى خبث ريفى أصيل:
- أنا على استعداد لأى شئ، حتى للدخول معها إلى خلوتها إذا كان ذلك ضروريا لتخليصى منهم.
أطرقت السودانية وقد بلغتها الرسالة، حاولتْ أن تسيطر على مشاعرها قدر الإمكان، ثم نظرت إلى زوجتى من طرف خفى، فواصلت الهجوم.
- إلا إذا كانت حالتى ميئوس منها إلى الأبد.
قفزت زوجتى - كما توقعت- ترجوها أن تفعل أى شىء أى شىء فيه “الصالح”، حاولت أن أطمئنها بخبث فواصلت الحديث مع المرأة بعد أن اطمأننت أنه قد بلغها من أنا، قلت لها مشيرا إلى حجرة النوم.
- أنا تحت أمرك، والله معنا، طبعا لا داعى للتعرى فى هذه الحالة.
نظرت إلىّ المرأة فى تحد مستسلم، قررتُ ألا تراجع مهما كان الثمن فقلت متصنعا:
- أخشى أن يصيب بعض الآخرين أذى من تحت الأرض إذا ما حضروا “بسم الله الرحمن لرحيم”.
ردت زوجتى فى حماس:
- الأولاد فى المدارس، والبنت صرفتها ولن تعود الآن، عملت حسابى خوفا من الشوشرة.
نظرت المرأة إلى الأرض وقالت وكأنها تسألنى:
- والست هانم؟
(تأكدت أن الخيوط كلها فى يدى فقلت وكأنى أنا الذى أتولى مهمة إخراج الشياطين)
- تلزم حجرتها وتواصل قراءة القرآن دون توقف حتى ينتهى فك العمل، هذا ما فهمته أليس كذلك؟
أومأت المرأة باطمئنان، فتماديت وسألتها إن كان سوف يحدث ضرر كذا أو كذا إذا توقفت زوجتى عن قراءة القرآن، فانبرت زوجتى أنها لن تتوقف ولن تغادرالحجرة الأخرى ولا ثانية واحدة حتى تنتهى المهمة.
استأذنت زوجتى فى رضا وابتهال وهى تدعو لنا بالتوفيق، قامت المرأة إلى الحجرة المعنية وهى ترتعد وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، تبعتها وكنت واثقا، من كل ما أعمل ثانية بثانية، وكأنى أعددت كل شىء من قبل، أحكمت إغلاق الباب واتجهت إليها فى صمت، وهى لا تستطيع أن ترفع عينهيا فىّ، ألاحقها بنظراتى فتهزم قبل أن تتمكن من مجرد البحث عن مقاومة، أمتلئ بقوة ممزوجة بالفخر والنصر والجنون، أحسست أنى أستطيع فى هذه اللحظة أن أصهر الحديد.
قالت وصوتها يرتجف بالخوف والرغبة:
- ماذا تريد منى؟
- لم أرد وازددت اقترابا، فقالت:
- من أين طلعت لى اليوم؟
- أنت تنتظريننى من زمان.
قالت وكأنها ضـُـبـِـطـَـتْ متلبسة:
- أنت إبليس ذاته.
قلت فى فخر.
- أنت تريديننى هكذا، فلن يغرقك فى بحر اللذة المجنونة إلا من هو أجنُّ مـِـنكِ.
- لا حيلة لى معك.
ساد الصمت ولم أبد حراكا ولا تعجلت، وكأنى أتمتع بمشاهدة هذا الأبنوس الحى وهو يغلى رغبة وغيظا.
انتظرت حتى يسيح انصهارا.
قالت وكأنها تصيح:
- هيا وخلصنا، ….، ……………
* * *
قالت وهى مازالت تتفصد عرقا وتحاول أن تفيق من شبه الغيبوبة.
- من أنت؟
قلت ومازلت فخورا بدرجة جنونى:
- من أنت؟
طأطأت رأسها وقالت وكأنها تحدث نفسها.
- ما كان لى أن أستسلم لك، لن أغفر لنفسى ما حييت،
قلت ومازلت فى نشوة جنونى.
- رحمة الله وسعت كل شئ.
قالت فى قوة جديدة لا تتناسب مع استكانتها السابقة.
- إخرس يا شيطان، كفى ما كان.
اهتززت لأول مرة منذ بدأ اللقاء النارى، تسرب إلى إحساسى صوت كيانى يتشقق من جديد، وكأن الصوت قادم من أغوار بعيدة، يتزايد الصوت فى هدوء مرعب، أحسست أننى أعود من آخر الدنيا مسحوبا على وجهى، لم أستطع أن أستجمع قواى لأقرر ما ينبغى أن أنهى به الموقف، اندفعت بسرعة إلى الباب ومضيت من فورى إلى حجرة زوجتى فوجدتها مازالت تقرأ القرآن، ارتميت على السرير ورأسى فى حجرها وانفجرت فى البكاء، غـَـمـَـرَتــْـها المفاجأة، وأخذت تملس على ظهرى وتتمتم بآية الكرسى، زادت رجفتى حتى بدأ السرير يهتز كله، رفعت رجلى على السرير وانكمشت حتى كادت قدماى تلامس ذقنى ومازلت ارتجف بالرغم من انقطاع البكاء، سحبت زوجتى الغطاء على فى صمت حتى غطى وجهى فسكنت حركتى مؤتنسا بالظلام، وسمعتها تقول قبل أن أستغرق فى النوم “الحمد لله”.
* * *
لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا نائم، استيقظت فوجدتـنى مازلت فى موضعى من السرير ورأسى على حجرها، تطلعت إلى وجهها فوجدتها تغمرنى بحنان وديع، خجلت من نفسى، اعتدلت وحاولت أن أسترجع ما كان، مرت الصورة أمامى مهزوزة دون تفاصيل، استقمت فى جلستى مذعورا من بعض تلك الصور.
- أين هى؟
- ذهبت من زمن، أكثر الله خيرها.
حاولت أن أتغلب على الرجفة التى كادت تغمرنى ولمـّـا تظهر بعد.
- هل قالت شيئا؟
- قالت ربنا موجود وهو غفور رحيم، ألم أقل لك إنها إمرأة مبروكة، حتى النقود لم تقبل أن تأخذ مليما، كله فى حب الله.
هدأت قليلا بعد أن اطمأننت إلى أن ماحدث كله قد أصبح ماضيا يـُـتحدث عنه.
-.. هل قالت إنى شفيت.
- لم تقل أكثر مما ذكرت، فبماذا تشعر أنت؟
انزعجت لتسلسل الحديث إلى هذا الاتجاه الآن، أنا الذى جلبته على نفسى.
- أشعر أنى بخير.
أشرق وجهها بالفرحة، ولكنى حسبت أنها الرغبة، فارتعدت، حاولت أن أنظر فى نفسى فوجدت الموت قد عاد إلى أحشائى كما هو، وربما أكثر.
- التساهيل على الله.
فهمت تراجعى وحيطتى فقالت فى شبه انزعاج:
- ألا تشعر بأى تغيير.
يانهار أسود، ماذا تريد هذه المرأة بهذه السرعة، ألا تدعنى أستجمع نفسى بعض الوقت؟ ماذا لو علمت ما جرى؟ أحسست بشىء من الفخر والشماتة معا.
- لقد فعلتُ ما أشرتِ به، وما علينا إلا انتظار الفرج.
قالت بيأس ظاهر:
- فرجـُـــهُ قريب،
هو الجنون، ، وإذا استمر رفضى للعلاج وهربى منه فلا أحسب أنى بعيد عن مستشفى المجاذيب إلا بمقدار أن يـكتشف أمرى، علىّ أن أتخذ القرار الآن.
رحت أبحث عن العنوان الذى أعطانيه الطبيب التناسلى.
* * *
كان هناك شىء ما فى هذه العيادة يميزها عن الأخريات، ليست جمعية استهلاكية ولا مقبرة فى وادى الملوك، مجرد مكان عادى مثل أى طبيب متوسط، تذكرت طبيب أمراض النسا والولادة الذى ذهبت له فى أول الأمر وشعرت بالطمأنينة لوجه الشبه بينهما، إذن فأنا مريض عند طبيب، وخلاص !!! هل ثم خلاص؟
زادت طمأنينتى حين علمت أن الاستشارة ليست بميعاد سابق فقد كنت أتعلق بأى اختلاف عن تجاربى السابقة، لا يوجد فى حجرة الانتظار إلا نفر قليل، شعرت بالألفة لسبب لا أعلمه، جئت بدون موعد وعلىّ الانتظار، فرصة لأتبادل الحديث مع بعض الجالسين، اقتربت من أحدهم ممن توسمت فيه الطيبة والسماحة، وبعد تبادل تحية المساء قلت له:
- هل تأتى هنا من زمن طويل؟
- بضعة أسابيع، وأنت؟
- أول مرة، ولذلك فأنا متردد تماما وخاصة أنى ذهبت إلى آخرين ولم أواصل العلاج.
- لابد أن تستمر بعض الوقت قبل أن تحكم.
- خوفى يمنعنى من المحاولة.
- كلنا كذلك، ولكن للضروة أحكام.
- ليتنى أستطيع.
- ولم لا؟
- لست أدرى ولكنى أخاف كما قلت لك.
- حاول، ولن تخسر شيئا.
شجعنى حديثه المباشر فتجرأت على أن أسأله:
- آسف للتدخل فى شئونك الخاصة ولكن حديثك يطمئننى، هل أستطيع أن أعرف ماذا عندك لعلى أتشجع أكثر إذا وجدت ما يشبه حالتى.
- لا يوجد إنسان على ظهر الأرض مثل الآخر.
- وماذا قال لك الطبيب، بم شـَـخـَّـصَ حالتك؟
- علمنى ألا أختبئ وراء لا فتة، أى لافتة.
-… يعنى؟.
- عليك أن تختبر الأمر بنفسك، ولكن لا حرج من الكلام فلا محظور إلا الكذب والهرب.
بساطة الحديث وتواضعه تبهرنى، هذا شىء لم أعهده من قبل، سوف أقول له ما بى ولو لأعمل “بروفة صدق”، حضر الممرض واستدعى الشخص الباقى فى الحجرة فتشجعت أكثر للمضى فى الحديث مع جارى.
- أنا لا أعرف ماذا عندى، لكنى أشعر أنى لست مثل الناس، ولست مثلما كنت قبل ذلك.
- أظن أن كل إنسان يمر “بهذا”فى وقت ما من حياته، هناك من يتوقف، وهناك من يسرع فى الهرب، وهناك من يبحث.
(كلام جديد، هو أيضا كلام خطير، دعوت أن تطول مدة جلوسى معه، قررت أن أحكى له رضى أم يرض، عليه هو أن يوقفنى متى شاء).
- تشغلنى أمور كثيرة متشابكة لابد أن أنتهى منها أولا حتى أعرف كيف أعيش،
- أمور مثل ماذا؟
- الله والحقيقة والجنس والعمل والموت والنار,.. وكل شئ،
- يا أخى.. تريد أن تنتهى قبل أن تبدأ؟ ماذا يتبقى بعد ذلك؟ البحث فى هذه الأمور هو الحياة ذاتها،
- هذه أمور لا تشغل كل الناس،
- بل هى تشغلهم ولكن بطرق مختلفة،
(ما هذا كله؟ مم يشكو هذا الإنسان؟)
- لماذا أنت هنا إذن؟
أشارك فى البحث …..
- هل نحن فى مركز أبحاث أم عيادة؟
- لابد من رفيق طريق وإلا قتلتك الوحدة.
- رفيق طريق بدرجة دكتور؟
- هذا من فساد العصر، ولكنها البداية.
- وهل وجدت الرفيق هنا؟
- نحن نبحث سويا، نحاول، ونتقارب.
- نحن؟ نحن من؟ أنت والطبيب؟
- أنا والطبيب وآخرون مثلى ومثلك.
- ولماذا يبحث الطبيب معكم، ألا يعرف كل شئ.
- من ذا يعرف كل شئ؟
- لا أفهم.
جاء الممرض بلا داع فكدت أقتله، نادى زميلى ليدخل فسألته صائحا وهو يبتعد،
- اسمك من فضلك؟
قال وهو فى طريقه إلى الحجرة الأخرى وعلى وجهه دهشة عابرة.
- ”إبراهيم الطيب”.
صحت بصوت أكثر علوا قبل أن يختفى تماما.
- وأنا عبد السلام المشد.
لا أعرف لماذا أصررت على أن أقول له اسمى بهذه الطريقة التى ابتسم لها الممرض مشفقا فى الأغلب، لم أتذكر أن بداية الأزمة كانت حين نسيت ذلك.
* * *
جلست أفكر طويلا فى كل ما حدث، يبدو أنى مقبل على شىء جديد، هل أنا أبحث عن رفيق طريق أم عن طبيب يعالج عجزى ونزواتى معا؟ هل أنا أقبل أن يكون لى رفيق وأنا كل همى، ومنذ البداية، أن أتحاشى أى رفيق حقيقي؟ ألم أهرب من غريب لولا أنى تأكدت أن قوقعته غير قابلة للكسر؟ ألم أتحاش زوجتى لما بدا أنها قد تشعر بى ولو لحظات؟ هل سأضطر أخيرا إلى مغامرة فيها ناس بحق؟ ما حدود ذلك وأنا لا أعرف أولها من آخرها؟
ملكنى الرعب ونظرت إلى الحجرة الخالية إلا منى، زادت دقات قلبى حتى كاد يقفز من صدرى، انتهزت فرصة دخول الممرض إلى المطبخ وخرجت مسرعا حتى أخذت أجرى فى الشارع، ولم أشعر بالأمان إلا حين وجدت نفسى فى ميدان التحرير (2)
* * *
أفقت على ما حولى، لا بد أننا بعد العشاء بزمن، حركة غير عادية فى الميدان، جنود يلبسون الخوذات النحاسية، ويمسكون بالعصى الطويلة، وعربات بوليس تحمل مثلهم وتجوب الميدان، وأعداد من الشباب تتجمع وتتفرق، لا احتكاك ولا صدام، ما هذا كله؟
تذكرت فجأة – دائما فجأة - أن الطلبة فى تذمر هائل هذه الأيام، أنباء الإضرابات – التى تسميها الصحافة الاضطرابات، تملأ الصحف، إشاعات الثورة والانقلاب تدور حول المكاتب وفى الأتوبيسات، وإلى درجة أقل فى البيوت والمقاهى، أين أنا من كل ذلك؟ غائب أنا عن كل هذا من زمان، غائب أو مغيـَّـب، أنا مسئول، كنت أتجنب كل ذلك زمان تحت ادعاء العقل، والآن أنكره بعد أن انسحبت لكوكبى الخاص تحت ادعاء الجنون، هل هذه بلدى أم أنى مجرد سائح عابر؟
بدأ يداخلنى شعور بالخجل والذنب معا، حاولت أن أقضى عليه بسرعة، أفضل لى الآن أن أعترف بأن مابى هو مرض صريح، أنا مريض، ولا شأن لى بكل هذا، أنا لست من هنا، أنا لست سائحا فقط فى هذا البلد، ولكنى سائح فى هذا الكوكب الأرضى كله، أنا قادم من كوكب آخر؟ بل ربما أكون أنا شخصيا كوكبا آخر، هذا الجو المشحون بالحماس والشباب والبوليس، قفز ”عقل بالى” آخر، تعجبت لاختلافه عن الساخر الأول:
= “هؤلاء الشباب والبوليس”هم آهلك، هم أنت،
- مالى بهم، أنا عاجز حتى عن مزاولة واجباتى الزوجية.
= “فشلك فى دائرتك الصغيرة، بصنعك فى دائرة أوسع، لا يبرر هربك.
- أنا لم أفشل بخاطرى، أنا عاجز عن الحياة بكل أشكالها.
= “كاذب، وهارب، وجبان، عليك أن تدفع الثمن”
- هذا المحيط الهلامى من الضياع؟ لست ناقصا ضياعا؟
= “تشارك أو تعيش نذلا تعسا، لا مفر،
- أنا غير قادر على شئ.
= “جبان”.
- أنت الغبى.
اختلط علىّ الأمر وحاولت أن أوقف الحوار، شعرت أننى يمكن أن أهيج أو أعدوا أو أحطم شيئا أو أقتل، عاد يتحدى.
-.. لن أدعك تهنأ على حال، سوف أحرمك حق الوجود ونعمة العمى معا،
- ماذا تريد منى؟
- دعنا نذهب إليهم.
(سآخذه على قدر عقله ولسوف نرى.)
* * *
توجهت إلى أكبر مجموعة منهم مضطرا على ما يبدوا، حاولت أن أهدِّئ من مشاعرى وأن أستدعى كل قدرتى علي”الفرجة”حتى لا يدفعنى حماسى إلى ما لا أدرى بعد أن أصبحت أوقن أنى مجنون مع وقف التنفيذ العلنى، حاولت أن أضيع فى الزحام حتى لا يلحظنى أحد، اقتربُ منهم فى حذر خشية أن أضبطنى، هم يغلون بالحماس والثقة، يتبادلون الأفكار فى هدوء واضح، تصلنى بعض حواراتهم رغما عنى:
= هذا ذل ولن نسكت عليه.
= نحن مسئولن عنها أمام الأجيال القادمة.
= الانتظار تخدير أمريكى، والمؤمرات تـُـدَبـَّـر فى الخفاء.
= بل وفى العلن.
= الوعود تلقى فى المواسم والأعياد، ولا نجنى إلا تبرير الهزيمة.
= الحرب أو الثورة، ولنلق بالجميع إلى الجحيم.
= احتلال القاهرة خير من خدعة الكلام عن الإعداد للحرب.
= لا يريدون أن نواجه الهزيمة فى الشوارع خوفا على أنفسهم.
= آن الأوان، …..،
= انسحاب،
= هذه بلدنا، هم الذين عليهم أن يذهبوا،
لم أستطع أن أكمل أكثر، الكلمات تدخل إلى وجدانى كالرصاص الحارق الذى يخترقنى إلى مخزن بارود لا أعرف من الذى خبأه داخلى دون علمى، انصرفت قبل أن أتفجر فى أى اتجاه، أمسكت بخرطوم المطافئ أحاول أن أمسخ التجربة كلها بأى سخرية تطفئ مشاعرى حتى كدت أهتف بينهم “تسقط العـِـنـَّـة ويحيا الجنون”، يبدو أننى قلتها بصوت مرتفع، سمعنى أحدهم فردّ يقول: عنة السياسة ألعن، التفتُّ إلى شاب وفتاة يجلسان وحدهما على ركن من قاعدة التمثال بلا تمثال، بدا أنهما يتناقشان فى السياسة والحرب والحب، اقتربت منهما وسألت.
- ماذا تريدون على وجه التحديد؟
أجابنى الشاب بحذر وقوة.
- ومن أنت على وجه التحديد؟ من المباحث العامة أم من المخابرات؟ هل أنت مصري؟ من أنت؟
- أنا عبد السلام المشد.
قلتها وأنا أعنيها مثلما صحت بها لابراهيم الطيب فى العيادة منذ قليل، أين محصلة الكهرباء لتؤكد لهم أننى عبد السلام المشد، هذه الفتاة لا تشبهها، قالت فيما يشبه السخرية لكنها ليست كذلك تماما:
- تـَـشـَـرَّفنا،
قال الشاب.
- وماذا تريد؟
قلت.
- أريد أن أحس بإحساسكم، أريد أن أعرف أكثر.
قالت الفتاة.
- ألم تعرف بعد؟ البلد محتلة من سنوات، ألم يـُـبـْـلغوك الخبر؟
قلت.
- هى النكسة، والكل يعرفها.
قال الشاب.
- يا فرحتى !! أى خدعة!! “النكسة”، ماركة سيارات جديدة هذه؟ ولم لا نقولها صريحة لنتحمل المسئولية، أليست هى الهزيمة فالاحتلال؟
-… تريدون الجلاء.
- نريد أى شىء إلا ما نحن فيه، وأنت ماذا تريد؟
من أين لى أن أعرف ، لو كنت أعرف لما كنت الآن فى هذا المكان هاربا من عيادة طبيب نفسى، من أين لى أن أعرف ماذا أريد؟ أليس كل سعيى هذا لأعرف؟
- أنا لا أعرف ماذا أريد، لا أعرف حلا لأى شئ.
(لست متأكدا إن كنت قلت كل ذلك بصوت مسموع أم لا)
- الحل هو الثورة، .. أو الحرب،
(استجمعت حكمتى القديمة لأخفى ما بى)
- ولكن لابد من الاستعداد للحرب، وإلا فنحن ننتحر،
قالت الفتاة:
- نحن ميتون، .. والميت ضاعت عليه فرصة الانتحار.
قال الشاب:
- ألا تحس يا هذا؟ هل أنت “جـِـبـِـلـَّـة “؟ كيف تستطيع أن تواجه أولادك كل صباح؟ كيف تتمتع بزوجتك والبلد محتلة هكذا؟
انزعجت من هذا التلميح، استبعدت أن يكون قد بـلـغه شىء عن عجزى، كدت أسأله هل من الوطنية أن أكون عنينا حتى يزول الاحتلال؟ أحسست بزهو خفى لأنى لا أتمتع بزوجتى فى ظل الاحتلال، لا بد أن ذلك من باب الوطنية، ارتسمت على وجهى ابتسامة سرية، أحسست بحب غامر نحوههما، أنا من نفس البلد، “نحن”، أخيرا “نحن” لنا بلد معا.
- ربنا يحميكم.
فوجئ الشاب، قال رافضا بيده:
- كفى ابتهالات ودعوات، هذه مسئوليتكم قبلنا، أنتم جيل الهزيمة والعار، أنتم الذين سرقتمونا وخدعتمونا ثم لا تملكون لنا إلا الدعوات المباركات.
تمنيت أن تبتلعنى الأرض حالا، ماذا يريدون منى أن أصنع أنا بالذات؟ ما الذى جاء بى إلى هنا؟ هل كنت ناقصا اتهامات أو إهانات أو امتهانا، هذا الشباب المغرور الحالم ماذا يصنع إلا الهتاف والصراخ ثم سرعان ما يعودون إلى حظائرهم خلال أيام، كنا مثلهم فى يوم من الأيام وصنعنا الثورة فماذا صنعوا هم.
قلت مدافعا:
- لكل جيل واجب، وقد صنعنا الثورة.
قالت الفتاة:
- قل، لقد سرقتم الثورة، خدعتمونا يا رجل، أين الثورة؟
قال الشاب:
- فى كتب “التربية القومية”!!!؟ أليس كذلك؟
كدت أصيح فيهم: أنا مالى يا أولاد الكلب، كفانى ما بى، ما الذى جاء بى إلى هنا؟ .. يحمـلونى مسئولية الأحداث هكذا مرة واحده، وكأنى صانع الثورة، والمسئول عن انحرافها فى وقت واحد، أنا آحبكم والمصحف، حتى أسألوا، …..
قلت معتذرا ممهدا للانحساب:
- سرقوها وكذبوا علينا كما كذبوا عليكم.
لم تمهلنى الفتاة.
- أنتم رضيتم بالكذب، أنتم سـَـكـَـتـُّـم على الكذب.
يانهار أسود، يبدو أنى جئت إلى حتفى برجلى، أخشى أن يحاكمونى علنا مثلما كنا نسمع فى الصين، العالم أصبح صغيرا والعدوى تنتشر بأسرع مما نتصور، ملكنى خوف حقيقى حتى نظرت إلى عربة البوليس المليئة بالعساكر ذوى الخوذات، داخلنى شىء من الاطمئنان واليقين بلا مبرر: لا إعدام بلا محامكة، ولا ظلم فى عصر الشرطة! على كل واحد أن يدفع جزاء ماعمله فقط، لا أكثر ولا أقل.
واتتنى الشجاعة من منظر الشرطة المدرع فانطلقت أكمل دفاعى طالبا البراءة:
- أخفوا علينا كل التنازلات، لم نعلم أنهم يمرون فى شرم الشيخ منذ 56، ويوم علمنا حاربنا.
قالت الفتاة:
- لا تقل حاربنا قل حوربنا، وانهزمنا، وقالوا نكسة.
قال الشاب:
- ومازال الكذب يعمل قراطيسا للب والفول السودانى.
المسائل أكبر من قدرتى الآن بالذات، لا حل إلا الانسحاب قبل أن يفلت منى الزمام، الخبل السرى يعاودنى لينقذنى، قراطيس الكذب التى تستعمل للب والفول “السوداني”، كلمة السودانى استدرجتنى إلى تذكر تلك المرأة السودانية وجذعها الأبنوسى المنصهر تحت نار جنونى المختلط بالنشوة، امتلأت فخرأ بفحولتى رغم الكلام عن النكسة والاحتلال والهزيمة، زهوت بنفسى لأنى حققت فى دقائق معدودة – دون مفاوضات تذكر – ما كان يحلم به كل من الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، والصاغ صلاح سالم بلا خسائر فى الأرواح.
للجنون فوائد سرية.
انتبهت على قول الشاب.
-….. لكل شىء نهاية.
قالت الفتاة:
- ها نحن نرسم بداية النهاية:
قال الشاب: ونبدأ نحن هذه المرة.
انصرفت خجلا من أفكارى الجنونية الشبقية فى هذا الجو السياسى المحمل بالثورة ولكنى حمدت الله عليها، وعلى أنهم لم يعرفوا فيم أفكر، لم أستطع، رغم احتمائى بجنونى، أن أطفئ النار التى أشعلوها، كنت أحسب أن هذا الجانب منى قد مات إلى الأبد، رعبت من هذه الثورة بداخلى وحاولت أن ألغى كل ما حدث.
المشاعر مرعبة ضخمة تحمل معها خليطا من الخزى والمسئولية والإفاقة والعجز.
كنت أحسب أن فشلى على السرير هو أعلى درجات الخزى ولكنى عرفت الآن ما هو أعلى منه وأكثر سحقا.
* * *
أجرجر رجلى إلى بيتى وأصعد الدرج وكأن سيقانى هى أكياس الرمل المعدة لإطفاء الحرائق بعد الغارات.
بينما أنا أنتظر أن يفتح بابنا لمحت الأستاذ غريب من نافذة المنور وهو منكفئ على كتاب بين يديه، ملكنى غيظ تصاعد بسرعة فائقة حتى ملأ كل كيانى، صحت فى صمت:
“ملعون أبوك”.
أحسست برغبة حقيقة فى قتله.
رُعـِـبـْـتُ من تدهور حالتى.
****
غدا “الفصل العاشر”
“الحلقة”
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من ثلاثية “المشى على الصراط” الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – تفريق اعتصام الطلاب فى ميدان التحرير 24 يناير 1972وليس هوجه يناير 2011