“يوميا” الإنسان والتطور
4 – 11 -2007
حالات وأحوال (عن الفصام..)
….الفطرة، والقشرة والانشقاق
بعض أحوال: حالة عصام، (الجزء الثانى)
(وليس بالضرورة: حالة فصام:؟؟؟)
انتهى الجزء الأول، ولم يكتمل تقديم أحوال عصام بعد، لكن الحلقة الأولى انتهت بفرض مبدئى متعدد الخطوات
وقبل أن أواصل تقديم ما يثبت أو ينفى أو يعدل هذا الفرض، وجدتُـنى قد استعملت فيه كلمتين غير مألوفتين فى الطب النفسى أو علم النفس، وهما كلمتى “الفطرة” و “القشرة“، فكان لزاما على أن أبحث، ثم أحاول أن أوضح ما أعنيه بهما، بالإضافة إلى كلمة ثالثة تمثل إشكالا علميا وطبيا ومعرفيا أيضا هى كلمة “الانشقاق“، فكان هذا الاستطراد – أغلب يومية اليوم – لنعود غدا إلى تطبيقه فى حالة أحوال عصام.
قبل أن نقدم هذا الاستطراد، ومع أننا لن نتعرض كثيرا إلى ما عرضناه فى الحلقة السابقة، ننصح الزائر (القارئ) أن يرجع للجزء الأول (يومية30-10 حالات وأحوال طب نفسى “الفصام”) حتى يستطيع المتابعة، وبالذات بالنسبة لحلقة الغد ، أكثر من اليوم.
سوف نعرض الفرض كما ذكرناه فى الحلقة الأولى بألفاظه
ثم نناقش ما جاء فيه فقرة فقرة
حتى إذا ما أتى موقع الاستطراد ، فسوف نتطرق إليه، ثم نعود للحالة غدا
الفرض (كما جاء فى نهاية الحلقة الأولى):
أولا:
ونضيف الآن عن الأم: لكنها تعرف طريقها فى حدود دورها الظاهر والخفى
وقد تم وصف الام كما أوردناه هنا من المعلومات والانطباعات والأحداث التالية:
(1) هى امرأة مصرية تقرأ وتكتب بالكاد، والدها فلاح وأسرتها فقيرة كبيرة العدد،
(2) رفض الأب السماح لنا بالتحدث مع الأم – بشأن المريض – ولو هاتفيا
(3) رفض الأب ذكر اسمها أصلا
(4) وصفها الأب بأنها: “هادية، وحنينة، ومؤدبة، وأمينة ، ومخلصة، ثم أضاف: لكنها عنيدة، فى بعض الأمور: يعنى تعمل حاجة من غير ما أقولها، أو أقول لها على حاجة وماتعملهاش !!! (لاحِظ رفض الأب لأى احتمال لتلقائية الأم فى الجملة الأولى على الأقل!) وهو يضيف فى موقع آخر: ما كنتش عايز أتجوز خالص، لكن قلت اتجوز عشان حد يخدمنى. ثم “..كانت بتزعلنى، أحيانا وأقولها إنت جاهلة ما بتفهميش“،
(أضاف عصام لاحقا فى مقابلة منفصلة أن الأم كانت تقول لوالده أحيانا ردا على ذلك: “وانت عملت إيه بالبكالوريوس بتاعك“.)
(5) وصف عصام أمه وصفا أكثر تعرية وشجبا كالتالى ” ست جاهلة طبعا، مش نضيفة، قذرة ، تحب تتباهى قدام الجيران بالأكل والشرب وهى معروف أساسها، شحّـاتة بنت شـّحاتين، تـِوَقّع الناس فى بعضها، بتحسد الناس، والناس بتحسدها لأنها فى نعمة مش بتاعتها“
هذا الوصف لم يكن يجرؤ عليه عصام قبل المرض
(راجع وصفه للوالد فى الحلقة الأولى)
هذه هى الأم، وذاك هو الأب وقد أنجبا عصام، ثم ماذا ؟
نرجع إلى الفرض
(محوّر للتوضيح) عصام ، مثل أى واحد منا، – ولد كما خلقه الله، فهى الفطرة– لكن أحداً لم يتعهدها لا بما هى، ولا بما يمكن أن تكون، ، هذه الفطرة تغطت بقشرة (سلوكية) تربوية لامعة، لكنها – الفطرة – ظلت تتعامل من وراء القشرة مع ما يصلها من بَـرْمجة بطريقتها البسيطة الصحيحة.
(هذا ما جاء فى فرض الحلقة الأولى)
بالذمة هل هذا كلام؟ ما معنى: ” لكن أحدا لم يتعهدها – لا بما هى ولا بما يمكن أن تكون؟
كلام كبير بلا معنى تقريبا، فنحن لم نحدد ما هى الفطرة أصلا، وبالتالى، وأيضا: نحن لا نعرف ما يمكن أن تكون، وذلك برغم كل ما يقال فى التربية وعلم النفس، والطبيعة البشرية، والتركيب التحليلى، وما إلى ذلك (علما بأن الأساطير وبعض الفلسفة، والتصوف الحقيقى، وكثير من الإبداع تعرف الإجابة أحسن!!)
هكذا شعرتُ بلزوم الاستطراد للتوضيح الواجب
لكننى بعد أن كتبته وجدت أنه صعّب المسألة أكثر
وفيها ماذا؟
هذه هى طبيعة هذه اليومية:
وقد نستغرق عاما أو أكثر – يوميا- لتوضيح ما يمكن، وقد نستغرق العمر كله.
نعم،
لكن لا بد من بداية، مادمنا قد تورطنا فى وضع فرض لتفسير حالة/أحوال عصام، استعملنا فيه كلا من الفطرة والقشرة ، الأمر الذى لا بد أن يعرج بنا إلى مسألة الانشقاق
الاستطراد والتنظير:
سوف نبدأ بـ الفطرة، لننتهى بأحد أشكال التعامل معها بالانشقاق المغترب الثابت وهو ما أسميناه “القشرة“:
الفطرة ليست هى أيا مما يلى
1) ليست هى اللاشعور الفرويدى
2) ليست هى البدائية
3) ليست هى براءة الطفل (خارجنا أو داخلنا)
4) ليست هى الحدْس العشوائى
5) ليست هى فجاجة التكوين البشرى فى ذاته (الغرائز منفصلة)
6) ليست هى “شيئا محددا” أو “مفهوما ساكنا“
فماذا يمكن أن نعنى حين نستعمل كلمة “الفطرة” إذن؟ (دون ادعاء أننا أحطنا بما تعنيه بالقدر الكافى)
دعونا نزعم مرحليا ما يلى:
(1) الفطرة هى “حركة فى اتجاهها ” يا خبر!!! ما معنى ذلك؟ فى اتجاه ماذا ؟ فى اتجاه الفطرة ذاتها: التى هى حركة أصلا.
(2) مجرد أن تفكر فى الفطرة وأنت فى الوضع ساكنا، فسوف تجد نفسك بعيدا عنها!
(3) الفطرة هى التنظيم الأساسى لكلية الوجود بطبقاته المـُرَتّبَةْ هيراركيا، النشطة، المتبادلة، النامية، فى دورات.
(4) الفطرة لا تنفصل عن الوجدان والجسد من ناحية،
(5) وهى تتجلى فى العقل (والمنطق) والسلوك والأخلاق والإيمان والدين والإبداع من ناحية أخرى
(6) الفطرة هى “كلٌّ” مشتمل، بحيث تحوى أجزاءَها، ولكنها لا تحل محل أىٍّ من أجزائها
(7) إن ما يسمى العقل المنطقى والسلوك الظاهر هو عادة المُـتاح من الفطرة للتعامل مع الواقع الظاهر الماثل (هذا عند معظم الناس وفى أغلب الأحوال).
(8) يظل الحلم هو الواقع الأكثر تمثيلا للفطرة باعتبار فرط نشاط حركيته التشكيلية، ورحابة مساحة حركته الحرة.
(9) نحن –غالبا- كما ننكر الحلم، (ندعى أنه لم يحدث، أننا لا نحلم) أو نتنكر له (ننساه) ، أو نشوّهه بالحكى المختزل، أو نُحل محله حلم مزيف (دون أن ندرى)، أو نفسره برموز ثابتة عمياء، نحن نعمل مثل ذلك فى فطرتنا أثناء اليقظة بشكل أو بآخر.
(10) ثمَّ انفصال مشروع وضرورى، وذلك حين ينفصل جزء من الفطرة عن شمولية تواجدها- ينفصل بتواتر منظم أو عشوائى- وهو أمر لازم لتواصل حركية النمو، هذا الجزء إنما ينفصل ليتصل – مع حركية الفطرة فى اتجاهها باعتبارها حركة وليست كيانا له ما يميزه بذاته– ليتبادل مع سائر الأجزاء، ثم يتضفـّر، ثم يتجادل، (دون ثبات أو تكرار حرفى)، فهو النمو الممتد،
كما قلنا: هذا انفصال مشروع وضرورى، فهو الانشقاق للنمو
(11) يحدث التبادل بين حالات الوعى لكل من النوم واليقظة، وأيضا النوم الحالم والنوم غير الحالم.. (أنظر الإيقاع الحيوى فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”) مثبت بالموقع.
وهكذا يتواصل الانشقاق العرْضى بالتبادل الدورى عادة، مثلما
(12) من ناحية أخرى تتواصل عمليات الانشقاق الطولى المتوازى، فالمتضفر، فالنامى فى تشكيلات مختلفة مثل ما يلى:
- تعدد مستويات برمجة (اعتمال)المعلومات فى نفس الوقت (هذا ما سوف نشير إليه فى حالة/أحوال عصام.
- تعدد مستويات التواصل بين الناس فى نفس الوقت التحليل التفاعلاتى transactional analysis
- تعدد مجالات الانتباه فى نفس الوقت ..إلخ
(13) إذا انفصل الجزء ليحل محل الكل، أو ثبت هذا الجزء فى محله منفصلا،
أو اكتفى بحركية مغلقة من “الانفصال فالعودة كما كنت” تماما، فهو الانشقاق للاغتراب: للتوقف، (مثل حالات الهستيريا التحولية أو الانشقاقية مثل كاسي أثناء النوم، ونسيان أحداث بذاتها لدرجة فجوات الذاكرة ذات الدلالة …إلخ)
(14) إذا تمادى الانفصال للاغتراب: يحدث التفكك، فالتفسخ، فالتناثر فهو الفصام فى صورته المتأخرة النشطة معا
(15) حين ينشط “الانشقاق للنمو” معا بجرعة مكثفة إيجابية فعّالة، قد يتجلى ناتجه فى القدرة على إعادة تشكيل الوعى بجدل خلاّق، وعادة ما يظهر فى شكل إبداع ما (يختلف باختلاف الأداة والمجال ووسائل التعبير والتوصيل).
(16) إذا ما ترسخ انشقاق الجزء عن الكل، حتى أصبح هو الظاهر الثابت، المعيق لأى نمو لاحق، نجد أنفسنا أمام ما يسمى “العادية” التى تتمادى عادة إلى “فرط العادية“hyper-normality التى تتصف بالمبالغة فى تثبيت السلوك النمطى الدفاعى (الميكانزماتى) المغترب السائد، لدرجة الاكتفاء (حتى الاستبعاد) بالمنطق الظاهر الخطى السببى الحتمى المعقلن[1]، محل كل ما عداه (محل الجسد والوجدان والحدْس والوعى وأنواع المنطق الأخرى)،
وعادة ما يغطى هذا الجزء الظاهر المبرمج بكفاءة مناسبة سائر مكونات الفطرة الأخرى،
وهذا هو ما أسميناه فى حالة عصام “القشرة“
(17) أغلب تنويعات الإبداع الحقيقى، وكذلك ما نلاحظه من تلقائية البسطاء (إيمان العجائز) وطهارة الأطفال وهم يتحدثون عن الله عز وجل ..، كل ذلك هو بعض ما يعايشه الناس العاديون دون تسميته بالفطرة، ولكنهم يستعملون عادة لغة دينية تلقائية بسيطة، مع ذكر الله سبحانه غالبا.
(18) على النقيض من ذلك، فإن منظومات السلطات الدينية والأخلاقية الفوقية والاستهلاكية الاستغلالية هى أقرب إلى القشرة التى تضخمت حتى أعاقت عبر العصور، والتى تصبح بانفصالها أبعد ما تكون عن الفطرة.
(19) القشرة قادرة على “اعتمال المعلومات” Information processing لتحقيق الشطارة والنجاح والامتلاك والتفوق وكثير من أشكال حفظ المعلومات واستعمالها ، وأيضا بعض تشكيلات العلم الكمّى الجيد والمفيد، أو المزيف والضار، وكذلك كثير من إجازات التكنولوجيا (وهذا هام بالنسبة لحالة عصام: أنظر بعد)
(20) الفطرة هى أيضا بكل مستوياتها وتشكيلاتها (بما فيها القشرة غير المنفصلة) قادرة على “اعتمال المعلومات” Information processing (وهذا من أهم ما يميزها عما أسماه فرويد “الهو” الذى هو من أهم مكونات اللاشعور”) ولكن ذلك يتم بطريقة أشمل، وإن كانت أقل تحديدا وأبعد عن الاختبار المباشر، وإن كنا نتعامل مع أغلب نتائجها تعاملا عمليلا جيدا
وبعـد؟
ما علاقة كل ذلك بأحوال “حالة” عصام؟ (حالة فصام؟؟)
تعالوا نقرأ بقية الفرض – بأقل قدر من التعديل– وهو الفرض الذى عرضناه فى الحلقة الأولى، حين تورطنا فى استعمال كلمتى “الفطرة” و “القشرة” فلزم هذا الاستطراد!!
فيحدث التباعد بين الابن والأب (الزعل: سنة) دون ظهور الأعراض بعد،
( حتى لو كانت المسألة قد صارت أصعب فأصعب فلا سبيل إلا المحاولة والمثابرة،
نلتقى غدا لنواصل تطبيق الفرض على أحوال عصام من خلال هذا الاستطراد التنظيرى)
(هل عرفتم لماذا فضلنا إلغاء الجدول إياه بتخصيص كل يوم لموضوع بذاته؟
حتى نأخذ راحتنا هكذا ونكمل ما لا بد أن يكتمل)