يحيى الرخاوى طبيب نفسى
تأليف: محمد جاد الرب
حــوار: يحيى الرخاوى
المقدمة:
تعمدنا أن يكون لهذا الباب ثقله فى هذه المجلة, فهو مشاركة لمن يسمون مرضى فى تحرير هذه المجلة, ونحن نرجو من خلاله أن نقوم بدور الموصل الجيد بين المريض والمجتمع , وهو توصيل يتم فى عكس الاتحاه الذى يتم فى التطبيب وعلاج المرضي, وبألفاظ أخرى نقول: إنه إذا كان دور الطبيب النفسى داخل العيادة هو أن ينقل إلى المريض متطلبات المجتمع ويترجم له لغته حتى يعود يستطيع أن يتحدث اللغة السائدة, فإن وظيفة الطبيب النفسى خارج العيادة, إذا ما امتد دوره إلى الإسهام فى تطوير المجتمع, هو أن يوصل لغة المريض إلى عامة الناس مبشرا ونذيرا.
ولغة المرضى التى تسمى “الحكمة” أحيانا هى لغة شديدة الصدق شديدة الإثارة شديدة التحدي, وقد حاولت أن أنقلها فى أعمال فنية قبل ذلك, مما أسميته بالفن العلمي, فقلت فى مقدمة كتابى “عندما يتعرى الإنسان “”وقد حاولت يأن إبحث عن حكمة اليوم فى حديثى مع أصدقائى المرضى ووجدتها فى كل من بلا استثناء, وحين كنت أعجز أن أرها كنت أعلم أنى لم أفهم لدرجة كافية, أو أنة – صديقى المريض – لم يعان لدرجة كافيه , وقد وصل التزامى بهذه المهمة الترجمية مرحلة كادت توقف ممارستى لمهنتى أصلا حيث كتبت فى مقدمة كتابى الأخير “حكمة المجانين: “وأعود إلى مأرقى الأول: إن أردت الصدق مع نفسى فعلى أن أختار: إما أن بأترك هذه المهنة فورا .. أو, أو أن أغامر فأتحمل مسئولية المواجهة , ومواجهة المسئولية , لكنى كنت دائم الحذر من الإعلاء من شأن هذه الحكمة (حكمة المجنون) لدرجة تنسينا هزيمة المجنون واستسهاله.
”فالجنون خبرة شديدة الخطورة, وبالتالى فرؤية المجنون هى على ما تحمل من صدق وأثارة وتحدى ليست شرف الوجود ولا هى نهاية المطاف, حيث أنها- وإن أعلنت جزءا من الحقيقة .. فإن ذلك صادر من مثل سئ لوجود مبتذل, وفشل صريح ,وتشوية لكل شئ حتى لهذا الجزء من الحقيقة الذى أعلنوه, رغم صدقه فى ذاته.
فإنكار التجربة تماما ولفظها ووصمها بالسلبية والتخريف والعبثية والهزيمة ( رغم صدق كل ذلك) , وحتى وضع لافته أكاديمية عليها تحمل اسمآ لاتينيارشيقا ( هو التشخيص ) كل ذلك لايلغى أنها جزء من حقيقة وجودنا.
كما أن الإعلاء من شأنها والانبهار أمامها .. والدفاع عنها كما هي( كما تفعل الحركة المناهضة للطب النفسي) هو ‘عبث فنى “لم ينجح فى إقناعى بفاعليته وإيجابيتة., وقديما قالو”خذو الحكمة من أفواه المجانين”وقد وقفت أمام هذا القول طويلا , واستلهمته وأنا اكتب تجربتى الأولى .. وقد عدت أتأمل هذا القول “خذو الحكمة من أفواه المجانين “وتعجبت لدقته وحكمته أيضا:
فهو قول لم يشر إلى أن المجنون حكيم زبذا.
وهو لم يعل من قدر الجنون ذاته , وإنما حملنا مسئولية عدم الاستهانة بما يقول المجنون, فكأنه يدمغ الجنون فى نفس الوقت الذى يحرص فيه على الاستفادة من “المعني”الذى يمكن وراءه.
وإذا كان المجنون يقول أحيانا كلاما هو الصدق ذاته, إلا أنه لا يتحمل مسئولية صدقه هذا ..ولا هو يلتزم بتحقيقه, كما إذا كان المجنون يعلن بتناثره وتلقاءيته الرعناء فشل الحياة العادية أوعجز التقتويم الشائع الخادع , فهو لايعطى بديلا, ولا مثلا يحتذى , بل بالعكس إنه يشوه الصدق ويخاف من الحقيقة.
خلاصة القول أن المجنون لوحة فنية حية تتحدانا ولو على حساب وجودها الذاتي.
* * *
والحكمة التى نبدأ بها هنا هى “مشروع كتاب”خطه صديق اسمه محمد جاد الرب, تعرفت به عن طريق رساءل غامضة مكتوبة بخط فحل(تبدو صورته( بعد التصغير إلى النصف) فيبداية تقديم النص, وقد كتبت أغلب صفحات مايسمى كتابا بهذا الخظ الفحل.
قرع الأبواب فى:
سير الأحباب
سيرة عبدالرحمن أخناتون
*الصوفى الأول*
بقلم محمد جاد الرب
وبادى ذى بدء لابد أن نشكر هذا الصديف كما لابذ أن نعتذر له, نشكره أن صب عصارة ألمه فى هذه الكلمات المتحدية الصريحة , وأنه رضى أن ننشرها كما هي, وأنه قبل أن نعقب عليها دون الرجوع إليه, وأنه قبل أن (نسميه مريضا نفسيآ أو مجنونا والعياذ بالله.. ولنا أن نقر بشكل ما أن رضاه ذلك ليس إلا حبا منه ( للحقيقة) وحرصا منه على الإسهام فى المسيرة.
وأنا لا أعرف هذا الإنسان المكافح العنيد معرفة شخصية, وحين رأيته بالصدفة بشأن مقال نشرته فى إحدى الصحف اليومية عن مذبحة ( جيم جونز) كان لقاء للنقاش العقلى وليس للكشف أو الا ستشارة أو التشخيص , وقد طلبت منه بعد دقائق ألا يرى أحدنا الآخر ثانيه أبدا لأى سبب من الأسباب, ورفضت دعواته المتكررة عن طريق رسائله ورسله معا ورفضت الاشتراك معه فى النوادى والأحزاب والمؤسسات التى يتشؤها فى القرى وعبر الترانستور, أعنى فى خياله المتعلق بهذا وذاك, إذ هى لا تخرج إلى التنفيذ أبدا (تقريبا), وكان حرصى على تجنب هذا اللقاء ألا تختلط صورتيه علي, صورته على الورق فى تلك الألفاظ المشرقة الحمراء والزرقاء والسوداء, الدقيقة الجميلة أحيانا, والمنبعجة الثائرة.. أحيانا (حسب الحالة), مع صورته فى الواقع بإهماله لذاته ومظهره وشأن بيته.., ولعل هذا الموقف لا يقترب بأى درجة من الموقف العلاجى السليم, ولكن من قال أننا فى موقف علاجي؟ ومن قال أننا أمام مريض فعلا؟ إن حكمة وصدق وألم وصراخ ‘محمد جاد الرب”هى نبض الإنسان العادى الذى لم يستطع أن يكون نجما فيختبئ وراء جعجعة صيته, ولم يستطع أن يكون رقما فينسى وسط زحام القطيع, ولم يستطع أن يكون مجنونا فيرتاح وراء الأسوار, ولم يستطع أن يكون سياسيا فيذوب فى الشعارات والصفقات, ولم يستطع أن يكون متصوفا فيسكت مشرقا متبتلا, ولم يستطع أن يدعى التصوف ويحذق الاحتيال ومظاهر الدروشة, ولم يستطع أخيرا أن يسكت أو أن ييأس وهذا هو المهم الرائع فى هذا الانسان العنيد.
أما عن اعتذارى له فهو لأنى أضطر أن أعامله كمريض أو كمجنون, هكذا اتفقنا هو وأنا على الورق, ولعله أبعد ما يكون عن ذلك, ولكن هذا هو المدخل الذى ارتضيناه معا .. وفى هذا يقول الأخ جاد الرب استجابة للفكرة بل وفرحا بها: يقول ردا على استئذانه فى أن أتحدث عنه كمريض نفسي:
================
بسم الله الرحيم الرحمن القديم الاحسان
أخى العزيز
أرجو أن تعلم صادق ارتياحى لهذا الأسلوب .. مريض نفسي, هذا هو وضعى الفعلى وبالصدفة البحته فإن رسالتك قد وصلتنى وأنا أحاول إعداد موضوع لمجلة الإذاعة يستوعب رؤيتى بالتحديد القاطع لمجتمع الديانتين حيث ترانى وقد وصلت إلى نهاية المقدمة أقدم نفسى كمريض لديكم.
أخي: يجب أن أصرخ فيك سائلا إياك:
كيف نعالج مشكلة الفقر الروحى المصرى !
(انتهي, وسنعود إلى هذا النص ثانية فيم بعد)
==============
وهكذا نجده يقر بتواضع متألم أنه مرتاح لاعتباره مريضا نفسيا, ويقدم نفسه بهذه الصفة.
ولكن هل يعنى ذلك أن نقبل نحن إقراره بالمرض كنوع من الاستسهال والتخلى ؟؟
هذه قضية أخرى ليست محل نقاش هنا الآن, لكنى ألقيها أمام وعى وضمير كل قارئ فى كل مراحل تقديم هذا الكتاب (إن كان ثمة كتاب) !!
ولعل من يعرف الصديق الانسان محمد جاد الرب شخصيا يجده مختلفا أشد الاختلاف عن هذا الشخص الذى أصفه وأحاوره واستيقظ على يده وأتحداه وأدمغه وأشخصه. الخ .. , إلا أن هذا لا يغير من الموقف شيئا, وسواء كان محمد جاد الرب مجنونا أم رائدا مهزوما أم إنسانا عاديا يدفع ثمن رؤيته عصيرا يقطر ألما داميا فإن المهم أنه أتاح لنا هذه الرحلة مع الحكمة الملقاة على قارعة الحياة.
****
أما طريقة عرض الكتاب فقد تكون غريبة مزعجة, ذلك أنى أمام مادة متناثرة فى توقيت وصولها إلي, وفى طريقة كتابتها, وفى تسلسل أحداثها … الخ ويذكرنى شكل هذه المادة بآثار ‘الخبيزة”إذ تفرك فى بلدنا بالمفراك الخشبى (*) فتتناثر جزئياتها على جدار الإناء (البرام عادة وليس الحلة), ولكن هذا التناثر لا يمنع أن تؤكل شهية مغذية, غير مستسلمين للمصفاة التى يستعملها أولاد البندر لتصفية الخبيزة (والأفكار معا !!), أقول إن هذه المادة المتناثرة يستحيل تنظيمها, ومع ذلك فلا مفر من المحاولة ولسوف أقدمها فى ثلاثة أجزاء الجزء الأول المقدمات والإهداءات (نعم .. بصيغة الجمع) والجزء الثانى هو المتن (أصل الكتاب المشار إليه على حد تصوري) والجزء الثالث الخواتم والتعقيبات والاستدراكات, وسوف تختلط الأجزاء لا محالة.
أما طريقتى فى التعقيب فسوف أكون حرا بقدر حريته, حتى يكون حوارا, فلن ألتزم بمنهج واحد مقتديا به بدرجة أو بأخري.
فقد أورد نص كلامه بال تعقيب.
وقد أورد مقتطفا واحدا وأنطلق فى تعقيب مضاعف بقصد محدد.
وقد أتتبع نصا طويلا بأسلوب علمى تشخيصى أو فنى استرسالي.
وليسمح لى القارئ بهذه الحرية التى سمح لى بها الكاتب قبله, فلعله من خلال هذا السماح يكتسب هو بدوره حرية أن يقرأ من هذا أو ذاك ما شاء لما شاء !!!!
****
بقيت كلمة واحدة عن صدفة علاقتى الجغرافية بالسيد الكاتب, فهو من ‘بركة السبع’, وهى مركزنا حاليا, وهو يتصور أننا بهذا نلتقى بشكل ما, وأعلن من جانبى أنه لا توجد أى علاقة بين إقدامى على هذا العمل وبين هذه العلاقة الجغرافية, كما أعلن أنى مازلت متمسكا بأن مركزنا هو ‘السنطة”ومديريتنا ‘طنطا”كما لقنت صغيرا, أما التقسيم الإدارى اللاحق الذى ألحقنا بسيادته وبالمنوفيه بعد أن تقدم بى العمر فهو لم يدخل إلى وجدانى بعد, ولعل ما يربطنا حقيقة هو قطار الدلتا العنيد الذى كان يصل بين قريتينا ويمثل جزءا هاما من طفولتنا (*)
ولعل هذا القطار العنيد الوحيد (غير المزدوج القضبان) هو الرمز لعلاقتنا التى يضمها هذا العمل المشترك (غير المزدوج القضبان أيضا..) وبقدر ما تعلمنا صغارا بفضل هذا القطار الذى يأتى بغير ميعاد, ليوصلنا تلاميذا صغارا إلى زفتى أو بركة السبع لتحصيل العلم, نأمل أن نتعلم كبارا من هذا الحوار بين: متهم بالجنون ويقول بحب اخناتون, وبين متهم بالعلم ويقول بحب الإنسان مشروع الاله القادر.
وإلى النص:-
عنوان الكتاب
قرع الأبواب فى سير الأحباب
سيرة عبد الرحمن اخناتون. الصوفى الاول
تأليف: محمد جاد الرب حوار: يحيى الرخاوى
مثل كل فقرات الكتاب, كان عنوانه أكثر من عنوان ولكنى تمسكت بهذا العنوان الأول, وقد تصورت أن ‘قرع الأبواب”قد تعنى عدة أمور يستحسن الوقوف عندها:
1- فهى تبدو مشتقة أصلا من آية عيسى عليه السلام ‘اقرعو يفتح لكم – عيسي’, وهى الكلمة التى صدر بها الكتاب والتى تظهر فى الصورة المصورة حالا.
2- وهى الإشارة إلى الالحاح المستمر رغبة فى التواصل الحق, ذلك الالحاح الذى يكمن وراء الوجود البشرى ويظهر عاريا فى تجربة الجنون وهذا الالحاح ذو شقين: إلحاح يلهث للتواصل مع البشر ليروا ما هو بالداخل حتى أعمق جذوره غير مكتفين بالسطح أو باللفظ المنمق, وهو الإلحاح الذى يظهر تناقضا عجيبا فى وجود المجنون, إذ يظهر كيف أنه دائم الطرق دائم الاستغاثة وفى نفس الوقت هو شديد الخوف والاصرار على الهرب والصمت الحذر إن تجربة المجنون إذ تعلن هذا الطرق الملح على آذان وقلوب وعقول الاخوة فى البشرية, تعلن يأسا مسبقا من فتح الابواب ولكنها لا تتوقف عن الطرق أبدا وهنا التناقض المرهق حتى النزيف فالإنهاك فالتناثر.
ولعل تعرى المجنون وعشوائيته هو إعلان آخر لرغبته فى أن يرى أعماقه إخوانه البشر, ولعل هذا هو الترجمة المرضية لما أسميته فى مكان آخر ‘الحاجة إلى الشوفان (*)’, وبالرغم من هذه المحاولة الغبية فإن أحدا لا يرى أعماقه.. فتستمر الاستغاثة ‘يستمر الطرق”مع الاستمرار اليأس المسبق.
على أن هناك تفسيرا آخر لاستمرار الطرق العنيد إذ لابد أن تستشعر أن الانسان (الآخر) وهو المطروق ليس هو الهدف فى ذاته, ولكنه الباب الذى يطرق سبيلا إلى ما بعده, وما بعده هو الذات الكبرى المشتركة أو الكون الأعظم أو الله, ويمكن أن نرى من خلال هذا التناقض العنيد, وذاك الاصرار المستحيل ما يذكرنا بالموقف الدون كيشوتى بالغ التعقيد.
أما إذا أدمجنا بقية العنوان ‘سير الأحباب”فإن لنا أن نراجع أنفسنا لأن القرع هنا قد يعنى التذكير المكرر – مثل شاعر الربابة – بالسيرة العطرة لكواكب البشرية المضيئة عبر التاريخ, وهذه الكواكب التى يجمعها شبق تصوفى إلى الحقيقة, والسعى إلى وجه الله من أكبر الدعائم التى يركن إليها الانسان فى أزمة تمزقه, وهذا المعنى يبرر أن السيد المؤلف قد ألحق بهذا العنوان العام عنوانا محددا هو أنه يتحدث عن ‘سيرة عبد الرحمن أخناتون”باعتباره الصوفى الأول.
والتأليف المكون منه الاسم الجديد تأليف هنا له دلالته الجميلة فنيا, وجنونيا, فما أجمل أن يشعر المصرى منا أن جده أخناتون كان اسمه عبد الرحمن وكأنه بذلك يتجسد لحما ودما مثل ‘أى عبد الرحمن”نلقاه فى حياتنا اليومية فلا يعود أسطورة تاريخية خفية.
وما أجمل أن يرتبط التصوف بديانة قبل الديانات السماوية المعروفة, إعلانا من المؤلف بعمق حدسه ورؤيته لحاجة الانسان الملحة لعبادة الرحمن فى رحلته التطورية المستمرة.
وهكذا يفاجئنا الصديق جاد الرب بعنوان لكتابة بكاد يدلنا – ومباشرة – على محتواه.
وطريقة التوليف والتداخل هنا هى الصفة المشتركة بين المبدع والمجنون ولن نكرر تصنيف صديقا جاد الرب مع أى من الفريقين وإن كان قد رضى – ربما تحايلا بموافقتى – أن يمثل النوع الثانى (مادام لم ينتشر أو ينجح بعد) !!
كلمة الكتاب
لم يذكر السيد المؤلف صراحة أن ما اقتطفه هنا هو الكلمة التى يريد أن يصدر بها الكتاب, ولكنى استنتجها تلقائيا حين وجدتها فى ورقة منفصله, وأنها ليست من كلامه هو, ولكنها مقتطف من أقوال أحبابه: عيسى ويوحنا المعمدان, وألبرت شفيتسر, (عن عبد الرحمن بدوي), وقد قدمت هذه الكلمة مصورة (مصغرة إلى النصف) كعينة من الخط الذى كتبت به أغلب صفحات الكتاب ولن أناقش محتوى هذه الكلمات لأنها ليست كلماته ولكنى سأناقش هنا ظاهرة الإفراط فى اقتطاف الحكم والأقوال أو ما يسمى بالكلمات المضيئة فى محاولة إعادة قراءتها بنبض جديد فى مثل هذه التجارب الكيمانية.
فالمجنون والمبدع على حد سواء يستطيعان أن يقرآن فى هذه الكلمات المضيئة مالا يستطيعه الشخص العادي.
اقرعوا يفتح لكم – عيسى
الأن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لامم تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى فى النار ..
يوحنا المعمدان
يجب على الإنسانية أن تجدد نفسها بمزاج عقلى جديد إذا كانت لا تريد لنفسها الدمار – البرت شفييتسر
دكتور عبد الرحمن بدوى
بل إن قراءة الكلمات قد تصبح عملا إبداعيا فى ذاته.
والذى يأخذ مقتطفات الصديق جاد الرب مأخذا سطحيا فيعتبرها مجرد متناثرات بلا رابط, سوف يفقد الطريق للتعرف عليه لا محالة, فى حين أن الذى يحاول أن يعيد قراءتها معه, فيشعر به وهو يكبر الخط, وهو يفسح المسافات, وهو يعيد على الحروف.. إن من يفعل ذلك معه لابد سيصادق الكلمات ويصادقه بشكل جديد لأنهما سيشعران معا بالشئ المشترك, والأمانة الواعية فى الرسالة المرهقة التى تحملها الكلمات إليهما (إليهم) وهذا هو الفضل الأول لاختراع الكتابة رغم عجزها الملح عن أداء هذه الرسالة على الوجه الأكمل لكل قارئ.
ولكن ماذا يفعل الصديق جاد الرب أمام هذه اللوحة الجميلة, إنه – كما يبدو فيما بعد – يكتفى بالنبض المشترك والوقوف أما ضياء الكلمات انبهارا, بل لعل شبق النبض بالكلمات بسكب قوة الدفعة إلى القرار, ماذا لو أحسن قراءة يوحنا المعمدان وهو يعلنها فى بساطة .. ‘فكل شجرة لا تصنع تمرا جيدا تقطع وتلقى فى النار”لاشك أنه سيهب ليصنع (يطرح) ثمرا لا محالة, أو هو سيمسك ذيله فى أسنانه ويجرى هربا من مسئولية هذه الكلمات كما كنا نجرى هربا من كمسارى قطار الدلتا حتى “يطوقنا”، أم لعله فى تقديمه هذه اللوحات المتتابعة بلا ترابط يثير فينا رغبة البحث ‘عن المزاج العقلى الجديد”الذى نادى به شفا يتزر .. لعل .. !!
المهم أن ظاهرة الوقوف عند الكلمات المضيئة, وتكرارها بلا مسئولية, يثير قضية إفراغها من فاعليها بابتذال التكرار, حتى لتصبح مثل شعارات الساسة المحترفين, أو لافتات الصالونات الثقافية المغتربة, فهى ظاهرة لا تحمل القدر من الايجابية الذى تلوح به لأول وهلة, وقد شرح ‘بيون”Bion أن من علامات تفكك المجموعة العلاجية فى العلاج الجمعي, الاكثار من الاستشهاد بالحكم والأيات المأثورة, مما يصرف النشاط الجمعى عن العمل النموى إلى التباهى اللفظي.
وأكتفى بهذا القدر من تعليق لنلتقى فى العدد القادم مع الإهداءات والمقدمات والمؤتمرات.
وحتى نجتمع من جديد فلنهتف من عمق بؤر خلايانا: مع سيدنا أخناتون وجاد الرب: مدد يا حقيقة الوجود.
* – هو ترس خشبى له محور خشبى كذلك يستعمل فى الريف المصرى لهذا الغرض وخلافه.
* – يبدو أن هذا القطار بمواعيده المعشوائية وناظره وإيشارجيه وتلغرافه اليدوى كان يمثل شيئا هاما فى طفولتى، فلقد صورته فى رويتى “الواقعة” وكذلك فى ديوانى “أغوار النفس” فى مقطوعة “السويقة” تصويرا يدل على ذلك.
* – (دراسة فى علم السيكوباثولوجى – دار الغد للثقافة والنشر، (1979)