مقدمة:
امتلأت الروايات والكتب والمجلات السيارة بالكتابات عن النفس الانسانية والتربية البشرية !! والسعادة السلوكية وغير ذلك من أفكار وأبحاث بالأكوام لابد وهي علي هذا القدر من الوفرة أن تؤمل الانسان المعاصر في فتح أبواب آفاق رحبة يحملون فيها بالجنة المرتقبة, أو ينتظرون وصفات السلوك السوي مغفلة في أكياس المعامل الجديدة, مع تفاصيل طرق طهي الهناء والإبداع في نشرات الأبحاث المنشورة علي الأوراق المصقولة بالحروف السوداء اللاتينية في الأغلب, والعربية اللاهثة وراءها.
وقد اعتادت المجلات عامة والمجلات المبتدئة خاصة أن تخصص فصلا اسمه ‘مقتطفات’ تعرف به القاريء في إيجاز عن بعض ما نشر من أبحاث ومقالات وكتب في مجال تخصصها, وهي بذلك تقدم للقاريء خدمة جليلة لأنها تتيح له الفرصة أن يلم بالجاري هنا وهناك في إيجاز طيب فتوفر عليه الجهد والوقت, وأغلب الدوريات تقف من ‘المقتطف’ موقفا محايدا, وهي بذلك تؤدي خدمة جليلة أيضا لأنها تترك الفرصة للقاريء أن يحدد موقفه بنفسه, وحين فكرنا في مثل هذا الباب, أحسسنا أننا نختلف, فهذه المجلة لها موقف, ولابد أن يكون هذا الموقف معلن ومسئول, وأن نلحق رأينا بالرأي الذي يقدمه البحث أو المقال أو المعلومة التي ننشرها, وعلي القاريء أن يتخذ موقفا جديدا من واقع متعدد الأطراف, وليس من معلومة مقدمة له وكأنها التنزيل المنزه..
ولابد أن نعترف أننا ونحن نحاول أن نسهم في مسيرة الانسان وتطوره, لابد أن نعترف أننا نحتاج أن يعاد تعليمنا ‘كيف نقرأ’, أي كيف نتغذي, وننقذ, ونرفض, ونعيد النظر ونتساءل, ونتحمل الخبرة, ثم نعيد النظر ثانية, ثم نقبل استمرار الحيرة, وفي كل ذلك نحن نتخذ موقفا محددا باستمرار, ومن وظيفة الذين يحملون مسئولية الكتابة والنشر أن يعلموا الناس وهم بتعلمون القراءة الجديدة المسئولة.
فإذا عنونا الباب أن ‘نقرأ معا مرة ثانية’ فنحن نعني التعلم ولتعليم معا, وسنبدأ هذه المرة بنموذج لهذه المحاولة آملين أن يسهم القراء والزملاء معنا في المستقبل في تزويدنا بما يستمر به الحوار من ناحية, وبما يفتح آفاقا جديدة مفيدة ومثرية.
المقتطف:
“تأثير بالعلاج الليثيم في مرض الهوس
والإكتئاب علي الانتاج الفنى”
اعداد: موجنس شو(1)
المجلة البريطانية للطب النفسى المجلد 135 عدد أغسطس 1979.
أجري هذا البحث علي 24 فنانا يتعاطون علاج الليثيم ممن استجابت نوباتهم لهذا العلاج بحيث خففت من حدة النوبة أو منعت الارتجاع إلي درجة كبيرة, وقد سئل أفراد العينة عن انتاجيتهم الفنية ومدي ما تأثرت به مع هذا العلاج, وقدد قرر اثني عشر منهم زيادة في إنتاجهم كما قرر ستة آخرون أنه لم يحدث تغير يذكر بهذا الشأن وقرر الستة الباقون أن إنتاجيتهم قلت من ذي قبل.
ويبدو أن تأثير هذا العلاج علي الانتاجية الفنية يعتمد علي درجة شدة نوع المرض كما يعتمد علي الحساسية الفردية وكذلك علي ما تعوده الفنان من كيفية استثمار طاقة نوبة الهوس بوجه خاص.
وقد اعتمد الباحث في بحثه علي انتقاء الفنانين ذري الأدوار الإنشائية الأساسية (وليس الفنانين أو التابعين) ممن يعانون من مرض الهوس والإكتئاب والمستمرين علي العقار.
وكان هؤلاء الفنانين من بلجيكا وكندا وتشيكوسلوفاكيا والدانمارك وانجلترا وإيطاليا والسويد وسويسرا وألمانيا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد اتبع طريقة ذراسة الحالة (تقرير كلينيكي) (2) وكان أمينا كريما حين اعترف بفشله في جدواتها بل لعله رفض ذلك في حقيقة الأمر منعا للبس الذي قد ينشأ عند القاريء من مظنة أنه يقوم نتائح ‘كمية’ .. وهذا غير حقيقي ومضلل إلي حذ ما, ثم قدم حالات كل حالة في بضعة سطور ليس إلا ليتعرف عليهم القاريء أساسا, وقد جمع معلوماته من مصادر عدة من بينها المقابلات الكلينيكية الخاصة, وقد راسل أحد واحد وقابل أربعة وحصل علي المعلومات الباقية من الأطباء المعالجين بعدا استئذان المرضي, وبتواضع العلماء بدأ نقاشه بأن هذه العينة صغيرة لدرجة يصعب معها اعتبارها ممثلة تمثيلا طيبا للظاهرة.
وأثناء النقاش أشار إلي ‘إنه من الصعب , وربما من المستحيل أن نقيس القدرة الإبداعية بواسطة اختبارات سيكومترية موضوعية’ وأشار إلي بحث قام به آخرون مستعملين اختبارات لقياس الادراك الجمالي والطلاقة اللفظة بعد إعطاء الليثم وعقار خامل لأشخاص عاديين ولم تظهر فروقا دالة.
وانتهي نقاشه إي اقتراحات متواضعة ونافعة تقول:
1- إن زيادة الانتاج الفني أثناء علاج الليثيم كلن نتيجة مباشرة للحيلولة دون فترات الهبوط الاكتئابي أو النشاط الهوسي, وكلاهما يعوق الانتاجية الحقيقية, وقد قرر أفراد كثيرون من العينة تحسن نوع الانتاج وكمه معا.
2- إن بعض الحالات التي لم يتغير إنتاجها من الناحية الكمية قررت أه تغير ‘نوعا’ حتي وصف رسما تغيرت طريقته أثناء تعاطي الليثيوم حتي سمي هذه الفترة ‘المرحلة الليثيمية’ (3)
3- إن تحليل النتائج في هذا البحث في البحوث القريبة في التراث يشير الي أن عددا من الفنانين تهبط إنتاجيتهم الفنية مع الليثيم لأنه يبدو أنهم كانوا قد تعودوا أن يعتمدوا في إتاجهم علي استثمار نوبات هوسي, فإذا أعطوا الليثيم, فعرفوا من هذه النوبات قبت إنتاجيتهم, وبلغ الآمر في عض الحالات أن نشأ موقف غير محتمل حتي فضلوا المرض مع الانتاج الفني عن الصحة مع العجز عن ذلك أو إنخفاضه.
4- يبدو كذلك أن فترات الاكتئاب التي رتع ي أرض أشباح المرت وما إليه تعطي مادة وخبرة تصلح للإبداع, إن لم تكن أثناء فارة الإكتئاب فبعدها مباشرة, وعلي كل ال فلم تثبت أي من الملاحظطات المتاحة هذا الفرض بصفة خاصة.
5- إنة يمكن الافتراض أن الإبداع في مجالات أخري – غير الفن – قد يخضع لنفس الاحتمالات.
****
الموقف:
والآن … كيف نقرأ هذا البحث؟
كيف يفيد منه الشخص العادي؟ وكيف يفيد منه الممارس الإكلينيكيي في العلاج, وكيف يفيد منه الباحث في نفس المجال؟
إن لنا – هذه المجلة – موقفا تجاه كل كلمة وكل معلومة وردت به كما أن لنا تعليقا علي كل من طريقته ونتائجه جميعا.
وباعلاننا لهذا الموقف وذكرنا هذا التعليق نسهم بدورنا في أن يتخذ القاريء ما يشاء من مواقف, بناء علي ما أثاره هذا الحوار..
أولا: لعلنا نعتبر كثيرا – أن نخجل إلي الحد الذي ينبغي – حين نستعمله كلمة الفن بلا ضابط ولا رابط, فتنشأ ناشئتنا وفي تصورها أن الفنانين هم الآلاتية والممثلات, ولا نوصل إليهم معلومة بسيطة ومركزة عن ماهية الفن كموقف إبداعي في الحياة, وهذا هو أول ما يوحيه قراءة العنوان, والأمر الثاني ألا نجعل كلمة الفن دائما مرادفة للإبداع, وقد شرح الباحث كبف إنه اختار نوعا محددا من الابداع هو ‘الفن’ دون بقية أنواع الإبداع في المجال العلمي وغيره, وقد ذهب اسيلفانو أريتي في كتابه ‘الابداع’ إلي نشر مفهوم الابداع حتي الابداع الديني.
ثانيا: إن تقييم عقار ما يحتاج إلي أبعاد جديدة غير الأبعاد المألوفة من أن الأعراض اختفت أو أن المرض زال, والباحث هنا يبحث بعذا جديدا ولكن عند فئة بذاتها وهي الفنانين, فهل يا تري نعتبر ونحن نقيم مفعول عقار أو علاج ما حتي مع غير الفنانين لنعرف أن هذا العلاج أو ذاك قد أطفأ الموقف الإبداعي للحياة أم أثار؟ وهل يا تري تفتح الآفاق لأن نعرف أن الانسان السوي ليس هو الذي بلا أعراض, وإنما هو الانسان القادر علي التجدد والتغير والاسهام مع المجموع؟ وهل تستحق هذه الصفات أن توضع في الاعتبار ونحن نقوم علاج ما؟ أو ونحن نعطي علاجا ما.
ثالثا: إن المتحمسين من مناهضي الطب النفسي يدعون – خوفا أو إجتهادا – أن مثل هذه العقاقير – بصفة عامة – هي مثبطة لإبداع الانسان ومشوهة لبشريته, فهل يا تري يراجعون موقفهم يعلمون أن البحث العلمي – بلا تعصب مسبق ولا مقاييس مشكوك في أمرها – يمكن أن يخفف من غلوائهم حتي تصبح الكيمياء كما ظهر من هذا البحث مسخرة لخدمة التطور كما ذكر يحيي الرخاوي (4) وبالتالي تصبح القضية ليست في ‘هل نعطي العقار أم لا’ ولكن تصبح كيف نعطيه, ولمن نعطيه, ومن يعطيه, وكيف نقيس مفعوله, وكيف نضيع في الاعتبار إبداعية الانسان وإنتاجيته الخلافة أثناء ذلك’؟
رابعا: إن أبحاث الإبداع لها نصيب الأسد في أبحاق الزملاء علماء النفس الأفاضل في مصرنا العزيزة, وهي تزدهر في مركزين علمين أساسين هما كلية آداب القاهرة وتربية عين شمس (وغيرهما مثل تربية المنصورة … الخ) فهل يا تري آن الآوان لتقويم هذه الأبحاث من جديد, حتي يمكن أن نوصي من واقع نتائجها بشيء يحافظ علي ثروتنا البشرية الإبداعية في مرحلتنا الخطيرة التي تمر بها؟ إن هذا البحث الذي خاطب المبدع مباشرة في تقويم إنتاجيته خليق بأن يذكرنا بأن ‘دراسة الظاهرة’ قد تستغرقنا علي حساب الظاهرة ذاتها.
وكأن السؤال يقول: هل شعبنا أصبح أكثر إبداعا, أو يمكن أن يصبح أكثر إبداعيا تناسبا مع الافراط في أبحاث الإبداع الجارية؟ وذلك بالمقارنة بفترة سابقة لم نكن نعرف فيها أبحاث الابداع أصلا وإنما كنا نعرف فيها الابداع شخصيا؟
وأين الخطأ في ذلك؟
أهي الهوة بين البحث والتطبيق, أم يمكن أن يكون البحث في الابداع قد أغنانا عن البحث عن الابداع, وتنميته وتوفير ما يمكن أن يثيره؟
إن قضية الابداع مرتبطة أشد الارتباط بقضيتي والحرية الحقيقية, الداخلية والخارجية, ونحن بعد أن إستقطبنا الفكر الذيني السلفي من ناحية, والفكر اليساري الجامد المتشنج من ناحية أخري, أصبح الابداع مخاطرة قد لا يحلها البحث فيه, ولكن المحافظة عليه وفهم مصادره وفتح مجالاته وإطلاق طاقاته.
إن من أكثر الأمور أسفا أن يشعر قاريء أبحاث الإبداع أحيانا أنها – ذاتها – أبعد ما تكون عن الإبداع.
رن هذا البحث يثير قضية عصرية متكاملة, إذ يعتبر الموقف العلاجي للطب النفسي مجرد جانب واحد صغير جدا من هذه القضية .., تلك القضية التي يحذر منها كل محبي الإنسان المؤمنين بحتم تطوره ألا وهي: إلي أي مدي يمكن أن يصبح نتاج عقل الانسان في تعويقه أو دماره؟
وفي مجال الطب النفسي تصبح مثل هذه البحوث غير المتعصبة أو المتشنجة هي إحدي مصادر المعلومات الهادية علي طريق الصراع المحتدم بين العقل في قفزات النمو وبين تأثير نتاجه علي دفع أصالته.
خامسا: إن هذا الباحث الدانيماركي إذ يأخد عينته الصغيرة (24 حالة) من عشرة بلاد متباعدة ليدرس نفس الظاهرة يذكرنا بعصرنا الذي أصبح فيه العالم بفضل ثورة التوصيل والمواصلات قرية صغيرة بحق.
وبعــد
فلنقرأ معا مرة ثانية …
ولنفكر بهدوء .. ولكن في يقظة
ولنتفق أو نختلف …
فهذه هي روعة الحوار.
الهوامش
(1) الاستاذ “موجنس شو” يعمل استاذا للطب النفسي البيولوجي في وحدة أبحاث الفارما كولوجيا النفسية في معهد آرهاس الجامعي, المستشفي الطبنفسي في رسكوف بالداينمارك.
1- Artistic Productivity and Lithium Prophylaxis in Manic Depressive Illness by MOGENS SCHOU.
2- Case report
3- Lithuim Period
(4) – فكيف حال الأحياء.
- سخروا الكيمياء لخدمة التطور.
- كانت أقراصا تقمع الانطلاق وتعيد الثائر إلي حظيرة المجموع بالضربة القاضية.
- أصبحت تنظم الطاقة فقط, ثم يولد الانسان من جديد (عندما يتعرى الانسان)
- الطبعة الثانية دار الغد للثقافة والنشر ،القاهرة 1979.