نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 27 -10-2016
السنة العاشرة
العدد:3345
مع نجيب محفوظ : نقدًا واستلهاماً
“الشحاذ” نقد النقد، بدءًا بالنقد الذاتى! (الجزء الثانى)
مقدمة:
نواصل اليوم نقد النقد (نقدا ذاتيا قاسيا جدا) حمدت الله أننى لم أقرأه على شيخى بعد أن كان قد أبدى إعجابه بالنقد الأول، ومع ذلك، فيبدو أن هذا النقد الباكر قد انتهى بما يمهد لنقد النقد هذا وإن تأخر عشر سنوات.
ونكمل اليوم بعد نشرة الخميس الماضى، ولكن بعد إعادة ضرورية لموجز الرواية للتذكرة.
“يبدأ المرض - أعنى تبدأ القصة-!!! بعد حوار قصير بين “عمر” المحامى الكبير، وبين أحد عملائه، ويغتاظ عمر ويصاب بدوار مفاجىء ولكن.. هل كانت هذه هى البداية فعلا؟
إنه يقرر أنه كان هناك تغير خفى مستمر قبل ذلك ومن هنا جاء “تأثره الذى لامعنى له” بكلام الرجل. وينطلق عمر يستشير طبيبا صديقا.. فيطمئنه هذا بما لايدع عنده أى شك، ويخبره بأنه طبيب نفسه
وتستمر الحوادث، وتضطرد الحال اضطرادا رهيبا، وقد تتحسن حالته أحيانا تحسنا ظاهريا وتعتريه صحوة انتعاش نتيجة تغيير فى السكن أو فى الصحبة، أو حين يعلم أن ابنته تقرض الشعر مثلما كان يفعل فى صباه، ولكن لا تلبث هذه الصحوة أن تهمد تحت وطأة المرض العاتية، ويهجر مكتبه، ثم يهجر بيته، ثم يدخل فى تجربة حب جديد، ثم يرتمى فى أحضان اللذة المحرمة فى شغف ثم فى ضجر، والأمور تزداد سوءا، والناس من حوله فى انزعاج وعجب لايجدون لما يحدث تفسيرا ولايستطيعون له دفعا، ويفقد كل شيء طعمه: “نشوة الحب لاتدوم ونشوة الجنس أقصر من أن تكون لها أثر”.
وذات يوم ذهب إلى الطريق الصحراوى وحيدا، ووقف وسط الصحراء يضرع للصمت أن ينطق، وفجأة ينبض القلب بفرحة ثملة ويجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، ولكنه لايلبث أن يهبط إلى الأرض ويستقبل موجات من الحزن.
وتستمر الحال لا يوقظه منها أن يرزق بمولود جديد، وإن دفعه ذلك إلى بيته فترة يلقى فيها صديق عمره، وزميل كفاحه، بعد خروجه من السجن، فيترك له مكتبه… ويزوجه ابنته، أو يدعه يتزوج ابنته.
ويعود ثانية إلى هجر بيته ويعاود محاولة الصحراء مرات ومرات، فلا يَـمُنّ الخلاء عليه بها ثانية أبدا.
وبازدياد وطأة المرض يرفض استشارة الأطباء ويُعرض عن إظهار أعراضه خوفا من مستشفى الأمراض العقلية.
وتتم المأساة بأن يعتزل الناس فى كوخ بعيد يناجى الصخر، ويخاطب الحيوان ويناقش الكائنات المنقرضة، ويفكر فى السمو طيلة يقظته، وينزعج لأحلامه التى تتمسك بالحياة”.
****
تكملة النقد، ونقده!
…. النقد الأول (1979) (7)
وتَستَمَر النصائح بتغير الهواء، وتغير البيئة، بالقراءة، وبالرياضة.. وهو يحاول جميعها ولا فائدة. وينذر الجميع بعدم الاستهانة بحالته:
“إنى أشم فى الجو شيئا خطيرا، وأرعبنى إحساس حركة داخلى بأن بناء قائما سينهدم”.
ولكن من يسمع ومن يفهم؟
هل يمكن تصوير الانهيار بأبدع من هذا التعبير؟ لا أظن.
ثم تنتقل المرحلة إلى ماهو أكثر خطورة: فيبدأ التفكير فى الجنون
نقد النقد (1990)
بالرغم من أن الدراسة تناولت الجنون بطريقة أقل تقليدية مما تناولت به سائر الأعراض الظاهرة، إلا أنها استمرت فى ذلك البعد الوصفى ، وتكرار ذكر الأعراض الواحدة تلو الأخري، رغم أن حدس محفوظ قد أوضح المسألة بما كان يمكن أن يتيح للناقد أن يضيف، ليس فقط إلى قراءته الناقدة، وإنما أيضا إلى معلوماته عن الجنون ذاته.
فالخوف من الجنون غير الإعجاب به، غير مصاحبته ومؤانسته، غير السباق معه، وإذا تمادينا فى المنطق الوصفى الذى قدمت به الدراسة أصلا باعتبار أنهاوصف لاكتئاب تقليدى، لكان يمكن أن نواجه ما ذهب إليه الناقد الطبيب (أنا)، بأن ما يميز الاكتئاب الأصيل هو الخوف من الجنون، أكثر من أى شى ء آخر من كل هذه التباديل الرائعة والمكثفة.
النقد الأول (1979) (8)
يبدأ بالإعجاب الخفى بما يتضمنه الجنون من التحرر من القيود …ثورة على سجن العقل:
“لماذا يثيرنى الكلام العاقل فى هذه الأيام؟
“الشخص الوحيد الذى أعجبت بحديثه رجل مجنون يرفع يده على طريقة الزعماء طول الطريق..”، وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه..،.. ونحن الذين نعيش فى السماجة المجسمة لانعرف لذة الجنون”
وهو فى هذه المرحلة يدخل باستبصاره إلى “ديناميات” النفس، ليشرح كيف يكون الجنون لذة وأملا، وكيف يكون تحررا وانطلاقا، وكيف يمكن أن يكون حلا لضجر وضيق لايحتملان، ولكنه الجنون.
وبالفسحة والفيتامينات والمشهيات يتحسن جسمه، ويحس ذلك التقدم الجسمانى الظاهري، ولكنه يقول لصديقه فى سخرية:
“إننى أتقدم نحو شفاء جسمانى واضح، ولكنى أقترب فى الوقت نفسه من جنون ظريف والعقبى لك”.
ويستمر إحساسه بفقدان معنى الأشياء، وأنه لا حقيقة ثابته إلا الموت.
“لم يعد القلب يفرز إلا الضياع، ولا حقيقة ثابتة فى الصحف إلا صفحة الوفيات”.
وتعود النصائح للظهور: بالمثابرة والصبر، بالإرادة والعزم، ويؤكد كل ذلك عجز من حوله عن إدراك طبيعة ما يدور فى داخله وخطورته، ويبدأ التوسل للسر الإلهى.. ويستمر استجداء الوحى، لعل ذلك يشفى من المرض.
أتريد أن تعرف سرى يا مصطفى؟
إسمع:
“عندما أمضنى الفشل جريت نحو القوة التى آمنا من قبل بأنها شر لابد أن يزول”.
…….
وهو يشير إلى أنه كان هو ومصطفى فى صدر شبابهما يعتنقان المبدأ الذى يقول بأن الدين أفيون، وأن الله شر معوق لتقدم الإنسان.
ثم تأتى الفكرة عفوا، وهى ليست بنت الساعة، ولكنها اللمسة الأخيرة التى ظهرت من قصته الطويلة مع اليأس والضجر والضياع، فلعل الحل فى ”الهرب”.
ولكن إلى أين يهرب والصراع كله بداخله، وكيف يهرب منها، “وقد كتب عليه أن يناطحها”؟
ويحاول الهرب فى أحضان اللذة.. ولكنه هرب وقتى ينتهى فى حقيقة الأمر إلى عكس ما بدأ منه فى أول الأمر على أنه حل سريع.
“تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء… مجرد رد فعل مضاد بقوة مضاعفة، وها أنت ذا فى سباق حاد مع الجنون”
ويتطور الاكتئاب إلى لامبالاة بشيء ولا رغبة فى شىء.
نقد النقد (1990)
هكذا حجب الالتزام الوصفى عن الناقد الطبيب (أنا) أن يغوص أكثر ليتأمل هذا الدفع الذى كان يدفعه عمر الحمزاوى عن نفسه، كان يدفع عن نفسه الموت، بل يدفع عن نفسه ما هو أشد .فما هو هذا الأشد مما هو فيه؟
ثم كيف يدفع المكتئب عن نفسه الموت، ونحن الذين نعرف عن المكتئب – تقليديا- أنه يتمنى الموت، حتى ليقدم على الانتحار!!؟
إن الغوص فى هذه المنطقة لنتعلم منها العلاقة الحقيقية بين الموت ، والجنون، لهو النقد الأوْلى بالدراسة، ذلك أنه يطرح مفاهيم للموت قد تكون نقيض الانتحار، ثم هو يفتح آفاقا المـَابـَعْـد، الذى ليس له اسم فعلا، وكأنه ( محفوظ) يذكرنا صمنا بحتمية احترام هذه المنطقة التى لم نجد لها اسما بعد.
النقد الأول (1979) (9)
“ماذا أريد؟: الفقه: لايهم، والحكم لصالح موكلي … لا يهم، وإضافة مئات جديدة لحسابى..، لايهم”. و… لايهم.. و… لايهم”.
لم تعد أمامه غاية يتطلع إليها.
ويصل الوصف الذاتى والتأمل الباطنى إلى قمة روعته:
“حبست الروح فى برطمان، ذبلت أزهار الحياة وتهاوت على الأرض ثم انتهت إلى مقرها الأخير فى مستودعات القمامة، أى نهاية مروعة، قتل الضجر كل شىء، وانهارت قوائم الوجود
ويستمر فى محاولاته اليائسة:
“إنى أدفع عن نفسى الموت، إنى أدفع عن نفسى ما هو أشد”.
نقد النقد (1990)
فهو يسمى هذه المنطقة “الشيء” هكذا بكل تحديد، لا بد من الشيء أو الجنون، أو الموت، وبدلا من أن يتلقى الناقد (النفسي) الرسالة تتفتح بها آفاقه حقيقة وفعلا، فإنه اختزل هذا الشيء إلى ما أسماه عرض من أعراض الهوس، وكالعادة تحفظ تجاه المبالغة فى هذا الاختزال، إلا أنه مضى فى شرح هذه الخبرة الصوفية بألفاظ طبنفسية كادت تخلع عنها روعتها، وتحشر الشيء الذى ليس كمثله شيء تحت اسم ظاهرة من مظاهر الوجه الآخر للاكتئاب وهو الهوس
النقد الأول (1979) (10)
ويفيق أحيانا قليلة إفاقه تشبه سكرات الموت.. ولكن يعاوده المرض فيهجر رفيقته، ويعاود ضراعته وتسوله للوحى، للسر الإلهى ..ويأخذ فى البحث عن شيء، شيء ما، فيه كل شىء:
“لابد من شىء، الشىء أو الجنون أو الموت”.
ويجد الشيء مرة واحدة لا تتكرر.
نقد النقد (1990)
وحتى ندرك خطورة ما يسمى النقد النفسى الوصفى بهذه الطريقة، تعالوا نقرأ هذه الفقرة: “بكل هذه الفرحة والنشوة والسعادة دون مبرر”. فأى مبرر يريد هذا الناقد (أنا) أن يذكره الروائي، أو أن يعرفه عمر الحمزاوى حتى يبرر له فرحته ونشوته وتوحده مع اللانهائى؟ هنا يكمن الخطر ، لأن مثل هذا النقد قد يصل به الأمر إلى أن يعتبر كل ما لا يفهمه حتى لو كان سهما يشير إلى المابعد، أو أفقا يتفتح ليتجاوز، أو وعيا ينتشر ليستكشف، يعتبر ذلك بلا مبرر، طالما هو لم يجد له مبررا فى كتبه النفسية ناهيك عن تقاليد الحياة الراتبة العادية، التى ما أصيب عمر بما أصيب به إلا من جراء أنها كانت دائما أبدا ، كلها، بمبرر.. ، ومبرر دامغ، ومعروف مسبقا !!
النقد الأول (1979) (11)
ويجد الشىء مرة واحدة لا تتكرر
يجده فى الصحراء حيث السكون واللانهاية.. ولكنها مرة لا تتكرر:
“نظر إلى الأفق وأطال وأمعن فى النظر، وثمة تغير جذب البصر، رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشد البصر إلى أفراح الضياء، وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة”
ثم يعود كل شيء ويعود الحال كما كان.
ماهذا الذى حدث؟ وأى تفسير له؟ إن كان ثمة تفسير؟
إن كان المرض هو “الاكتئاب” بكل ظلامه وعبوسه، فما هذه النشوة الحقيقية التى لم تستغرق سوى لحظات؟
الحقيقة أن مرض الإكتئاب هو أحد وجهى مرض ذى وجهين يسمى “جنون الهوس والاكتئاب” ويمتاز وجه المرض الآخر وهو الهوس، بكل هذه الفرحة والنشوة والسعادة دون مبرر وهذا المرض كما ذكرنا يصيب عادة شخصية نوابية تعيش نفس التناوب بين المرح والاكتئاب فى الأحوال العادية…وما يحدث أحيانا فى بعض الأنواع المختلطة من المرض هو أن يتخلل الاكتئاب لحظات من الهوس أى أن الوجه الآخر للمرض يطل لحظات ثم يختفى تحت وطأة الشعور الحزين المسيطر، وقد تظهر بعض زوايا الوجهين أحيانا فى نفس الوقت، ولكن سرعان مايغلب أحدهما، كما كان الحال عند عمر الذى انتهى به الأمر إلى جنون الاكتئاب عندما تطورت الأعراض إلى مظاهر الذهان التام وأخذ يحس أنه “جثة منسية فوق سطح الأرض“.
ولكنه يشعر- على خلاف معظم الذهانيين- بخفايا نفسه وبعض دوافعه إلى الجنون، فما دفعه إلى ذلك إلا ضياع محاولاته لإثبات ذاته أو معرفة هدف لحياته”.
“أنت إن لم تستطع أن تستلفت أنظار الناس بالتفكير العميق الطويل، فقد تستطيع أن تجرى فى ميدان الأوبرا عاريا”
نقد النقد (1990)
….. انظر إلى ما وصل إليه التفسير الوصفى حين اعتبر أن عمر الحمزاوى قد وصل إلى مظاهر الجنون المتأخرة ،حيث فقد بصيرته ، فأنكر مرضه، إذْ أبى أن يستشير طبيبا “فيما يجهله”، ومرة أخرى نرى تحفظا ضمنيا حين يعقب هذا الرد من فاقد البصيرة كما أسماه: ردا “بالغ الدلالة فى كثير من الأحيان”، لكن يبدو أنها كانت دلالة لم تكف لتنفى عن عمر هذا التطور الخطر الذى عده “فاقد البصيرة” لمجرد أنه رفض استشارة طبيب.
ونكاد نعلن أننا مازلنا أمام طبيب أكثر منا أمام ناقد ، هو هونفس الطبيب الذى حاسب زميله فى الراوية على أنه أخطأ التشخيص،ثم راح ينتقد علاجه، ثم هاهو يدمغ بطلنا بفقد البصيرة لمجرد أنه تجرأ واعتبر أن الطبيب يمكن أن يجهل ما ألم به
النقد الأول (1979) (12)
ومن مظاهر الجنون المتأخرة أن يفقد المريض بصيرته فينكر مرضه ويأبى استشارة الطبيب:
- “ألا تفكر فى استشارة طبيبك”؟
- “لا أستشير أحدا فيما يجهله”
وهو رد بالغ الدلالة والصدق فى كثير من الأحيان.
- “إن المرض ليس بعيب.
- “إنك تظن بى الظنون”.
ويهرب من كل شيء، ويتقوقع فى ذاته، ولايعود يتحدث عن أعراضه خوفا من مستشفى الأمراض العقلية، وهو الذى كم سعى فى أول المرض إلى الطب يحدوه الأمل أن يكون مابه مرض.. ولكن!
نقد النقد (1990)
….حين يقرأ الطبيب أن عمر يفكر فى تفجير الذرة ، يتصور أنه عد نفسه أينشتاين مثلا ، وأنه بذلك قد تخطى حدوده إذ فكر فى المستحيل ، ثم يربط عجزه عن هذا الطموح المستحيل بتفجر طاقات عدوانه ، ثم بعد ذلك بانقلاب عدوانه على ذاته، هكذا بكل بساطة، وهو يعتبر ذلك التسلسل إدراكا دقيقا ورائعا وغير مألوف، فنرى محظورا جديدا أوقع نفسه فيه لنفس الأسباب: الالتزام بترجمة الإنسان واختزاله إلى عرض وصفى محدود.
ومثل عمر الحمزاوى حين يفكر فى تفجير الذرة ، لا يشير أصلا إلى ذرة خارج ذاته، فقد تفجرت الذرة منذ الأربعينات والذى كان قد كان، لكنه يستشعر داخله هذا الذى ينهار، أو يوشك على ذلك، ويريد له أن يكون انهيارا متفجرا بالطاقة المغيـــرة، لا تحطيما وتناثرا فى شظايا الضياع، والمجنون فى قمة صراعه مع الموت والحياة يريد أن يستوعب الواقع/المستحيل بأن يصبح سيده، فما دام التناثر يتقدم حتما، فالأولى أن يبادر بقبول التفجير ليقوده إلى ما يمكن، فهو الوعى يلتقط تفجر الطاقة، فإن لم تصبح الإرادة سيدة هذه الطاقة ، فهو القتل حيث اندفاع الطاقة بلا مسئولية ليس وراءه إلا الإيذاء والإبادة ، ثم ترتد هذه الطاقة المدمرة فتشمل الذات، وكأن الإنتحار هنا، خاصة إذا تذكرنا أن عمر كان يدفع الموت، ويدفع ما هوأشد، أقول يكون الانتحار هنا تدميرا ضمن التدمير الشامل، أو انعكاسا بعد العجز عن التفجر إلى أعلى ، وأيضا العجز عن القتل بما يعنى التخلص من الآخر الذى يذكرنا بنبض الحياة.
النقد الأول (1979) (13)
ويختل التفكير وتظهر النزعات العدوانية والإنتحارية:
- “أفكر فى تفجير الذرة.
فان تعذر ذلك ففى القتل.
فان تعذر ذلك ففى الانتحار”…
وهكذا يظهر التسلسل الدالّ فى أعراض المرض: فهو يطلب أن يثبت ذاته بالمستحيل ثم يعجز، فينطلق التوتر الناشيء عن الإحباط إلى العدوان، فإذا عجر انقلب الدافع العدوانى إلى داخل نفسه، وهذه هى نفس الخطوات التى تنتهى بالتفكير فى الانتحار فى كثير من الأحوال، ولكن معظم الحالات لاتدركها ولاتصورها بهذه الدقه والروعة.
نقد النقد (1990)
وإذا كانت هذه الدراسة قد اختزلت الخبرة الصوفية غير المكررة بكل ما تحمل من دلالات إلى بعض مظاهر الهوس الذى يتخلل الاكتئاب إن كان من النوع المختلط !!!، فإنها عادت تختزل هذا النداء الوارد مؤخرا ‘إن كنت تريدنى فلم هجرتنى، تختزله إلى عرض جديد، ورغم أنه ذكر صراحة وباللفظ: أن الإيمان الراسخ كثيرا ما يحمى من الهزات والضياع، إلا أن ذلك كان بعد أن ذكر أنه ( محفوظ) ..يصف عرضا من أعراض المرض، ألا وهو السعى إلى التمسك بالإيمان هربا من الضياع’ فما سر هذا التناقض الصارخ؟
أحسب أنه لا بد أن يكشف على ما وصل بالناقد نتيجة لالتزام الوصفى إلى ما وصل إليه من تعسف، حتى اختلط الهروب فى التدين، بالإبداع الإيماني، فالأول قد يكون عرضا خاصة إذا أعاق، والثانى هو الإبداع المجدد للوجود سعيا إلى التناغم مع الكون الأعظم، ولا يمكن لدراسة التزمت بترجمة المظاهر إلى أعراض سطحية بهذه الصورة إلا أن تقع فى محظور مثل هذ االتناقض الذى لا أميل إلى اعتباره خطأ بقدر ما أرجح دلالته على أنه مأزق التزام يعلن، ضمن كثير من الاستطرادات السابقة واللاحقة، ضجر الناقد الكامن فى هذه الدراسة، بوصاية الطبيب الجاثم على أنفاسه، المعيق لحركته إلى درجة أوصلته إلى مثل هذا التضارب الظاهر.
النقد الأول (1979) (14)
ويستمر نجيب محفوظ فى وصفه للجنون الصريح بنفس الدقة التى وصف بها الحالة النفسية فى أولها، وذلك بعد أن تبدأ الهلاوس (رؤية أشياء لا وجود لها) والضلالات (مثل إنكار كيان قائم).
“إنه يخاطب الجماد والحيوان، وهو يرنو إلى شجرة أو إلى النيل وتتحقق للمنظور شخصية حية، وتتخذ هيئة ملامح خفية لايعوزها الشعور أو الإدراك”.
“وأسدل عمر على وجهه ستارا أصفر من اللامبالاة وتحول شخصاهما (محدثيه) فى نظره إلى مجموعة من الذرات انمحت ذواتها.
ويموت إحساسه
“ألم تلاحظى يا ابنتى أننى أصــــم”.
وفى موضع آخر.
“ألم تدرك أننى ميت الحواس”.
ثم يخاطب النجوم ويسمع ردها:
“ورنوت إلى نجم متألق بين النجوم”.
أريد أن أري”
فأهمس:
أنظر:
فنظرت فرأيت فراغا-فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عار وحشى الملامح”.
ليس هذا مايريد ولكنه يريد وجهه.
ويكاد يفيق من كل هذا، هل يمكن أن يفيق؟ بم يفيق؟ صدمة؟
أية صدمة؟ نعم رصاصة فى الكتف، هجوم بوليسى يبحث عن صديقه (الذى تزوج ابنته).
ويخامره شعور بأن قلبه ينبض فى الواقع لافى الحلم، ويكاد يعود يقينه. ويرن فى أذنه شطر بيت شعر:
“إن كنت تريدنى فلم هجرتني”.
ويهذه اللمسة الصوفية يحاول الكاتب أخيرا أن يلقى بتبعة هذا الضياع على اهتزاز إيمانه، ولا أخاله إلا يصف عرضا ضمن ما وصف من أعراض المرض، ألا وهو السعى إلى التمسك بالإيمان هربا من الضياع، وهو بذلك لم يبعد عن الحقيقة، فالإيمان الراسخ كثيرا مايحمى من الهزات والضياع. والله أعلم إن كانت هذه الصحوة مثل ماسبقها من صحوات سوف تنتهى إلى نكسة ثانية فى جب الاكتئاب الرهيب، أم أنها كانت البشير بانتهاء طور الاكتئاب الذى يتصف أساسا بأن نهايته ذاتية لاسيما إذا أصيبت المريض بصدمة أيقظته (ولكن بعد ماذا؟).
نقد النقد (1990)
ويختتم الطبيب(الناقد) دراسته بأن يعتبر نهاية الرواية برصاصة فى الكتف أشبه بصدمة الكهرباء القادرة على إعادة المصاب إلى صحته ، ورغم احترامى المطلق- طبيبا- لهذ النوع من العلاج، ورغم اعتباره أكثر إنسانية وأرق تدخلا فى وعى المرضى ومسارهم، فإن هذا التشبيه هو قياس سيء، وخاصة إذا ما قيس برفض كلمة صدمة الذى أتبناه (الرفض) مؤخرا بعد تحديث هذا العلاج بما لا يجعله صدمة أصلا، دون أن يفقد أيا من فاعليته.
ومهما كان انتماء الطبيب كاتب هذه الدراسة أيام أن كتبها متأثرا بفكرة الصدمة فى ذاتها كعلاج مفيق، فإن هذا القياس قد اختزل خبرة نهاية الرواية إلى رجة عفوية ، مثلما اختزل مظاهر عديدة طوال الرواية إلى أعراض بذاتها. نفس الموقف.
النقد الأول (1979) (15)
ولكن ماعلاقة تلك الصدمة التى أصابته بهذه الإفاقه التى أملنا أن تكون صحوة الشفاء ؟
فى الواقع أن هذا المرض رغم شدة سواده وعنف أطواره، يستجيب للعلاج استجابة سريعة وكاملة فى كثير من الأحيان، ومازال علاجه المفضل هو نوع من الصدمات، يشبه فى طبيعته ومفعوله تلك الصدمة التى انتابت عمر نتيجة للهجوم البوليسى والرصاصة فى الكتف ومااعتراه إثرها من غيبوبة ثم من إفاقة.
ولو اتفق أن الطبيب الذى رآه عرف ذلك ونصح به منذ البداية، وعرف أن كثيرا من أنواع الاكتئاب -حقيقة لاسخرية- قد تحله ملعقة بعد الأكل أو ملعقة قبل الأكل، كما كان يتمنى عمر، لو حدث ذلك لما حصلنا على هذه الروعة والإبداع، ولانتهت الرواية فى بضع صفحات، إذا لما كانت رواية.
نقد النقد (1990)
ثم تأتى نهاية الرواية بموقف يخفف – قليلا- من وطأة هذا الوصف اللحوح، بما أقرمعه أن بداية تطور موقفى النقدى كانت لا بد كامنة فى السطرين الأخيرين دون سائر الدراسة.
النقد الأول (1979) (16)
فلا انزعاج من حتمية هذا المرض ومصيره، فما أسهل علاجه فى أكثر الأحيان، وإنما الإنزعاج هو من تصور هذه الخبرات الإنسانية العميقة مثل الإنفلونزا أو الصداع، وبالتالى احتمال تشويه طبيعة كل هذه الروائع الخالدة التى تصور الإنسان من الداخل فى عنف مأساته مع الحياة، ولكنه انزعاج نظرى بحت، فلايوجد سحر طبى يمحو التجارب الإنسانية ولا أقراص أسطورية تغير المشاعر الأصلية، ولكن مايعمله التطبيب ليس سوى علاج الاضطراب إذا وصل إلى أقصى غاياته: وهو المرض بهذه الصورة.
ولن تفقدنا المتعة النفسية أن نشعر أن واجبنا الأساسى هو ألاندع إنسانا يقاسى ماقاساه عمر. فهى معاناة نهايتها التصدع والتحطيم والإنهيار، وإنما أن تضبط القوة الهدامة لتصبح قوة بناءة.. تقتل الزيف وتسهم فى تطور الإنسان. هذا هو الطب النفسي.. كما أعرفه أو كما ينبغى أن يكون.
إن وصف المرض جميل.. ولكن وصف الصحة أجمل
إن المرض غنى بكل ماهو عميق مثير.
نقد النقد (1990)
ومن البديهى أننى لا آسف على هذه الدراسة أقل الأسف، ولا أتبرأ منها أدنى التبرؤ، وإنما أوردتها لتعلن مرحلة تطور تجاوزتها بإصرار، وإن كنت أعلم يقينا أن اللاحقة لمحفوظ غير محفوظ، ولهؤلاء أقدم اعتذارى بكل أعمالى، وبما أنوى أن أكمله إن كان فى العمر بقية.
وبعد
عذرا يا شيخنا، أعرف اعتراضك على ما فعلته بنفسى، لكننى تعلمت منه ما أفرحك وهدانى إلى النقد الإبداع، والنقد الرؤية، والنقد الصدمة، حتى وصلت إلى تسمية ما أمارسه مع مرضاى ونفسى باسم “نقد النص البشرى” link
وٍإن كنت أعدك الاسبوع القادم أن أقدم نقدا لنقاد آخرين تناولوا أعمالا أدبية وشخصيات روائية بما فزعت منه أكثر مما فزعت من نفسى، ولكن دعنى أشير أيضا إلى أننى قمت بنقد رواية “الغبى” لفتحى غانم بنفس الطريقة الوصفية التقليدية حتى أن المرحوم أ.د.مصطفى سويف لامنى عليها مع أننى أيامها كنت أتصور أننى أرضيه بهذا الدفاع عن سوء استعمال قياسات الذكاء، وقد أعود إلى ذلك أيضا.