المسودة الرابعة (قبل الأخيرة)
استحالة الممكن، وإمكانية المستحيل
الحنين إلى الرحم: وجدل الآخر (الموضوع)!!
فى: يقين العطش: إدوار الخراط
قــراءة
يـحـيـى الـرخـــاوى
إلى إدوار الخراط
أملا فى “ائتناس طيب،
مع الاعتذار عن فشل محاولة تجنب كسر وحدته “الرائعة “
يحيى الرخاوى
هـل فى الحب برء من الوحدة ([1])؟
هـــل فى الجنس برء من الوحدة ؟
هــــل فى الزواج برء من الوحدة ؟
هـــــل فى التدين برء من الـوحـدة ؟
هــــــل فى المعرفة برء من الوحدة ؟
هـــــل فى التصوف برء من الوحدة ؟
هــــــــل فى الموت برء من الوحدة ؟
”لم يقل لها: أننا نحب وحدنا ونموت وحدنا…..ولا نجد فى الموت نجدة والحب؟ الحب كذبة، هو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة، الاندفاعة التى لا تتوقف نحو الانصهار الكامل والاندماج المشتعل، لكنه يدور أيضا فى الوحدة، وينتهى بتكريسها، أكثر علقما من الموت، نحن نحب وحدنا، الحب أيضا وحدة لا شفاء منها
قال يصرخ فى ظلمة ليلة، مسدود الحلق: ليس صحيحا …. لا يمكن أن يكون صحيحا، لا
رامة والتنين: من مقتطف ظهر الغلاف فأيهما نصدق؟ ما قاله؟ أم ما لم يقله؟ وما هو الصحيح؟
هذا ما تدور حوله هذه الدراسة.
يحيى الرخاوى
المقدمة
تمهيد:
لم أستطع أن أستوعب لم كل هذا القفز فوق التجسد العيانى لكلَّ من المتحدث (1) (ميخائيل) ورامة، ذلك التجسد الحاضر الذى ظهرا به فى هذا النص الروائى، و حتى لو كانت رامة من صنع خيال ميخائيل، وهى كذلك – إلا قليلا أو كثيرا- كما أن كل الشخوص هم من خيال المؤلف (قليلا أو كثيرا)، فلا مفر من أن تكون بداية القراءة، وبداية النقد من حضورهما الواقعى فى النص، الذى هو واقع الحكى، الذى هو ناتج واقع الإبداع، وهو هو المتحاور الحتمى مع واقع التلقى.
وعجزى هذا -عن استيعاب مثل هذا القفز- هو سبب عجبى حين رحت أتصفح ما تفضل على به المؤلف من كتابات نقدية عن هذا العمل، فوجدت أغلبها، إن لم تكن جميعها، تتحدث عن رامة فى حضورها المتعدد، وتجلياتها المتداخلة، وألوهيتها البشرية، وعلاقاتها النقيضية، وتنتهى هذه الرؤى بشكل مباشر أو غير مباشر بنفيها بدرجات مختلفة من إلغائها ككائن واقعى يمكن أن يوجد هكذا من لحم ودم. حتى المؤلف-فى نقده، المرفوض، لعمله هذا، كاد يحرمنا من رامة التى تسحّبت من ورائه لتحضر بشحمها ولحمها هكذا، وفقط، كاد يحرمنا منها حين راح يترجمها، ويدعم ترجمتها إلى ما كاد يخفيها وراء التعدد والتناقض والألوهية والغنوصية القديمة والغنوصية الملتبسة والحادثة، إلخ.
كذلك افتقدت بشكل أربكنى أن ألمح – بين كتابات أغلب النقاد – تناول إشكالية العلاقة بين الناس، من عمق كاف، وكأنها حــُّلت، ولم يبق إلا البحث عن إشراقات معرفية تضيئ ظلمة دهاليز النفس وسراديب الميتافيزيقا(2).
وقد استقبلتُ الرواية بكل هذا الحضور المتعدد المستويات على أنها حدس شديد العمق، يواجه مشكلة بشرية أساسية لم تـحل أبدا. وإن كانت محاولات حلها لم تتوقف أبدا، على الرغم من أنه لا يبدو لها حل فى المدى القريب على الأقل، وهى مشكلة موضوعية العلاقة بين البشر، وتنظيمها ما بين الملكية، والاحتكار، والإسقاط، والإستعمال، والاحتواء، والاعتمادية، والتبعية، والعمى والجدل، والإجهاض.
وقد شغلنى هذا التجاهل أو الإنكار حتى شككت ابتداء فيما ذهبت إليه من فرض يقول: إن هذا النص إنما يتعرض لما لم يحل بعد فى مسألة العلاقة الإنسانية بصفتها أخطر وأصعب ما يميز الكائن البشرى فى رحلة تطوره بعد أن تعقدت فرص الاتصال والنمو والتواصل جميعا (3)، أما الخاطر التالى، لتفسير رؤيتى أو شطحى فهو احتمال أن يكون غياب هذه القضية: (صعوبة، أو استحالة العلاقات البشرية الموضوعية) عن رؤية النقاد، وحتى عن بؤرة ظاهر وعى الكاتب (ناقدا)، هو دليل إضافى على الهرب من مواجهة هذه الصعوبة / الاستحالة، بالإغفال أو بالإنكار، ليس فقط عند الخراط أو ميخائيل، ولكن أيضا عند معظم الناس، مثلهم مثل أغلب النقاد.
من هذا المنطلق تعاملتُ مع شـخـْصْـى الرواية مباشرة باعتبارهما “هما هما”، دون محاولة اختزال أى منهما إلى غير ما هما، فلم أحاول اختزالهما لا إلى سيرة ذاتية أرى الكاتب من خلالهما، ولا إلى رمز خارج عنهما، وبذلك استبعدت الكاتب من حساباتى، إلا قليلا، رغم أنه صاحب الفضل فى هذا الكشف من خلال النص الروائى، وبالذات استبعدته ناقدا وصيا أو مرشدا إلى ما وراء ما كتب.
أمر آخر أود التنبيه إليه فى البداية، وهو أنه قد وصلتنى – مثلما وصل غيرى- تلك الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والحضارية والدينية التى لم تختف أبدا طوال الحكى، وقد تجاهلتـها جميعا، ليس لقلة أهميتها، ولكن لأنه لم يبلغنى منها جديد يستحق أن يشغلنى عن القضية الأساسية التى تعرضت لبحثها، بل إننى خفت أن تحل هذه الأرضية (وخاصة فيما يتعلق بالوحدة الوطنية) محل الإشكال المحورى الذى أخذت على عاتقى كشف بعض ما هو، كما خفت أكثر، من استعمال هذا النص دفاعا عن ما يسمى بالوحدة الوطنية، خفت أن يتسطح كل من النص والوحدة الوطنية نفسها قياساعلى ما حدث فى تناول رواية “خالتى صفية والدير” لبهاء طاهر، وإلى درجة أقل رواية “لا أحد ينام فى الإسكندرية” لإبراهيم عبد المجيد.
مدخل:
تبدو العلاقة مع الآخر فى الحب والجنس والزواج والسياسة والمجمتع أمرا بديهيا، وهى ليست كذلك، ويحاول علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعى، وعلم نفس الجماعة، والتحليل النفسى، وعلم السياسة، وعلم نمو الأطفال، وطب نمو الأطفال، والطب النفسى: أن يكشفوا عن خفاياها فى محاولة حل بعض تعقيداتها، وتنجح هذه المحاولات بدرجات مختلفة. ولكن الإبداع الأصيل يتجاوز كل هذا ليضعنا فى بؤرة الإشكال.
وهذه القراءة تحاول أن تكتشف- من خلال نص يقين العطش لإدوار الخراط -عمقا خاصا لهذه العلاقة، إذ تستلهم منه حضور تفاصيل فرض نابع من النص اهتداء بمدراس نفسية نمائية تطورية أغلبها، ليست لها علاقة مباشرة بالتحليل النفسى الفرويدى، كما أنها أقل حظا وشيوعا عنه وعن الطب النفسى الوصفى (4).
الفرض
ويتكوّن من خطوات بعضها مترتب على بعض على الوجه التالى:
(1) إن العلاقة التامة الموضوعية مع آخر حقيقى مستحيلة (آخر حقيقى = ليس مسقطا من داخلنا، ولا مزيــفا بتشويهه بإدراكاتنا المتحيزة، أو بحيل دفاعاتننا – ميكانزماتنا العامـية).
(2) إن السعى المستمر إلى عمل مثل هذه العلاقة – رغم استحالتها فى صورتها الكاملة – هو ممكن إلا إذا حال خوفنا وانسحابنا دونه (5).
(3) إن تبرير الانسحاب من هذه المحاولة (كما وردت فى: 2) أو إبدالها بعمل علاقة مع “موضوع ذاتى” (داخلي/ مسقط)، أو مع موضوع مصنوع (بالحيل الدفاعية العامـيـة والإدراك المزيف) هو الخدعة التى تجعل من الممكن مستحيلا (الممكن: هو السعى رغم التهديد بالاستحالة، التى لا تتحقق – فعلا – إلا بالعزوف عن المحاولة)
(4) إن الحل (البيولوجى/ النفسى) يبدأ بالتأكيد على ضرورة الاستمرارية من خلال مرونة وتطوير “برنامج الدخول ↔ الخروج (6) “مع “موضوع” (آخر) يتخلق باستمرار فى اتجاه اقتراب أكثر فأكثر بعد كل جولة، وعلى الرغم من أن هذا البرنامج هو إشارة أصلا إلى الدخول إلى الرحم (النكوص للنمو) ثم الخروج منه (= إعادة الولادة)، فإن هذا البرنامج قياسا، ورمزا، وواقعا، يشير إلى مرونة الحركة (مع ذات الشخص أو غيره)، الحركة المصاحبة برعب الاختفاء (خوفا من الدخول بلا عودة =الفناء) وآلام الولادة (خوفا من الخروج بلا رجعة = الألم المعجّز).
وحتى ينجح هذا البرنامج “الدخول ↔ الخروج” فى تحقيق الممكن (التعامل مع موضوع تزداد موضوعيته)، ومن ثم تخليق الذات باستمرار، لا مفر من أن نضيف الفروض الفرعية التالية:
أ- إن العطش إلى “الاخر” (الممتد حتى موضوعية المطلق) هو دافع موجود ليبقى، وليس فقط ليروى
ب- إن العلاقة بالآخر-كوجود حقيقى-هى هدف لا يمكن إتمامه، كما لا يمكن التوقف عن محاولة تحقيقية
جـ- إن مبدأ “الحركة والإمكانية ” وليس مبدأ “الكينونة بالإشباع” هو سر تخلق الوعى البشرى إلى أعلى
ء- إن غاية النمو -التى لا تتحقق- هى استمرارية نمو الذات نحو موضوعية تسمح بوجود يقينى مبدع دوما
هـ- إن النجاح النسبى فى ذلك يسمح بتوسيع رحابة الموضوع (الموضوعى)-وليس إبداله- ليشمل الكون، والمطلق (الله) دون التخلى عن التفرد الحركى المبدع
.
الجزء الأول:عن العطش واليقين
(1) تساؤلات مبدئية
ماذا يعنى العطش فى هذا العمل، وهل هو عطش واحد (نوع واحد) أو أكثر؟ ولماذا وكيف يكون العطش يقينا؟ أو كيف يرتبط باليقين؟
فى هذا الصدد، بلغنى أن النص، منذ البداية للنهاية، كان يسعى لتحقيق مقولة تقول:
إن سعى الإنسان هو الأصل، أما تحقيق الغاية فهو - على أحسن الفروض – نتاج جانبى كخطوة متوسطة فى طريق بلا نهاية رغم أن تحديد الغاية، وتجديدها هما من أهم ما يحافظ على مواصلة السعى(7)
إستلهم الخراط ابتداء- أو استهشد بـ- قول الجنيد (كلمة تصدير النص)..
”….. أما من مات على العطش فهو أفضل منهم يقينا” (ص:7) (8)
(أفضل من رجال مشوا على الماء باليقين)
فنتوقف هنا عند تعبير “مات على العطش، وما يمكن أن نستنتجه من أنه “أيضا، وأصلا: عاش بالعطش”
وقبل الحديث عن هذا المدخل الصوفى، نقفز إلى النهاية فى بدايات الفصل المسمى باسمه العمل، “يقين العطش”، حيث يفاجئنا الكاتب، رغم استعماله لكلمة اليقين فى العنوان: بأن القضية غير محسومة، وأن ما أسماه يقين العطش لا يمكن الإحاطة به إلا من الدوران حوله، وتصوره، دون تحديده نهائيا.
(2) الخدعة
وكأن الكاتب ينتهى يائسا من تخليق الموضوع رغم طول هذه الرحلة (سبعين عاما) فيكاد يرضى بوضع الآخر (المحبوب) فى القلب أساسا، سواء حدثت المشاهدة أو الالتحام أم لم يحدثا، وهو حين يستشهد بالشاعر يقول:
”ما الود تكرار الزيارة دائما ولكن على ما فى القلوب المعوَّل” (ص:276)
كان يعلم ما فى هذا القول من خدعة قد تمتد إلى الشك فى أن للعطش يقينا، فهو يردف فورا:
لكن ما أشد سذاجة هذا التصور، ما أبسطه، وما أدعاه للراحة.. (ص:276)
وهو يرفض الاستكانة (اليأس) إلى أن “ما فى القلب هو الأصل أو هو الكل “ وهو يردف أيضا:
”…. الحق أنه فقط على الفعل الخارجى الموضوعى الملموس – المعوّل. المعول على أن يخرج ما فى الداخل- كامنا ودفينا- إلى الخارج، إلى ترجمة فى السلوك، إلى اختيارات فى فعل الحياة (ص:276)
فهل هذا صحيح؟
هذا التقرير الذى أتى أخيرا يكاد ينفى بشكل مباشر أن العمل برمته قد جاء تأكيدا لقيمة العطش وروعته، أو أنه دعي -ضمنا- للرضا به (بالعطش) طمعا فى يقين.
وقد أجل الكاتب هذا التشكيك إلى قرب النهاية، ربما ليدعنا نتساءل طول الوقت، وهو يستدرجنا بخدعة إبداعية متميزة.
(3) الأسئلة الإجابات، والإجابات المتسائلة
ماذا فعل ميخائيل طول الرواية بحثا عن الارتواء، ورضا بالعطش: يقينا؟
هل أخرج ما فى القلب، ليكون سلوكا يعول عليه؟
هل ارتوى العطش المبدئى لينتقل إلى عطش آخر من نوع آخر، ثم آخرمن نوع آخر، وهكذا بلا توقف؟
هل كشف خدعة أن يحل وهم يقين زائف بحتمية استمرار العطش محل امتلاء الارتواء الناقص؟ (الارتواء الناقص – بطبيعته- هو الشوق المتجدد حتى بعد الشبع المرحلى المتفتح إلى ما بعده، لا الذائب فيما قبله، وهو يقين العطش الحقيقى)
لقد حاول هذا العمل أن يجيب عن كل ذلك، إجابات ناقصة حتما، إن كانت إجابات أصلا، لأن الهدف من كتابته -على ما أعتقد- هو أن يجيب كل متلق عن هذه التساؤلات إجاباته الناقصة أيضا، ليستمر.
وهو بهذه الأسئلة الإجابات، يفتح الباب لتحقيق فرض أن يكون لنوع ما من العطش يقينا جديرا بأن يميزه عن ما يمكن أن يختلط معه أو به.
(4) يقين العطش والإيمان بالغيب
بدا لى المقتطف الصوفى قبل النص كما لو كان فرضا مبدئيا يهدف المؤلف إثباته من خلال إطلاق سراح الإبداع يحكى إمكانية ذلك، إمكانية أن يكون للعطش يقينا، أو فى العطش يقينا، وحتى أحسن فهم ذلك عادنى ما وصلت إليه من تفسير كيف يكون الغيب موضوعا للإيمان فأعدت قراءة الفرض بألفاظ أخرى تقول:
إن الهدف غير المحقق هو يقين فى ذاته مادام السعى إليه صحيحا، بقدر ما يظل الغيب يقينا ما دام إيمانك به، فلا أنت متوهم الوصول إلى الهدف ولا أنت متوقف عن السعى إليه، على نفس القياس القائل إنه: لا أنت مستسلم لغيب لا تعرفه، ولا أنت متخل عن الإيمان به”
ولمزيد من شرح المقابلة أقول:
كما يكون السعى إلى وجهه – تعالى (9)- هو هو يقين بوجوده، كذلك يكون دوام العطش دافعا للاستمرار حتى يصبح (الاستمرار) يقينا فى ذاته.
(5) الفرض: إجابة محتملة
والخراط حين يقرر ماهية الارتواء الكامل وأنه يقين العطش:
”الارتواء الكامل هو يقين العطش” (ص:22)
إنما يعلن موقفه المبدئى، لا النهائى، وعلى القارئ أن يستقبل مثل هذا التقرير باعتباره”إجابة محتملة”، وهذا هو التعريف الصحيح لما هو فرض (علمى).
وبقدر من التعسف تصورت أن أسماء الفصول جميعا تفيد نفس المعنى، أى أنها تشير إلى هذا الفعل الذى لا يكون كماله إلا فى نقصه أو عجزه (10)
وقد التقط هذا التوجه من قبلى، بل من قبل صدور هذه الرواية، حسنى حسن (11) فى دراسته الشاملة لأعمال الخراط، فهو يقول:
إن “الكاتب (الخراط) يعلن مرارا أن الكتاب الثالث والأخير من حركات تلك التجربة الجنائزية سيأتى حامــلا لــــعنوان “يقين العطش”، وهكذا يقرر بجلاء تام أن العطش وحده هو الخبرة النهائية والأكيدة فى التجربة كلها”
ثم يقتطف السطر الأخير من “مخلوقات الأشواق الطائرة “وهأنذا أسكت، لا أقول شيئا بعد عن البكاء، ولا عن الحريق، ولا يبقى لى إلا الموت الثانى، يقين العطش.
فالمسألة قديمة فكيف تجلت فى هذا النص المباشر؟ نقرأ:
قال إنه يموت، وهو عطشان، ولن يرتوى أبدا (ص:15)
ليس الاكتمال هو التمام، أليس كذلك؟ لعل النقصان -الرقصة التى لم تتم – هو نفسه الكمال (ص:41)
غاية الكمال ليس كفاية المحبة (ص:69)
ثم
هل تعرفين يا حبيبتى أننى أتوق إليك كأننى ما زلت فى أول أيام حبك، أن حرقة أشواقى إليك لم تهدأ، ولن تخبو أبدا فيما يلوح، وأننى أحلم بك كما لم أحلم بك من قبل، هل تعرفين كم أحبك؟ (ص:69)
وهنا يشير إلى بعد آخر يؤكد به روعة عدم التحقيق، وهو احتمال تطوير الحلم داخل الحلم (أو على الورق)، لا فى الواقع، ليظل دفع العطش مستمرا.
(6) الامتلاء نتيجة معايشة “لحظة” حقيقية.
وهو لا يخاف العطش، لأنه لا ينتظر الارتواء، فهو حين كتب فى الورقة التى عثرت عليها صدفة أنها:
..”لن تستطيع أن تسعدنى أبدا” (ص:72)
أقرّته هى، ورفضت تـراجعُه
….. أنت على حق”، لكننى أعطيتك لحظات سعادة، ولو كانت قليلة، أليس كذلك؟ إعترف، السيدة فى ظهرك، قل نعم. قال: ماذا أقول، من غير حلفان، أعطيتنى ملء سعادة لم أكن أتصور أنها موجودة، حتى (ص:72)
(لعل المحذوف هو:.. “لن تستطيع أن تـسعدني- كما أسعدتنى بهذه الجرعة القليلة المخيفة الممتلئة، ولا كما أحلم و لا بقدر عطشي-أبدا”
وهو يستعمل كلمة “سعادة” تجاوزا، لأنها ليست فى قاموسه أصلا، لأنها لا تتحقق، بل ربما لأنه لا يريدها أن تتحقق.
حتى مفهوم السعادة ليس من عدتى الفكرية أصلا، صدّقينى (ص:73)
(7) العطش الآخر (سعار شرب الماء المالح)
ثم نضبط الخراط، ليس متلبّسا، وإنما متخفيا وهو يرينا نوعا آخر من العطش، ليس العطش الواعد المستمر، وليس العطش الحافز الممتلئ بنقصه، وإنما عطش السعار واللهفة، وهو مثل ما سبق أن أسميتـه “الوجود المثقوب” (12) عند وصف الموقع الشيزيدى البارنوى وعلاقته بالظاهرة الشيزيدية (والذى سوف أسميه هنا بعد ذلك:العطش المالح فى مقابل العطش اليقين) وهو العطش الذى يغرى بالشرب الذى يروى، فلا يروى، ولا هو يرتوى لأنه كلما خيل إليه أنه ارتوى ازداد عطشا.
قال: شبعتُ، ورويتُ، نهلتُ وعببتُ، ما زلتُ ظامئـا، الملح على شفتى. (ص:112)
وشرب الماء المالح لا يؤدى إلى يقين رغم أنه يحفز إلى مواصلة الشرب دون انقطاع، لكن دون مشروعية أيضا، ودون ارتواء الكشف المتجدد، وبالتالى: لا يزيد هذا السعى السعار العطشى إلا اشتعالا بلا يقين
فالفرق بين يقين العطش، وسعــار شرب المالح فرق شديد الحساسية شديد الدقة، قد لا يمكن ملاحظته (أنظر بعد)
(8) الوحش بالداخل يتخبط وسط أمواج “المالح”.
ثم نلاحظ موقفا غريبا ذكر فيه العطش بعيدا عن العلاقة بالموضوع، والخوف من الحب والرضا بالسعى…إلخ، هذا الموقف على شاطئ أبو تلات
ظهر الوحش ذو السمنين، والجسم اللامع المستدير، والجلــــد المصقول، والنفس المتثاقل، وهو يصعد برأسه فوق الماء كأنه يطلب شيئا، كأنما يبحث عن شئ (ص:132)
وكأنما ينقل هذا الوحش (13) له رسالة ما، وكأنه لا يحتاج إلى حل ألغازها، لكن النتيجة هى أن الموج الملح ظل يضطرب حوله والنهاية:
” لو رويت حتى الغصص ما ازددت إلا يقينا بعطشى المقيم” (ص:134)
لكننا نحتاج إلى حل ألغاز هذه الرسالة، هل هذ الوحش هو صورة الذات؟
هل هو الذات الداخلية المشوهة بالعطش المالح؟ وما الذى جاء بالارتواء هنا -حتى الغصص- دون شوق، ودون آخر، ودون سعى أو محاولة اقتراب؟
ربما ثمة مجال لأمل الارتواء من الحب، من الشوق، من الجسد، من الجنس، أما الارتواء والموج الملح محيط، والوحش الغريب يطل ليختفى، فهذه إشارة أخرى تحتاج إلى وقفة أخرى تقربنا من أصل القضية فى الداخل، وتبرئ -إلى حد ما- ساحة مسئولية “الموضوع” الخارجى عن إحداث هذه الصورة برمتها، والتى ليس من بين ملامحها عامل خارجى، أو موضوع مهدد أصلا
لعل الحل هو فى أن نتبين أن يقين العطش هو غيراليقين بالعطش الذى انتهى به هذا المنظر على شاطئ أبو تلات، اليقين بالعطش ربما يعنى أنه لا فائدة من الارتواء، هو معرفة حقيقة لزوم العطش، أما يقين العطش فهو اليقين بأن الارتواء ليس ضد العطش ولكنه حق العطش، مكمل لعطش آخر يعــد بيقين لا يطفئ العطش، ولكنه يجدده.
فهذا العطش المـثار بظهور وحش محاط بملح البحر: هو عطش آخر، أقرب إلى العطش المالح، ولكنه ليس هو، ربما هو عطش إلى التخلص من هذا الوحش الذى لم يظهر (لم يكتمل ظهوره) ولم يختف (ولم يضمن أنه لن يظهر ثانية)، فهو عطش اللهفة لمعرفة غامضة، ليس لها حل إلا الاستغناء عنها والرضا باليقين بـ العطش.
لست مرتاحا لكل هذه التفاسير إنما كان حضور اليقين بالعطش بعد ظهور الوحش على شاطئ “أبو تلات” غريبا على السياق الذى رسمته لعطش له يقين، ثم جاءت المفاجأة بيقين به، أى: يقين بالعطش!!!
(10) اليقين والإيمان
ولنا أن نتوقف عند استعمال الخراط للفظة يقين، فهى ليست مرادفة لكلمة إيمان
قالت له: يا قليل الإيمان
قال يقينى لا حد له (ص:176)
لكن لم يلبث أن قال:
قانونى هو الانتقال من النقيض إلى النقيض بل كأنه قانون إيمانى، فورا.دائما، كل يوم (ص:177)
وهذا قد يجعلنا نرى الإيمان قانونا له التزاماته، فى حين أن اليقين حضور لا يحتاج إلى تبرير، ولايلزم بما بعده.
(11) العطش: إستمرار لحياة أم دوامة لعدم؟
نرجع إلى تقاسيم أخرى على تيمة العطش، فهو لا يتحدث عنه كطبيعة، واحتياج بيولوجى أساسى مثل الجوع والجنس، لكنه يرسمه بصورته الإيجابية (مع يقينه) وبصورته السلبية (منغمسا فى ملحه) كمطلب يدل على دفع الحياة، وربما على جذب الموت معا، نبدأ بملاحظته وهو يطلبه وليس مجرد يرضى به أو يقبله:
قال: الحب عطش، صنع الحب عطش، لسانى جاف وفــمى جاف، أريد أن أبل ظمأى، أن أغرقه فى نكتار ريقك العذب (ص:182 -183)
وهنا تناقض خفى إذا ما تأمـلت العبارة
فهو لا يريد أن يتخلص من عطشه إذ يرتوى من حنانها/ريقها، بل هو يريد أن “يبل” ظمأه لا أكثر. ثم فجأة أن يغرق فى نكتار ريقها!!
وهى تلتقط حاجته فورا إلى دوام الطلب، إلى طلب متجدد له أثرلا يمحى، وليس إلى مجرد بل الريق، أو بل الظمأ، حتى الغرق، فترد وكأنها هى التى تقرر ما تعطى، مع أنى استقبلتها أنها تقول بل إنك تريد ما سوف أقوله الآن:
قالت: أما أنا فأريد أن أترك فيك أثر جرح لا يزول (ص:183).
(12) الحفاظ على الطزاجة بنقص الوصول:
ويحضرنى تساؤل حول ذلك الإصرار على ما هو “إلا قليلا”، أو”إلا كثيرا”، وعلاقته بسن المتحدث الشيخ، وأزمة الكهولة، وهو يعيد ولادة ذاته من جديد فى السبعين (14).
نقرأ معا:
الإحباطات تأتى، الأشواق الغامضة لا تتحقق، ولا يمكن أن تتحقق، ولا قـبول لهذه الاستحالة، الخذلان مضمر، وتوقع الخذلان فيه خديعة كامنة (ص:193)
نعم يولد من جديد رغم اتهامه نفسه بالمراهقة الدائمة، إن المراهقة هكذا فى هذه السن هى ديمومة الطزاجة، هى الحفاظ على الاشتعال غير المنتظم، هى ديمومة الدهشة، هى ديمومة السعى المشترط عدم التحقق (أى دوام العطش)، يحافظ على كل ذلك صدق صادق.
..هلاّّ غفرت للمراهق الأبدى، للشيخ المراهق الأبدى؟هل هنا طرطشة العاطفة أم لوعة صدقها؟ (ص:190).
قالت له مرة:
ما لم تفعله أعظم بكثير مما فعلت (ص:191).
وعلى الرغم من أن هذا هو ما يريده بالضبط، ما يصفه بالضبط، لأن فيه إشارة إلى زخم ما بالداخل، فضلا عن ما يؤكد الإستمرار نحو فعل أشمل وأكمل بلا نهاية، إلا أنه اعتبره طعنة:
فكانت – بالطبع- طعنة عميقة (ص:191)
ربما لأن عدم إشباع العطش أو الجوع ليس دائما دليلا على مواصلة السعى نحو الإنجاز إلا قليلا، أو إلا كثيرا، بل يمكن أن يرجع أيضا إلى اتهام ضمنى بالكسل، والعجز، أو الإعاقة أو التسليم للمستحيل. وهذا ما وصلنى من معنى ” الجوع المهجور”.
أنت لن تعرفى قط جوعى المهجور (ص:250)
وأيضا من إهمال بقايا وقصاصات الأحلام…
هل تعرفين مثلا جذاذات هذه الأحلام المهملة فى تراب العمر القاحل (ص:250)
لمثل هذا العمى عن عمق حاجته وحقيقـة تمزقه، كان فيما قالت “طعنة عميقة بالطبع”.
(13) اليقين هو الامتلاء القلق وليس السكون؟
أولا: الامتلاء ليس مرتبطا بالشبع.
ومازالت وحشة روحك غير الشبعان تملأ ساحتى (ص:250).
وعلى الرغم من أنه أضاف:
فى غير جدوى لك، ولا لأحد، شأننا كلنا، شأن كل الناس (ص:250).
إلا أن الامتلاء قائم، وهو الأصل، كما تتضاءل الجدوى بجواره، فهو امتلاء للامتلاء، وليس للحصول على جدواه.
ثانيا: يبدو هذا الامتلاء بالوحشة، أو رغم الوحشة، بالعطش أو بعدم الشبع أو بالجوع المهجور كما لو كان هو اليقين الذى يشير إليه طول الوقت.
وقد ترددت محاولات الكاتب بدرجة أقل لتوضيح ما يعنى باليقين، ولعل ذلك مقصود فى ذاته. وقد اجتهد فى استعارة بعض مقتطفات تساعده، ولو أن أكثرها زاد الأمر غموضا، أنظر مثلا وهو يقتطف:
أهذا يقين أم هو “صفاء العلم فى القلب واستقراره به”
”وليس لزيادات اليقين نهاية” (ص:252)
ثم يضيف الخراط:
أيقين كأنه وطن أقيم فيه، يقين دائما هو موضع السؤال. ومن ثم فلا يقين، ومع ذلك فاليقين قيام دائم لا ينزاح (ص:252)
هنا نبدأ النظر فى حركية هذا العطش وكيف يمكن أن تـحقق يقينا ليس هو السكون، لأنه عطش دائم ومتغير، وبالتالى فاليقين مشكوك فيه رغم أنه يقين يغرى بأن يكون “ضد الشك”، ومع ذلك فالخراط يسارع بنفى هذا الاستقطاب.
يقينى قائم ومشكوك فيه، غير مستتب وغير مسبب (ص:254)
(14) النهاية المفاجأة
كيف انتهى به “العطش” بكل تشكيلاته، فى نهاية الرواية، هل حقق اليقين، أم أن اليقين لا يتحقق إلا إذا ظلت النهاية مفتوحة؟
نجد أن العطش ظل قائما حتى النهاية، حتى فى صورة الديك فوق السرير.
كان السرير العريض مهوشا، تحت لوحة الديك الأحمر الهازج، أبدا، بصيحة لا انطفاء لها (ص:264).
وقبيل النهاية، يقرر الكاتب -تقريبا فجأة- أن العطش لم يكن مطلوبا دائما، إن العطش هو الواقع الأوقع من الارتواء لا أكثر، أو هو قدر لا مفر منه، أو هو مرحلة تعد بما لا يتحقق، ولكن وعدها يحمل التلويح بيقين مطلق، فإذا بنا نواجـه بديمومته الصريحة بلا وعود متجددة، وهنا يتكشف لنا أنه -هكذا- لا يطاق.
عطشى لا يطاق، أمطار لا تسقط، أخطبوط متقطع الأطراف يحيطنى بالحبوط (ص:288)
(لاحظ الحبوط لا الإحباط).
فهل لهذا (العطش) الذى لا يطاق يقينه أيضا؟ وخاصّة أنه ليس مرادفا تماما للعطش المالح. ثم إنه كان قد بدأ يحدد اليقين أوضح قليلا: مثلا “اليقين”يعنى المأوى إلى الحب.
وكان ثمّّ حس بالمأوى إلى الحب- إلى ما يشبه اليقين (ص:294)
ويظل الترجح بين العطش اليقين والعطش المالح.
مازال الملح يملأ القلب ويفيض، لا أملك رده على الرغم من ذلك (ص:298)
ثم راح حتى النهاية يكرر نفس المقولات المتسائلة.
هل يقين العطش إنما يتأتى من يأس التحقق، ونفاد الصبر على الألم، ونفض اليد من الطلب المستحيل، والتوجس من قصر الحول وسقوط المنـة.
يقين ليس نهائيا، بالطبع، موضوع للسؤال، ككل شئ آخر.
لو كان نهائيا لما كانت ثمة حاجة لابتعاث الحديث عنه أصلا، لأن ضربته النهائية لا شفاء منها ولا راد لها (ص:301)
هل معنى ذلك أن الخراط تراجع فقرر التسليم للمستحيل بهذه البساطة، وكأنه يعرى دون جوان الذى يحاول أن يتحقق مع كل امرأة، أو الذى ليس لديه إلا امرأة واحدة (أحادية) غير موجودة، لأنها لو وجدت لكان قد كف عن البحث عن غيرها، هكذا.
إذا كان العطش هو اليقين الوحيد يعنى الصمت
- فما معنى كل هذا الذى تعمل أو تقول؟
دون جوان الذى عشيقته واحدة بل أحادية، مهما تعددت، ولكن محكوم عليه مقضى عليه بالعطش أبدا دائب البحث عن الارتواء وما من رى ولا نهاية للبحث عن الرى أيضا عين اليقين التى لا تغيض(ص:303)
بعد كل هذا، كيف يكون يقين العطش هو الصمت؟ موت آخر؟ يقتطف حسنى حسن السطر الأخير من رواية “مخلوقات الأشواق الطائرة” ليؤكد به أن يقين العطش هو الموت الثانى (15) “وهأنذا الآن أسكت، ولا أقول شيئا، بعد، عن البكاء ولا عن الحريق، ولا يبقى إلا الموت الثانى: يقين العطش” ويعقب حسنى أن الموت الأول هو موت الجسد، وأن هلاك الروح هو رحلة العطش هذه = الموت الثانى، وقد يكون مصيبا فى رؤية رحلة العطش كذلك، لكن الموت الأول هو كسرة الشييزيدى الأولى، الكسرة المرعبة الداخلية الخفية، وما إلحاح العطش إلا سعى لإحياء ما مات بعدها و بسببها، ثم يثبت -فى النهاية- أنه موت آخر، حين يصبح ترميما فاشلا مصيره الصمت.
إن الخراط بعد كل هذه الرحلة لتمجيد العطش وإقرار الحق فيه وبه، وتبرير الحياة من خلال إلحاحه ومشروعيته، بعد أن طمأننا إلى أن السعى، هو البداية وهو النهاية، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، بعد كل هذا: راح يلوح لنا أن العطش (حتى العطش) قد فقد معناه ودوره؟ يقول وهو يختم.
ما عـَادَ العطش مهما (ص:304)
ثم راح يضع العطش فى موقع يجمع الحياة والموت فى كل مستحيل، بحيث لا يجعل هذا المستحيل ممكنا إلا إرساء علاقة حركية بموضوع (بآخر) لكنه عجز عن أن يحقق مثل هذه العلاقة الصحيحة الحرة مع آخر-يسعيان “معا” إلى تكامل محتمل.
يقين العطش هل هو يقين الفناء وتحدى الفناء معا ؟ أين أنت يارامة يا حبيبة العمر؟ لماذا هجرتنى؟ ألأننى هجرتك ؟ لم يخل قلبى – روحى – من عشقك لحظة واحدة،أيا كانت التباسات جسدك المطعون الخصيب، ليس هذا وهم الرومانتيكية، هو فقط واقع ولعله واقع عذب مرير معا (ص:305).
ولتأكيد فشل المحاولة بدا لى هذا اليقين المزعوم مثل القمر فى عز الظهر، لا جدوى من نوره، وهو مع ذلك فى كبد السماء.
القمر فى عز الظهر وحشى ومستأنس، يسطع قرصا كامل الاستدارة، يعرف أنه لا جدوى من نوره، وهو مع ذلك فى كبد السماء الضارية، عينه غير رحيمة (ص:305).
(15) وبعد
هل يعنى كل هذا أن هذا اليقين كان سرابا طول الوقت؟ أم بعض الوقت؟ أم لم يكن سرابا أصلا
وهل ما تصورناه مستحيلا من البداية، إذ تصورنا أن الكاتب وميخائيل رفضوا التسليم لاستحالته، فراحا يحاولان إفساد هذا الزعم بجعله ممكنا، بحيث يصبح الرضا بعطش حركى هو فى ذاته امتلاء يكفى أن يمنح يقينا كافيا يتجدد، هل ما تصورناه هذا هو ما تراجع الكاتب وميخائيل عنه حين استشعرا غلبة العطش الآخر المتاح، عطش الماء المالح، عطش القمر – بلا سطوع – الساطع فى عز الظهر، عطش الوحش البشع الذى لا يرتوى، فإذا كان الأمر كذلك، فقد تراجعا (الكاتب وميخائيل) عن إمكانية المستحيل، وكأنه (“كأنهما”) تنازلا عن حقهما فى الموضوع (الحقيقى – الموضوعى) فتوجه إليه، لا إليها، إليه “تعالى” (كما بلغنى آخر صفحة 308):
فبعد التخلى المتبادل “هل تخليتُ عنكِ” (كسرة تحت الكاف) لأنك أنتِ (كسرة تحت التاء) تخليتِِ عنى؟ يتجه إليه “تعالى”، فيحتمى أولا برئيس الملائكة حاملا درعه يضحد الشياطين لا يبيدها، يهزم التنانين لكن لا يقتلها، بعينه الرائية التى لا تغمض، فألتقط كل هذا باعتبار أنه سلم، وأعلن العجز عن تأسيس العلاقة المستقلة بذاتها بعيدا عن الكون الأعظم.
ثم أرى فى هذا التوجه إليه “تعالى”، بديلا عن المحاولة، وليس تلفعا بعباءته تحتويهما معا، إنه يكاد يتخلى عن “الموضوع” بعد أن عـرف وعايش أنه الجحيم (فهل تذكر ساتر فجأة)، وبالتالى هو يتصور أنه قد كفر عن سيئاته باقتحامه المحاولة منفردا، ثم فشل، فرجع إليه يخاطبه “تعالى” ويطلب رحمته.
”وها أنتَ (الفتحة على التاء)… فارحمنى” (ص:308)
ولكنها ليست “ها أنتَ” خالصة، لأن ثمة جملة اعتراضية بينها وبين فارحمنى، جملة تقول: “إن كنت هناك حقا– ومع ذلك يمضى إليه معاتبا: أما كفاك تعذيبا، ثم يتهاوى، ولكن محميـا -بشكل ما- بالأسوار: داخل أسوار الروح أسوار الحب القديمة.
وكأنه نال نصيبه من العذاب، بقدر كاف، وبقدر ما اجتهد، ومع استرحامه، هو مازال لا يبرح مقام الشك، بما فى ذلك الشك فى قدرته على مزيد من الجحيم.
ليس بعد يقين العطش من جحيم ليس فى قدرتك ما هو أشد هولا من هذه الجحيم (ص:308)
وعلى الرغم مما توحى به هذه النهاية من تسليم وتراجع، إلا أن الدعوة لأن نسلم نحن -المتلقين- لهذا التسليم غير واردة، بل لعل إقفال الباب أمام التلويح بإمكانية حل المستحيل بهذه الصورة البعيدة عن الواقع الذى نعرفه، الصورة المتداخلة مع الخيال الواقعى، الراضية بما لا يرضى، أقول إن إقفال الباب أمامنا هكذا هو دعوة ضمنية لنا لكى نحاول أن نفتحه عنوة، لنحقق ما أبى المؤلف أن يحققه لنا بسهولة.
ولعل ذلك يتطلب أن ننتبه إلى أن العلاقة المستحيلة هى مستحيلة إذا لم تكن “ضامة” فى رحاب مشترك، معهم، فردا، فردا، لا يحل المجموع محل الواحد، إذ لا نتنازل عن واحديتنا / واحديته، هربا فى المجموع، ولا هربا “إليه” بعيدا عنهم، فلابد من ظله اليوم، وليس غدا، يوم لا ظل إلا ظله، دون أن نستبدله بهم.
وهكذا نتذكر ونحن ننتقل إلى الجزء الثانى من الفرض أن العطش الذى ورد فى هذه الرواية ليس هو العطش الغريزى، كما أنه ليس هو العطش المجرد، أو المطلق لذاته، ولكنه العطش إلى عمل علاقة مع آخر، إلى كسر الوحدة، إلى تدعيم الوجود بالألفة، والمعية المشاركة، والموضوعية واستمرارية التجدد، ثم نفاجأ بأن الآخر لا وجود له منفردا، ولا بديلا، ولا واحدا، ولا رمزا، لكنه هو آخر يوصل إلى آخرين، “إليه”.
وهكذا بدت لى الرواية مفتاحا لما بعدها، وتحديا حيا للمشكلة المحورية فى الوجود: العلاقة بالآخر: ممتدا متخلقا “معا”، وهو ما سنعرضه فى الجزء التالى.
الجزء الثانى:الظاهرة الشيزيدية: واستحالة الممكن
(إلغاء الآخر -الممكن- وألم المواجهة)
أولا:حتمية العلاقة (الموضوعية) بالآخر
بعد أن تناولنا البعد الأول حول العطش ويقينه، لنثبت فرضا بدا غريبا من الأول، انتهينا إلى فشل المؤلف (قصدا، غالبا) – دوننا- فى إثبات صحة الفرض، وبالتالى فلا مفر من مواجهته بنا، ولا بديل عن استمرار المحاولة، بقدر ما أنه لا يمكن تحقيق ما وراءها. فكان علينا أن نواجه القضية الأصل.
ومن هنا لا بد أن نكف عن التعميم، والتجريد، ونذهب للأشخاص والأحداث، إذ نحاول أن نفهم العطش من خلال الجوع للآخر، وأن نعيد النظر فى اليقين من خلال تحقيق درجات متصاعدة من التوجه نحو تشكيل علاقة موضوعية (حقيقية) بهذا الآخر، وليس بمجرد الثقة فى العطش والرضا بالاستمرار فى محاولة غامضة لم تحقق ما تصورناه، كما تصورنا.
والسؤال الآن هو:
هل المسألة -عمل علاقة حقيقية بالآخر- هى بهذه الصعوبة ؟ أليس كل الناس قد عملوا- ويعملون – علاقة مع كل الناس، الناس تتزوج، وتحب، وتصادق، وتتزامل، وتنجب، وتكون المجتمعات، أليست كل هذه علاقات تسير، وتنجح، وتتطور، وتتغير وتتبدل، فأين العطش؟ ولماذا؟، وما هى مسألة العلاقة الحقيقة (الموضوعية) هذه؟
وتبدو الإجابة بديهية لأول وهلة، فهى تقول: نعم، إن كل ذلك كذلك، حادث فعلا.
ولكن التساؤل عن متى تكون العلاقة حقيقية (موضوعية) هو الذى هدتنـا قراءة هذا النص إلى محاولة الإجابة عليه هكذا:
إن الإنسان كائن متطور، والعلاقات أيضا شبكات متطورة جنبا إلى جنب مع تطور الإنسان، والبشر فى سعيهم المتصل ليكونوا بشرا أرقى من أسلافهم يتميزون ويطورون تـمـيـزهم باستمرار.
ونبدأ فى تناول هذه الإشكالة من منطلق مفهوم النمو، عند مدرسة العلاقة بالموضوع (16)، حيث أن نمو الإنسان فى هذه المدرسة يتوقف على مدى نجاحه فى معايشة فرصة تشكيل علاقته بالآخر، بدءآ بأمه منتهيا بموضوع حقيقى تماما (ما أمكن ذلك). وإذا كان فرويد قد جعل الجنس (واللبيدو) بصفة عامة هو حفز السعى، كما جعل اللذة (17) هى يقين الارتواء، فإن مدرسة العلاقة بالموضوع قد جعلت حتم التحاور الخلاق مع آخر حقيقى مستقل عن الذات متفاعل معها متطور من خلالها هو ما يميز الإنسان بما هو إنسان.
ويكون اليقين بناء عن ذلك هو ما يمكن أن يحققه هذا السعى، لا من “الثقة الأساسية” التى قال بها إريك إريكسون (18) ولا من الارتواء الساكن كما بدا من فهم، أو سوء فهم، مبدأ اللذة عند فرويد، وإنما يأتى اليقين من إمكانية التحقق المتجدد لاستمرار حركية النمو “فى مواجة، ومع”، ومن أجل “الآخر” وبالعكس (من أجل الذات فى حضور الآخر أيضا، بل ربما قبلا: معا)
وبألفاظ أخرى إنها مسيرة السعى المتصل على طريق النمو لتحقيق الوجود الإنسانى الحقيقى ”معا”، وهو أمر - رغم شيوع ظاهر تحقيقه- إلا أنه شديد الصعوبة كما سوف نرى، فإذا أكدنا على مفهوم الآخرككيان موضوعى تماما، ليس فيه إسقاطات الداخل أصلا، تمادت الصعوبة إلى الاستحالة.
وهذا النص يأخذنا إلى هذه المنطقة المستحيلة لنرى كيف حاول الكاتب/ ميخائيل أن يتعامل معها، أن يخترقها، أن يحتويها، أن يتمثلها، وكيف فشل فى أن يتجاوزها، ثم كيف انتهى به الحال؟
فى تصورى أن الخراط التقط هذه المشكلة الأزلية التى هى ليست مشكلة فرد بذاته، فى ظروف متفردة بقدر ما هى مشكلة مرحلة تطور الإنسان الحالية ونوعية وجوده، ألا وهى:
إن الإنسان- لكى يكون إنسانا- بعد أن أصيب بمحنة الوعى على مستوياته المختلفة، لا بد وأن يعيش مع إنسان آخر، وآخر، وأخرى.
ثانيا: قراءة مستقلة (19) لسيرة ذاتية (مصنوعة)
كما ألمحت سلفا، أقر أننى فوجئت، دون دهشة كبيرة، أن بطل الرواية (ميخائيل) حول السبعين (20)، وأن رامة ربما قاربت الخمسين.
ومن هذه البداية تصورت أنه ليس من السهل على القارئ تقمص هذه الخبرات من الحب والمراهقة والجنس والخيال، فى هذه السن، دون وعى كاف بحقيقة مسارات النمو وطاقات الحياة المتجددة، وبعد أن تقمصت بدورى القارئ العادى، تدرج بى الأمر لتفسير النص على الوجه التالى:
1- إنه عمل متخيل أساسا، وفى نفس الوقت يمكن أن يقرأ باعتباره سيرة ذاتية مبـدعة، بمعنى أن سيرة الخياط ليست بالضرورة فيما عاشه، ولكنها فيما كان يرجو، أو يمكن أن يعيشه فتخيله فصاغه هكذا، إبداعا غائرا مغامرا، وبالتالى تكون هذه هى سيرته الذاتية التى اختارها لنفسه دون سيرته الحقيقية.
وليس معنى ذلك أن سيرته المصنوعة ليس لها علاقة أصلا بسيرته الوقائعية (الواقعية)، بل إن ملامح الواقع (الوقائعى) تطل بحضور صادق لتؤكد أن واقع الخيال ليس مختـلقـا تماما.
وقد تصورت قبل أن أكتشف هذه الملاحظات أن الخراط راح يتمادى فى وصف ما لم يحدث (ولا أقول ما لا يحدث) ونظرا لأنه كذلك (لم يحدث) فقد “أخذ راحته” حتى ابتعد فى أحيان كثيرة عن الممكن، وليس عن المستحيل الذى لا يعرفه، ولذلك ظل ملاحقا إياه بهذه المثابرة الرائعة، ذلك المستحيل الذى أحاول فى هذه القراءة أن أتبينه، وقد صاغه الخراط ليصلنا على أنه ممكن، وبالعكس.
2- ثم إننى وصلت – متألما- إلى فرض تصورت أننى أول من وصل إليه، لكن بمراجعتى العجلى لدراسة حسنى حسن “يقين الكتابة” وجدت الفكرة واردة-بلغة أخري- فى الفصل السابع المسمى “شهوة من ورق”، فقد وصل حسنى بعد استقراء كل أعمال الخراط حتى ذلك الحين، إلى رأى يقول: “ليست أناشيد وتسابيح الجسد المطولة تلك التى تضج بها كل كتاباته القصصية ليست أكثر من مجرد محاولة يقوم بها الكاتب للالتفاف على تلك العرامة الفعلية لهاجس العضوى الدافق والمتلاطم فى دمه، إنها محاولة توقه الوحشى إلى الذوبان النهائى فى جسد آخر لا يوجد أبد ا بالنسبة له على هذا النحو المطلوب إلا فى مخيلته. (21- أ)
ويعود حسنى معلقا:
”ولكن حين يغدو عشق المرأة نفسها إلهيا، ويصير جسد الأنثى قيمة للمطلق، فإن قدر الرجل يستحيل إلى نوع من الوجد الهارب أبدا والمتنائى دائما، قبل أن ينتهى الحال إلى حكم عبثى مرير من المطاردة واللهاث، أعنى إلى تكريس متواصل لوحشة الذات. (21- ب)
كذلك يضيف حسنى: يعترف إدوار الخراط صراحة (فى حجارة بوبيللو)
”لم أصنع غراما قط -فى حقيقة الأمر- إلا مع خيالات جسدانية – حتى فى عز التجسد والأرضية- كنّّ تخيلات” (21- جـ)
ولن أتعجل الأمر بتفسير ذلك التأليه بأنه إلغاء بشكل أو بآخر، لأن هذا قد يكون نتيجة هذه القراءة وليس مبتداها وهكذا يقدم لنا الخراط نفسه الخيالية (أو الحقيقية لا يهم) ليعلمنا أصعب وأعمق درس فى ماهية الشيزيدية (22)، تلك القوقعة المسحورة الواعدة بالتفتح، والمخلفة الوعد بنفس القدر، وأحيانا أكثر، ولا يخرج الخراط فى طول هذا النص عن هذه المنطقة، وذلك على الرغم من كل هذا الوجد، والحس، والحب، والجنس، وما يبدو كأنه واقع أشد واقعية من أى واقع.
3- ولكن ما معنى كل هذا؟ بالإضافة إلى ما جاء بأغلب النقد المتاح لهذا النص حتى تاريخه (23)، حيث غلب على كل من هذا وذاك أن رامة ليست جسدا حيا متعينا، وبالتالى فإن عرض صعوبات العلاقة مع جسد متخيل يبعدنا بشكل أو بآخر عن القضية الأساسية التى تقدمها هذه القراءة.
ولا بد من أن أعترف أن ما وصلنى -فى البداية- هو قريب تماما مما ذهب إليه النقاد، وحتى من رأى الكاتب ناقدا وهو أن رامة كيان مصنوع، فى النص الروائى، ناهيك عن السيرة الذاتية، وهذا ليس إنكارا لتجربة خاصة موازية للكاتب، إلا أن هذا الأمر ليس هو محل بحثنا الآن، وعلى الرغم من ذلك فلا بد – كما ذكرنا – من معاملة رامة باعتبارها كيانا حيا قائما من لحم ودم، لأنها، تمثل الموضوع، المستحيل شيزيديا، والواعد نمويا.
لكل ذلك فسوف تنطلق هذه القراءة من الواقع الروائى، والواقع التخيلى (السيرة الذاتية المصنوعة) باعتبارهما الواقع”الأول” الجدير بالدراسة، والذى يمكن أن يكون مفتاحا للواقع الوقائعى.
4- ثم إن استبعاد حضور رامة، بل وميخائيل، من اعتبارهما حضورا واقعا إنما يرجع جزئيا لسنهما، وخاصة سن ميخائيل، كما يرجع إلى صعوبة تصور مثل هذا الوجود الحى لكل هذه التناقضات، وخاصة المتناقضات التى ترفض من منطلق أخلاقى.
ولا بد من تصحيحات تفيد إحياء رامة من معابد أو جنازات النقاد (الذين ألهوها، أو ألغوها على التوالى)، ثم استحضارها هى وميخائيل كيانين ماثلين لحما ودما.
أما التصحيح الأول فهو إعادة التذكرة بطبيعة النمو الذى لا يحول دون استمراره سن عمرى معين، فهو مستمر بالضرورة حتى العقود السادسة والسابعة والثامنة، ومع بعض المبالغة والخيال، هو مستمر بعد الموت، وآخر ما ذكر إريكسون من أزمات النمو هى الأزمة الخاصة بالكهولة، والمسماة “الحكمة فى مقابل اليأس” Wisdom versus Despair وقد رحت أتساءل عن ماهية إعادة الولادة فى هذه الأزمة فى هذه السن كما وصفها إريكسون، وكما عاينتها وأضفت إليها، فمع أنها أزمة ككل أزمات النمو، فإن فيها قدرا أقل من المفاجآت والمغامرات والحس والخبرات المباشرة، إذ أنها تجميع لما فات من خبرات وأزمات سابقة، وتتويج لها، أو هى -إذا فشلت- إهدار لكل ما سبق من محاولات، وإعلان تمام التسليم والاستسلام وبديهى أن هذه الأزمة، وإن تأخر العمر، فهى لا تستبعد -كما يعلمنا النص صراحة- أيا من الجنس، أو الحس، أو المراهقة، أو الطازجة، أو الخبرة المباشرة، وقد أدى هذا الاستبعاد (المنطقى، لا الواقعى، ولا العلمى) إلى تصور أن كل ما ذكره الخراط/ميخائيل من تفاصيل حول هذه الخبرات، لابد وأن يكون إحياء ذكريات، وتجسيد خيالات سابقة ليس إلا، ولو صح ذلك تماما، لما كان لقراءتى هذه معنى أو مبرر (أنظر المقدمة)، ذلك أننى تناولت القول والخيال والتشكيل جميعا باعتبارها واقعا حيا ماثلا بغض النظر عن علاقته بأحداث بذاتها أو إمكانية حدوثها فعلا.
أزمة النمو، هى أزمة النمو، وليست ذكريات أزمات النمو السابقة، هى استعادة معايشة لكل ما سبق وإضافة -نوعية – إليه، وحتى لو لم يعلم الكاتب إمكانية ذلك علميا، (والحمد لله أنه لا يعلمه) فإن حدسه الإبداعى الصادق يفرضه عليه فرضا، حتى لو تراجع عنه فارضا وصايته ناقدا (24) – بغير وجه حق – على ما كتب.
ثالثا: ترميم الذات من الداخل بديلا عن النمو.
نبدأ من الآخر
الشيزيدى إنسان يعيش داخل قوقعة من صنع عقلنته (وليس فقط عقله: أنظر الجزء الثالث: الرحم العقل ص: 64 وما بعدها) وهذه القوقعة هى بديل الرحم الذى لم يخرج الشيزيدى منه – نفسيا – بعد، وذلك حين عجز، أو عزف، عن عمل علاقة بموضوع حقيقى. وهى هى الرحم (= القوقعة و/أو العقلنة) الذى يلجأ إليه الشيزيدى بعد محاولته – الفاشلة طول الوقت – لعمل علاقة بالموضوع (الآخر). وهى قوقعة ذات جدار شفاف جدا، صلب جدا، شفاف لدرجة أن ساكنها ينسى أنه موجود فيها فيتحرك فى اتجاه الآخر طول الوقت، لكن الجدار زجاجى شديد الصلابة شديد الصقل لدرجة أنه لا يـكسر أبدا، وحتى إذا كسر مصادفة أو باندفاعة عملاقة (عمياء عادة) فإنه سرعان ما يتم ترميمه أقوى مما كان، ومع كل تصادم نتيجة لمحاولة الإندفاع للخارج يتكسـر الكيان الداخلى دون إعلان.
والشيزيدى هشُّ من الداخل، وبقدر ما تكون هشاشته تكون صلابة القشرة الزجاجية، ويظل الشيزيدى يتكسر من الداخل لهشاشته، ولأن مادة البناء هى من عوالمه الداخلية المهزوزة، الموروثة والمدخلة معا، وهى مهزوزة لأنه لم يتم صهرها واختبارها فى جدل العلاقة بالموضوع، وبالتالى تصبح المادة المتاحة لبناء ذاته مادة مكمورة، قديمة، أثرية، وهشة، مرة أخرى رغم صلابة ظاهرها الزجاجى الشفاف، وربما بهر لمعته.
وهكذا نفهم كيف أن شعور الشيزيدى بأنه لا يبنى (ذاته) من خلال علاقة حقيقية بالآخر، وإنما يداوم ترميم المشروع الذاتى الكامن المهدد بالتناثر، وهو المشروع المتجمع مما كان، وكاد يبلى، أو من مخلفات حرب معارك محاولاته الفاشلة للخروج من رحم عقلنته فى اتجاه الآخر..
وعمليات ترميم الذات هذه -بديلا عن بنائها- تبدأ من البداية، وهى تستعمل نفس أدوات ومواد البناء حتى يتوهم الشيزيدى أنه يبنى، لكنه لا يفعل إلا أنه يرمم عشوائيا ما تراءى له آيلا للسقوط، وهو يفعل ذلك دون وعى، ثم قد يكتشف ما فعل لاحقا مثلما فعل الخراط/ميخائيل، أو هو قد يكسر الجدار الزجاجى فيعلن التفسخ (فهو الفصام)، وهذا لم يحدث (25)، إلا أن ميخائيل قد اكتشف ببصيرة لاحقة، نجاحه فى الترميم الذى هو فشل فى ذاته، ولكنه أفضل من إعلان التفسخ، وبيع الأنقاض، بلا مقابل، لنسمعه وهو يكتشف تاريخه القديم مرمما أزليا، وهو يعقب على عمله – فى إصلاح رصف الطرق- مع خاله سنة 1938وكانت سنهّ 12 سنة قائلا:
“كأنها إرهاص بأن حياتى سوف تنقضى فى الترميم، فى إعادة الرصف، فى ابتعاث الحياة فى الأنقاض” (ص:271)
لكن الترميم الذى بدأ مبكرا هكذا، والذى لم يتوقف أبدا: لم ينجح أبدا، وحتى النهاية، وميخائيل - بنفس حدس البصيرة- يعرف أن الترميم- بديل البناء – لا ينتهى أبدا، وأنه لا يـصلح شيئا.
ساوره هاجسه الملازم، الترميم كذب، الفن كذب (ص”:282)
أما أن الفن هو بديل الحياة، لذلك فهو كذب، فهذا زعم وارد، وقديم – منذ أفلاطون- وهو زعم صادق، مع أنه غير مفيد إعلانه أو السير وراءه طول الوقت.
أما أن الترميم كذب، فهو أيضا كذلك، وخاصة حين يتدخل فى فعل الزمن، وكأنه يلغى العمر الافتراضى لطبيعة الأشياء.
ولكن لماذا يلح عليه هذا الهاجس هكذا؟ ماذا يريد أن يقول؟ أو بماذا يمكن أن يبرر؟ وما علاقة ذلك بهذا الجزء الخاص بالعلاقة بالآخر؟
إن التركيب الشيزيدى يتواصل بناؤه من خلال عمليتين معا: العملية الأولى هى بناء طبقات من الحواجز السرية التى تحول دون الاقتراب، منذ البداية خوفا من مغامرة العلاقة فالتفسخ فالضياع مع آلام الاستمرار، أما العملية الثانية، فهى عملية تمادى التمزق الداخلى، الكامن، أو المنذر، بحيث تظهر الشقوق وتعلن الهشاشة لصاحبهما دون سواه، فليس فى الظاهر إلا الجدار الزجاجى، والحواجز السرية، وهذا نقيض الفصامى الذى يظهر هذا التفسخ فى ظاهر سلوكه، وكل جمود الشيزيدى الترميمية هى للحيلولة دون الفصام، فيسارع صاحبنا ليقى نفسه من التفسخ العلنى إذا ما انهارت الحواجز، يسارع كلما سمع عن تشقق، أو خاف من شرخ، أو رجح احتمال تصدع، يسارع بإلقاء أطنان من خراسانات التبلد، أو العقلنة، أو الابتعاد، أو كل ذلك بدرجات متفاوتة.
فالشيزيدى يبالغ فى الترميم كلما سمع “طقطقة” الجدار النفسى الداخلى، حقيقة أو خيالا، وبالإضافة إلى الحواجز السرية، فهو يبنى ما يمكن أن يسمى جدار الصد (26) توقيا من أى اقتراب مهـدد: بالكشف، أو مهدد بأعباء علاقة ما، مع موضوع لا يحتمله كيان هش كهذا.
والنتيجة من العمليتين واحدة، هى أن: القضية خاسرة والترميم لا يصلح شيئا.
وهكذا يبدو ترميم الذات أبشع وأغبى وأفشل من ترميم الآثار التى يقول عنها:
..ليس ثمة استعادة ولا تطابق، من باب أولى، ولا ابتعاث (ص:283)
فهل نصدق ما جاء بعد ذلك عن قضيته:
قضيته هى أن الماضى لا ينقضى، وأنه ماثل أبدا، أى وهم أى تشبث طفلى بخلود مستحيل
(ص:282-283)
أم أن قضيته هى أنه لا يستطيع أن يعود للماضى (الرحم) أبدا، وأن جدار الصد، والقوقعة المسحورة (الزجاجية المحصنة)، والحواجز السرية، كلها فشلت أن تكون رحما بديلا، بل إن الأيام، ورامة، يثبتان له أن كل ذلك هو أكبر كذبة، فالقوقعة الشيزيدية لم تصلح قبرا يغطيه بترابه، ولا هى صلحت كمغارة مصمتة معتمة حالت بينه وبين العالم فكف عن المحاولة، ولاهى ذات جدران مقواة حامية للتصدع الداخلى الذى لا يكف عن عمليات ترميمه، وهو لا يفعل إلا أن يكذب على نفسه (وعليها- رامة).
وقد رسمت هذه الصورة – نقدا – هكذا قبل أن أنتبه إلى المقابلة التى أعلنها هو صراحة:
أهذا (الترميم) ما يحدث أيضا فى أمر نفسه؟ (ص:283)
لكنه لم يستبعد نجاح الترميم، ومن ثم ضرورة المحاولة، بل إنه وصف الرواية برمتها وكأنها الانحناءة الداخلية الخاصة بالترميم، أو أن سيرته الذاتية شخصيا هى كذلك، قائلا فى نفس الصفحة:
أهذه القصة كلها معادة ومرممة، وقد اعتراها تشوه لا برء منه، ونالها حيف على يد تجميل- أوتقبيح- متوهم أو حقيقى مقصود أو عفوى (ص:283)
هل كل محاولاته ليعيش، ليستمر، ليحب، ليمارس الجنس، ليقترب، ليشك، ليشترط، ليحلم، كل محالاته لكل ذلك هى فاشلة خادعة ؟ و هى تقبيح أضاع الأصل؟
إنه لا يريد أن يستسلم ببساطة لهذا الفرض، فيروح يمارس حقه فى تقدير ما فعل بنفسه، ما حاوله مع من أحبها، ما أصر على مواصلته رغم يقينه بفشله، ما أصبره على عطشه -يقينا- وهو إذ يتراجع عن شجب الترميم جملة وتفصيلا يكاد يجيب على سؤال يقول:
وما بديل الترميم (والتنكيس، والتقوية) لبناء ينهار؟ أليس هو الضياع حتى العدم؟
فلماذا – إذن – نشوه كل هذه الحيل الشيزيدية – الترميمية – التى حافظت عليه هكذا؟، فتقفز الأسئلة (الإجابات المضادة) تقول:
..لعل البنيان الجديد هو وحده القادر على كشف الجوهر؟ الذى كان يتخفى وراء قناع الماضى؟ (ص:283)
(وضع الخراط علامة استفهام رغم أن الجملة تبدو خبرية)
لعل “البضاعة الأصلية” فى النهاية هى الصورة الزائفة التى يعيد إليها الترميم والتجميع صدقها الداخلى الدفين؟ (ص:283)
وهنا يثير الكاتب بحدسه قضية جوهرية تخدع الكثيرين تحت أوهام متنوعة، هذه القضية تقول:
هل هذا الجهد المثابر، وخاصة فى التقدم نحو “الآخر”، مع احتمال التكسر والتحطيم، -حتى لو كان معظم هذا الجهد ترميما- هل هذا هو الذى يتطور بنا حتى نستعيد صدقنا الداخلى؟ حتى لو بدا صورة زائفة، أم أن مجرد منع التكسير والتشويه هو الذى يسمح لنا بأن نأمل فى أن الزمن سوف يطلق فطرتنا؟ ولنسمها ما شئنا من أسماء؟ أو أنه ليس أمامنا إلا صورا زائفة الواحدة وراء الأخرى، والترميم يعيد – رغم ذلك – صدقا داخليا “ما”، أو يحافظ على بقاء الأصل واعدا بزيف أقل فأقل؟ أحسب- لأننا لا نعيش فى جنة مبرمجة – أنه لا مفر من الجهد طول الوقت، حتى لوبدا ترميما أحيانا، حتى لو بدت الصور زائفة الواحدة تلو الأخرى.
هذا ما يقوله هذا النص على الأقل.
رابعا: الشيزيدى والعلاقة بالآخر (المستحيل و الممكن!!)
1- الشيزيدى -فى نهاية النهاية- مشروع إنسان عاش-يحاول “نحو” موضوع (حقيقى)، بلا طائل، هو مشروع إنسان مات، قـتل، قبل أن يعيش، ومع ذلك فهو دائم المحاولة فيما لا يحدث أبدا، وفى نفس الوقت، وبرغم المحاولات، هو لا يريده أن يحدث، أو هو يخاف من احتمال أن يحدث، أن يعمل علاقة بموضوع حقيقي
نبدأ من الآخر أيضا:
هل ميخائيل- بدون الآخر- مثلما اقتطف من الشاعر العربى هو “رجل قتيل”؟
يعتبر الشاعر العربى أن الفراق هو بمثابة القتل، فى قوله:
“يخاف من النوى من كان حيا وإنى بعدكم رجل قتيل” (ص:277)
الشيزيدى يخاف من النوى، ولكن ليس بالضرورة بعدكم، فالحقيقية أنه لخوفه من النوى، لا يكمل علاقة، بل إنه لا يبدأ علاقة، فإن بدأها فهو يجهضها، وهولا يسمح بالارتواء أصلا، وهو يقتل الحركة – رغم ظاهر جلبتها- التى تعرضه للنوى ابتداء، وإن كان يظل يتحرك فى المحل متوهما أنه يتجه إلى الآخر، وهو يعلم كل ذلك، إذ يعرف الفرق بين ما قاله الشاعر العربى القديم وما يعيشه هو، فهو يتساءل، قبل أن نتساءل نحن:
هل هو حقا “رجل قتيل” أم أنه فقط يحيا فى داخل قبر جميل مصمت من الكلمات القديمة والجديدة، ومهمات الترميم التى تجعل الأشياء-والمشاعر ربما- مهندسة أكثر مما ينبغى، مصقولة أكثر مما ينبغى (ص:277)
وهذا التشبيه بالقبر الجميل المصمت، هو ما أردت التعبير عنه بالحاجز الزجاجى الصلد المصقول، ثم إن هذا الصقل، الذى أشار إليه، هو كله صقل من الخارج ليس إلا.
2– الشيزيدى إذن ليس قتيلا، لم يقتله أحد، بل هو الذى حرم نفسه من الحياة، رغم صدق المحاولة، وفى نفس الوقت فإن هذا الحرمان من الحياة ليس انتحارا، لكنه إعدام جماعى مع سبق الإصرار غير المعلن، والحكم فيه نهائى يسرى على كل من هو “آخر”، وعلى كل محاولة فى اتجاه آخر”، رغم استمرار الحركة الخادعة التى تعلن عكس ذلك طول الوقت.
قال لها: أتعرفين يا رامة، مهما رأيتك فى أوضاع النور والظل، فلست أنت موضوعا ولا أنت شيء مرئى، أنت تظلين ندا، ورصيفة، واقعة حية هنا وفيما وراء الواقع معا (ص:79)
وللشيزيدى وسائل عديدة لإعدام الموضوع رغم شدة حاجته إليه أو بسبب شدة حاجته إليه: من أبسطها الانسحاب الفعلى، ومن أخفاها التأليه (إقرأ النص السابق مرة أخرى) ومن أخيبها التبلد الانفعالى، وهذا الأخير له حضورات وأشكال مختلفة من أول الإعلان المباشر حتى اصطناع الحكمة والتجلد
قال: “ليكن، لن تعود،ما الذى يعود قط ؟ أية أهمية لهذا كله؟ (ص:9)
3– والشيزيدى يحتوى الموضوع التهاما حتى لا يعود إلا موضوعا داخليا فحسب، يسقطه بعد ذلك على شبه موضوع خارجى، أو لا يسقطه فيظل الموضوع الخارجي-معظم الوقت-مجرد مسقط للموضوع الداخلى، وليس ممثلا له، ولا مستقلا عنه
”هل إذا دفنتها فى رمال نفسى المتحركة تموت، أم تزداد شراسة حياتها” (ص:10)
4- فالموضوع الداخلى (27) عند الشيزيدى رغم أنه يحميه من الفقد العشوائى إلا أنه يصبح أشد شراسة، ومن ثم تتواصل المأساة: وهى: التأكيد على عمق العلاقة وأصالتها بكل ما تحمل من قسوة، دون علاقة أصلا.
5– وهو يخاطب نفسه -داخله- باعتبارها ذاتا داخلية مستقلة عنه (أحيانا)، أنظر قوله (أو اقتطافه).
” غبتُ عنّى فعرفت الحضور” (ص:28)
ولولا أنه وضع ضمة على تاء “غبت” لحسبها القارئ غبت (فتحة أو كسرة) عنى فعرفت الحضور، وخاصة أنه أكمل بضمير الغائب:
لأنها لم تغب عنى، قط (ص:28).
والشيزيدى يختلط عنده الخارج بالداخل، معظم الوقت، بدرجة وطريقة، أو بدرجات وطرق، لا يمكن تحديدها بشكل كامل، بل إنه لا ينبغى تحديدها تعسفا، حيث الداخل هو الأصل، وحيث الخارج يعاد تشكيله إسقاطا – وإبداعا معا- فحتى السماء يقلبها حجرا أبيضا رماديا، داخليا.
رأى أن السمآء نفسها قد أصبحت حجرا (أبيضا رماديا)….هو لون نفسه الداخلية فى توقه إلى الأنوثة المحبوسة إلى جانبه، بكل ما تحمل فى طواياها من احتشاد وحنان مكتوم” (ص:10)
وهذا مثال محدود لعلاقة الداخل بالخارج، جنبا إلى جنب مع كشف جانب هام، من أنوثته -داخليا -، وقبل أن ننتبه إلى احتمال الكشف عن رامة فى داخله أصلا، أو تماما، يسارع بعد كلمة “المحبوسة” التى كنا ننتظر أن يعلن أنها محبوسة “فى داخله”، فإذا بنا نفاجأ أنها محبوسة “إلى جانبه”، فنـتأكد من مشروعية فرض ما ذهبنا إليه ابتداء من علاقة الداخل بالخارج.
6– والشيزيدى يــشـيئ الحياة، والأحياء، وكأنه قد استعمل أسلوب ميديوزا فى قلب أعدائه الأحياء جمادا (28)، لكنه إذ يقلب الأحياء جمادا، يعامل الجماد كائنا حيا ولكنه كائن من صنعه هو، وبالتالى تحت سيطرته (فلا خوف من الهجر!)
وصاحبنا هنا لا يكتفى بأن يقــلب السماء حجرا (داخليا)،ولكن الحب يصبح حجرا هو أيضا
حجرّ الحب رازح ساطع الظلام (ص:11)
ولنفس الهدف هو يعين المجرد (29)، (يجعل المجرد متعينا ملموسا) وبالتالى يصبح فى متناول السيطرة والتحكم (الزائفين طبعا).
7– وكما يشيئ الشيزيدى الأحياء، ويعين المجرد، هو يوقف الحركة، لأنه يخاف إن تحرك -هكذا- اقترب من الآخر دون ضمان حسابات التراجع، وكأن الجمود أبقى من الحركة، إذ أنه آمن اقترابا، وأقل تهديدا.
“فعل الحب الصامت ليس فيه كلمة إعزاز واحدة، ليس فيه صوت المحبة، ليس فيه حركة حنان” (ص:25)
والصمت عند الشيزيدى مأمن ليس كمثله شئ (رغم صوته الداخلى الذى لا يكف عن الحكى: الرواية كلها: قال، قال، قال، قال، قالت:)
كانت قد قالت له.”………. أنت لا تتكلم، لا تقول ولا تفضى” (ص:11)
وصمت الشيزيدى عادة لا يعنى -كما يبدو لأول وهلة – إخفاء أسرار، أو تجنب تعرية، بل هو مجرد عزوف عن مغامرة الكلام الذى قد يحمل خطرالاقتراب من الآخر إذا خرج غير موصى عليه من عقلنة نشطة، وفرق بين كلام الشيزيدى وهو يناقش، ويفسر، ويثبت، ويستبطن، وبين كلامه البسيط العادى المنساب أكثر سلاسة من الشخص العادى، بل وأكثر مما يحسب هو ويقدر
”…تظل مدة طويلة حتى تفك وتتكلم، كما ترى، ينحل كل شئ، ويبدو طبعيا وبسيطا ولا تعقيد فيه، وليس هناك وراءه أسرار أو مخبآت.” (ص:11)
ومهما كان الأمر فعلا مشروطا، أو كلاما معقلنا، أو كلاما بسيطا يحمل خطر التواصل، فإن الشيزيدى جاهز طول الوقت للمحو والتراجع:
وهأنذا أنقض ما غزلت، ؤ وأنفى ما أثبتُّ (ص:15)
يتكرر هذا طول الوقت، بالإقدام فالإحجام، وبقبول التناقض متلاحقا، وبالتراجع عن مقولة يقينية بدت كأنها المقدس نفسه. وكل ذلك هو وسيلته لإجهاض العلاقة بالموضوع أولا بأول.
8– والشيزيدى يعيش “مماسا” لكل الأشياء ولكل المقولات، ولكل الآراء، وهو يستعمل لذلك أساليب كثيرة، أهمها التقريب والتراجع إلا قليلا، وهو فى وضع التماس هذا يقترب، ولا يقترب، يقول ولا يستمر، وهوبذلك يعلن إلغاء (إخفاء) المسافة بينه وبين الموضوع، ألم يلتصق به حتى التماس؟ ألا يكفى هذا الاقتراب؟ ولكن الخط المماس رغم لمسه لقطر الدائرة، يضمن تماما-بالتعريف- أنه لن يدخلها، لن يصير قطرها، ولا نصف قطرها، ولا جزءا من قطرها، لن يقترب من مركزها، رغم أنه ملتصق بها من الظاهر، فهو لا يقترب إلا من دائرته هو، ولو بدت فى الخارج، أنظر إلى المقتطفات التالية الدالة علي”التماس والتقريب الغامض:
وكأنما قال: غير صحيح أيضا. غبت عنى، فعرفت الحضور (ص:28)
فى تلك الأيام الأخيرة كانت تسلك سلوك: العشيقة الصديقة الزوجة تقريبا (ص:22) فلعلها تعرف وحشتها فى غيابه- أو شيئا من هذا القبيل” (ص:32) القميص على فخذيها الطفلتين تقريبا (ص:47) هبت عليه رائحة سريرها الطفلى تقريبا (ص:47) ولكنه أبوى، حان، مع أن وجهه صلب كأنه قاس (ص:53)..إلخ
9– والشيزيدى يوهم بأنه يريد الآخر حتى الاستغاثة، لكنه يصرخ بأعلى صمته (لا صوته) (30)، وهو لا يريد أن يسمعه أحد، وفى نفس الوقت هو يصرخ مستغيثا بكل ما يستطيع، إلى كل من يمكن أن يوجد، على شرط ألا يوجد أحد، وهو يفترض، أو يقرر، أنه حتى أقرب الأقربين لا يسمعه- بل هويفرض على الآخر-إن سمح له بالتواجد أصلا، أو فى وعيه- ألا يسمعه، ثم هو يعود ينعى حظه ويلوم ليبرر مزيدا من الشيزيدية:
قال: (هى) وتلومنى أنا على صمتى عن الكلام، أحيانا، بينما هى تلوذ بصمت كامل بإزاء صرختى المشغوفة الملهـوجة. (ص:25)
10- وحاجز الشيزيدى ضد الاقتراب ليس كمثله شئ، سواء كان حاجزا من اللامبالاة أو حاجزا من الخوف أم حاجزا من الشك، أم حاجزا من الحب المشروط”
ألست أيضا أجهد فى أن أضع بينى وبين كل ذلك الألم حاجزا مصمتا لا أريد أن أنفذ إلى ماوراءه” (ص:25)
11– وموقف الشيزيدى من الحب أمره صعب أشد الصعوبة، ففى الوقت الذى لا يعيش إلا به، ولا يأمل إلا فيه، يكاد لا يجرؤ أن يعترف به، أو بحاجته إليه، بل إنه يكاد يرعب من إسمه، وهو دائما يضيف إليه، أو ينتقص منه، ليصبح خاصا جدا، أو مختلفا تماما، وكأنه ليس هو، كل ذلك لعله ينجح فى إنكار شدة حاجته إليه، إنكار ذلك على نفسه أولا وقبل أى أحد.
الحب ليس هو - وحده- أبدا هو دائما شئ آخر، لكن تتجسد فيه دائما أشياء أخرى، ملتبسة من معانى الحياة نفسها، بل الوجود، تركيبات داخلية مكنونة - طبعا- ولكن أيضا ميثولوجية وثيولوجية”. (ص:51)
12– وفى محاولات الخروج من المرحلة الشيزيدية (من القوقعة المسحورة، من الرحم النفسى) يواجه الشخص العالم الخارجى (الآخر) بمخاطره، فيتخذ – كما ذكرنا فى المقدمة- موقف التحفز والتوجس، ومن ثم الكر والفر، وهذا هو الجانب الآخر للظاهرة الشيزيدية التى تعتبر بمثابة المرحلة التالية (= الموقع البارنوى) الشديدة التداخل مع المرحلة الشيزيدية، وبمجرد أن يتعدى الشخص النامى هاتين المرحلتين يجد نفسه فى مواجهة “الآخر المحب” (31)، لا الآخر العدو الخطر (الذى تمثله المرحلة الشيزيدية (البارانوية)، ولكن هذا الآخر المـحب يصبح أكثر تهديدا من الآخر الخطر، وإن كان أكثر وعدا، ذلك أن هذا الآخر المحب – كما ذكرنا -، يحمل التهديد بالهجر، وتبدأ المأساة: هل يسمح الشخص النامى لنفسه أن يستقبل الحب؟ الذى طالما اشتاق إليه؟ طلبه؟ سعى إليه؟ هل يقدر أن يعيشه؟ أن يطمئن إليه؟ أن ينهل منه؟ هل يقترب؟ فإن فعل، فمن يضمن له الاستمرار؟ وكيف يحمى نفسه من مفاجآت الهجر؟ هذا المأزق التى أسمته مدرسة العلاقة بالموضوع وبالذات جانترب (6)، الموقع الاكتئابى، والذى يتصف بثنائية الوجدان (32)، حيث يكون الاعتراف بالآخر كمصدر للحب مصاحبا بالخوف منه كمهدد بالهلاك هجرا (وليس بالقتل هجوما، كما هو الحال فى الموقع الشيزيدى البارنوى) وهذا ما أسميته فى دراسة السكوباثولوجى “اللبن المر” (33) والخراط يعرض الموقف هكذا:
قالت: لأنك كنت ضالا وشريدا، وتبحث عن جوهرتك، طلبت منى شربة لبن- أم أننى التى طلبتك وسقيتك؟ ألقمتك ثديى فشربت منه الرحيق المسكر الذى دخلت به زمرة الأولمبيين، وحرمت عليك عمرك ونجوت قال: أما هى فلم تبز لى لبنها قط، وبذلك استحلت عمرى قال: وكان فيك تلفى فهل كان فيك -أيضا بقائى وقال: ذلك – على أى حال- غير صحيح (ص:52)
ولنا أن نتساءل بعد كل هذا الوضوح، هل ثمة إشارة إلى “ثنائية الوجدان” هنا، وهو الشرط الضرورى للتأكد من الانتقال من الموقع الشيزيدى/البارنوى إلى الموقع الاكتئابى؟ الإجابة: لا، لأن اللبن هنا ليس اللبن المر، لكنه اللبن المحرم.
ومع ذلك – فى حدود زعمه- لم يكن هو شخصيا السبب فى أن يكون محرما، ذلك أنه أسقط عليها ما يبرر أن تكون هى السبب، رغم أنه قال ذلك على لسانها: إذن لم تكن “هى واهبة رحيق الحياة خالصا، بل إنها استحلت عمره فضاع فيها(كان فيك تلفى) (34)
فهو لم يتخلق بها، وليس ثمة تهديد ظاهر، وإنما هو تلف واضح، وواعد أيضا إذا كان بعده إحياء ما، وبعد كل هذا يشككنا فى كل هذا.
إذ تأتى النهاية المفتوحة أن “ذلك” ليس صحيحا (أى ذلك؟: أنها أرضعته فحرم عليها، أم أنها منعته فاستحلت عمره، وفى الإثنين تأكيد لبقاء الموقع الشيزيدى، وليس فيه إشارة تدل على الانطلاق للموقع الاكتئابى، الذى ظهر فيما بعد أكثر جلاء).
(13) والشيزيدى لا يعيش “الهنا والآن “إلا نادرا، وهذه هى وسيلته الناجحة لتجنب المواجهة واختبار مصداقية سعيه نحو آخر، حتى لو كان هذا الآخر مزعوما، إنه يتهرب من الـ”هنا والآن” و”الآخر”، بخبطة واحدة.
وعلى الرغم من إعلانه أنه يريدها لو شاركته حياته من قبل وجودها فيها، “خاصة قبل أن يعرفها”، فإنه يبكى لأحزان “لم تأت بعد”
يعنى: إنه يدرك “بعد” الفوات، ويبكى لما لم يأت.
أدرك فيما بعد بكثير أنها كانت تريده، أن يأتيها مباشرة من نومه، سخنا، لم يتقيظ عقله بعد، العقل الذى تكرهه ويجذبها معا (ص:55).
إنه يبكى الآن، توقعا لأحزان سوف تحملها إليه أيام وشهور وسنوات طويلة قاحلة (ص:61)
حتى إذا حضر الموضوع، غيبه، أذابه، ليس فقط بإخفائه داخله، وإنما بتغييبه فى المطلق، فى النشوة، الموضوع حين يحضر يغيب، ثم يحل محله الحلم كنوع من الاعتذار بالاستغراق فى وصف واقع لم يحدث أبدا.
وحتى إذا رفض الماضى فإن يفعل ذلك لحساب تجميد الحاضر، وإن كان بدعوى أنه “يظل يحدث” فإذا أضيف “إلى الأبد”، عرفنا أى خدعة.
كنا؟ “ليس هناك إمكانية للفعل الماضى هنا، ما حدث يظل يحدث إلى الأبد” ص 165
14– والشيزيدى يتقن العدوان السلبى ويستعمله كأحد أساليب الإبعاد التى يتقنها الجرائم السائغة هى جرائم الصمت والأثرة سابقة ومستمرة (ص:106)
(ويمكن قراءة”سابقة” على أنها سبق إصرار، أو على أنها تشير إلى جريمة العودة بلا رجعة، إلى أيام سابقة أيام أن كان فى الموقف الشيزيدى الأصلى: داخل الرحم).
15 – والشيزيدى (/البارنوى) يتقن لعبة دفع الآخر للرفض (35):
أم رفضتنى لأنها تعرف فى عمق ما فيها أننى أريدها أن ترفضنى- مهما كان تصورى غيرذلك. (ص:107)
ثم يضيف بعدا آخر للشيزيدى:
وعلى مستوى آخر لأنها تعرف أنه أيضا، فى عمق منه، لن يقبل، أو سوف يهلك. حتى لو تقدم لها برأسه على صينية متوهجة بالحب (ص:107)
16– والشيزيدى يشعر بثقل العلاقة بالآخر(مهما كان يحبه، وخصوصا إذا كان يحبه، وبقدر ما يحبه (36) أو يزعم أنه يحبه) بشكل حسى مجسدن.
عبؤها على حياته مثل ثقلها على جسمه (ص:111)
ومع ذلك فهو يرحب بهما معا شريطة أن يفرض عليه ذلك
” من غير أن تعى هذا الذى تفرضه عليه فيزيقيا” (ص:112)
”كانت فخذها الجسيمة وهى نائمة قد جاءت عليه، أحس من غير تململ، بل بترحيب، هذا الضغط، والحمل، والوطء الرفيق. (ص:111).”
وتوضح هذه القضية، التى يعرضها هذا المقطع، أن الشيزيدى بقدر حاجته للآخر، هو يعلن استغناءه عنه، بل ثقله عليه، وهو يتمنى -فى نفس الوقت- ألا يحول هذا الإعلان دون استمرار الآخر “فى اقتحامه”، فى أن يفرض “حضوره عليه، فإن فعل، وقليلا ما يفعل، حتى من غير قصد، اطمأن فى السر ورحب، دون أن يتخلى عن شعوره الأول بالثقل.
16– ثم تأتى صورة الشيزيدى عند الآخرين (من وجهة نظره):
سبق أن نبهنا إلى خطأ تصور الشيزيدى أنه يشبه الفصامى، ظاهرا وهنا ننبه أيضا إلى أن الشيزيدى ليس مرادفا للإنطوائى، فظاهر سلوك الشيزيدى قد يشير إلى عكس ذلك تماما، كما قد يشير إلى عكس باطنه أيضا، بل إنه قد يشير إلى عكس ظاهره الآخر (فى موقف آخر مع “موضوع آخر”) وهو دائم البحث عن ذاته (ربما بديلا عن الآخر)، وهو يحاول أن يرسم صورته المتعددة (ولا أقول المتناقضة) تلك: ولكن عندك، فهو لا يحاول أن يرسم صورته كما يراها (فهو يراها بوضوح يعشى، وبالتالى يعجز عن وصفها) ولكنه يرسمها كما يتصور أنها (الموضوع: رامة) تراها، يرسمها بعينيها هى اللتان استعارهما منها دون إذن، ودون مصداقية كافية طبعا:
ما صورتى الآن عندها؟ ما هو التشخيص الآخر- أو لعله الأول؟ (ص:116)
لاحظ كلمة الآن، ولاحظ أيضا كلمة التشخيص، وليس الشخص. ثم يكمل:
هل أنا ذلك المقاتل العدوانى، عالى الصوت، محتدم، مستشيط قادر على أن أضرب فى مقتل، ربما، قادر بلا شك على أن أجرح وأصيب؟؟؟ صاحب السلطة -أيا كان قدرها- وصاحب المقدرة على تحريك الأمور وتسييرها، أو إيقافها، وتعويقها؟ (ص:116)
وكل ذلك هو ضد الوصف الكلاسى لسلوك الشيزيدى الظاهرى، لأن كل ذلك ليس طبيعة فيه بقدر ما هو تعويض سلوكى من باب الترميم غالبا، وهذه الصورة تشير إلى لعبة البارنوى (الشيزيدية) وهو يلبس قناعا يريد أن يقنع الناس من خلاله بقوته واستغنائه، وهو يتصور أنهم يريدونه قويا معطاء مغيرا، مع أنه فى الداخل هش، محتاج، جائع، وهو يحاول أن يرى صورته فى نظرهم، بقدر ما هو يختبر مدى رؤيتهم الحقيقة لطبقاته وحقيقته (37).
17– ثم إنه يضيف تفسيرا لكل هذا، ألا وهو: “عدم القدرة -العجز- عن الأخذ (38).
غالبا ما يبدو العجز عن الأخذ كأنه التعفف، بل العطاء، والكرم، (اليد العليا).
وقد جاء وصف هذه الصورة كاحتمال غير تقريرى بديلا عن صورة أخرى فيها الإقدام والريادة والحسم، فاستقبلتها باعتبارها الوجه الآخر، وليس البديل.
”…صورة ذلك الذى قالت عنه: إنه معطاء ليس ممن يأخذون، مستعد للتضحية بنفسه، ربما، إذا اقتضى الأمر، بل حتى دون ضرورة، يعنى أكثر بكثير مما هو مطلوب أو حتى مفروض (ص:116)
هذه الصورة الإيجابية (أخلاقيا) وهى التى تمدحها كل الأدبيات التقليدية والأديان وكتب الأطفال الترشيدية المسطحة، هى ليست كما تبدو كذلك، فمن يغوص وراء كل ذلك الكرم والتضحية، ربما يتبين مبررات وجوده، فيكتشف أن بعضها رشوة لضمان أن يقبل، وبعضها عجز عن لعبة (برنامج) الذهاب والعودة، (الدخول↔ الخروج) الأخذ والعطاء، وبعضها شك فى أحقيته للحياة (وكأن المضحى يثبت بالتضحية بنفسه، نحو الآخرين، أنه بذلك يستحق أن يعيش، وهل هو وجد أصلا ليستحق؟: (بل إنى لم أوجد بعد) (39) فإذا التقط”الآخر” كل أو بعض هذه الاحتمالات، كما فعلت رامة، أو كما تصور أنها فعلت، سارع (ت) بالرفض الصريح، حتى يصبح عطاؤه ثقيلا لا يطاق.
كرمه يذهب إلى غير حد، بل يصبح عبئا، ويجب أن يوقف عند حده، لا أحد يريده (ص:116)
وانظر هنا قولها “لا أحد يريده”، وليس: أنها هى فقط التى لا تريده!!!
و لنا أن نتوقف قليلا عند تعقيبه على كل ذلك، وكأنه ناقد داخل النص:
له صورة فوتوغرافية نصفها مظلم تماما أسود، ونصفها ساطع ومحدد النور (ص:116، 117)
والتعبير ليس مصادفة، فعلينا الانتباه إلى أنه لم يقل إن النصف المظلم هو بمثابة عفريتة النصف الساطع، أو هو وجهه الآخر، بل هو نصفه، والنصف مكمل، وليس بديلا أو مناقضا أو عكسا، ولعل هذا التكامل الضرورى هو الذى جعله يردف:
ياليت كان هذا كله، أو أى منه، صحيحا، (ص:117)
فهو يتمنى أن يكون ما بدا (للقارئ- أو لها-متباعدا، أو حتى نقيضيا) يتمنى أن يكون موجودا معا، وهو لا يريد أن يفصل هذه “الأنصاف” عن بعضها، بل هو يقررها كما هى هكذا، ويبدو راضيا عنها (هذا ما بلغنى). ثم نقرأ بقية الجملة:
كل شيء ممتزج متداخل، ومضطرب وليس له حدود قاطعة (ص:117)
ربما لأن حدسه يبين له أن هذه الأنصاف (أو الأجزاء) المتضادة لـو حاولت أن تتحدد قسرا: جزءا جزءآ، نصفا نصفا، لتباعدت إلى التفسخ الفصامى، وبالتالى فإن البديل الممكن هو هذا التمازج الشيزيدى المبدع المضطرب معا، ففقد الحدود عند الشيزيدى هو دافع لمحاولة تخليق حدود جديدة متجددة، ولو بالترميم أما فقد الحدود عند الفصامى فهو اختفاء الأبعاد، وإعدام الذات الواحدة، وضمور أو خذل المحور الضام (الفكرة الغائية) (40)
ثم إن هذه ليست هى طبيعته الخاصة أو الشاذة، بل هو يكاد يدرك أنها الطبيعة البشرية، وهذا ما ذهب إليه “جانترب” (6) وهو يعلن أن أصل الاضطرابات النفسية كلها – فيما عدا العضوى العشوائى – ليس سوى الظاهرة الشيزيدية، بل إن أصل وجودنا جميعا هو هذه النواة الشيزيدية التى يصبح بها سلوكنا جميعا طوال رحلة حياتنا هو محاولة للتخفيف منها، ولا أطمع -فأخطئ- وأقول تجاوزها أو اختراقها، فهذا ضد تصور الحياة فى ذاتها. يقول مرادفا مباشرة:
- من أنا إذن؟ ماذا أريد؟ أنا ومعى طائفة، أو جمهرة من أمثالى (ص:117) ولوعرف أنها ليست طائفة أو جمهرة فقط، وأنهم ليسوا أمثاله، بل كل الناس، لما تساءل مباشرة: أهذا سؤال يسأل الآن (ص:117)
18- الهرب فى “المطلقات”، والكليات، والمجرد.
وعلى الرغم من كل ذلك فلا مفرمن علاقة، ولا مهرب من “آخر”، ولا حياة -إنسانية- إلا بآخر، موضوع، ليكن، لكن “الآخر” يصبح أصعب فأصعب حين يكون أقل فأقل، حتى يصبح خطرا مباشرا حين يصير واحدا (حين يستفرد به!!)، فليفتح البوابة على مصراعيها، وليدخل منها العدل والحب والعقل والدين والحدس والتصوف لكل الناس دون استثناء (ولا أقول دون تمييز وإلا كشفته قبل الأوان) يدخل هذا لكل الناس، ولكن أين الناس؟ يقول مباشرة لنفسه (وإن بدا متسائلا)
هل كنت ومازلت؟ (ص:117)،
(وأنصح القارئ أن يقرأ بقية الفقرة مرة بعلامات الاستفهام كما جاءت فى النص، ومرة بدونها)، ولهذا وضعتها بين قوسين:
أريد العدالة للناس جميعا (؟) أريدها باستماتة (؟) (ص:117).…..أريد المحبة (؟) أريد الحب (؟) أريد الكرامة أريد التبشير- والتعجيل- بعالم جديد كله عقل وفهم وحدوس صافية (ص:117)
ولم تصلنى مدى جدية، أو قدر حجم هذه الحدوس الصافية، كما وصلتنى حدة العقل وصقل الفهم.
ثم يروح يكشف عن دوافعه التبريرية أو الحقيقية، وكأنه خطيب قديم:
فى وسط أمواج الظلام، ….. فى وسط العنف والقتل والغباء والغيبوبة والانصياع… (حتى) وسط أطفال يبيتون على الأرصفة، ويسقطون بلا ثمن.. فى بالوعات مفتوحه…إلخ (!!!) (ص:117)
هذه المطـلقات، هذه التجريدات، هى ملجأ هرب الشيزيدى من “الموضوع” الفرد الحى الحاضر، إلى المطلق الكل السائح (المستحيل بداهة). فهل اكتشف ذلك فتراجع حين أعلن العجز فابتعد:
هأنذا اخترت البــعد، هل جبنت عن المواجهة؟ (ص:117)
وهل كانت ثمة مواجهة أصلا؟ وهل الانتماءآت السياسية الطوبائية، والأحلام المستحيلة، والحديث الحديث الحديث عن الظلم والفقر والثورة، هى عناصر المواجهة ؟
وهو إذ يتراجع لا يسمى ذلك عقلا أو واقعا، ولا يحاول أن يبدأ من الفرد المعين وإنما يعتبر تراجعه هذا:
خذلت إيمانى، وخذلت حبى (ص:117)
أى حب وأى إيمان ؟
إنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة متعينة لحـما ودما لها بطاقة شخصية (أو بدون!) لكن بصمات أصابعها لا تقلد، وهو حين يحب، أو يدعى أنه يحب، يطلق خياله ليلغى المحبوب (ة) وهو يذيبها فى كل العالم، وهى (رامة) تعلم ذلك، وربما تقبله، بل إنها تفسره – بحدس لا مثيل له- بما أسمته دون جوان مقلوب (ص:127)، بمعنى أن زعمه بأن المرأة عنده هى كل نساء العالم، ليس لأنها كذلك، تساوى ذلك، ولكن لأنها ليس هى، وإنما هى ما تمثله، فهى غير موجودة بما هى كيف هى “هى”، ولو كان يحبها “بالأصالة عن نفسها والنيابة عن نساء العالم” إذن لأمكن الكلام عن درجة من النضج تسمح أن تميز بين القدرة على حب الناس (النساء هنا) وبين تحقيق هذه القدرة على حب شخص بذاته فى لحظة معينة، فإن اختفى هذا الشخص المتعين، فالقدرة موجودة، والتجربة الجديدة واردة، أمـا أن يحل هذا الحب “العمومي” محل الحب”الخصوصى من البداية” بل قبل البداية، بل شرط البداية، فهذا هو الهرب الشيزيدى الذى ليس له حل (فى الرواية على الأقل)، والدليل على أنه هرب وليس نضجا هو أنه لا يشبع، وهى حين تلخص له هذا الموقف بحدس الملغاة، ومع ذلك المتسامحة، تعرف أنه لا يحب أصلا (هكذا)، ومع ذلك فهو يفضل استعمال كلمات الحب، تقول
صحيح أن إخلاصك، وولاءك – حبك إذا شئت، لا تغضب- أنت تزجيه إلى امرأة واحدة فقط، فى وقت واحد فقط (ص:127)
(وهذاغير صحيح)
قد أكون أنا هى، الآن، لا لا.. دعنى أتكلم،إسمعنى الآن، وطبعا سترد على بما تشاء طبعا، دون جوان، بمعنى أن هذه المرأة هى عندك كل نساء العالم، لا يرتوى ظمؤك من أية واحدة منهن، حبك لها، هذه المرأة الواحدة، و لهن، نساء العالم، كلهن فيها-لا نهاية له، وبالتالى لا حد له، ولا إشباع أبدا، هذا ما تقول عنه أنه مطلق نهائى، غير محدود. (ص:127)
هنا، علينا أن نتوقف وأن نتذكر: هل هو يقين العطش، أم هو العطش، يبرر نفسه بوهم يقين ما، أم هو سعار العطش (العطش المالح)، وهو يدافع عن نفسه إذ يزعم أنه أقرب إلى دون كيشوت الذى يحب دولسينا الواحدة، فتوافقه (لست أدرى لماذا) أنه بدأ دون كيشوت وانتهى دون جوان.
وفى الحقيقة أنه هرب إلى دون كيشوت، فلما فشلت اللعبة هرب أيضا إلى دون جوان (المقلوب) ولم ينجح بأيهما (لأنه لا دون كيشوت، ولا دون جوان الأصليان نجحا) – وهما (الكاتب و ميخائيل معا) قد فقسا هذا الفشل، على الرغم من محاولته إعطاء شكل البطولة والتمرد والثورة لهما معا.
كلاهما خرج ليتحدى الشرائع والقوانين وربما الآلهة (ص:128)
ثم (ص:166) عاد يقولها بالألفاظ ردا على تساؤلها”
كيف تفسر إذن أنهن كثيرات ؟ قال: أبدا كلهن واحدة، كلهن أنت (ص:166)
فهل هذا يعنى أنه عمل معها علاقة، أم معهن، أم لا “معها” ولا “معهن”
فتكمل هى منبهة إلى أن مثل هذا قد يلغيها ككيان متـفرد:
”أنت تعاملنى كأداة جنسية بامتياز” قال: أنا أعاملك كمبدأ كونى، امرأة واحدة من وراء ألف قناع.. (ص:166)
19– إشكالة الندية
حين يعجز الشيزيدى أن “يكون” من خلال علاقته المتعثرة بالآخر، يتفرد، وحتى لو عايش شعورا بالنقص، أو مارسه، وهو إذ يتفرد: يأبى الندية، على الرغم من أنه يضمر فى نفس الوقت حاجة لا نهائية للاعتمادية، وهى – رامة – تحدس ذلك، ويتأكد هذا الموقف بالنسبة لعلاقته بالمرأة بالذات،، وهى تعزو كل هذا لوضع المرأة عنده، وعدم قبوله للندية معها، لكن هذا لا يعنى أن الشيزيدى يقبل الندية مع الآخر (الموضوع) إن كان رجلا، فلم يظهر لنا فى كل الرواية ندا له (أو حتى مثاله)، فهو لا يقبل أن يقارن بآخر أصلا. وهذا ما يفسر عدم ظهور الرجل المنافس رأى العين، رغم السماع عنه هنا وهناك، وأيضا فى هذا ما يفسر اختفاء صورة الأب كمنافس (وإن كان قد ظهر متخليا فيما بعد: إبراهيم-إسماعيل). وتنتهى الفقرة بعكس ما بدأت به
” أنت لا تقبل أن تكون المرأة ندا لك، مساوية لك. (ص:128)
(ثم) أنت تجد فى ندا جدير ا بك. تحديا (ص:128)
(مثل أمه) فثمة تفرقة هنا بين رفض الندية بالمساوى (الأخت)، وبين قبول الندية، بل والسعى إليها مع القوى(ة) (الأم)، وهذا وارد شريطة ألا تكون المسألة رجل وامرأة بقدر ما هى علاقة مع مساو (ضعيف مثله: يضع له شروطا مثل شروطه فيحتمل هجرا مثل هجره) أم مع قوى يعتمد عليه، وهو حين أعلن لها -ملاحاة، ردا على كل ذلك – أنه يريد -أيضا- ضعـفها واحتياجها له، أدركت أنه لم يكن “هناك”
- والله ما انت فاهم حاجة (ص:129)
(ربما ولا هى، لكن حدسها أقوى من فهمها)
(20) مرة أخرى الخوف من الهجر (الترك- النسيان)
والشيزيدى يخاف من الترك أساسا قبل أن يخاف من العلاقة، وهو لذلك يرفض العلاقة ابتداء، لكنه سرعان ما ينتبه إلا أن المسألة أكبر منه وهذا التراوح بين هذا الرفض الاحتياج هو الذى يفسر أحيانا ثنائية الوجدان
لا أريد أن أراك. لا أريد منك شيئآ (ثم فورا) لا، لا، أحبك. أريدك (ص:131)
والشيزيدى لا يرعبه الهجر الفعلى بقدر ما يرعبه الخوف من الترك، بعد وصف لليلة مليئة، وتشابك كامل (ص:229-230) بعد سكرة الجسم والروح التى تحققت ليلتها قرب لفجر. وسيقانهما متشابكة متواشجة، كأنهما كيان واحد متعدد الأطراف،
تيقظ فجأة….. وجد أنها…نامت على الكلييم الأسيوطى، كانت مستغرقة فى غيبتها الخاصة، بعيدة جدا، وجميلة جدا (ص:229-.23)
إلى هنا والكلام ماش، لكنه يضيف دون توقف:
لا تنال، لا أمل فى الوصول إليها أبدا (ص:230).
كيف بالله وقد كانا معا هكذا فى نفس الليلة؟، كيف وقد رآها هكذا فى نفس اللحظة؟ كيف وقد اقترب منها حين “تمدد بحرص إلى جانبها” بعد هذه الرؤية مباشرة، كيف بعد كل هذا،مع كل هذا، هى لا تنال، أم أنه قراره الخاص جدا، الدال جدا، قرر أنه سيفقدها، بل قرر أن يفقدها!! وهنا:
فاجأته الدموع (ص:230)
ثم راح ينظر- كما ننظر نحن الآن فى معنى تلك الدموع ومناسبتها، ويبدو أنه كان متعجبا نفس تعجبنا:
”هل كان يبكى الفقدان الذى يعرف أنه سوف يجئ ؟ هل كان يبكى السعادة والفرحة والخلاص الذى لا وصف لها والتى عرفها معها وعرف أنها لن تتكرر أبدا (ص:230).
هنا، فى عز القرب، وقبل أن يقطف ثمرته، يعيش الفقد حالا، وفى نفس الوقت يعيش فرحة الخلاص إذ يبكى عليه!! صحيح أنها هى التى ذكرته به ألأننى قلت لك إننى مسافرة غدا فجأة، يا حبيبى المرة الجية لا تأخذ كلامى مأخذ الجد، لا تصدقنى كل مرة، لا تصدق ما أقول، لا تبك منى (ص:230)
وقبل ذلك كانت قد قالت يقطعنى، بعد هذا الحب كله، أصحو على دموعك يا حبيبى (ص:230)
ومرة أخرى، مثل كل مرة، ينتبه إلى أنه لا يمكن أن يقبل شفقة، فينكر على نفسه أن يبكى أمامها.
- وهل تتصور يا حبيبى أنه لا يصح أن أراك تبكى؟ وهل أنا أحب طرزان مثلا؟ (ص:230)
21- فماذا عن شيزيدية رامة؟ وعلاقتها بالآخر؟
إذا كان ميخائيل هو النموذج الناضج للكهل الذى لم يستطع بعد، ولا حتى فى أزمة نهاية العمر، أن يتجاوز المرحلة الشيزيدية، وفى نفس الوقت لم يتنازل عن محاولة حلها، فماذا تمثل رامة، وأين شيزيديتها ما دمنا قد قلنا إن كلا منا هو شيزيدى حتى يخترق مأزقه، أو بتعبير أدق، هو شيزيدى وهو يخترق مأزقه؟
رجحت على ما يبدو أن رامة كانت قد قطعت مراحل طويلة ناجحة لاختراق شيزيديتها، فهى تدخل وتخرج فى العلاقات المتعددة بسهولة، ثم إنها اخترقت المسافة بينها وبين صاحبنا بثقة، وهى تحتمل تقلباته ونزواته، وهى تعطى فى الحب (وليس فقط تتقن صنعة الحب)، وهى تحزن (لا تكتفى بالبكاء عن بعد) تحزن مع كل شيء عظيم، من الموسيقى العظيمة، إلى عظمة الحياة اليومية التى أراد صاحبنا أن يقلل من عظمتها لحساب العظمة الفنية (المغتربة)
ورامة تمارس الحب بسلا سة، ودون قصص تبريرية، (ص:162) وهى متصالحة مع هذه التعددية التى كأنها تدين بها عقيدة وسلوكا، وهى تعددية ليست مومسية، ولا سطحية، ولا زهوية “دون جوانية” (تخفى عطشا لا يرتوى)، ولا مثالية “دون كيشوتية”، وهو يصدقها حتى لو كانت لا تقول الحقيقة:
أحقيقى ذلك كله ؟ أم حيلة من حيل النفس الغريبة ؟ كأنها تخترع لنفسها ما تفتقده
قال: حقيقية؟ ما معنى حقيقية، مجرد حكايتها يجعلها حقيقية (ص:162).
وهى لا تصطنع المسافة بل هو الذى يضعها على المسافة التى يستطيع أن يتحملها
وهى قد قبلت نفسها، حتى لو كان ذلك بزعم أنها فعلت ذلك نتيجة قبوله هو لها دون شروط
كان قبولها لنفسهاعندئذ لأنه – هو- تقبلها كما هى، بكل ما هى، دون تحفظ ودون شرط، بكل ما تفعل وكل ما تقول (ص:41)
(فهل قبله أحد هكذا، حتى هى ؟ وهل يقبل أن يقبله أحد كذا؟)
فهل معنى كل ذلك أنها حلت مشكلة شيزيديتها؟
إن الشيزيدية لا تحل هكذا مرة واحدة وعلى الإطلاق بشكل كامل؟ ولكنها تحل إلا كثيرا، لتعود، فتحل إلآ قدرا مناسبا، لتعود، فتحل إلا قليلا، وهكذا؟
وربما كانت هذه الصورة المطلقة هى التى جعلت الكاتب (ناقدا) والنقاد يميلون إلى إنكار رامة ككيان واقعى ماثل جملة وتفصيلا.
إن حياتنا من أولها، أعنى من قبلها إلى نهايتها (وأود أن أقول إلى بعدها) هى محاولة فاشلة حتما لحل المشكلة الشيزيدية حلا كاملا، وإننا نختلف- ويمكن أن نقسم- حسب موقع كل منا من رحلته أثناء محاولات حلها، ولا يصح أن نصنف استقطابيا حسب”من حلها” و”من لم يفعل”، مثلما يريد الكاتب أحيانا أن يقابل بين ميخائيل ورامة (41) -ربما، ومثلما ذهب كثير من النقاد إلى مثل ذلك.
ولكن دعنا ننظر إلى رامة وهى تنتقل من القدرة العامة، والاستقبال الرحب لكل أبناء السبيل من العطاشى والجائعين، والمغرمين، إلى التجسد فى واحدة لواحد، وقد بدا ذلك وهى تكاد تتقمص الأميرة ميريت:.وهى تحكى عنها:
..نزل الإله بيتها وسطعت عيناها بنوره، وهبته نفسها مقابل قطعة ذهبية واحدة، تظل علامة عطائها جسدها المطعون، فى عيدها وعيدهم، لكل طارق ليلا أو نهارا، نبيلا أو وضيعا، قويا أو معطوبا، دون تحرز، بطواعية، حتى تصل إلى أقصى درجة من مراقى التطهر”، عندئذ فقط تهب نفسها لرجلها الواحد الوحيد (ص:141)
فهل هذا هو مسار الانطلاق من قوقعة الشيزيدية؟
ربما.
ولكن هل هو شرط أن تكون نهاية المطاف هى إلى رجلها الواحد الوحيد هذا – أم أنه المحطة الأخيرة، بفعل الزمن وتضاؤل الفـرص؟ أم أنه يصبح كذلك لتضاعف خوف الترك، وتزايد شهية الاحتكار (مثلما الحال عنده وهو الأقل عمومية: تاريخا – والأكبر سنا: واقعا)؟
وأمانة، لقد حاولت، أن أفتش عن شيزيدية رامة حتى أبرر لنفسى عمومية الفرض، ولكننى عجزت فى أول الأمر، وتصورت أن الخراط يريد أن يرينا الحل مجسدا فى هذه الرامة (التى خلقها تخليقا، أو أكمل تخليقها على الأقل)، وما دام ثمة افتراض أن رامة هى داخله، أفلا يكون بذلك قد خطط الحل لنفسه، من خلال تكامـله مع داخله هذا كما تصوره؟ أو كما أمـل فيه؟
وقبل أن نستدرج للإجابة بالإيجاب هكذا مباشرة، دعونا ننصت لها بعد قليل ونحن نقرأ:
قالت لى: الخواء الفراغ الأساسى فى مركز حياتى فجوة لم يملأها أحد ولا شيء قلت: لا شئ. لا أحد
قالت: مع كل الحب الذى غمر حياتى، أكثر من مرة، حتى أنت مع كل شيء ظلت هذه الفجوة فاغرة (ص:240)
(لاحظ كلمة فاغرة، وليست غائرة ولا شاغرة)
يأتى هذا”الاعتراف” مفاجأة بكل مقياس، ليس فقط تأييدا للفرض الأساسى، وإنما أيضا مناقضا للفرض النقيضى الاعتراضى الذى أوردناه منذ قليل عن احتمال أن رامة قد حلت مشكلة العلاقة الإنسانية، فلم تعد فى جدل مع شيزيديتها، فإذا بنا نفاجأ بهذه الفجوة، وأنها مازالت فاغرة، فهل رآى ميخائيل هذه الفجوة، أم أنه استنتجها؟ وهل هذاهو ما مايخيفه ويبرر حذره، ومسافاته، وتأجيله، وتردده، وإنكاره، وعودته المشروطة، وعطشه ويقينه؟
ولكن ما هو تفسير هذه الفجوة الباقية فاغرة عند رامة بعد كل هذا الحب، والعلاقات، والحرية، والبساطة، والحضور الدافئ، والأخذ السهل، والعطاء الجاهز؟ و.. والحرية (الظاهرة على الأقل)؟ هل معنى ذلك أنها تستعمل دفاعات أخفى، وبالتالى تسير أمورها وكأنها حلت مشكلة العلاقة؟ إننا إذ نــواجه بهذا الاعتراف لا بد أن نطمئن إلى مواصلة السعى لإثبات الفرض الأول: وهو عمومية إشكالية العلاقة بالآخر الموضوعى، وصعوبة (أو استحالة حلها)، وذلك بدلا من تجريد رامة من إنسانيتها، وتأليهها، وتنغيصها (من الغنوصية)، وعقلنتها.. كمعرفة خالصة، أو خيال صرف
22- هل حل الشيزيدية هو تعدد العلاقات؟
خلال الرواية نواجه بإشكالية الحد الفاصل بين المومسية، (التى وصفت أحيانا بالإبتذال أو الدعارة، حتى من النقاد، بما فى ذلك المؤلف) وبين العطاء الغامر، والأخذ السلس، نتيجة للتفوق على الملكية (شيء أشبه بالفرق بين الشيوعية البدائية والشيوعية الناضجة) وميخائيل قد يطمئن-أحيانا فى خفية من نفسه- أن رامة لن تتملكه ما دامت قادرة على عمل علاقة بغيره، لكنه لا يتمادى فى ذلك فهو لا يطيق نوع حنانها هذا الغامر للجميع، هو لا يستطيع أن يحمى نفسه من“هذا الحنان الذى لا يطاق” (42)، والذى عاد يؤكد مفهومه الخانق، ولكن على لسانها هذه المرة، فهل يا ترى كان ذلك إسقاطا ؟ قالت:
كل هذا الحنان يوقف فعل الحب ويجمّده (ص:166)
إلا أنه لا يستطيع أن يحول دون شكوكه فى احتمال المومسية، هكذا:
شرموطة مصرية هاى كلاس، راقية جدا متحضرة غاية التحضر، كورتيزان عصرية ومعاصرة، ليس من أجل المال…..لكن من أجل الحب (!!!) (ص:142)
…أو من أجل الشهوة أو السطوة (ربما كان هذا خوفه أساسا) أو من أجل استجداء أو استجلاب أو استحقاق الحنان (ص:142) (هذا إسقاطه هو)
لكنه لا يعتبرها كذلك، فتقييمه لعلاقته بها أنها شئ أكبر من العشيقة (رفق) شئ هو أقرب إلى الحبيبة، بل هى حبيبة وشيء آخر، زوجة، قرينة، ثم يقع فى المحظور -قاصدا- فيشككنا أنها هى: هو
لماذا أقول دائما “الحبيبة”؟ ثم شئ آخر فى قرارة النفس، هى أيضا زوجة، وقرين، وذات أخرى فكيف أمكن؟ (ص:163) (لم يكمل!!)
وهو يشك فى نوع ملكيتها، هل هى لممارسة الحرية السلسة، أم أنه تملك جوانى (ماء مالح) فى النهاية؟
وبقدر عدم إطاقته لهذا الحنان، هو يخاف أن يـمتلك فهل يمكن أن تمتلكه رامة فعلا؟ ألا توحى علاقاتها الكثيرة والمتغيرة باستبعاد ذلك؟ إلا أنه بدا غير مطمئن، وقد أعلن مايشير إلى ذلك وهو يشاهد ممتلكاتها وعدد أطقم القهوة والشاى التى تحتفظ بها..
قال: لم أكن أعرف غرامك هذا بالملـكية، رغبتك فى التملك والتجميع والاستحواذ خطر بذهنه عندئذ -كالبرق- أيكون ذلك أيضا موقفها من الحب، من الرجال؟ (ص:274-275)
وحين اعترفت بملاحظته
- نعم عندك حق، يجب أن أقلل من هذا النهم للتجميع ولتراكم الأشياء
……قال لنفسه: وتراكم الرجال (ص:275)
ثم يؤكد بعد سطور:
أم هل أن صداقاتك ومحباتك ومعاشقك يا رامة هى أيضا تكديس وإحاطة نفسك بما لا غنى لها عنه من ملكيات واستئثارات؟ (ص:275)
23-الشيزيدى يخاف حنان الشبق
الحنان الذى عرفته معها. حنان الشبق، أريد أن أنساه، لأنه لا يحتمل فقدانه، ولا أعرف كيف أنساه أحبسه فقط، أحجزه فى داخلى، ولكنه ينسكب
فضلت أن أغفل ما أردف به قائلا:
يفيض على الرغم منى. (ص:175، 176)
ولكن هل يمكن أن يؤدى حنان الشبق، إلى حنان الثقة (= الرحم الذى لا يحبس محتواه بل يطلقه – فى حنان- حين يأتى الأوان) ؟
الجواب: أن; نعم، يمكن.
بل إن “حنان الشبق” يكاد يكون بلا فائدة -غير تبرير التناسل لحفظ النوع- إن لم يؤد إلى حنان أمان الرحم السامح بالولادة وإعادة الولادة.
وعلى الرغم من زعمه أنها أعطته الكثير، وأنه لم يعطها، بل لعله أفقرها، فإن الواقع وما سبق- يقول إن مشكلته هى فى الأخذ لا فى العطاء – كما نلاحظ أن رامة هى التى تحذق الأخذ دون استئذان.
يعزينى أنها تقول أنها قالت على الأقل، مرة -إن وجودى نفسه يكفى، أعرف أن هذا لايكفى (ص:176)
وما قالته هى هو الأصدق “أنه يكفي” لكنه لا يريد أن يصدق.
لأنه لا يعرف أصلا هذا النوع من الأخذ من مجرد الوجود.
24-إستبدال برنامج الداخل ↔ الخارج، بذبذة “نعم” ↔ لا
إن الشيزيدى إذ يرعب من ممارسة برنامج “الداخل↔ الخارج”، يروح يستبدله ببرنامج الـ نعم ↔ لا، فيتحرك فى موقعه، “محلك سر” من النقيض إلى النقيض حتى يبدأ حيث ينتهى فى كل اتجاه، موهوما أنه يدخل ↔ يخرج.
فورا.دائما، كل يوم من قرار القطيعة إلى قرار الاندماج، فى غضون ساعة أو أقل، كل يوم، كل يوم يا ربى، وكل ليلة أقول: هأنذا قد انتهيت منها، لن أراها بعد، ما جدوى ذلك كله، سؤالى الأبدى الذى لا يبارحنى، كفاية، كفاية، كفانى ألما وكفانى سعادة، لن أعرف أبدا أفدح منهما (ص:177)
والقضية هنا هى أنه لم يكن صادقا أبدا فى أى من ذلك، بل لعله كان صادقا وغير قادر تماما، أن يكتفى بهذا، لأنه لم يرتو أبدا- ولو قليلا رغم زعمه- حتى يكتفى.
25- وهو يرفض الشفقة:
ففضلا عن أن الشفقة هى جرح ليس كمثله شئ، فهى عاطفة غير دائمة بطبيعتها، عاطفة أشبه بالانعكاس reflex يثيرها مثير بذاته، إذا غاب اختفت، وهو لا يحتاج ذلك أصلا، بل إنه يرفض، هذا النوع من العواطف ”الطيارى”، هو يريد ما يبقى، وليس حتى ما يعمل هو على إبقائه بمعرفته.
وهى تعلم أنه يريدمنها ما لا يزول حتى لو كان جرحا له أثر باق.
قالت: أما أنا فأريد أن أترك فيك أثر جرح لا يزول (ص:183)
26- والشيزيدى محصن – ضد العلاقة دائما بعدد من الأقنعة
قال لها وهى تنحنى عليه بكل مباذخ جسدها الغض الوثير:
مع الانغماس فى غمرات الحياة، ومجالدتها، المتعة بها، والألم، هناك دائما قناع الارتداد، قناع التخلى، قناع الرضى بالحرمان (ص:241)
لماذ لم يقل التخلى، الارتداد، الرضى بالحرمان؟ ولماذا هى أقنعة وليست حقيقة مع أن الشيزيدى لا يرجو شيئا، ولا يستعمل شيئا، ولا يخاف من شئ، بقدر مايرجو، ويستعمل، ويخاف هذا الذى أسماه أقنعة ؟
ولماذا قال إن الرضا بالحرمان يعتبر قناعا، مع أنه هو هو الذى كان مبررا ليقين العطش ؟
إنه لا توجد أجوبة لكل هذه “اللماذات”، ولابد أن نتمادى لنتيقين من أن أقنعة الشزيدى هى الأصل، هى حقيقته، وأن الرضا بالحرمان التى قد يصل إلى ما يسمى يقين العطش هو أخفى مبررات الانسحاب من الموضوع.
- هل أنت هنا ؟ هل أنت موجودة ؟ (ص:243)
ورغم تأكيداته – وتأكيداتها – أنها موجودة
- يا خبر، ياحوستى..! كل هذا وأنا غير موجودة عندك….. - نعم نعم، موجوة، وحياة النبى موجودة وجودا لا ينقضى أبدا (ص:243)
إلا أنه يسارع، لا بنفى وجودها فحسب، بل، بنفيها شخصيا
من ؟ من هى التى توجد ؟ من هى التى كانت – وستظل أبدا- موجودة (ص:243)
27- حتى الموضوع المتخيل البديل هو يتجنبه:
وبالرغم من حضور الموضوع المتخيل البديل طول الوقت، فإنه يحمى نفسه من أن يعرفه تماما، لا بد أن تظل معرفته به (بها) ناقصة، (العطش) إذ لو اكتملت معرفته بها فهو إما أن يخاف فيبتعد، وإما أن يلغيها،
على الرغم من: “معرفته الحميمة بأعمق وأخفى خلجات جسدها”-روحها أيضا؟….. فقد ظلت غريبة عنه، لا يعرفها حقا، لكنها تملأ ليل عمره الطويل
(ثم…..)
ذلك أنني- فى النهاية-لا أعرفك حقا لا أعرف شيئآ حقيقيا عنك، وتظلين على قربك الحميم -كما لم أقترب من أحد فى هذا العالم قط، غريبة عنى (ص:249)
لاحظ: كما لم أقترب من أحد فى هذا العالم قط
ثم انظر لشروطه التى تطمئنه إلى حتم الاستحالة:
قال: يا حبيبتى لا يمكن أن تكونى لى حقا، إلا إذا كنت-أنا- لك حقا، وعندئذ كيف يمكن ألا نؤذى أحدا، التورط إيذاء بالضرورة (ص:253)
لاحظ هنا أيضا أنه تدارك ليعلن كيف أنه يتصور أن الالتحام، العلاقة الحقيقية، هو تورط، وهو إيذاء للآخرين، ربما كان ذلك لأنه يعتبر أن ذلك لا يتم إلا على حساب الآخرين، ولا يكون ذلك كذلك إلا إن كانت علاقة شيزيدية، إمتلاكية، احتوائية فى النهاية مهما رفعت الشعارات المثالية.
28-علاقة ألم الشيزيدى بصعوبة جدل الآخر:
ثم فجأة نجد أنفسنا أمام مسألة كدنا ننساها أو نتصور غيابها، لما ركزنا على دفاعات الشيزيدى ضد الاقتراب وخوفا من الهجر، ومن ثم غياب نبض وجدانه الظاهر عن الحضور فى الوعى، وقد آن الآوان أن نخترق كل ذلك لنلقى نظرة على: مسألة الألم، ألم الشيزيدى.
هذا الشخص بكل جدران اللامبالاة الظاهرة، وكل عضلات العقلنة الجاهزة، وكل المسافة التى يحافظ بها على نفسه بعيدا عن الآخر، وكل الخوف من الاقتراب، وحسابات توجس الهجر، هذا الشخص: هل يتألم مثله مثل الناس؟ أكثر؟ أقل ؟ نفس النوع؟
بمجرد أن وعى ميخائيل احتمال أن يكون الترميم المزعوم، والحتمى، هو كشف عن حقيقته، وبالتالى عن حقه فى الحياة، أى عن احتمال معاودة المسيرة نحو الآخر، هاج عليه الألم بكل عنفوانه وحقيقته، والألم النفسى شئ آخر غير الاكتئاب، و غير البكاء، و غير الخوف من الهجر، وغير الخوف من الترك، وغير التوتر، وغير وغير، وهو ليس له إسم آخر سوى الألم
والألم النفسى مرتبط بحدة الوعى من جهة، وحتم الحركة اختراقا وتخليقا، لكل من الواقع النفسى، والواقع الواقعى معا، وألم الشيزيدى – بل والفصامى من عمق معين- هو ألم أكبر من كل تصور، وخاصة أنه مخفى واء هذه القشرة الهائلة من ظاهر اللامبالاة والانسحاب الوجدانى، أو هو مدفون وسط هذه الغابة الكثيفة من الأفكار والتفسيرات والبصيرة المنفصلة، لكنه الألم كما هو
ثم إن ثمة شرطا ثالثا (غير حدة الوعى، وإلحاح الحركة) هو الذى يجعل الألم بالغا كل هذا الصدق والعمق والأصالة والقسوة، وهو أن تبدو الحركة واعدة -بشكل ما- بحل الإشكال، بالوصول، بنجاح الترميم/الكشف، بفك الإعاقة.
وقد كان ذلك كذلك فى هذا النص، فبمجرد أن بدا لصاحبنا احتمال أن يكون الترميم تأصيلا، حتى للزيف، الذى هو ليس كذلك لأن زيف الترميم قد يكون مرحلة أصيلة، ولازمة، وبالتالى قد يكون هو السبيل للكشف عن الجوهر الذى كان يختفى وراء قناع الماضى، لما تبدت كل هذه الاحتمالات، قفز الألم بكل عنفوانه:
ألمى فى ذلك ألم لا يطاق ؟ (ص:283)
(هل عرفت الآن ماذا يعنى بـ ”ذلك”)
ألم لا يطاق، هل كل الناس تتألم هذا الألم الذى لا يطاق؟ (ص:284)
والشيزيدى من فرط الألم وحتمه، يحرص عليه باعتباره العلامة الوحيدة، أو الأساسية للبقاء، للاستمرار
وأوقن مع ذلك أنه يمكن احتماله، وإطاقته، والحياة معه، أليست حياتى أن أطيق الألم؟ (ص:284)
إذن، فاختفاء هذه المعاناة – حتى لو كانت داخلية – هى العدم، لأنه لابد أن نطيق ألما ما، لكى نحيا، لابد أن يكون هناك ألم طول الوقت، يقول: “أليست حياتى أن أطيق الألم”، وليس: “على أن أطيق الألم لأحيا”!! ولا يوقف هذه المعاناة/ الحياة، إلا الاستسلام الموت، الذى يبدأ بالملل فالوحدة المطلقة (للخلف در).
ثم إن الوحدة عند الشيزيدى تصبح ضرورية ومبررة ومطلوبه، بل وحتمية، إذا تجاهل عزيز رؤية هذا الألم، أو استهان به فما بالك إذا كان هذا العزيز هو هذه الحبيبة المصنوعة خصيصا لذلك:رامة ؟ تعالوا نراها ومعها عذرها- وهى لا ترى (43):
لا يا شيخ ؟، وماذافى ذلك كله، يعنى؟
الناس كلهم يتألمون، ويخلصون من الألم بطريقة أو بأخرى، لماذ لا تعرف أن تخلص منه أنت؟ (ص:284)
وما كان عليه أن يجيب، وما كان عليه أن يعلن ما همس به لنفسه أو لها وهو أن الحياة مع “هذا الألم” هى الممكن الوحيد، وأن الخلاص منه- هو اللاحياة، لكنه يجيب فى منطقة بعيدة كل البعد عن سر ضرورة احتفاظه به: (لا نعرف إن كان يجيبها هى أم يجيب نفسه)،
لأنه دائما تهاجمنى سورات من حمى قديمة، أسئلة قديمة، حمى توجع قديم (ص:284)
فترد عليه أكثرعمى ولوما (أو هو يتخيل ذلك لأن هذا المقطع ليس فيه: لا قالت: ولا قال: لا ولا حتى شـرط تدل على الحوار)
لأنك لا تصمد لها (ص:284)
فيرد (أو كأنه يرد)
بل أقف فى وجهها.ألا ترى؟ (ص:284)
(وألاحظ أنه لم يكتب ألا ترين، فهل كان يخاطبها فيه؟)
فترد (من داخله أو من خارجه):
قلنا، أعدنا وزدنا ألف مرة، الألم ليس رومانتيكيا، ولا حاجة، الألم واقعة حسية فقط، لعلها واقعة روحية أيضا، وماذا فى ذلك، الألم شئ خام، خشن، مشعث غير مصقول، وغير جميل بأى معنى من المعانى، إسألنى أنا، سلمنا وآمنا، طيب وماذا بعد؟ (ص:284)
وحين يتأكد من عدم الرؤية هذه -حتى لو كانت داخله- يقفل الباب فيحتد الألم الرائع، وتبرر الوحدة
(28) الاعتراف بوصول الحب، بعد الإطمئنان إلى حتم الهجر:(!!)
تيقنتُ، لم يعد يراودنى أدنى شك فى أنك حقا تحبينى. أنك تذكريننى، بين الحين والحين، بحنو، وفهم،أنك تبتسمين أحيانا لذكرى حنان، أو أنك تشتاقين أحيانا للمستى وتتوقين إلى قبلتى. (ص:292)
لاحظ مواكبة الحب، بالتذكر، بالفهم، واحد من هذه لا تكفى الشيزيدى بالذات، وإن افتقدت أن يقول أيضا: تريننى، تتحمليننى، تقبليننى، تسمحين لى، تفوتين أحيانا، ترفضين دون ابتعاد، لكن وصلنى أن كل هذا متضمن فى الكلمات الثلاث السالفة الذكر
لكن كل ذلك لم يسمح له بالظهور يقينا إلا بعد أن:
لو أننى عرفت أنك لم تقررى – وتنفذى قرارك- أن تطردينى من حياتك، تلغينى من قلبك، تنفينى من ذاكرتك، لو أننى اطمأننت أنك ما زلت تحملين لى شيئا من انعطاف الحب، ودفء الفهم، فهل كان هذا الفراق يصبح أهون احتمالا، وهذا البعد أقل عذابا؟ أم العكس، لكانت اللهفة عندئذ، واللوعة، وحرقة الفراق تستشيط جنونا، حقا، وكى اللحم بالشوق عندئذ ليصبح أحد اتقادا وأنفذ طعنا؟ (ص:292)
هل يوجد تناقض ؟
أشهد أننى افترضت فرضا غريبا قـلـب السياق، افترضت أنه حين علم بقرار تركها له سمح لنفسه أن يتيقن من حبها، حتى لا يهدد بالترك حالة كونه فاغرا وجوده يتنفسه من خلالها.
فهو بعد أن تيقن من تركها له – رغم أن ذلك جاء لاحقا فى السرد، راح يفترض عكس ذلك، فبناء على اليقين الأول راح يعلن لنفسه أنه عرف -أخيرا- أنها تحبه، لم تقنعه قبل ذلك كل عبارات الحب، ولا حوار الأجساد، ولا التفضيل المقارن، ولا اختياره رغم ورود اختيارات بديلة، ولا الاستمرار طول هذا الزمن، إنما نفعه أن يعرف أنها قررت، ونفذت قرارها أن تطرده من حياتها، فراح يتصور العكس، ثم سمح لنفسه باستقبال يقين أنها تحبه لتجيء التساؤلات; بعد ذلك، ثم يجيب عنها: أنه لن يعرف أبدا، هذا أسلم!!
لا أعرف، أظن أننى لو عرفت حبك واهتمامك لكنت أقدر على احتمال عبء الابتعاد (292)
….. لن أعرف أبدا، أليس كذلك؟ (ص:292)
وثمة عبارة أرجو ألا تكون خطأ مطبعيا
لن أعرف أبدا، لأننى أظن أننى (وليس أننا) لن نلتقى أبدا كما كان اللقاء، وحتى إذا التقينا فلا يعود شيء أبدا “الشمس لا تشرق مرتين “مجد سطوعها لا يعود (ص:292)
هل يا ترى يعنى فعلا: ” أننى ” لن نلتقى
وهل هذا يبرر كم هى كانت فى الداخل، ثم مـسقطة كلية أو نسبيا على رامة، وكل رامة؟
يجوز، فإن كانت خطأ مطبعيا، فالاحتمال لا يزال قائما، ولكن بدرجة أقل وبتعسف غير مباشر!!! وبعد بضع سطور:
هل من يقين ؟ لما انت ناوى تغيب على طول مش كنت آخر مرة تقول (ص:293)
بشيء من المرارة وربما بشيء من السخرية بالذات أيضا كان يستمع بالصدفة إلى الأغنية القديمة، وهاجمته عبرة كأنها من ستين سنة – ياه….!- عندما كان يسمع هذه الأغنية من الجرامافون ذى البوق الكبير…إلخ
وهو لا ييأس من التأكيد على حقيقة ومآل المسار الشيزيدي
مسافر من الوحدة إلى الوحدة، من اليأس إلى اليأس (ص:393)
….سقطت عليه الغربة، كأنها من الطير الأبابيل، فجأة. (ص:293)
هل يوجد فرق بين الوحدة والغربة
وهل يمكن أن يكون الإنسان وحيدا طول الوقت (من الوحدة للوحدة) وفى نفس الوقت ليس غريبا ؟
نعم ممكن فالوحدة – هذه الوحدة – حقيقة موضوعية، واليأس بعض تجلياتها، لكن النقلة من الوحدة إلى الوحدة ومن اليأس إلى اليأس تشير إلى أن مدها ينحسر أحيانا، فيلوح أمل ما، ولكن لا، فالائتناس الواعد وهم، فهو غريب لأنها، لأنهم لم يروه، فهى الغربة تنقض بعد الإحباط المتكرر،فهى الوحدة على الشاطئ الآخر، وهكذا.
ويكتشف فى النهاية جدا أنه أضاع كل جهده وهو يستعمل الوسيلة الخطأ تماما (الكلمات) لتحقيق الغرض هى التى تنتبه -كما لو كانت منتبهة طول الوقت – إلى ذلك:
ما جدوى الكلمات، والحكايات؟
الكلمات عدو لى، لا أمل فى مصالحته ولا فى النصرة عليه (ص:295)
فينتبه بدوره، ولكن متى:
حتى الكلمات لا تصل إليها، هى، هى الوحيدة التى لا بد أن تصلها، لاتصل (ص:295)
إذن فهو كان يطلق كل هذا الفيض من الكلمات قال: قال: قال: تحت وهم أن يرى، منها بالذات
ولأنها لا تسمع يزداد هو عطشا
….لا تسمع الكلمات صخور العطش سوداء. (ص:295)
رمال صادية أجسام مصوحة من الظمأ العطش ضربات غائرة غلة لا تنتقع العطش من مهاهه…. (ص:295-296)
وكما ذكر سابقا أن العطش (حتى بيقينه) لم يعد يطاق، عاد يؤكد ذلك رابطا إياه بالألم الشيزيدى الصعب جدا:
إرميا لا يطاق،
القهر، الفقر، الجوع، ظلام الروح، كلها لا تطاق ثم آتى فأقول: “هذا أنا” هذا أكثر مما لا يطاق، حتى (ص:296)
(أى أكثر من كل ما سبق)
ومتى ؟ فى أى سياق؟ هل هناك سياق خارج وحوش الألم (ص:296-297)
(عدنا من جديد إلى ألم الشيزيدى المتوحش)
ويكتشف فى النهاية جدا أنه أضاع كل جهده وهو يستعمل الوسيلة الخطأ تماما لتحقيق الغرض، هى التى تنتبه -كماكانت منتبهة طول الوقت إلى ذلك:
29- والشيزيدى يحاول أن يتأله ليستغنى: ويفشل،فيبرر شيزيديته، فلا يتناذل، فيسقط الألوهية على المحبوب المصنوع خصيصا للاعتمادية والخلود 0العدم!!)
كأننى كنت أريد أن أتخذ مكانه (الله) أن أشكل العالم، (ص:299)
ثم يفيق:
أبكى، لأننى لست الله…الله لا يبكى (ص:299)
ثم تحل -هي- بديلا إلاهيا مسقطا، أخفى وأستر
رامة، نعمة، نوريس…أيا كانت أسماؤك الأخرى حتحور إيزيس ليليث عشتار أو إينانا…أى ذاتى الأخرى، مازلنا غريبين ليس من الضرورى طبعا أن تكون لك أسماء أسطورية، ولكن بالفعل لك أسماء حسنى (ص:299)
فمن ناحية يعلن أنها ذاته الأخرى (تماما أو جزئيا)
ومن ناحية أخرى يعلن أنها إلهِّ هى الأخرى، فإذا كان هو قد عجز عن أن يكون إله فهو أعجز عن أن يعمل علاقة بإله، فالله مستغن أصلا.
(30) النهاية / البداية: وتـحـتـد الشيزيدية مباشرة قرب النهاية فلا تلغى الموضوع الحقيقى فحسب، وإنما تلغى كل آخر
صرخة الريح فى مدينة مقفرة، خلت من أهلها، إشارات المرور الخضراء والحمراء تشتعل وتنطفئ بانتظام، فى شوارع ليس فيها أحد (ص:300)
ولكن كيف انتهى كل هذا، دائرة عدمية لأنها أزلية وهمية، مطلق خادع بديل عن لحظة لم يعشها بحقها إلا بعد أن اطمأن لإلغائها
الأبد كلمة لا معنى لها ….. أنظر إلى عمق عينيك، أجدك فى نهاية الطريق، ها قد وصلت إلى نهاية الطريق، لماذا لا أجدك (ص:300)
ثم هو ينكر إسمها بعد أن أعطاها حق الألوهية والأسماء الحسنى:
غريب أنا يا حبيبة لا أعرف اسمها، هكذا أقول، أعيد وأزيد (ص:300)
هو يعلن فى النهاية موقعه الذى لم يبرحه فى حقيقة الأمر، نفق طويل تحت الأرض، كأنه قناة الولادة التى لم تستطع أن تلفظه بعد، أو التى تمسك هو بهاخوفا من الخارج، فتفرد وتجمد وأرسل بدلا منه قرون استشعاره وحبال خياله
كأننى أتكلم من جوف نفق طويل تحت الأرض، مهجور من زمان، صوتى غريب، بلغة تكاد تكون غير مفهومة، لم يعد أحد يتكلم هكذا، الآن غير مفهوم وغير مؤس قليلا. غريب على كل حال هل هى صلاة فى ديانة لم يعد يدين بها أحد؟ ليس لها إله، كتبها طلا سم وأحاج ودمدمة أو تمتمة لا يقرأها أحد (ص:302).
وفى النهاية أيضا يتبين أنه قد حاول، وقام بـ رحلة الذهاب والعودة، ولكن يبدو أن خطواته كانت أقصر من بلوغ مدى وحركية – الدخول أو الخروج، كانت -إذن- “كنظام” الذهاب والعودة ولكن “فى المحل”. أى أنها لم تكن بين الداخل والخارج أصلا، بل بين الهاجس والحق، بالعرض (هاجس اليقين، وحق اليقين، دون يقين حقيقى)
هل تخليت عنك لأنك أنت تخليت عنى؟ (ص:308)
وقد تحقق العدم وانغلقت السبل بعد أن أعلن التخلى المتبادل، أو هو التخلى المسبق تقريره منذ بداية البداية مع سبق الإصرار.
هل تخليت عنك لأنك أنت تخليت عنى لأن الإيذاء كان ضروريا، وكان -ومازال- غير محتمل ولا يطاق؟ (ص:308)
إيذاء من ؟ إيذاء كيف ؟ هل هوالألم الذى لا يطاق ؟
ألم المحاولة المجهضة مسبقا ومع ذلك التى لا بد أن تأخذ مأخذا صارما وكأن الإجهاض المزعوم سيظل مزعوما أبدا
وأخيرا هل يكون الحل عند رب الأرباب بديلا عن البشر المتعين؟ لابد من تكرار مقطع النهاية هنا ونحن نختم هذا الجزء، كما كان الحال فى ختام الجزء الأول.
.وها أنت – إن كنت هناك حقا – فارحمنى ارحمنى أما كفاك تعذيبا. ليس بعد يقين العطش من جحيم ليس فى قدرتك ما هو أشد هولا من هذه الجحيم. وأنا إذ مجدتك وجحدتك فقد حقت على اللعنة بهذا النعيم. ومع أننى أتهاوى، فهأنذا – كما كنت دائما- داخل أسوار الروح، أسوار الحب القديمة (ص:308).
نهاية صعبة، تكاد تكون يائسة من الخروج، يائسة من عمل علاقة حقيقية، يائسة من جعل المستحيل ممكنا
هذا ما توهمنا به ألفاظ الختام، إلا أن حضور النص كله بكل هذا الوجد، والجنس، والخيال، والحرارة، والنبض، والجدل، كل هذا يقول:
إن المستحيل ممكن حتما يوما ما،
وهذا اليوم هو “الآن” تماما وباستمرار.
الجزء الثالث: العقل (العقلنة) (44)الرحم،
و الجسد الُمستبدل
لما كان الشيزيدى يحن إلى العودة إلى الرحم نتيجة لعجزه عن التقدم إلى عمل علاقة بالآخر، ولما كان الرجوع للرحم مستحيل فيزيقيا، ولما كانت وظيفة النكوص إلى الرحم هى حماية الشيزيدى من عبء العلاقة بالآخر، ولما كان التفكير العقلى المنفصل عن الجسد وعن الواقع العيانى هو اغتراب دفاعى مشروع ذو شكل جميل مصقول، فإن الشيزيدى يلجأ إلى هذه الحيلة لتحميه من خطر، وغموض، وتهديد، واقتراب الآخر، وبالتالى تغلب العقلنة على معظم مجالات حياة الشيزيدى، وهو بذلك يحقق هدفين: الأول: أن يخفف من جرعة الكبت، لأن ميكانزم العقلنة يقوم بالواجب بديلا، والثانى: ليوهم بوجود بصيرة نافذة، وهى فى واقع الحال: “بصيرة مع وقف التنفيذ”. والثالث: إنه يحمى صاحبه من ممارسة علاقة كلية (جسدية وجدانية حقيقية) مع الآخر
وهكذاتصبح عضلة العقل الجاهزة هى البديل للرحم الحامى له من خطر الخروج إلى الواقع والالتحام بالبشر كمواضيع مستقة
هذا هو البعد الأول فى هذا الجزء الثالث.
أما الثانى: فهو أن علاقة الشيزيدى بجسده هى علاقة مزدوجة، فمن ناحية هو شديد الإحساس بوجود الجسد عامة، ثم بجسده على وجه الخصوص، كما أنه شديد الرهافة فى تسخير وظائف جسده، شديد الدقة فى معايشة أحاسيسه الجسمانية، لكنه من ناحية أخرى هو لايمارس جسدانيته فى كلية هارمونية منسجمة متداخلة ذائبة فى مجمل كيانه مع تلقائية وجوده، فهو منفصل عن جسده رغم وعيه الفائق به، وكأنه يمسكه – يمسك جسده- بعضلة عقله، ثم هو يضيف إليه من تفاصيل خياله وحلمه معا ما شاء كيف شاء، وبذلك يتصور أنه يخفى هذا الانفصال عن نفسه وعن الآخرين معا، وفى نفس الوقت فإن عقله هو المتحكم فيه من جهة أخرى، يسمح له -لجسده ولجسد “الآخر” بالنيابة – بالتجلى فى حضورات وتسكيلات متنوعة شديدة السطوع شديدة الخداع،
ونظرا لأن هذين البعدين قد ورد أغلبهما بشكل أو بآخر فى الجزء السابق (العلاقة بالآخر) فإننى سوف أكتفى فى كثير من الأحيان بالإشارة الموجزة إلى ما سبق ذكره.
أولا:العقل الرحم (تضخم عضلة العقل = فرط العقلنة)
أشرنا حالا كيف أن الشيزيدى هو إنسان يعيش داخل قوقعة من صنع عقلنته (وليس فقط عقله) وكيف أن هذه القوقعة هى بديل الرحم الذى لم يخرج منه بعد (من الناحية النفسية)، وذلك حين عجز، أو عزف عن، عمل علاقة بموضوع حقيقى، وأنها قوقعة ذات جدار شفاف. (أنظر قبلا: ص: 28 وما بعدها)
وهذه العقلنة التى نعتبرها كرحم بديل تصبح هى السلاح الأول- وربما الأخير- الذى يتعامل به مع الناس، وكأنه يتعامل معهم – كما شبهنا – من داخل قوقعة زجاجية شديدة صلابة الجدار المصقول المهندس، ونضيف أيضا: أنها متعددة المرايا الداخلية، وهذا التعدد ليس فقط بسبب اختلاف مستويات المرايا وأحجامها، ولكنها شظايا مرآتية من بقايا المعارك وآثار الترميم (45) فهو يرى من خلالها -لتعدد الانعكاس- ما لا يمكنه من التمييز بين الداخل والخارج
ونعرض فيما يلى بعض ما يؤيد هذه الجزئية مستوحيين النص الذى بين أيدينا (معتذرين عن تكرار اضطرارى أحيانا):
1- مع غلبة العقلنة يكثر صمت الشيزيدى فى الوقت الذى يحتد فيه حواره الداخلى، والشيزيدى عقل صرف، وقد سبق الإشارة إلى ذلك، فإذا أراد الاقتراب، بعد كل المناورات والتبرير والتأجيل والشروط، فإنه هات يا كلمات، كلمات، كلمات، خارجة من عقل مبرمج منفصل محيط قادر (أنظر ص 34، 60، 61)
وفى محاولة إثنائه عن الكلام والعقلنة، تـنبهه رامة إلى أن يطلق لجسده العنان دون حسابات وتنظير “لماذا تعذبنى وتعذب نفسك بالكلام، وماوراء الكلام، ألسنا الآن معا فى حضن بعضنا بعضا” (ص:242)
لكنه يعلنها مباشرة أن هذا غير وارد، إلا إن رضيت، ورضى بالاستسلام للعزلة والانقطاع. “احتجاز هذا الجانب منى، عزلته وانقطاعه، حتى فى قلب حميـا الاندماج” (ص:242) فتكاد هى تقاطعه:
هذا غير صحيح يا حبيبى، ليس ثم انقطاع ولااحتجاز، إسألنى أنا (242)
2- والشيزيدى يطلب المشاركة، أو يوافق عليها، أو يزعم ذلك، ولكن شروطه بالعقل والحسابات، تكاد تكون معجــزة، أو مستحيلة حتى منطقيا، و عقله يسوغها له دائما (كثير مما جاء فى الجزء الثانى يشير مباشرة إلى ذلك).
وخيال الشيزيدى ليس خيالا حالما بمعنى التلقائية المنطلقة الهادفة والقادرة على المزج السلس، ولكنه خيال مصنوع بعضلة عقله النشطة، فهو يصنع من حلمه المعقلن هذا واقعا بديلا، وهو حتى إذا اعترف أنه الحلم فإن هذا لا ينفى أنه يعيشه حقيقة ماثلة رغم بصيرته المعقلنة، وليس معنى استعمال كلمة معقلنـة نفى الوجدان تماما، ولكن المعنى هو أنه يعيش وجدانه “بعقله”، أى يعقلن وجدانه بكل حرارة وصدق ونبض ووصف وألفاظ، ولكنه يفصله أو ينفصل عنه بباقى “كليته”، لا يعايشه سلسا تلقائيا دون وصاية من فكر ووصف وتنظير، ولهذا استقبلت النص كله على أنه “حديث” ميخائيل أساسا لا خبرته المعاشة فحسب، بل إن الكاتب كان أمينا حين جعل النص كله أقوالا هكذا: قال: قال: قال: قالت……:
3- وميخائيل لا يخفى تقديسه لهذا العقل على الرغم من أنه لا ينسى إضافة “الحدوس الصافية”، فما ورد فى النص لحساب ميخائيل وليس بالضرورة لحساب المؤلف استقبلته معقلنا -ربما تحيزا- -لدرجة أننى استكثرت عليه الحدوس الصافية فاعتبرتها وصفا لفظيا انساق إليه، بعكس استقبالى لما قبل ذلك، حين قرأت حلم يقظته الذى يقول فيه:
أريد التبشير - والتعجيل- بعالم جديد كله عقل وفهم وحدوس صافية. (ص:117) (فركزت على “كله عقل وفهم”، وأسقطت الكلمتين الأخيرتين حين رجحت أنهما موصى عليهما مما قبلهما كما سبق الإشارة- ولا أعفى نفسى مرة أخرى من التحيز).
3- والعقلانى يستعل عقله (عقلنته) أول ما يستعمله فى إنكار عقلانيته:
قال: لا أحب المنطق. 0000لا أحب العقل
(لكن على من؟) قالت: بالعكس، أنت أكبرالعقليين الذين عرفت، يعنى أكثرالناس تعقلا (ص:127)
وهى تعلم أنه لا يكون هو- سلسا فطريا كما خلقه الله- إلا وهو حديث عهد باليقظة، حيث أنه حين يمتلك كامل يقظته يشحذ عقلنته فيبتعد، تذكرها وهى قد قالت له إنها كانت تريده ان يأتيهامن نومه سخنا لم يتيقظ عقله بعد، العقل الذى تكرهه ويجذ بها معا (ص:55)
4- ومن صلب العقلنة أيضا أن يدرك صاحبها أنه عقلانى معـقـلـن، أنه كذلك طول الوقت، أن هذه العقلانية معطلة، أنها ضارة، أنها مغتربة، مغربة، ومع ذلك فهو يواصلها وكأنه ناقد ناصح يحذر من عاقبتها، لأنه -قال يعني- يعلم مغبة تجريد الآخر (الإنسان) من حضوره المتعين لحما ودما:
ما أصعب التفرقة بين الانسان من لحم ودم وأشواق ومتناقضات، وبين الانسان الشفرة، الإنسان الرمز، أو الإنسان باعتباره قيمة جبرية فى معادلة عقلية، يعنى! (ص:111)
فهل كـفّ بذلك عن التعامل مع الآخرين باعتبارهم قيمة جبرية ؟
5- وحتى دون جوان بغرامياته، ودون كيشوت بشطحاته وأحلامه، وصفهما على لسان رامة أنهما عقلانيان لا أكثر. وتنبيهها له على أن كلا من دون كيشوت، ودون جوان، “كلاهما عقلى جدا” (ص:128) هو أمر جدير بالنظر مليا، وأحسب أن أغلب – إن لم يكن كل- ما كـتب عن دون كيشوت ودون جوان لم ينبه إلى عقلانيتهما “هكذا”، الأول كانت تصرفاته تبدو ضد العقل، والثانى كان يمارس وجوده حبا وغراما وشبقا بأقل قدر من تدخل العقل والحسابات، أما هذا الحكم المطلق على الاثنين بالعقلانية فهو إشارة ضمنية إلى غلبة ما أردنا إثباته فى هذه الفرضية الفرعية.
6- وهو يكتشف أنه حتى الحب يمكن أن يصبح معادلة تجريدية، وهى ليس بالضرورة اكتشافا ناقدا، أو اعترافا ضمنيا، لكنه من ضمن لعبة العقلنة لإخفاء العقلنة بالنقد المسبق:
كيف يمكن أن يصبح المعمار تجريدا رياضياً؟ قال: لم لا؟ إذا كان الحبّ نفسه – والعشق – قد أصبح معادلةّ (203 – 204) تجريدية؟
خطر بذهنة، بابتسامة عقلية، أنه أمام قلعة منيعة مازال أمير الانتقام الكونت دى مونت كريستو – مثلا- يقطنها (204)
7- وليس معنى أننا نركز على العقلنة أنها عملية شعورية أصلا، بل إنها أساسا حيلة لا شعورية، وإن كان نتاجها منتهى البصيرة والحسابات الصحيحة (!!)، بما فى ذلك الاعتراف بطبيعتها اللاواعية
قال: يبدو أن هناك دائما قوة لا واعية هى التى تفكر، وتقرر، لى، فى غيبة التفكير الواضح المنطقى متصل الحلقات، يبدو أن هذا القابع جواى، تحت يملى على أنواعا من التأجيل، والحيرة، وانعدام القرار، بل التوجس الفيزيقى والتردد على مستوى الجسم نفسه …….. حتى إذا ما جاء القرار، عقليا أم جسمانيا، بعد ذلك، يجيء ساطعا قويا فى غاية النضج والجلاء والإقناع (218)
وهكذا تصبح العقلنة الخفية وصية حتى على فعل العقل -الظاهر- وعلى الجسد.
8- أما الذى يعطى بريقا مقنعا لمشروعية غلبة العقل فهو بريق المعرفة، وما يسبغه على مالكها، وممارسها من جاذبية تغنيه عن دفع ثمن السعى إلى الاخر على أرض الواقع، وفى مقارنة دالة كان ميخائيل يتساءل عن معرفة رامة قائلا: “هل المعرفة مسخره عندها للشهوة؟ وقبل ذلك: هل كل شيء عندها مسخر للشهوة يمر من تحت الذكاء (ص:141)، ثم راح يقارن نفسه قائلا: “أما أنا فشهوتى للمعرفة. (ص:141)
(انتهت الجملة) لم يقل فشهوتى مسخرة للمعرفة، ولم يقل فشهوتى هى المعرفــة، ولم يقل فأنا أستعمل عقلى قائدا لشهوتى، أو أنى أسمح لنفسى بالشهوة من خلال عقلى، ولعقلى فى النهاية، لم يقل أيا من ذلك لكن كل هذا وصلنى بشكل أو بآخ، وهو يضيف ما يفيد أنه لم يقدم المعرفة على الجسد الشهوة بل إنه باع روحه مقابل المعرفة (ص:141) فاوست جديد.
9- وحين يبالغ الخراط أو ميخائيل فى اللعب باللغة والكلمات ذلك اللعب الذى رفضتـه كلما فرضه النص على، والذى لم ينفع له شفاعة الكتابة عبر النوعية، ولا درجة الشاعرية، بل إنى تلقيته كدليل جديد على الجهد الخاص الذى يبذله الشيزيدى لتغليب شبكة كلماته الصوتية (الصائتة)من أسلاك الصلب على كل ما عداها
10- ويبدو أن فكرة العقلنة فى صورة تقديس قيمة المعرفة بشكل أو بآخر غالبة فى معظم أعمال الخراط الأخرى، يقول حسنى حسن (هامش 11 ص 140) “…أما المعرفة التى يحسبها شرط المحبة الوحيد فقد تقودهما (يشير إلى رامة وميخائيل) إلى قدر الخواء والفراغ ومصير الوحشة النهائية” فهل هذا هو رأيه، أم حقيقته، أم بصيرته المسقطة، أم حقيقة الهرب فى العقل والعقلنة (الرحم) الذى نناقشه هنا؟
11- ثم إنى توقفت طويلا وأنا أتعجب كيف اعتبر الكاتب -وهو يعايش كل هذا الحدس- أن إقصاء آدم من الجنة كان إقصاء عن شجرة المعرفة، ذلك لأن التنظير الذى أولـــد منه فرضى لتفسير النص، وبالتالى لتفسير المشكلة الإنسانية من خلال محاولة تجاوز المرحلة الشيزيدية المرة تلو المرة، يقول: إن الخروج من الرحم (ومن حالة الوعى شبه التنويمى عند الحيوانات) إلى الوعى البشرى المزعج المتعدد المسئول، هو مواز للخروج من الجنة الغـفل من المسئولية، إلى المعرفة التى تسمح بتفرد الذات بناء على حركتها وحريتها،
قال: النفى عن الجنة عند آدم القديم ليس الخروج من الفردوس الذى يدر عسلا ولبنا، بل هو الإقصاء عن شجرة المعرفة، أنا عرفت طعم الثمرة المحرمة، كيف أنساه ؟ مهما بعدت الشقة وشط المزار ؟ (ص:173) وابتداء، علينا أن نتذكر – بالتوازى – أن شرط بقاء آدم فى الجنة (الرحم -الحيوانية- التنويم) هو ألا يقرب الشجرة المحرمة (المعرفة – الوعى – الاختيار)، أى ألا يعرف إلا العسل واللبن والاسترخاء والاعتمادية، وهو لم يسمح له، ولا لغيره، أن ينهل من رحيق شجرة المعرفة هذه أصلا ما دام مستمرا فى الجنة، لأنه لو كانت المعرفة هى جزء من نعيم الجنة التى كان فيها، فلماذا طرد حين أكل منها، ؟ إن شرط بقاء آدم فى هذه الجنة هو ألا يعرف، وما دام قد عرف، فليتحمل مسئولية معرفته، فإن نجح فى ذلك، وعاش مراحل اختياراته، وجدله، وأزمات نموه الواحدة تلوالأخرى، عاد إليها شيئآ آخر.
فلماذا قلب المؤلف/ميخائيل الوضع هكذا؟
فى تقديرى أنه- كشيزيدى معقلن- قد أعلى من قيمة المعرفة حتى جعلها الجنة، بل إنه جعل لأكل الثمرة المحرمة طعما لا يـنسى، مغفلا أن الثمن كان هو الطرد من الجنة، لا البقاء فيها.
ولعل الخراط (أو ميخائيل) قد اعتبر أن المعرفة واللذة مترادفان، وبالتالى فالمعرفة هى ميزة الجنة الأولى (وربما الأخيرة) لأنها زاده ووسيلته للاحتفاظ بـ “الموضوع” حتى لو ذهب عنه، تأكيدا لقوله ” أما أنا فشهوتى للمعرفة”(ص:141)
12- وقد استعمل هذا التفسير الخاص بالطرد من الجنة (وهو تفسير خاطئ من وجهة نظرى) ليبرر به عدة أمور: أولا: أن حسه بها (برامة) هو معرفة فى ذاته، وأنه-بالتالى أدوم وأبقى، حتى حين لا يعود يرها، فلا أحد -إذ ذاك – يستطيع آن يصدر له أمرا بالنفى بعيدا عنها، لأن كل ما يمكن أن يـنفى عنه هو مرآها، أما معرفته بها، التى هى الأصل، أو هى الكل، فهى ستظل معه لا يطولها أحد، قال: ما من منفى عنها، شجرتى المحرمة المنتهكة.، ليس المنفى عن مرآها هو المنفى عنها،لا شيء ينفى حسى بها، معرفتى.” (ص:174)
وهكذا ظل نفق الشيزيدية أكثر الأماكن أمانا له، وخاصة بعد أن ألغى الزمن “لا زمن فيه”، وصارت جنته هى فى ما يقرره بنشاط عضلة عقله دون سواها، وأصبح الطرد من هذه الجنة – الخصوصية، صنيعة العـقلنة- غير وارد
وهذا كله يشير إلى أنه أحل المعرفة محل الموضوع، ثم جعل النفق الذى لا زمن له هو الجنة السحرية التى ليس فيها طرد أصلا، وهو بكل ذلك يجعل المسار – إن وجد أصلا- فى اتجاه واحد، لأنه لا يحتمل برنامج الداخل ↔ الخارج فرحلته مهما كانت مستمرة لا تهمد، فهى لا تتعدى حدود نفق ليس له نهاية، ولا بأس من السير فيه، ما دام الخروج منه مستحيلا.
وهنا تتأكد مشروعية ما قصدنا إليه من استعمال تعبير “العقل الرحم”، حيث تقوم المعرفة بكل هذا التأمين، والحماية ضد الطرد (والهجر، والنسيان..إلخ)
13- إن الشيزيدى، تركيبيا- هو أب أساسا (غلبة حالة الذات الوالدية) (46)، والأب هو كيان معـقلـن فى المقام الأول، وهو “يستبعد” الطفل الداخلى من تركيبة الشخصية بإلغاء حقوقه والاستهانة برأيه وعدم تسليمه عجلة القيادة أبدا، حتى يكاد يصبح هذا الكيان الطفلى الداخلى بلا حول ولا قوة، وهو (الأب الداخلى) بذلك يتصور أنه سوف ينفرد بحل صراعات النمو بما فيها العلاقة بالموضوع (الآخر)، وهو إذ يصبح أبا منفردا بالقيادة، طاردا — بالإشلال والاستهانه – منافيسه من الذوات الأخرى، وخاصة الذات الطفلية، هو إذ يفعل ذلك إنما يحل عقله محل خبراتهم، فهو بذلك لا يعود يحتاج إلى الإبن (الذات الطفلية) النامى المعرض للخبرات، وعدم الاحتياج هنا هو بمثابة أن يقال للطفل الداخلى ما يشبه “استغنينا عن خدماتك”، أو بتعبير أدق إذا وجهنا الكلام إلى طفل نام يجرب، استغنينا عن خبراتك، والوالد: (الذات الوالدية) بهذا الاستبعاد، قد استبعد فى نفس الوقت احتياجه للنمو، فتجمد إلا من خلال إطلاق نشاط عضلة عقله الوالدية.
وقد بدا لى أن هذا هو المبرر الوحيد لتفسير الكاتب (وميخائيل) الخاص (الخاطئ من وجهة نظرى أيضا) أن إبراهيم (عليه السلام) حين استجاب لما أوحى إليه فى الحلم، لم يكن يفعل ذلك طاعة لله بقدر ما كان يمارس تخليا خطيرا عن إبنه، تخليا أشبه بالطرد (بركة يا جامع أن جاء أمر طرد إبنه وتخلصه منه من قوة أعلى: وفى الحلم)، والأغرب من ذلك أن الخراط ربط هذا بتخلى الله (سبحانه) عن آدم (عليه السلام) فى الجنة، فأصبح التخلى، لا مخاطرة المعرفة (الأكل من الشجرة المحرمة) ولا التقرب والقربان إلى الله تعالى (حلم إبراهيم) هو التفسير الأقرب للحدثين، وكل هذا يؤكد أن قضية “التخلي”، “والخوف من التخلي”، لا تزال هى قضية الشيزيدى الأولى منذ آدم حتى إسماعيل (عليهما السلام) ممتدا إليه وإلى رامة، فراح ينبهها وينبه نفسه أن التخلى هو تخلى عن الحياة ذاتها، وأن الذى يتخلى إنما يتخلى عن نفسه لاأكثر، يقدمها للذبح، فلا مجال لوجوده ولا معنى لاستمراره إذا هو تخلى، ثم نضيف أن هذا المفهوم يؤكد أنه فى النهاية يـطمـئن نفسه لاستبعاد التخلى، مادام الذى يتخلى، إنما يتخلى عن نفسه (ثانية!!)
قال: أتصور أننى إذا تخليت عنك -نعم نعم- لا تقولي”لا”، تخليت حتى لو كنت أنت من قبل قد رفضتنى، لم أفعل إلا أننى قدمت نفسى للذبح (ص:242)
ثم إنه إذ يتخلى عنها – بأوامر عقلنته الوالدية- إنما يتنازل عن مسيرة نموه شخصيا لأنه يتخلى عن تكوين ذاته الحقيقية الناتجة من نمو الطفل فى جدله مع الموضوع “الآخر”، وهذا هو ذبح مسيرة النمو من أساسها.
12- ثم إن العقل والعقلنة هما المرممـان الأعظم لأى تمزق داخلى جزئى، أو تخلخل كامن، أو منذر، وخاصة أن هذا كله إنما يظهر لصاحبه أولا، أو أساسا، وأمام كل شق – فى الذات- أو احتمال شق، يسارع صاحبه (المرمم) بإلقاء أطنان من خراسانات التبلد، أو العقلنة، أو الابتعاد أو كل ذلك بدرجات متفاوتة. (كما ذكرنا ص 28 وما بعدها)
ثانيا: الجسد المستبدل
مقدمة:
ينتبه قارئ هذا النص، ومنذ البداية، إلى الحضور الحى للجسد بكل تفاصيله الحسية،وروائحه الشبقية، وغمـره الوافر المحيط، بل إلى جسدنة اللغة والمشاعر، والروح أحيانا، فلا يكاد يخلو فصل من أى من هذا بشكل أو بآخر، ثم إن ثلاثة فصول من تسعة -الثالث والخامس والثامن-مسماة باسم الجسد: جسد ملتبس، جسد طعين، جسد غامض الوضاءة، على التوالى، فكيف بعد ذلك نجرؤ أن نشكك فى علاقة ميخائيل – ممثـلا للشيزيدى حسب الفرض الأساسي- بالجسد الموضوعى ممثلا للآخر،؟ فلنراجع فى مقدمة سريعة الخطوط العامة التى دعتنا للتمادى فى الزعم بإنكار “موضوعية” الجسد، لحساب تخليقه شيزيديا:
إبتداء: نقر ونعترف أن صاحبنا يعرف تماما أن الجسد المجرد (المنفصل عن الكلية) لا يحقق المطلب الأقصى: “يصرخ صرخة التحقق التى لامثيل لكمال روعتها وتمام سكرتها، نشوة تفوق كل ما يستطيع الجسد المجرد أن يصل إليه. الجسد جميل. ليس هناك غير الجسد……. كيف أطوع جسدى ثنائيا بل متعدد الطوايا؟ الاتساق لا الالتياث مطمحى لكن وهدة الوادى ترزح تحت حبوس سفلية.” (ص:80-81)
فهل تعنى هذه الرؤية أنه حقق الجسد الذائب فى الكل، أم أن الحبوس السفلية هى التى انتصرت فى النهاية، ولم يبق له إلا الشوق والوصف ؟
ثم ما معنى أن يخلـدّ النص – على لسان ميخائيل دون رامة عادة – ما هو جسد هكذا ؟ فمنذ البداية يقول: “ها هو ذا جسمها بكل انتصاباته وتهدلاته يعود إلى فى هذه الرؤيا تحت سفح السماء، رخيا ومشدودا، صلبا ولدنا، منسابا وكأنه ثابت إلى الأبد.” (ص:13)، ليس للموت سطوة على جسدك (ص:14)
وهو منتبه كل الانتباه إلى نفى أن الجسد مجرد أداة لما هو غيره، أو لما هو بعده.
”قال: ليس الجسم هو مجرد الأداة والوسيلة للتعبير عن خلجات الروح، الجسم محدود ومحدد كالكلمات لا يطيق أن يحيط بما يحتويه (ص:160)
فهل هذا يعنى أن الجسد أكبر من ذلك، وأن استعماله كأداة للروح بالذات هو تقليل من شأنه، أم أن معناه أن الجسد (الحقيقى) هو أعجز من أن يحيط بالروح، ومن ثم فلا مفر من اختراع جسد أقدر؟ نكمل ما قال:
كلما اتسعت الروح ضاقت بها حدود الجسد مهما بدا أن ليس ثم حد لتقلبه وفمورانه وجيشان أوصاله وتعدد أطرافه شأن أخطبوط له ألف ذراع وألف ساق كلها تتلوى وتتموج وتنبسط وتنقبض – مهما استبدت به عواصف الشبق ولوعات التطلب وحرقه وانفعالات ألم المتعة ونشوات الخمر القدسية، محدود ومحدود فى كل لا نهائيته. (160)
أحسب أن الأمر أصبح شديد الوضوح، فما دام الجسد غير قادر على استيعاب الروح مهما تمدد، وأن الروح تتمدد إلى ما بعد حدوده، فليلزم الجسد حدوده (حتى فى كل لا نهائيته!) لكن الجسد البديل القادر المقدس ليس هو الجسد العاجز هذا الذى أمر أن يلزم حدوده، ورامة تنبه إلى ذلك بشكل مباشر وغير مباشر معظم الوقت.
ثم إنه يعترف أن الحب رغم أنه مطلق، إلا أنه ليس شيئا هابطا من السماء،”… لكنّه لا بد أن يصنع، كل مرّة يصنع، يعنى بكل المعانى (ص:120) وفى هذا ما يوحى بالارتقاء بالحب إلى درجة أن يكون من خلق إرادة الإنسان وليس من وحى مصادفة البيولوجى، فالحب نتاج إرادة متجددة -فى كل مرة- لكن يا ترى هل الذى يصنع- هكذا: هو الحب أم الجسد البديل ؟ نسمعه وهو يكمل “لم يقل لها: هبة الجسد هى نفسها عطية الروح “بل قال: نعم هذا كله مفهوم، أعرف لكني- بحماقة – كنت أريد هبة الجسد- والروح معا- كاملة فورية ويقظة على الدوام” (ص:120)
فلماذالم يقل لها الجملة الأولى لكنه أعلن عن نفسه وما أسماه حماقته هكذا مباشرة بعد ذلك؟ هل يعنى ذلك أنه لا يريد أن يعترف لها-لنفسه- أن الروح (على غموضها المطلق، وربما غيابها أصلا) هى الأصل، أو هى الكل؟ وبالتالى فالجسدلاحق مصنع؟
وعلى الرغم من علمى أن مسألة الجسد والتجسيد عند الخراط عموما، وفى هذه الرواية خصوصا، تحتاج إلى دراسة مستقلة فإننى سوف أكتفى بهذه المقدمة لتناول الجزئية المحددة المتعلقة بالشيزيدية والعلاقة بالآخر فى هذه الدراسة. خاتما إياها – المقدمة- بأن أورد كيف أن مثل هذا الجسد المصنوع لم ينجح فى كسر شيزيديته
بعد أن تكلم عن كيف أن جسمه “عصي” عليه،” قال: معها عرف هذا الجسم نفسه إلى حد لم يكن يتصوره من قبل معها تسنى له أن يخرج عن صومعة رهبنته القبطية أن يسلس له قياده بل أن يعطيه ملء الجموح فى انطلاقه معها، وصاغ لنفسه شكلا يوافق جسدها، فيما أرجو، على الأقل. (ص:84)، ولا شيء يحل الشيزيدية قدر علاقة جسدية غير مغتربة، وغير بديلة، والرهبنة القبطية هنا موقف إنسانى شيزيدى، وليس موقفا قبطيا صرفا، ولكنه حين أراد أن يكسرها من خلال حضور جسمها”هكذا” فى وعيه، وقع فى محظور آخر فخلق جسدا لنفسه يوافق جسدها الذى كان قد خلقه من قبل، فاغترب مرتين (على الأقل)، ففشلت المحاولة/المحاولات، فاحتد العطش. لأن الجسد الحقيقى، الذى لم يحضر أصلا ظل “عصيا على الذوبان” (ص:97) حتى بفعل شمس رع نفسها.
وهو فى حوار الأجساد (المصنعة للأسف) والتى وصفها بدقة فائقة طول النص، لم يحقق المأمول منه فى تخليق الآخر فعلا حاضر، لا خيالا مصنوعا:
الحب الجسدانى الكامل بين امرأة ورجل، هو هذا. كأنه شرط للحوار الكامل. لأنه ليس جسديا فقط، بالضبط. هو الكأس والخمر معا بلا تفرقة ولا انفصال. على الأقل هذا هو، بين هذه المرأة وهذا الرجل، بالتحديد.رقرقة الصهباء فى جوهرها الصافى أم فى شفافية مادة الكأس النضرة القوية بلا تفرقة ولا انفصال. هذا ما قد حدث. هذا ما قد حدث. أى شيء بمقدوره أن يمحوه، بعد؟ (193)
إن الذى يمحوه هو ثباته، وتقديسه- هكذا- دون مرونته وتجديده
”جسدى أم جسدك يا رامة بعد أن امتزجا كأنما لن ينفصلا إلى أبد الآبين، ثم ضربت بينهما الفرقة القاصمة “ (70)
إن هذه العبارة وغيرها- مما هو مثلها- تظهر كيف ظل يلتحم وكأنه لن ينفصل، ثم ينفصل وكأنها نهاية النهاية، وكل هذا ضد الحل الحركى الحقيقى للشيزيدية: برنامج “الدخول ↔ الخروج، الذى عرضناه فى الجزء الثانى، والذى هو أساسا ضد التقديس، وضد الخلود، وضد الأبدية، وضد الفرقة القاصمة..إلخ
وإلى أن نعود إلى الدراسة المستقلة لمسألتى الجنس والجسد- ربما – نكتفى بأن نقدم هذه الجزئية المحدودة عن تجليات الجسد المفصوم ثم المستبدل من وجة نظر إشكالة الشيزيدية، والعلاقة بالآخر على الوجه التالى:
1- الشيزيدى شديد الإحساس بوجود جسده، لدرجة أن بعض الشيزيديين يركز كل همه، أو كل وجوده فى جزء منه (حجم الأنف مثلا) حتى يحل هذا الجزء محل جسده كله، ثم قد يحل محل وجوده كله (47) لكن فرط الإحساس بالجسد لا يعنى الاهتمام به، أو الوعى بدوره، أو ترجيح كفته، بل إنه قد يعنى فرط الدراية به وبوظائفه -سواء الوظائف العقلية أو الفسيولوجية- ويعتبر فرط الوعى بما يجرى من هذه الوظائف هو بداية إعلان الانفصال، وهنا يضمن الشيزيدى بهذا الفصل سيطرته على جسده، أو على الأقل يتوهم ذلك.
ومن أول صفحة لاحظنا كيف أنه مع الشعور بالفقدان الذى لا يعوّض. (ص:9) وفى نفس لحظة ذهاب الحياة، حـضـره حس جسدى ثاقب ودقيق، وبالذات بالنسبة لحاسة الشم التى كانت فى بداية التطور الحيوى هى خط الدفاع الأول ضد الخطر لضمان استمرارالحياة (48)، وقد خيل إلى أنه مع هذا الفقدان الجسيم -لرامة – ارتد ميخائيل إلى جسده الذى كان مستقلا عنه معظم الوقت (أنظر بعد) فاستيقظت أولى حواسه البدائية لتشم روائح مختلطة جدا، خاصة جدا، حقيقية جدا، رائحة فيها أثارة من اللبن الطازج، والمنى، والبنزين وعطر لافام (ص:9)، وحين تتحلل الروائح هكذا إلى أصولها ومكوناتها، وفى نفس الوقت تظل مختلطة تميز جو الفقدان، فإننا نكون أمام حضورحسّ جسدىّ طاغ هو الذى صاحبنا طول النص. مرة أخرى: فلماذا إذن وضعنا هذا الفرض الذى يلمح بغربة الجسد أو استبداله؟
مرة أخرى أيضا نشير إلى أن حضور الجسد بكل هذا الملء ليس دليلا على امتزاجه بكلية الوجود، بل هو إشارة إلى الوعى المفرط به وبوظائفه، الذى هو فى حد ذاته إعاقة لسلاسته وهارمونيته وتلقائيته واندماجه، ولعل هذا هو ما عبر عنه حدس ميخائيل مباشرة: إنه مع حضور كل هذه الروائح البدائية والمصنعة، فإنه افتقد حضور الروائح الكلية الممتزجة: “أما رائحة الخصوبة، رائحة الدينامية، فهى الروائح التى لن تعود أبدا”. (ص:9)
2- ثم إن انفصال الجسد وغربته ولا تشكيله (أو استبداله) من خلال عقلنة تخيـلية لا يتعارض مع الوعى به، حتى فى المثال المرضى الذى ضربناه للشيزيدى الذى يركز على جزء من جسده (على الأنف مثلا) إذ أنه يركز على الأنف الذى صنعه وهو من خياله وليس على أنفه الموجود على وجهه، وتصنيع الجسد من الخيال لا يقتصر على تصنيع الشيزيدى لجسده فحسب، بل يمتد إلى التعامل مع أجساد الغير من خلال ما رسمه لهم، وليس من خلال حضور حيوى عيانى موضوعى حقيقى، ويبدو أن “حسنى حسن” قد انتبه لذلك عند الخراط بالنسبة لجسد الآخر أساسا فهو، يقول: ” ليست أناشيد وتسابيح الجسد المطولة تلك التى تضج بها كل كتاباته القصصية أكثر من مجرد محاولة يقوم بها الكاتب للالتفاف على تلك العرامة الفعلية لهاجس العضوى الدافق والمتلاطم فى دمه، إنها محاولة توقه الوحشى إلى الذوبان النهائى فى جسد آخر لا يوجد أبد ا بالنسبة له على هذا النحو المطلوب إلا فى مخيلته (49).
3- والشيزيدى يخاف من الاقتراب من الجسد الحى الحقيقى، وهذا أهم ما يدفعه إلى أن يغيبه إن استطاع، أو يـحل محله جسدا من خياله، وميخائيل حين لاحظ حضور جسد رامة بزخمه وطزاجته، وعشقها له – عشقا مطلقا هل تعرفين أنك تحبين جسدك بل تعشقينه عشقا مطلقا؟ (ص:83) زاد خوفه من حضوره كل هذا الحضور لأنه بهذا العشق يتجسد واقعا أرعب، إذ يلتحم بصاحبه “الموضوع” ومن ثم الخطر.
قالت: بطل أوهامك بقى (ص:83)
فسرعان ما بادر بتغييب هذا الجسد المعشوق المرعب، بأن قال: حب الجسد بالمطلق، أعنى جسدك هنا ليس إلا جسد العالم،ء كل الرجال كل الأشياء، جسد السماء نفسها جسد النجوم.. (ص:83)
والرعب من الجسد الحى (اللحم الدم- الموضوعى) هو رعب من عمل علاقة حقيقية بآخر موضوعى، لأنه يهدد من خلال الحضور الفيزيقى المستقل- بإعلان وتأكيد أن هذا الكيان “المجسد الآخر” (محاطا به فى حضن، أو مشتبكا معه فى حوار حسى أو مندمجا فيه فى اتحاد) هو “آخر”، إذ هو جسد له حجم وحضور مستقل، ومن ثم هو آخر (ليس آنا)، وهذا هو رعب الشيزيدى الأكبر، والذى يحاول إنكاره، وتحويره، وتجنبه بكل الوسائل، وأهمها وأخفاها إبدال هذا الجسد الحى، بجسد مصنوع من خياله، يشكله تماما كما يريد (أو يخاف) أو يحور به موضوعا مسقطا أساسا من داخله، أو يضيف وينتقص ويغير ويحور جسدا حيا خارجيا لا تكون وظيفته إلا بمثابة الصلصال أو الطين الذى ينحت منه النحات تمثاله، ومسألة أن الشريك من الجنس الآخر هو كيان داخلى أساسا مسقط على من نزعم حبه مسألة لها جذور فى فكر كل من كارل يونج، سيجموند فرويد على حد سواء (50)، وإذا ما تمادى الإسقاط والتشكيل الخيالى إلى درجة قصوى -مثلما هو الحال عند الشيزيدى وكما ورد فى هذا النص- فإنه يترتب على ذلك أن فعل الجنس مع جسد آخر لا يكون إلا بمثابة استمناء نرجسى بشكل أو بآخر، وهكذا يصبح الموضوع مزاحا ومخفيا داخل هذاالتجسيد الخيالى حتى لو تسمى بأسماء المحبوب والمعشوق وماشابه، وقد انتبه حسنى حسن إلى مثل ذلك فى أعمال الخراط الأخرى حيث يتحدث عن قضية الخراط التى تظهر وهو يتناول هذه المنطقة من العلاقة وهى “… الوفاء بأمله فى تجاوز الإنسان الفرد لمحنة وجوده الشخصى فى جسد يسجنه داخل حدوده، ولا يكف مع ذلك عن نشدان التوحد والانصهار فى جسد آخر غائب تماما (51) وهو – حسنى حسن ـ يكرر نفس المعنى إذ يشير إلى أنه كلما زادت المناجيات الحسية اللاهبة كان ذلك مؤشرا على أن الللحظة الجنسية الحقيقية مرفوعة، ييأتى ذلك من نص سابق (رامة والتنين) “…وفى هذا السياق إنما أنظر إلى تلك المناجيات الحسية اللاهبة التى يكابدها ميخائيل ويرفعها إلى رامة، هما يطاردان معا – كل فى اتجاه- لحظة جنسية مرفوعة تماما (52)
إذن لم يعد جسدها جسدها، بل لم تعد هى هى، اختفى الجسد و”الموضوع المحدد” فى كل عظيم ممتد غامض حتى يساوى اللانهاية، أى اللاشيء
4- والشيزيدى يعانى من انفصاله عن جسده (53) وهذا بعض ما يمكن أن نستلهمه من تعبير انفصال الوجه عن القناع (مثل كل الناس، أو أغلبهم)، ولكن الشيزيدى عادة يدرك ذلك:
قال: ليتنى أستطيع أن أحسم، أن يتحد وجهى وقناعى (ص:106)
وإذا كنا قد بالغنا أو تعسفنا فى تفسير هذا المقتطف فإن ذلك لم يكن إلا نتيجة لاستلهام السياق كله الذى تجلى صريحا فى قوله “كيف أفسر قطيعة بينى وبين جسدى نفسه، كيف أفسر أيضا الانفصال؟ (ص:165) وقد رجـحـت أنه يستعمل لفظى القطيعة والانفصال ليسا كمترادفين، وإنما كدلالة على مرحلتين، ثم إن رغبة الشيزيدى فى التخلص من الأقنعة، سواء أقنعة جسده هو، أو الأقنعة التى يغطى بها جسد الآخرين، هى رغبة مقولة بالتشكيك، حتى أنها تندرج فى أغلب الأحوال تحت حيلة القلنة، أى البصيرة الذهنية مع وقف التنفيذ.
5- وعلى الرغم من هذا الانفصال، فهو لا يلغى المحاولة تماما، وكما أنه لا يكف عن محاولة الخروج من القوقعة المسحورة الزجاجية ذات المرايا الداخلية المتشظية إلى “الموضوع”، دون جدوى، فإنه أيضا دائم المحاولة لعبور هذه الهوة بينه وبين جسده المنفصل قال: أما أنا فجسمى غريب عصى على، غير مطاوع، جامد مفصوم، ذلك، لأنه جسم صلب، جاف، أريده، مع ذلك هينا رخيا منسابا (ص:84)
6- ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فليكن جسمها هو البديل المناسب لما افتقده حين جف جسده وانفصل عنه هكذا، فراح يصفه، ويحضره – جسمها- ويتحسسه، ويـدخـله، ويحاوره، بما شاء كيف شاء (أليس صنيعته تماما؟)
ويبدو أنه على وعى بهذه العمليات بشكل أو بآخر، فهو حين خلق جسدها تخليقا كان يعرف ما ينقصه، كما كان يعرف معنى التصالح مع الجسد، والتكامل منه وبه، والانسياب فى رحابه ” قال: نعم، جسدك خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية قال لنفسه (ص:84) هى أيضا تألف جسدها، تأنس له، ترتاح إليه. (ص:84)
والبداية توحى بتكامل الجسد بذاته لذاته، لكن نهاية الوصف تشير إلى نقص ما فى الوحدانية التكاملية التى لا تميز الجسد بما هو كذلك، إذ تذوب فى كل ليس له إسم، وربما هذا ما أسماه الخراط / ميخائيل – ربما – الوحدانية.
7- ومع ذلك، مثلما صار الحنان ثقيلا فى النهاية (54)، ومثلما أصبح يقين العطش جحيما لا يطاق، فإن جسمها – صنيعته- أصبح ثقيلا حين اقترب منه وخاصة حين أصبح الحديث حوار أجساد: “جسد ↔ جسد”، عبؤها على حياته مثل ثقلها على جسمه (ص:111)
8 – وهو حين يحاول أن يتعرف على الجسد المجسد للشهوة تماما لا يتذكر إلا هذه المرأة الجسد الصرف “مَـَـرةْ مصرية حقا، من بنات البلد حقا، جئتها ليست خالصة حقا (ص:141) (مثل رامة) عندها كل هذه الفنون الشهوية”(ص:141) لكنهّ إذ ينتقل إلى رامة يحل محل هذا الجسد الحر الخالص الذى تصورتـه أنا فى ملاءة لف بالضرورة، يحل بــعـد الذكاء والمعرفة اللماحية والحنكة واللغات المتعددة الحية والمستعملة ويتساءل (مقررا الجواب كالعادة) “هل المعرفة مـسـخـرة عندها للشهوة؟ (ص:141) فأتصور أنه – بذلك بدأ فى عملية إلغاء جسدها ككيان أول، ليصبح تاليا أو تابعا أو منفصلا أو مستقلا، دون وعى كاف بكل هذا.
9- “وثمة طريقة أخرى لإلغاء الجسد ككيان موضوعى متعين باعتبار أن هذا هو ما يجعله خطرا حقيقيا: هى أن يذيبه فى المجرد (النشوة)- لأن نشوة العشق قد استغرقتها حتى لم تعد هناك أدنى ثغرة فى امتلائها بها حتى لم يعد هناك إلا هذا الانتشاء وقد تلبسها كأنه أزاحها، وحل محلها (ص:80) أى أنه قد غيب العياني (وجودها اللحم الدم) فى المجرد (هذا الانتشاء) رغم محاولته الدؤوب معظم الوقت: أن “يعين” المجرد تخيلا حتى يصبح وكأنه الواقع الملموس، وهو غير ذلك (55).
10- وهو يكثر من استعمال كلمتين غير مألوفتين، وقد عجزت عن تفسير ذلك، وهما: فيزيقى، وإكلينيكى، ثم خطر ببالى دون حماس، أن يكون ذلك دليلا آخرا على أن الأجساد التى يتعامل معها هى من صنعه، من صنع خياله وعقلنته،.
11- وهو حين يتعامل مع جسدها هى: يتراوح بين التقديس على المنح والاستظلال …. جسدها المطعون التى تمنحه لكل قادم دون تحرز، حتى تصل إلى أقصى درجة من مراقى التطهر”، (ص:141)….”ما جسدك إلا قالب هو عطية من السماء والأرض معا (ص:141)
12- فهو يعامل الجسد، بحضور مستوعب، وخاصة حين يقترب منه، منفصلا عن صاحبته، وعنه، رغم فرط الدراية به وحدة الوعى بماهيته، إلا أن معرفته بكل تفاصيله لا توصله إلى معرفته بالكلية، الموضوعية (الوحدانية بلغته)، بصاحبه أو صاحبته، بل إن الذى يسمح له بالتعامل مع الجسد بهذه الطلاقة وهذا التفصيل هو ذلك البرزخ الذى بينه وبين صاحبته على الرغم من “معرفته بأعمق وأخفى خلجات جسدها” فقد ظلت غريبة عنه، لا يعرفها حقا. (ص:249)
وفى هذا المقتطف ما يؤكد أن غربتها هى -ككيان جسدى موضوعى متعين – لم تمنعها من أن تملأ ليل عمره (وليس فقط ليله) الطويل، وبالتالى نتأكد من مستويات تخليقه إياها كيانا متكاملا مرة، وجسدا طاعنا مطعونا محددا، بكل خلجاته ومظلاته ودفئه مرة أخرى، مع انفصال هذا عن ذاك مرات كثيرة.
13- وحتى لو تجمع كل ما صنع وخلق من مستويات الحضور الجسدى، لو تجمع فى لحن متكامل، فهو سيظل تصنيعا ناقصا بما يسمح باستمرار التخليق وتحرير الخيال بغير إعاقة.الجسد الشامخ ينبض مع موسيقى غير مسموعة يتوحد بها، مغويا ومنذرا فى آن واحد كيف تكون رقصتها كاملة – وهى لم تتم؟ كاملة، وهى لا تحير حراكا؟ كيف تتم رقصة لم تبدأ، ولا نهاية لها؟ (ص:306)
14- وهو يقبل الاستسلام لجسد مغترب مصنوع، ويرحب بالثقل، ويستلذ الإحاطة، شريطة أن تتم بنصف وعى المقتـحـم، ألا يعلنه بسبق الإصرار، فبعد أن قال عبؤها على حياته مثل ثقلها على جسمه (ص:111) راح يرحب بحضورها الجسدى المتعين شريطة أن يضمن عدم الاقتحام، عدم الوعى بالإثقال، فمع شعوره بثقل فخدها الجسيمة، راح يرحب بها، ويقبل أن تفرض هذا الثقل عليه، دون قصد (أو بقصد!!) شريطة ألا تعلنه!!!
15- ثم نتذكر فكرة العلاقة “التماسية” التى أشرنا إليها سالفا، فنجدها حاضرة جاهزة لتحل محل التشابك المتوحد أكثر ما تكون صراحة ووضوحا فى تعامله مع الجسد (نكرر:) بعد سكرة الجسم والروح التى تحققت ليلتها قرب الفجر. وسيقانهما متشابكة متواشجة،… نامت على الكليم الأسيوطى، كانت مستغرقة فى غيبتها الخاصة، بعيدة جدا، وجميلة جدا، لاتنال، لا أمل فى الوصول إليها، أبدا (ص:230) فما كان منه إلا أن يتمدد لصق الدائرة البشرية الممتلئة بنفسها (جسدها) لا أكثر، لا هو قطر، ولا نصف قطر، “تمدد بحرص إلى جانبها”. (ص:230) فهل يكون هذا تجسيدا لمعنى التماس الذى قصدنا إليه ؟ لا أظن، ولا أنفى.
ولأنه لا أمل فى الوصول إليها، ولأنها تاركة له لا محالة “فاجأته الدموع” (ص:230)
وقد بدا التلاحم الجسدى فى البداية شديد الحيوية والحركية والتكامل، إلا أن ما أعقب العلاقة “التماسية” من مفاجأة هو الذى دعانى لأن أرى الحركة ليست تناوبية، وإنما هى حركة إبدال لإلغاء الالتحام بانسلاخ باك.
16- أما نهاية علاقته بالجسد، فقد أتت مع النهاية: “ومع انهلال الموسيقى…… ونعومة أوصال الجسد تنهمر،تشتد وتسيل، تميل وتنتصب،تعتدل وتنحنى بأمر النغم… (ص: 304) ثم، تفجر جسمى مع انفجار العالم (ص:304)
وهكذا يتلاشى الكيان المتعين فى اللاشيء بعد أن توحـد مع العالم، ثم يتجلى الجسد عاريا راقصا مقدسا عندما أحس بالحياة، وغير ذلك موات وبور.. قالت: الجسد العارى مقدس. (307)
وهى تحس بذلك، وتعتز به، وهو كذلك لكنها سرعان ما تستعيده تجريدا بديلا (على ما رجحت)، ولكن الجسد العيانى يترهل ويكاد يتدلى لينفصل اغترابا.
قالت إنها تغترب عنه قليلا قليلا، إذ تفاجأ فى الصبح أنه تهدل هنا، أو ترهل قليلا هناك، أنه أخذ يجف شيئا ما لكنها تحسه كما كان دائما، وكما هو دائما، وأحسه معها غضا نضيرا فى كل ريعانه. (ص:307)
ويتركنا لا نعرف إن كان جسدها مازال ملتصقا بها، أم أنه غترب عن روحها أم أنه حل محلها، أم أنه قد أحل ما أشرنا إليه من تجريد محل حضور جسدها الحيوى الأول، والأرجح عندى أن كل ذلك قد انساب إلى التلاشى الغامض فى الألوهية المزعومة: كان جسدها طاهرا تحت عيون الألهة…. جسمها الأسمر الممشوق ينزلق على هينة إلى نغم أخروى لا يسمعه إلاها (ص:307)
ومع هذا التلاشى يحل البديل الذى خيل إلى أنه اغتراب صرف، على الرغم من أن النص لم يفعل طول الوقت إلا أنه كان يحاول أن يهرب من هذا الاغتراب وكل اغتراب.
”وها أنت – إن كنت هناك حقا – فارحمنى. إرحمنى، أما كفاك تعذيبى. (ص:308)
17- ثم تختم الرواية بذلك التصعيد المتلاشى فى الخلود/العدم، حين يعلن كيف أن الخلود “يعطيك عمقا وكمالا لا نهائيا. (ص:306)
فيؤكد إلغاءها بذلك، ككيان فردى متعين، ولا يتردد ميخائيل فى إعلان ختامى بالتلاشى فى الفناء حتى لو كان ألوهية مخلدة مقدسة فهو يقرر خاتما: أن يقين العطش هو يقين الفناء (ص:306)
لكنه يفتح الباب لنا لنكمل، كما ذكرت، حين يردف:
هو يقين الفناء وتحدى الفناء معا.
ولا يضع بعد “معا” نقطة (.)
ولكن علامة استفهام
خاتمة
بعد هذه المحاولة الناقصة حتما، والتى آمل أن أرجع لها مرتين: الأولى بعد أن أقرأ الجزأين الأولين لهذه الثلاثية التى لا أوافق كثيرا على تسميتها ” ثلاثية مصر “، والثانية بعد أن أقرأ كل أعمال الخراط، أقول بعد هذه المحاولة المبدئية، أعود للنظر فى المدى الذى حققت به ما طرحت من فروض، فأقول:
إنه مدى متواضع، يحتاج إلى مراجعة وإعادة تحقيق، إلا أننا فى هذه المرحلة نستطيع أن نخلص فيما يتعلق بالفرض الأساسى والفروض الفرعية إلى بعض الإشارات الواعدة كما يلى:
(1) إن السلوك الإنسانى، كما يبدو من “ظاهر السلوك”، هو عاجز حتما عن الوفاء بفهم الإنسان بأعماقه على مدى امتداداته.
(2) إن استسهال العلاقات البشرية – تحت مسميات مختلفة مثل الحب، والصداقة، والزمالة، والزواج، وما أشبه – هو اختزال لا يليق بعد أن وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من الوعى التى بعض مظاهرها مثل هذا الإبداع الوارد فى هذا النص.
(3) إن العلاقات البشرية أعقد وأعمق من أن تكون هى ما نرى ونشاهد ونفسر ونتصور، فالثروة الحقيقية فى الوجود البشرى تتمثل فى “الحركة “، والمرونة، والوعى وتحمل الغموض، والاستمرار بيقين مـلتحم بالأمل والدهشة والاكتشاف أبدا.
(4) إن الإنسان بغير “آخر” ميت لا محالة، لكنه ميت قابل للبعث، مهما بدا غير ذلك
(5) إنه لا مفر من الاستغناء عن الآخر إذا كان للإنسان أن يحقق تفرده المبدع، وهو يزعم استكفاءه الذاتى، شريطة أن يواكب هذا الاستغناء: الاستعداد للحضور “مع” طول الوقت، معا: بحركة متصلة متبادلة، وليس مجرد ” تحت الطلب ” أو للاستعمال الظاهرى، أو المنفصم.
(6) إن دورات النمو هى هى الخلود، ويمكن أن تضاف إليها دورة نمو أخري/ آخرة: بعد الموت، بما قد يسمح بإعادة قراءة ماهيه الجنة والنار.
(7) إن أغلب الشائع مما ينسب إلى صفة ” نفسية “- خاصة عندنا- سواء فى الحياة العامة، أو فى النقد النفسى، هو مازال مرتبطا بشكل أو بآخر بالفكر الفرويدى، وهذا المستوى لم يعد مناسبا أو كافيا للإحاطة بتشكيلات الوعى المتجدد فى حضوره الشبكى الحى المتميز، ولعل هذه القراءة – وحتى إن لم تصح محتوي- نفتح الآفاق لنقد نفسى آخر، يتجاوز حصار وصاية التحليل النفسى التقليدى.
(8) إن الإنسان غير قادر على حل هذه الإشكالية – العلاقة بالآخر – دون الالتحام بإشكالية حاوية، تكاملية، ليست أبدا بديلة، وهى علاقته بالمطلق المتعين المشتمل، وليس بالمطلق المغترب البديل، فثمة قاسم مشترك أعظم يشملنا وتختلف درجات وعينا به، لكنه بنا، ومعنا، وفينا، وحولنا، وليس بديلا عنا، وإدراك ذلك، أثناء حركية العلاقة وجدل المحاولة هو الوجود الممكن المتخلق الحيوى أبدا.
ملحوظة: “غيابٌ ” له “حضور”
غابت فى هذا النص تيمتان مألوفتان فى مثل هذه الأعمال، وكان غيابهما- بالنسبة لى – حضورا رائعا، وهما، عقدة أوديب، وإشكالة الانتحار
فقد تجاوز هذا النص المسألة (العقدة) الأوديبية حين همّش دور الأب المنافس لحساب الجدل المباشر مع المستويات المختلفة للتفاعلات بين البشر بما هو حى متجدد، وليس بما هو تكرار منمط،، ولعل القارئ قد لاحظ اختفاء الأب الخارجى وضآلة دوره، وخفوت تأثيره المباشر فى تشكيل العلاقات البشرية، اللهم إلا الانحناءة إلى مسألة ابراهيم / اسماعيل (عليهما السلام)، وكذا الإشارة إلى التركيبة الداخلية للشخصية عند الشيزيدى.
ثم كان لغياب أية أفكار انتحارية معنى خاص، إذ على الرغم من الإغراءات الشديدة التى لاحت لى، فانتظرت ظهور فكرة أو محاولة الانتحار، بفرض أنه لا تصدق أزمة النمو فى أى سن، ولا تصل إلى بؤرة عمقها إلا إذا مرت بمأزق الانتحار، إلا أن هذا لم يحدث أصلا، ولعل فى ذلك دليل ضمنى على أن حضور “الآخر” بهذه الكثافة طول الوقت، وحركية التفاعل بكل هذه التناقضات والأخيلة، والكر والفر، والصد والتعرية، والحوار، كان كافيا لتجاوز الانتحار فى عمق الازمة، وبالتالى فإنه يمكن أن نخلص إلى أن الذى يمنع الانتحار، أى يؤكد الحياة، هو استمرارية الجدل مع الآخر، وليس ضمانات بقائه حاضرا أو محبا، وكذلك ليس الاعتماد عليه، ناهيك عن إخفائه، أو احتوائه أو عقد صفقات التسكين السرية و العمى المعقلن، تحت سمع وبصر شهود والزور.
اعترافات
أولاًً: أعترف أننى احتاج لقراءة هذا العمل عدة مرات قبل أن أصر على ما جاء فى هذا النقد.
ثانياً: اعترف أننى لم أستطع أن أتابع موسوعية المؤلف أو لغاته الرصينة كما جاءت فى النص طول الوقت، فلا أنا عندى المعلومات الكافية، ولا حتى الفرصة للإلمام بالمعلومات اللازمة، (بما فى ذلك المقتطفات المنصصة التى أشار إليها بعد نهاية الرواية)
ثالثاً: اعترف أننى قد وصلنى شعر كثير، وتراقص وعيى وسط ألحان غامرة، لابد أن لها أسماء معقدة فى عالم الموسيقى الصعب على، لكننى كنت قاصرا – طول الوقت – عن تحديد أى من ذلك، أو تسمية بعض ذلك.
رابعاً: اعترف أننى حين أعدت قراءة هذه المسودة شعرت بوحدة حادة، رائعة ومختارة، لكنها قد لا ترقى إلى الوحدة التى وصلتنى عن الكاتب حين غامر بإعلان هذا النص وغيره، وذلك على الرغم مما لقى هذا النص من ترحيب نقدى وجماهيرى (على الأرجح)، وكذلك على الرغم مما أحاط به من حوار.
الهوامش
(1) استعملت لفظ “المتحدث” بدلا من لفظ الراوى لسببين: الأول: أن إصرار الكاتب على بداية معظم الفقرات بــ قال: “هو تذكرة بأنه قول صادر عن شخص يعايش لغته الفعل، أو أنه فعل يقال فيتجلى “حديثا” هكذا، وقد استشعرت ثمة فرقا بين هذه الصياغة وبين صياغة تيار الوعى على لسان من يسمى “الراوي” الثانى: أن الكاتب لم يذكر إسم ميخائيل مباشرة مرة واحدة، اللهم إلا وهو يتحدث عن القديس سميه وحارسه، وكأنه بالمقارنة بالجزئيين السالفين رامة والتنين، والزمن الاخر، أراد أن يفتح الباب على مصراعيه لكل ميخائيل / مصرى / إنسان.
(2) أمثلة: ظهر ذاك جليا فى (أ) نقد الخراط نفسه الأهرام 16 مايو 1997 “يمكن أن نرى فى رامة الشخصية والروائية على السواء معالم غنوصية…. غير خالصة… ملتبسة ومتناقضة مع نفسها.”.. أما فى “يقين العطش”. فهذه المرأة (الواحدة ذات التجليات) ليست مؤلهة رغم ألوهيتها المطلقة.. وهى أيضا وأساسا أرضية صراح وواقعية، بل تكاد تكون مبتذلة. (ب) حسنى حسن مجلة سطور سبتمبر 1997. “… وليس النص من هذه الزاوية (رؤية رامة من خلال ميخائيل) بأكثر من مجرد شحن شعرى يثبته الكاتب بمهارة، وبكثير من التفجع الآسى كى يعتقل فيه تلك العاصفة الهوجاء المسماة رامة. “…. ليست إمرأة التى ينشدها ميخائيل، بل المعنى العميق والسرى لوجوده الذى يتخذ صورة إمرأة” (جـ) ماهر شفيق فريد” إبداع” أغسطس 1997 “ليست رامة فى الحقيقة إلا إسقاطا على شاشة ميخائيل”. (ء) الشرق الأوسط 2 أكتوبر 1997 (“بدون اسم). ” إذا كانت رامة كما يراها ميخائيل هى عين اليقين، وعين الشك فى الوقت نفسه، فإن الحب يبقى وحده قرين المعرفة، والمعرفة هى عين الحق. (هـ)وأخيرا فى قراءة انطوان أبو زيد، السفير 1997/8/15 “النص الروائى بجملته، استحضار لرامة من ذاكره الجسد والروح والأحاسيس” ثم “وجعل رامة رمزا لذلك الوطن”
(3) لا يظن أحد أن هذه الإشكالة خاصة بالعلاقات البدائية أو التقريبية أو الاستحواذية القهرية فى العالم العربى أو المصرى أو الإسلامى أو المتخلف، بل إنها تحتد كلما تقدم الإنسان نحو ما يسمى بالاكتفاء الذاتى، وأيضا نحو مزيد من ترجيح الحرية الشخصية على التكيف الاجتماعى، والالتزامات التقليدية، وقد أتيحت لى الفرصة مؤخرا لقراءة ترجمة “إعتدال عثمان” للبحث الذى ألقاه ثزيفتيان تودوروف فى ندوة بعنوان “العيش على حدة معا” ونشر فى New Litrary History 27.1 (1996) 1-.14 وهو يبدأ بطرح هذه الإشكالة: بأن فحص التعريفات الخاصة بالإنسان على نحو ما يرد فى المجرى الأساسى للفكر الأوربى سينتهى إلى نتيجة غريبة وهى أن البعد الاجتماعى أو حقيقة العيش مع الآخرين ليس مـدركا بصورة عامة بوصفه ضرورة”، وهذه البداية، وما بعدها من تناول الإشكال لا تعلن استسلام العالم الأوربى إلى وحدة باردة للأفراد، بقدر ما تطرح تحديا للبحث فى حقيقة العلاقة الأحدث بين البشر، الأمر الذى كان قد بدأ فى أوائل القرن بتأكيد وينيكوت على نفس مفهوم “أن تكون وحيدا مع” Winnicot “To be alone withس عن جانترب هـ. (هامش 6) ولكن هل الأمر فعلا كذلك؟، وهل هذان الشعاران هما إشارة إلى حل ساكن، أو أنهما بداية التحدى بحثا عن حل متحرك؟ هذه هى القضية التى أتناولها من خلال حدس هذه الرواية، فى هذه الدراسة.
(4) أعترفت- بعد مقاومة – أن هذه القراءة يمكن أن تسمى نقدا نفسيا، ولكن بالشروط التى وضعتـها لذلك، لأنه لما كانت القضية عندى فى رفض النقد المسمى بالنقد النفسى والتحفظ على توجهه هى خشيتى أن يكون التنظير النفسى وصيا على الإبداع، ولما كان الأهم لدى هو أن أستلهم الإبداع ليكون هو الأساس، فقد انتبهت إلى أننى لكى أوصل الدارس علم النفس ماهية الظاهرة الشيزيدية كما وصفتها مؤخرا المدرسة الانجليزية للعلاقة بالموضوع ثم طورتها النظرية التطورية الإيقاعية، فإن أصلح المراجع فى تقديرى هى: كامل رؤبة لاظ، وكمال أحمد عبد الجواد (نجيب محفوظ: السراب، والثلاثية) ثم ميخائيل (يقين العطش، وربما ما قبل ذلك) وكذلك راوى إسم آخر للظل (حسن حسنى) كأمثلة.
(5) إلتقط محمد برادة “الوسط “1997/8/18 أحد جوانب هذه الاستحالة المثيرة للتحدى فى قوله: “إذ كيف يمكن أن “ينتهي” الحديث عن عشق أبدى مستحيل”؟-كما التقط حسنى حسن: يقين الكتابة، (هامش 11 ص 140) نفس البعد عند الخراط من موقع آخر “…وتمؤ رامة أن ما يتوق إليه ميخائيل من المشاركة الكاملة لهو المستحيل بعينه “، والمشاركة الكاملة هى ما عنيته بـ”العلاقة الموضوعية مع آخر حقيقي”.
(6) وصف جانترب (Harry Guntrip Schizoid Phenomena Object – Relations and the Self: the Hogarth Press & the Institute of Psychoanalysis 1974) ممثلا لمدرسة العلاقة بالموضوع برنامج الدخول والخروج In-and-Out program مشيرا إلى الحركة المنتظمة التى يمارسها الانسان، فى رحلة نموه والتى لا تسيـر فى خط مستقيم مضطرد، وإنما تعتمد على رجعة فتقدم، وأن هذه الرجعة تحمل توجها نكوصيا حتى إلى داخل الرحم كخطوة لازمة فى دينامية النماء، وأن التقدم هو الاتجاه نحو الموضوع والواقع بالقدر الممكن المناسب لكل مرحلة، وحتى ينجح هذا البروجرام لا يكون الرجوع إلى نفس النقطة، كما لا تكون عودة التقدم إلى نفس النقطة التى بدأ منها ضلع الرجوع، فالتقدم يضطرد حين تضطرد حركة هذا البرنامج من حيث المبدأ والنتيجة، ليكون الرجوع (النكوص) إلا قليلا، ويكون والذهاب (التقدم) متجاوزا النقطة التى بدأ منها الرجوع، وهكذا، ويكون هذا البرنامج أحيانا رمزا، وأحيانا قياسا موازيا (مثل النوم واليقظة أو دورات البيات الشتوى عند بعض الأحياء مثل البرمائيات والزواحف والأسماك وبعض اللافقريات)، كما يكون نتاجه الإيجابى انطلاقا لمزيد من الطفرات النوعية، وكذا يكون نتاجه السلبى جمودا، أو تدهورا، أو نكوصا.
(7) “وأن ليس للإنسان إلا ما سعي” (سورة النجم آية 39) لم تقل الآية: إلا ناتج ما سعي
(8) تسهيلا للقراءة، وضعت ما اقتطفت حرفيا من النص الروائى فى الجزأين الأول والثانى ببنط أسود مع هامش أكبر.
فى حين سوف يكون المؤكد عليه، أو المرغوب الالتفات إليه بشكل خاص فى هذه القراءة واردا: إما ببنط أسود بنفس حجم سائر المتن، وإما ببنط مائل، وإما تحته خط، على أن المقتطفات فى الجزء الثالث (العقل الرحم..) قد وردت داخل المتن بنفس حجم البنط، لكنه بنط أسود وبعدها مباشرة جاء رقم الصفحة بين قوسين، وكذلك وردت المقتطفات من خارج النص الأصلى دون ذكر الصفحة إلا فى الهامش.
(9) لتقرأ معى بصوت مرتفع لفظ “تعالي” فقد تستقبله على مستويين كما رن فى وعيى (1) وهو يشير إلى أنه تعالى – سبحانه – عما يصفون (2) وعلى أنه نداء يشير إلى أنه كلما صعدت إليه قرب ليتعالى، فيجذبك أكثر إليه، فتعالى من العلو وفى نفس الوقت هو نداء أن “أقدم”. (وربما كان هذا متضمن فى حديث الصوفية عن الجذب فالسعى الدائم إلى وجهه: يقينا).
(10) وقد خطأت نفسى مرارا، إذ أننى أعتقد أن الخراط لم يكن مضطرا أصلا إلى ذلك: الرقصة لم تتم (الفصل الأول)، والدخان معلق (الفصل الثانى)، والجسد ملتبس (الفصل الثالث) والرمح مكسور (لا يصيب -إذن -الهدف) (الفصل الرابع) والجسد طعين (لا يواصل سعيه إلا ناقصا نتيجة لأنه طعين) (الفصل الخامس)، والعينان مفتوحتان فى العتمة (فهما ينظران بكشف مجتهد وليس بنور الخارج، لأنهما ينظران فى العتمة، وليس معنى أن تكون العين مفتوحة أن تنظر أصلا (الفصل السادس)، وحتى إذا لم تكن عتمة، فإن الإضاءة غامضة، وخاصة إذا كان المضاء جسدا ؟ (الفصل السابع) وحين يبدو الوضوح ممكنا فلا بد من قناع من أبنوس أسود يخفيه ليظل التطلع إلى ما وراء القناع نشطا طول الوقت (الفصل الثامن)، وأخيرا يختم بعنوان العمل يقين العطش (الفصل التاسع)
(11) يقين الكتابة: المجلس الأعلى للثقافة سنة 1996..إلخ حسنى حسن: (ص 129)
(12) يحيى الرخاوى 1979 “دراسة فى علم السيكوباثولوجي” دار عطوة للطباعة، القاهرة، ص 297: “الوجود المثقوب” هو الموقف الذى يصف الوجه البارنوى للظاهرة الشيزيدية، وقد كانت كلمة schizoid تترجم إلى شبه فصامية، إلا أن تعبير schizoid personality الذى يلحق عادة بوصف نمط من الشخصية التى يغلب عليها الانطواء والانسحاب ليس هو ما يعنينا هنا لأنها شخصية لا تشبه الفصام سلوكا حتى يقال عنها بالعربية شبه الفصامية، ذلك أن هذه الشخصية الشيزيدية تبدو متماسكة تماما من الظاهر، لكن تماسكها الظاهرى ليس إلا نتيجة المواجهة التعويضية للتهديد الداخلى بالتناثر (الفصام)، وأيضا فإن هذه الشخصية تعتبر أكثرعرضة من غيرها لمرض الفصام، لكن كل هذا لا يبرر الشبه، لذلك فضلت التعريب إلى كلمة شيزيدى، عن الترجمة إلى خطأ ما شاع: “شبه فصامي”، ثم إن نحت هذه الكلمة الجديدة التى يمكن أن يكون لها فعل خماسى تشيزد، يسمح بأن يكون لها تصريف عربى صحيح، مع أنها نادرا ما تستعمل فى صيغة فعلية.
ثم إن الظاهرة الشيزيدية (التى ستستعمل فى قراءة هذا العمل) ليست مرادفة للشخصية الشيزيدية كما يلى: فتبعا لجانترب هامش (6) فإن هذه الظاهرة -الشيزيدية- تشير إلى الأساس الذى يكمن داخل كل تركيب بشرى منذ الولادة، وهو أن بؤرة الوجود البشرى تبدأ بموقعه المعزول الذى يعلن بموجبه أنه “لا موضوع” (كما كان الحال داخل الرحم، وقبل أن تخرج حواء من ضلع آدم – عليهما السلام)، وهذا الأساس مجرد نقطة بداية، ثم تستمر مسيرة الإنسان طول العمر (وربما طول التطور النوعى) فى محاولة إرساء علاقة بشكل ما، مع الموضوع (الآخر)- إذن فتعبير “الظاهرة الشيزيدية “يشير إلى رحلة الإنسان من اللاموضوع إلى عمل علاقة بينه وبين موضوع “حقيقي”real object مستقلا متحاورا متكاملا مع الذات (أى ليس موضوعا داخلياinternal، أو ذاتيا subjective، أومسقطا projected)
وقراءة هذه الرواية هى محاولة لمواكبة هذه المحاولة الدؤوب من الانتقال من اللاموضوع (الشيزيدية) إلى العلاقة بالآخر (وقد كانت قراءتى لاسم آخر للظل لحسنى حسن من خلال هذا المنطلق أيضا).
أما تعبير الموقع الشيزيدى: schizoid position فهو تعبير يشير إلى نقطة البداية التى أشرنا إليها حالا فى التعريف بالظاهرة الشيزيدية، أى موقع الإنسان حالة كونه ليس له موضوع بعد – فى مجال وعيه على الأقل- ويتكثف هذا الموقع فى الفترة داخل الرحم، حيث أنه بعد أيام من الولادة، وبمجرد تحسس الرضيع ثدى أمه باعتباره موضوعا مستقلا عن جسده (كيانه البدنى) تبدأرحلة محاولة الانفصال كذات فى مقابل الموضوع، إذن فالموقع الشيزيدى لا يستمر، أوالمفروض ألا يستمر بعد الولادة كما هو، إلا زمنا قليلا جدا، ونادرا ما نقابل الظاهرة الشيزيدية منفصلة عن الموقع البارنوى الذى يشير إلى المرحلة التالية فى النمو، وإن كان مختلطا تماما بالموقع الشيزيدى، فبمجرد أن يكتشف الرضيع أن ثمة آخرا، فإنه يعتبر هذا الآخرمصدر خطر، فتصبح العلاقة بهذا الآخرهى علاقة هجوم ودفاع، وبتعبيرأدق: كر وفر، ويصبح الحذر والشك والتوجس من أهم ما يميزهذا الموقع (وهذا من أكثر ما حضرنى -أيضا – فى قراءتى النقدية لرواية إسم آخر للظل لحسنى حسن، وقد كان ذلك كله محور مشروعية تخليق الآخر مبتدعا خياليا، ولو كمرحلة حتى أنه خطر لى رؤية توازى خروج رامة من خيال ميخائيل مع خروج حواء من ضلع آدم عليه السلام،،، ولو صح هذا الخاطر فإنه مدعاه للتسليم باستحالة وجود الآخر موضوعا واقعيا. إلا بدءا بتخليقه، ولم أتمادى.
(13) لعله التنين، لم أقرأ رامة والتنين بعد!!! وأيضا فقد جاء فى المرجع السابق (هامش 12) وصفا لما أسميته الوجود المثقوب ذلك أن أعظم خوف يمر به البارنوى، هو خوفه من الاقتراب من الآخرين “إذ فى الداخل وحش سلبى متحفز، فى صورة طفل جوعان”، (ص 303، هامش 12)، أما كيف يكون الطفل وحشا سلبيا متحفزا فقد ورد فى شرح ذلك… والرؤية الأعمق تؤكد الجانب السلبى المتوحش فى الوجود الطفلى المقابل لهذا المستوى (البارنوى). الخ
(14) فكرة إعادة الولادة ترجع إلى عدة مدارس نفسية وهى عميقة ومتكررة فى أعمال كثيرة، وأهم ما نشير إليه هنا هو فكر إريك إريكسون فى كتابه الأساسى الطفولة والمجتمعErik Erikson.
Childhood and Sociely Penguin Books.1972 حيث نمو الإنسان يمر من خلال مراحل ثمانية تمثل كل مرحلة عصرا كاملا (عمرا كاملا) يبدأ بولادة جديدة، ليخرج منها إما ناميا إلى المرحلة التالية وإما مكسورا،من الداخل على الأقل، فى انتظار رأب جديد فى مرحلة لاحقة، وما يهمنا فى هذا الصدد هو المرحلة الأخيرة المسماة “تكامل الذات فى مقابل اليأس Ego Integrity versus Despair حيث هى المرحلة التى إما أن ينضج فيها الفرد ليقطف ثمار المراحل السبع السابقة، أو يعلن هزيمته فى نهاية العمر، وبدخول الفرد فى هذه الأزمة فإنه يمر بالمراحل السابقة بسرعة غير ملحوظة ثم يواجه باحتمال أن يكمل من جديد: إما إلى التكامل أو إلى التسليم، ولم يشرح إريك إريكسون هذه الأزمة مستقلة وإن كان قد شرح نتائجها المحتملة.
وباستعارة فكر آخر من المدرسة التطورية الإيقاعية (يحيى الرخاوى: هامش 12، وغيره) يمكن أن تسمى هذه الأزمة (مثل كل أزمة نمو) أزمة “الماكروجينى الختامية”The Final Macrogeny Crisis وفيها يستعيد الإنسان مروره سريعا بنموذج المراحل السابقة: أى العزلة (الشيزيدية) فالكر والفر (البارنوية) فثنائية الوجدان (الاكتئابية) فإذا نجح فى ذلك كما المرات السابقة وأكثر، انتهى إلى التكامل، وإذا فشل انتهى إلى اليأس والتسليم، وقد أوردت كل هذا الشرح لأؤكد أن سن ميخائيل- سن السبعين وأكثر – ليس حائلا دون المرور بأزمة كاملة للنمو دون أن تسمى مراهقة، فهى أزمة أصيلة تمر بنفس المراحل التى مر بها الفرد منذ الولادة، وفى كل أزمة نمو دون استثناء، إذ يستعيد الشخص ما سبق أن عاشه بسرعة، ويضيف إليه نوعيا ما أمكن حسب نتاج مراحل نموه السابقة.
ويختلف الوعى بمثل هذه الأزمات من فرد لفرد، كما يختلف التعبير عنها وتقمصها من مبدع لمبدع، ومغامرة الخراط فى هذه السن تعتبركشفا غير مسبوق بهذا الحجم، وهذا العمق
(15) يقين الكتابة (ص 129) مقتطفا من مجلةالكرمل العدد 36 37/ ص 232
(16) يستعمل هذا التعبير – العلاقة بالموضوع – ليعنى علاقة الفرد بالآخر أساسا، (انظر هامش 6) أى أن الموضوع الأساسى فى المدرسة المسماة بهذا الأسم هو “الكائن البشرى الحى الآخر “، بدءا بالأم من قبل الولادة، إلا أن الموضوع من حيث المبدأ لا يقتصر على الإنسان، بل قد يمتد إلى موضوعات حية أو غير حية (يمكن إحياؤها)، حيث يشحن الموضوع بـ”الطاقة” الحياتية/ الحيوية) الصادرة من الذات (دون تحديد دافع غرائزى معين، وإنما بدفق كلية الوجود) كذلك يشمل العلاقة بالموضوع إشارة إلى “الموضوعات الداخلية “على الرغم من أنها ليست فى ذاتها مواضيع إلا بتوظيفها لبداية أو إرساء علاقة مع موضوع خارجى، والموضوعات الداخلية ليست قاصرة على ما “تحتويه” الذات أثناء النمو، وإنما هى تشمل الموضوعات الكامنة منذ قبل الولادة (حسب فكر المدرستين ذاتى الأصل البيولوجى للتركيب النفسى: مدرسة التحليل التفاعلاتى والمدرسة الإيقاعية التطورية).
(17) فرويد:ما فوق مبدأ اللذة (1966) الطبعة الثانية (ترجمة إسحق رمزى) القاهرة دار المعارف.
(18) إريك إيكسون: الثقة الأساسية التى قال بها إريكسون (هامش 14) والتى يشار إليها هنا هى أولى مراحل (عصور) نمو الإنسان عقب الولادة مباشرة، وهى تشير إلى الطمأنينة القصوى التى يعيشها الرضيع فى رعاية وتحت حماية الأم، وكأنه مازال فى أمان الرحم (الجسدى)، وهى تختلف عن نوع آخر من ثقة أساسية تتحقق بالتكامل والتصالح مع المطلق فى حضن الكون الأعظم، أو مع مشاهدة وجهه تعالى قرب نهاية العمر بعد السعى المتصل.
(19) حين رحت أقرأ هذا العمل بدا لى أنه ينبغى على أن أبدأ بمايعتبر هذا العمل مكملا له، أى: رامة والتنين والزمن الآخر – وهكذا أوصونى أيضا، وخاصة لما شاع أن هذه الأعمال هى سيرة ذاتية، ولكننى عدلت لأسباب عملية، وأظن أن ذلك قد وضعنى أمام تحد أفادنى حين قرأت هذه “الجملة المفيدة” (هذا النص) مستقلة هكذا، يستثنى من ذلك ما اقتطفته من حسنى حسن (يقين الكتابة -هامش 11) ثم العشرون صفحة الأولى من رامة والتنين.
(20) لا أعرف زمن كتابة الرواية، لكن ثمة أحداثا تشير إلى ذلك: كان يعمل مع خاله سنة ” 1938 (ص271) “أثناء عملى الصبيانى الجاد مع خالى ناثان” فى إعادة رصف طريق المعاهدة الذى أصبح الآن الطريق الصحراوى،… منذ أن كنت فى الثانية عشرة. ويؤكد هذه السن ما تذكره حين سماعه الأغنية القديمة (لما انت ناوى تغيب على طول) من الجرامافون ذى البوق الكبير من أكثر من 60 سنة، وكان عمره حول العاشرة. ص 293
(21) يقين الكتابة حسنى حسن (هامش: 11:” 21- ا- ص 115 21-ب- ص120،
21-جـ – 124″) رغم أن حسنى لم يكن قد قرأ بعد هذا العمل على ما أعتقد “
(22) لمزيد من التحديد ننبه إلى أن استعمال لفظ “الشيزيدية، هنا هو بديل عن تعبير أطول يقول “الشخص فى المرحلة الشزيدية”، وكذلك للاختصار والسلاسة، لذلك وجب التنويه على أن لفظ “الشيزيدي” هذا لا يعنى أن شخصا بذاته يمكن أن يوصف بهذا الوصف دون سواه، كما لا تعنى هذه الصفة “الشيزيدية” إشارة إلى سمات محددة لشخص ما، بل إن المقصود بكلمة الشيزيدى هو:”أى شخص يعيش المرحلة الشيزيدية، وخاصة حالة كونه يتململ فيها، أو يحاول الخروج منها، ولا يصبح الشخص شيزيديا – كصفة لنمط شخصية بذاتها – إلا إذا استقر فى هذه المرحلة تركيبيا وديناميا وسلوكيا، وهذا ليس موضوع هذه الدراسة.
ثم إن كلمة “المرحلة الشيزيدية”، وهى المرادف لكلمة”الموقع الشيزيدي” لا تعنى مرحلة عمرية بذاتها، رغم أنها تبدأداخل الرحم ثم تمتد بضعة أسابيع إلى شهور بعد الولادة، وإنما تعنى أولى مراحل البسط (إعادة الولادة) فى أى أزمة نمو لاحقة، بمعنى أنه إذا كان تسلسل أطوار النمو يبدأ بالمرحلة الشيزيدية (الموقع الشيزيدى) ثم البارنوية، وهكذا، ذلك أن هذه الدورة تتكرر فى كل أزمة نمو، أو أزمة بسط أو أزمة إبداع بنفس الترتيب وتمر بنفس المراحل، مثلا: فى أزمة المراهقة، وأزمة منتصف العمر، وأزمة الشيخوخة ثم فى أزمات أخرى كثيرة، أقصر وأخطر، وخاصة أثناء التفكير الإبداعى، حيث تتكرر المراحل، مما لا مجال لتفصيله هنا، وعلى ذلك فالموقع الشيزييدى والمرحلة الشيزيدية عملية متكررة، معادة، مستعادة، فى ظروف كثيرة، ومختلفة، وفى كل مرة يتم تجديد معايشتها وتتقدم الخطى لحلها ما أمكن
(23) وهذا ما أتحفنى به المؤلف متفضلا بناء عن طلبى (أ) رامة… غنوصية محدثة وملتبسة، إداور الخراط، الأهرام 16 مايو 1997. (ب) العطش يقينا: صورة الفنان فى شيخوخته المشبوبة، فريال جبورى غزول، نشرت فى فصول المجلد الخامس عشر صيف 1996. (جـ) “عطش يقين السؤال.. يقين عطش العرفان” “رامة… أسطورة عشق من زمن النور والظـلمة”، حسنى حسن، مجلة سطور سبتمبر 1997. (د) يقين العطش، د. ماهر شفيق فريد، إبداع أغسطس 1997. (هـ) يقين العطش/ يقين الغرام، عالية ممدوح، الحياة 13 نوفمبر 1997. (و) غياب الوعى وتشجيع التفاهة وراء ما يسمى بالفتنة الطائفية، حوار حول رواية يقين العطش، مع إدوار الخراط، 14 يوليو 1997. (ز) عطش كأنه اليقين، محمد برادة، الوسط 18 أغسطس 1997. (ح) غنوصية واقتحام الأسئلة الكونية والحب قرين المعرفة، إدوار الخراط، الرأى العام 2 يونيو 1997. (ط) عاشق ضائع بين التحقق والإستحالة، إدوار الخراط، الشرق الأوسط، 2 أكتوبر 1997. (ى) مدارات إدوار الخراط، أنطوان أبو زيد، السفير 15 أغسطس 1997. (ك) مناخات سردية متعددة لرمزية الظمأ والعطش، إدوار الخراط، 17 سبتمبر 1997.
(24) إشارة إلى رأى الكاتب فى رامة، وخاصة فى الأهرام: أنظر هامش 22 (أ)
(25) الفرق بين الشيزيدى والفصامى هو زوال هذه القشرة الزجاجية الصلبة الحامية عن الهشاشة والخافية للتناثر الداخلى، عن عيون من هم بالخارج، وليس بالضرورة عن رؤية صاحبها،
وتعبير شبه الفصامى الذى كنا قد رفضناه ابتداء ترجمة لكلمة شيزيدى، إنما يشير إلى هذا الشبه من حيث أن الشيزيدى: “مشروع فصامي”، فضلا عن أن الفصامي
(26) هذه الصورة رسمتها بالتفصيل فى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجي” ص 847، شعرا (” ديوان سر اللعبة”): (الثور الأعمى فى فلك دائر، يروى السادة بالماء المالح… تتلقفنى الأيدى الصـماء… أنسج حولى شرنقة الصد)، ولم يشمل الشرح على المتن هذا المقطع بالذات – على سبيل الخطأ- لكن شرح ما قبله وما بعده ص 292 إلى ص 307، وفيه بيان لماهية أساليب الموقف البارنوى فى التوجس والتقوقع والصد وجدير بالملاحظة أن جدار الصد غير شرنقة الصد، ففى حين يوحى الجدار بدوام الحيلولة، تفيد الشرنقة بأنها مرحلة مفيدة فى دورة حياة
(27) لمعرفة المزيد عن “الموضوع الداخلي” الذى هو محور أساسى من محاور مدرسة “العلاقة بالموضوع” يمكن الرجوع إلى جانترب (هامش 6) وإلى النفس المنشطرة (هامش 28). والفكرة الأساسية هى أن إدخال “الموضوع” إلى داخل النفس هو جزء هام وضرورى فى مراحل التطور الأولى، لكنه إذا زاد عن كونه مرحلة، وأصبح دفاعا (ميكانزما) لإلغاء الموضوع الخارجى، ثم أصبح مصدرا لتشويه الواقع بالإسقاط، فإنه ينقلب عاهة مشوهة أو مرضا.
(28) توجد عدة صور لأسطورة “ميديوزا”، منها أنه كان من ينظر إلى عينيها الجاحظتين – بعد اللعنة – ينقلب جمادا، ومنها أن من كان يتلقى نظرات عينيها هى هو الذى يتجمد، وقد قرأ هــ لانج، هذا التجميد على أنه دفاعها – بنظرات عينيها – ضد أعدائها، وكل هذه الصور هى من ميكانزمات الشيزيدى فى تعامله مع الأحياء (الموسوعات +)H. Lang (1965) the Divided Self، Pelican Book، Great Britain Cox & Wymen Ltd، London.
(29) “تعيين المجرد” (بنشاط إيجابى) active concretization وصفه سيلفانو أريتيSilvano Arieti: Interpretation of Schizophrenia 1974 (London Grosby bookwoord staples).، كما وصفه هـ لانج (هامش 28) تحت اسمReification، وكلاهما يعنى كيف يقلب المفهوم المجرد إلى كيان مادى كحيلة للسيطرة عليه، والأمان تجاهه، معا.
لا يرمم من الظاهركما يفعل الشيزيدى، وإنما يلقى بأثقال كتل الترميم كيفما اتفق، فيزيد التناثر جمودا هامدا إذ يثبته ظاهرا للعيان كمرض خطير. وقد كان لى صديق أصغر -شيزيدى غير مريض- عبر عن هذا التقطيع الداخلى وهو يقاوم محاولة نمو تلوح له بخروجه من قوقعة شيزيديته، وقد وصف لى هذا التقطيع من الداخل بأنه يشعر أنه مثل الثعبان الذى كف عن تغيير جلده، ثم راح يتفتت من الداخل دون أن يشعربه أحد، وقد ذكر لى ذلك فى سياق “ألا أحاول”، فهو لن يسمح لنفسه بأى اهتزازمعلن، حتى لو كان هذا الاهتزاز هو السبيل الأوحد لاستمرار نموه .
(30) يرجع هذا النوع من الصراخ الصامت، إلى أصل… (العجز) عن التواصل اللفظى، والذى يمثل بؤرة الوجود الشيزيدى (ضد الفصام الظاهر: هامش 25)، كما يرجع إلى جذور فشل مشروع الفصامى فى توظيف الكلام للتواصل (دراسة فى علم السيكوباثولوجى، المرجع: هامش: 12) ص 414: “… فهو راجع مهزوم من هذه الرحلة، رحلة التواصل مع الآخر الفاشلة، وهو غير مستعد لمعاودة المحاولة، فلتبق الصيحة أنينا مكتوما، ويظل – القبـمـدك Pre-perceptعائما بلا لفظ يمتهنه أو يشوهه”: وقد عبرت دراسة فى علم السيكوباثولوجى عن ذلك شعرا: “أحكى فى صمت عن شيء لا يـحكى، عن إحساس ليس له إسم، إحساس يفقد معناه، إن سكن اللفظ الميت” إلى أن قلت: “وفتحت فمى، لم أسمع إلا نفسا يتردد، إلا نبض عروقى، وبحثت عن الألف الممدودة، وعن الهاء، وصرخت بأعلى صمتى، لم يسمعنى السادة، وارتدت تلك الألف الممدودة مهزومة تطعننى فى قلبى، وتدحرجت الهاء العمياء ككرة الصلب، داخل أعماقى…..إلخ.
(31) لا يتشكل الموضوع فى شكل “الآخر مصدر الحياة” (الرضاعة والرعاية)، أى “الآخر المحب” إلا والشخص ينتقل من المرحلة الشيزيدية / البارنوية إلى ما يسمى المرحلة الإكتئابية (أو الموقع لإكتئابى – وهذا ليس له علاقة مباشرة بما يسمى مرض الإكتئاب).
(32) ثنائية الوجدان هنا ليست عرضا ظاهرا، لكنها تشير إلى موقف غائر، وهو الموقف الذى يجمع – فى آن واحد – بين استقبال الآخر (الموضوع) كمصدر للحب، وفى نفس الوقت كمهدد بالهجر فالضياع، وهذا غير ثنائية الوجدان العـرض الإكلينيكى – التى يشعر فيها المريض (أو الشخص) بمشاعر متناقضة ظاهرة نحو شخص آخر فى نفس الوقت، والتى تظهر أكثر فى مرضى الفصام، وقد لزمت هذه التفرقة لأن هذه الثنائية على مستوى السيكوباثولوجى هى موقف إكتئابى خالص، أما على مستوى “الأعراض الإكلينيكية الظاهرة Symptomatology فهى عرض من أعراض الفصام دون الإكتئاب.
(33) ويمكن الرجوع إلى وصف هذا الموقع الإكتئابى المطابق لما جاء فى هذا النص فى “دراسة علم السيكوباثولوجي” (هامش: 12، خاصة من ص 190 وما بعدها”)، حيث أنه مع التهديد بالوحدة فالجفاف نتيجة للحرمان من الآخر، يبدأ النامى (طفلا وغير ذلك) فى تحسس طريقه إلى الآخر باعتباره مصدر الرى (الحياة وأمان المعيشة)، (شعرا: سـقـطـت أوراقى: لكن العود أمتد فى جوف الأرض…، إذ لو نزل القطر فلقد يخضر العود، أو ينبت منه الزهر”) وهذا تعبير عن أن النامى يبدأ بتحسس احتمال الاطمئنان للآخر مصدر القطر الذى قد تدب بسببه الحياة، لكن فى نفس الوقت فإن هذا الموقف يهدد “بالتـرك، بالهجر” (شعرا: لكن البقرة قد تذهب عنى، وأنا لم أشبع، لا لن أسمح، ليست لعبة)، وتبدأ مناورات الاستحواذ والملكية (شعرا: لا لن أسمح، ليست لعبة، هى ملكى وحدى: أضغط: تحلب، أترك تتنضب، أضغط تحلب، أترك تنضب، وتفشل الملكية أيضا بدرجة ما، فيلح التساؤل خوفا من الهلاك (شعرا: لكن هل تنضب يوما دوما؟ أفلا يعنى ذاك الموت؟ ملكنى الرعب.. واللبن العلقم يزداد مرارة”) وحين يصل الأمر إلى ثنائية الوجدان هكذا يقفز الحل الإنسحابى (الشيزيدية) مرة أخرى، لكنه ليس إنسحابا سهلا، وإنما لابد من جريمة تـسـهـله (شعرا: فكرهت الحب، وقتلت البقرة)، ثم يقفز الشعور بالذنب لأن قتل الموضوع هذه المرة لم يكن تخلصا من عدو خطر، وإنما كان هربا من احتمال هجر محبوب واهب للحياة فعلا، ومن ثم يأتى الندم على قتله. (أنظر نفس المرجع، ما بعد ص.190)
(34) ليس واضحا كيف يكون فيها تلفه، ولذلك عدة تفسيرات، من بينها أنه إذا احتواها اختفى، وهى أيضا إذا احتوته اختفى، وهذا ما أدركه حسنى حسن ولكن من مقطتف من “الزمن الآخر” “عندما أجدها أفقد نفسى، عندما أجد نفسى أفقدها ” الزمن الآخر. دار شهدى 1985 ص12، حسني (هامش 11 ص131)
(35) نوقشت هذه الظاهرة (حـيل الإبعاد) فى المرحلة البارنوية (الموقع البارنوى) مناقشة كاملة فى:”دراسة فى علم السيكوباثولوجي” (هامش: 12، ص 383 وما بعدها)، وقد تناولها حدس النص الحالى باستفاضة شاملة، ويمكن الرجوع إلى تفاصيل المقابلة، وسوف أكتفى هنا بإيراد المتن الشعرى للسيكوباثولوجى لعله يغنى: لا تقتربوا أكثر، إذ أنى، ألبس جلدى بالمقلوب: حتى يـدمى من لمس “الآخر”، فيخاف ويرتد، إد يصبغ كفيه. نزف حى.” فيلاحظ هنا أن هذا المقتطف يكاد مطابقا لما جاء فى النص الحالى مثل قوله ” لأنها تعرف فى عمق ما فيها، أننى أريدها أن ترفضني”، ويتأكد هذا الموقف ويرتبط بالتوجس والحذر والجذب الشيزيدى (الشق الثانى للموقف) فى المتن الشعرى – للسيكوباثولوجي- القائل: أهرب منكم، فى رأسى ألـفـى عين ترقبكم، تـبعدكم فى إصرار (ص: 292 – 293)، وتنتهى المأساة – سيكوباثولوجيا – كما انتهت فى الرواية يقول السيكوباثولوجى شعرا (المتن) “… لكن بالله عليكم، ماذا يغرينى فى جوف الكهف، وصقيع الوحدة يعنى الموت؟ لكن الموت الموت آمـر حتمى ومـقـدرا، أما فى بستان الحب، فالخطر الأكبر: أن تنسونى فى الظل، ألا يغمرنى دفء الشمس، أو يأكل برعم روحى دود الخوف، فتموت الوردة فى الكفن الأخضر، لا تتفتح، والشمس تعانق من حولى كل الأزهار، هذا موت أبشع”، لا…. لا تقتربوا أكثر، جلدى بالمقلوب، والقوقعة المسحورة تحمينى منكم.
وقد أطلت هذا المقتطف لأنه شديد التطابق مع الفرض الذى أسعى لتحقيقه من خلال هذا النص، (ويمكن الرجوع إلى الشرح المطول فى المرجع الأصلى هامش 12)
. (36) وهذا ما عبرت عنه فى نفس مرجع السيكوباثولوجى بألفاظ تكاد تكون مطابقة: (هامش 12ص302:) – تحت مفهوم: العدوان بالإبعاد كحيلة جاهزة لإجهاض أى مشاعر صادقة، وتشويه أى اقتراب حان، خوفا من الإعتماد على مصدر موضوع خطر، أو مهدد، أو مؤقت وقد صيغ فى متن السكوباثولوجى شعرا كالتالى: يا من تغرينى بحنان صادق فلتحذر، فبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص إلى جوف الكهف، وبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون هجومى لأشوه كل الحب وكل الصدق.
(37) فى صورة موازية رسمت هذا الموقف – سيكوباثولوجيا وعلاجيا أيضا، فى صورة بالعامية (أغوار النفس: من واقع العلاج النفسى والحياة دار الغد للثقافة والنشر 1978) ص 90… عايـزنـى ؟ عايزينى كما الوحش الكاسـر، ولا مكسور القلب هزيل” إلى أن قال “أنا خايف من لــمـس أديكم، خايف تفعـصــنى أنت وهوه وتقولوا بنحب، إيش عرفكم باللى ما كانـشى، باللى مالوهـش، باللى ما بـانــش، سايح نايح، لكن باحـسب، باحسب خوفكم، خوفى منكم، مخى مـصـهـلل، وبيتفرج ولا فيش فايدة” ويهيئ هذا الخوف نزوع الخائف من “الآخر” إلى العودة إلى الرحم: “فينك يامـه، نفسى اتكوم جـواكى تانى، بطنك يامـه أأمن وأشرف من حركاتهم”.
(38) مسألة العجز عن الأخذ هذه مسألة دقيقة جدا، وقد اكتشفها النص الحالى بحدس رائع، وقد صورها السيكوباثولوجى (هامش 12) ليشير إلى أن الأخذ عند الشيزيدي/البارنوى هو بمثابة إطلاق سعار دوامة لا تتوقف، ولا تشبع حتى أسماه متن السيكوباثولوجى الشعرى: “غول الأخذ”، وهذا هو مقابل العطش المالح الذى تكرر ذكره هنا، ويمكن الرجوع إلى التفاصيل فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى (هامش 12) ص 295 وما بعدها لنكتفى هنا بذكر المتن شعرا: لكن الآخر يحمل خطر الحب، إذ يحمل معه ذل الضغف، يتلمظ بالداخل “غول الأخذ” “وأنا جوعان مذ كنت” بل إنى لم أوجد بعد.
(39) فقرة “بل إنى لم أوجد بعد ” هى تفسير أن الأخذ لا يروى إلا كيانا تخلق ولو قليلا، أما إذا كان عدما خالصا مغطى بأقنعة كثـر، ومحتميا داخل قوقعه خادعة، فيصبح فى الأخذ خطر التهام ليس له نهاية، وقد جاء هذا الوصف فى المتن كالتالى: فإذا أطلقت سعارى بعد فوات الوقت، مـلكـنى الخوف عليكم، إذ قد التهم الواحـد منكم تلو الآخر، دون شبع
(40) الفكرة الغائية أو المركزية، ليست تفكيرا محددا فى أمـر ما، لكنها إشارة إلى محور نفسى ضام يجدد ويجذب توجه الوجود، سواء وصل إلى وعى صاحبه أم لا – (ويمكن الرجوع إليها فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجية” هامش 12 ص 58، 59، 373، 377).
(41) أو بين رامة والتنين: ربما!! (لم أقرأها)
(42) كتبت فى ذلك (للسيكوباثولوجى والعلاج معا) فى “أغوار النفس” (هامش 37) هذا المعنى الذى يشير إلى الخوف من غمر نوع من الحنان غير المشروط، وبلا حساب، فى وصف إحدى العيون: “والنظرة دى رخرة عجب، ما باشوفش فيها إلا شيء كما الحنان، لا له شروط، ولا سبب، وأقول لنفسى يا ترى: هوه حنان الدنيا كله اتجمع الليلة هنا ؟ عمال بيغمرنا كده من غير حساب كما ترعة سابت فى الغيطان، إللى بطوانها اتشققت…” إلى أن يقول: وارجع أشوف بحر الحنان، ألقاه بيطفى فى الشراقى بدون أوان”، وأخيرا يختم قائلا.. يا ست يا صاحبة بحور الحب والخير والحنان، إوعى يكون حبك دهه “قـلة ما فيش” إوعى يكون حبك طريقة للهرب من ماسكـة المحرات وصـحيانك بطول الليل ليغرق زرعنا” ثم يحتد الخوف من الحنان حين تتبدى صعوبة الاختيار بين العطش (سواء كان يقينيا أو مالحا) وبين الغرق فى الحنان قائلا: “من كتر ما أنا عطشان باخاف أشرب كده من غير حساب، لكن كمان، مش قادر أقول لأه وانا نفسى فى ندعة ميـه، من بحر الحنان، يا هلترى: أحسن أموت من العطش ولا أموت من الغرق” (أغوار النفس المرجع: هامش: 35)
(43) هذا ما أسميته فى دراسة السيكوباثولوجى (هامش 12) الحاجة إلى الشوفان ص 529، 00 وهى حاجة أساسية للاعتراف من جانب الآخرين بوجودى (بوجود الذات)، الاعتراف غير المشروط، والشوفان كلمة عربية: “إن الكريم إذا يـشاف رأيته مبرنشقا وإذا يهان استزمرا” وهذا مايسمى من مدارس أخرى الجوع للاعتراف من الآخرين، recognition hunger
والشوفان لا يؤدى وظيفته الجوهرية إلا إذا كان لما هو موجود فعلا، وليس لما هو مصنوع أو ممتخيل أى أن يرى الشخص بما هو تماما، ظاهرا وباطنا، لا أكثر ولا أقل.
(44) تستعمل كلمتى العقل والعقلنة هنا بمعنى محدد إذ تشير إلى حيلة نفسية يغلب فيها التفكير التفسيرى المغترب، ويحل محل الوجدان والفعل والحركة الكلية، وهى أقرب ترجمة إلى كلمة Intellecutlization، وعلى ذلك فعلاقتها ضعيفة بالعقل بمعنى الحكمة أو التعقل، أو التفكير المنطقى، والعقلنة التى تسمى أحيانا “الذهننة” تختلف عن التبرير حيث أنها تفكير صحيح وتفسير مناسب وان كان منفصلا، أما التبرير فهى تفسير عقلى يجانب الحقيقة يغطى به المشخص حقيقة، أو أصل، القضية.
(45) استعمل حسنى حسن فى عنوان كتابة “يقين الكتابة” عنوانا فرعيا يقول”: إدوار الخراط ومراياه المتكسرة وأحسب أنه وصف مناسب كمدخل لما أريد تقديمه هنا، حيث المرايا هنا متكسرة فعلا لكنها: (أ) داخلية (ب) وسرية (جـ) ومصقولة مع أنها شظايا، (ء) ومرمـمة، فهى متعددة فى آن.
كما تذكرت نصا شعريا لم ينشر، إستلهمته من خبرة علاجية مكثفة مع مريض مثابر، كنت قد حاولت فيه أن أصف هذا التشظى، ومحاولة لملمته من خلال ؤية الآخر له: يقول:
(1) ألملمنى من شظايا المرايا، وأقنع بالهمس وسط الزحام بقايا الحديث، وسقط اللقاء،زوايا النظر (2)تمــر الرياح محملة باللقاح،أدفئ بيضى، أرتب عشى، أميل مع الميل أجرى لها، أعلق روحى بمنقارها (3) أعـدل وجهى، أعــد ابتسامه، أسوى رباط العنق، ألاحق دورى، أعد الخطى، أرتب لفظي[ تراها ترانى ؟]، فألصق وجهى بين السياج، فتغفلـنى، أسترق النظر، أجمعنى ضاغطا بالحزام، لنغفو جياعا (4) أمد الذراع ألامس طرف الحــــفيف، أرتبنى من جديد، ألاصقها من بعيد، أكور مقطع لفظ وليد، أوسدنى عقلة الإصبع، أمصمصها علقما فى دمى، ألـــملـمنـــى، أحتلــم
(46) هنا نستعمل لغة التحليل التفاعلاتى Transactional analysis ولا مجال للتفصيل فنكتفى بالتذكرة أن هذا التحليل التفاعلاتى بدءا من إريك بيرن (Berne E. (1961) Transactional Analysis in Psychotherapy. New York: Grove Press Inc). ينبه أن الإنسان مركب من حالات ذوات متعددة Ego states وأهمها الحالة الوالدية، والحالة الطفلية، والحالة اليافعية، وكل منها يمثل كيانا تنظيميا قادرا على قيادة السلوك فى الوقت المناسب، ويتم التصالح وتتوازن الصحة بمرونة الانتقال من حالة إلى حالة، وتناسب المستوى القائد (حالة الذات) مع الظروف المحيطة فى لحظة بذاتها. وفى الأحوال المرضية تفتقد الشخصية إلى هذه المرونة، أو تتصارع حالات الذات بدلا من أن تتبادل، أو يختل التناسب، والشرح، وكل هذا إنما يشير إلى هذا التركيب الداخلى للشيزيدى (كشخص).
(47) ويصل الأمر فى بعض الحالات إلى رهابات التشويه الجسدى Dysmorphophobia أو الضلالات الجسدية Somatic delusions حيث يكون الاعتقاد بالتشوه -مثلا- راسخ درجة لدرجة عمل عمليات تجميل بلا مبرر بما قد يترتب عليه من آثار سلبية
(48) الفص الشمى فى الدماغ Olfactory lobe كان هو كل مخ الأسماك عبر التطور الحيوى حين كانت حاسة الشم هى المختصبة باختبار البيئة الملائمة للحياة، ثم تطور المخ، ونشأت بقية الفصوص، وظل الفص الشمى هو مركز الوجدان الأول أو الأساس بشكل أو بآخر.
(49) يقين الكتابة حسنى حسن هامش 11 (ص: 115)
(50) يزعم كارل يونج أن لكل ذكر ذات أنثويه فى لا شعوره الأعمق، ولكل أنثى ذات ذكرية كذلك، وهذا مقابل ما يسميه العامة القرين، وهو الذى يعبر عنه حين يقع أحدهم -طفلا عادة – على الأرض، فتهتف به أمه: إسم النبى حارسك وضامنك، وقعت على اختك أحسن منك (إن كان طفلا ذكرا) توقيا أن بترتب على القعة ارتججا يسمح بإطلاق سرح الداخل دون وصاية الشعور، أم فرويد -ومع صديقه فلايس وهما يتراسلان- فقد زعما أن المحبوب عادة ليس إلا مسقطا للصورته المرغوبة فى الداخل، وفى حالات النضج والتكامل تكون الممارسة الجنسية بين اثنين هى فى واقع الحال ممارسة بين أربعة، حيث ثمثل كل من الداخل والخارج تنظيما مشاركا فى العلاقة مما لا مجال لتفصيلهالآن.
(51) حسنى حسن، يقن الكتابة (هامش 11) ص 120
(52) حسنى حسن، يقن الكتابة (هامش 11) ص 117
(53) وهذا قريب مما حدد د. هـ. لانج حين يتحدث عن الجسد المفارق للذات وبالعكس Disemboded self (المرجع: هامش 28)
(54) حضرتنى هنا رواية ميلان كانديرا “كاكائن ذن لا تحتمل خفته”
(55) إن تجريد المتعينAbstractization of the concrete، يؤدى نفس وظيفة التعيين النشط للمجرد active concretization فكلاهما يخلق عالما من صنع من يفعل ذلك (الشيزيدى عادة) وبالتالى يصبح تحت سيطرته تماما بديلا عن العالم الواقـعـى المهدد.
المحتوى
مقدمة: عن المسألة والفرض ……………………………………………………………………………………………………………………………..
الجزء الأول: عن العطش واليقين ………………………………………………………………………………………………………………………..
الجزء الثانى (محور الدراسة): جدل الأنا و الآخر، والظاهرة الشيزيدية.………………………………………………………
الجزء الثالث: العقل الرحم، والجسد المستبدل …………………………………………………………………………….…………………….
خاتمة وتعقيب: ………………………………………………………………. …………………………………………………………………………………..
الهوامش: ………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
الملاحق: ……………………………………………………………….……………………………………………………………………………………………
تفاصيل المحتوى
المقدمة: تمهيد: مدخل: الفرض: الجزء الأول: عن العطش واليقين: (1) تساؤلات مبدئية: (2) الخدعة:
(3) الأسئلة الإجابات، والإجابات المتسائلة: (4) يقين العطش والإيمان بالغيب (5) الفرض: إجابة محتملة (6) الامتلاء نتيجة معايشة ‘لحظة ‘حقيقية (7) العطش الآخر (سعار شرب الماءالمالح) (8) الوحش بالداخل يتخبط وسط أمواج ‘المالح’ (10) اليقين والإيمان (11) العطش: إستمرار لحياة أم دوامة لعدم؟ (12) الحفاظ على الطزاجة بنقص الوصول (13) اليقين هو الامتلاء القلق وليس السكون؟ (14) النهاية المفاجأة (15) وبعد الجزء الثانى: الظاهرة الشيزيدية: واستحالة الممكن (إلغاء الآخر – الممكن- وألم المواجهة) أولا: حتمية العلاقة (الموضوعية) بالآخر ثانيا: قراءة مستقلة لسيرة ذاتية(مصنوعة) ثالثا: ترميم الذات من الداخل بديلاعن النمو نبدأ من الآخر رابعا: الشيزيدى والعلاقة بالآخر (المستحيل و الممكن!) 1- الشيزيدى – فى نهاية النهاية – مشروع إنسان عاش-يحاول ‘نحو’ موضوع (حقيقى)، بلا طائل 2- الشيزيدى إذن ليس قتيلا، لم يقتله أحد، بل هو الذى حرم نفسه من الحياة، رغم صدق المحاولة 3- والشيزيدى يحتوى الموضوع التهاما 4- الموضوع الداخلى يدعم الشيزيدي داخليا إلا أنه يصبح أشد شراسة 5- و هو يخاطب نفسه – داخله – باعتبارها ذاتا داخلية مستقلة (أحيانا) 6- والشيزيدى يــشـيئ الحياة والأحياء 7- وكما يشيئ الشيزيدى الأحياء، ويعين المجرد، هو يوقف الحركة، 8- والشيزيدى يعيش ‘مماسا’ لكل الأشياء 9- والشيزيدى يوهم بأنه يريد الآخر حتى الاستغاثة، لكنه يصرخ بأعلى صمته (لا صوته) 10-وحاجز الشيزيدى ضد الاقتراب ليس كمثله شيء 11- وموقف الشيزيدى من الحب أمره صعب أشد الصعوبة 12-وفى محاولات الخروج من المرحلة الشيزيدية يتخذ موقف الكر والفر (13) والشيزيدى لا يعيش ‘الهنا والآن ‘إلا نادرا 14- والشيزيدى يتقن العدوان السلبى 15 – والشيزيدى (البارنوى) يتقن لعبة دفع الآخر للرفض 16- والشيزيدى يشعر بثقل العلاقة الآخر 17- صورة الشيزيدى عند الآخرين (من وجهة نظره) 18-‘عدم القدرة-العجز-عن الأخذ’ 19-الهرب فى ‘ المطلقات’ والكليات، والمجرد 20- إشكالة الندية 21- مرة أخرى الخوف من الهجر(الترك- النسيان) 22- فماذا عن شيزيدية رامة؟ وعلاقتها بالآخر؟ |
23- هل حل الشيزيدية هو تعدد العلاقات؟24-الشيزيدى يخاف حنان الشبق25-إستبدال برنامج الداخل ↔ الخارج، بذبذة ‘نعم ↔ لا26- وهو يرفض الشفقة:27- والشيزيدى محصن – ضد العلاقة دائما بعدد من الأقنعة28- حتى الموضوع المتخيل البديل هو يتجنبه: 29-علاقة ألم الشيزيدى بصعوبة جدل الآخر:
30- الاعتراف بوصول الحب، بعد الإطمئنان إلى حتم الهجر:(!!) 31- والشيزيدى يحاول أن يتأله ليستغنى 32- النهاية / البداية الجزء الثالث: العقل (العقلنة)الرحم والجسد المستبدل أولا: العقل الرحم (تضخم عضلة العقل = فرط العقلنة) 1- الصمت الظاهر والحوار الداخلي 2- المشاركة العقلية بشرط 3- العقلانى ينكر العقلانية 4- تجريد الآخر بالعقلنة 5- دون جوان ودون كيشوت عقلانيان 6- الحب معادلة تجريدية 7- العقلنة حيلة لا شعورية 8- بريق المعرفة 9- رفض الإصاته 10- المعرفة شرط المحبة 11- آدم – والجنة وشجرة المعرفة 12- طرد آدم – تخل عنه 13- الأب النفسى الداخلى عقل طاغ 14- العقل والعقلنة المرممان الأعظم ثانيا: الجسد المستبدل محدودية الجسد (المتخيلة) الجسد لا يسع الروح صياغة الجسد ليوافق جسد الآخر امتزاج الجسدان محو لهما 1- الوعى بالجسد مع الانفصال عنه 2- فصل الجسد وإعادة تشكيله 3- الخوف من الاقتراب من جسد موضوعى 4- القطيعة بين الجسد والنفس 5- الجسم لا يـطاوع 6- الألفة مع الجسد رغم افتقاد الوحدانية 7- الشعور بعبء الجسد 8- الجسد الخالص للجنس 9- إلغاء الجسد 10- دلالة استعمال لفظى ‘فيزيقى - إكلينيكي’ 11- تطهر الجسد بطعن الجنس 12- الغربة رغم الالتحام الجسد 13- الجسد تخليق لم (لا) يتم 14- عبء الحضور الجسدى 15- العلاقة المماسية مع الجسد 16- إلغاء الجسد بالانمحاء فى العالم 17- تخليد الجسد فناء له خاتمة إثبات صعوبة العلاقات البشرية حتمية الآخر دلالة غياب التنافس الأوديبى ومأزق الانتحار اعتراف بالقصور ووعد بعودة
|
ملحق [1]
مقدمة فى المنهج
إشكالة المصداقية
مازالت مسألة المصداقية، ومنهج إثبات الفروض، وإمكان إعادة التحقيق من المسائل التى لم تحل فى العلوم الإنسانية جميعا، والعلوم النفسية خاصة، ومن وجهة نظرى فإن المقارنة تكاد تكون مستحيلة بين خبرة إنسانية وأخرى، بل إنها غير ممكنة حتى بين نفس الشخص وذاته طوليا، على أساس استحالة أن ينزل نفس النهر مرتين: كائن حي
فمن أين تأتى احتمالية التحقق بالإعادة
المصداقية بالاتفاق الطولى
ثم بدت لى المصداقية بالاتفاق وكأنها حل نسبى، لهذه الإشكالة، إلا أن الاتفاق بين المحكمين، أو بين المنتمين إلى مدرسة واحدة هو أمر مأخوذ عليه، وذلك لاحتمال أن يكون الاتفاق ليس بناء على توافق الرؤية الموضوعية، وإنما على اتفاف الإطار المرجعى، أو طرق التدريب، أوالأيديولوجيا المشتركة، لذلك خطر لى أن المصداقية بالاتفاق تكون فى أحسن أحوالها حين يفصل المكان، ثم الزمان بين المتـفـقـين، أى حين تحضر نفس الحقيقية فى وعى عقل بشرى بعيدا عن العقل البشرى الآخر بأميال أو بأحقاب من الأزمان، لأن هذا قد ينفى المظان التى أشرنا إليها حالا من تأثير الأيديولوجى الواحد، أو التدريب الواحد.
ومتى أقررنا هذا المبدأ فإننا يمكن أن نفسر به كثيرا مما يقال عنه سرقات أفكار، أو سرقات أدبية، بل إننا قد نفسر به أن سعى العقل البشرى نحو الحقيقة قد يجدها أو يبدعها فى وقت قريب من بعضه فى أكثر من عقل ليس بينهما صلة فيزيقية مباشرة، مثلما حدث لتشارلز داروين ووالاس بالنسبة لنظرية النشوء والارتقاء، ومثلما حدث بالنسبة لجيمس ولانج بالنسبة لنظرية الانفعالات
المصداقية بالاتفاق الموازى
وفى النقد الأدبى النفسى يمكن أن يكون هذا النوع من المصداقية هو المحقق الأول لسلامة المنهج، أى أن كلا من النص الأدبى والنظرية النفسية تقول نفس الشيء بلغات أخرى، وعن بعد كاف بينهما.
مثال ذلك تاريخا أن جزءا محوريا من نظرية فرويد كاد يحصل على مصداقياته من أوديب سوفوكل، ويمكن أن تحصل مسرحية الذباب لسارتر على مصداقيتها من علم النفس الوجودى دون ربط مباشر بينهما
إشكالة ذاتية
ولا أجد المناسبة سانحة لأعرج تفصيلا إلى إشكالتى الخاصة وأنا أسهم ببعض الإسهامات على جانبى القضية، إلا أننى سوف أكتفى بالإشارة إلى أنها إشكالة محرجة إذ تكاد تقلل من مصداقية كلا الإنجازين، بمعنى.
إننى إذا كتبت رؤيتى بلغة أدبية من حدس حر، قيل إنه يغلب عليها تنظيرات علمية تفسدها، فى حين أننا لو قرأنا نفس التنظير عند الخراط أو كانديرا أو برنارد شو، فإننا نصفق لهم لأنهم وصلوا بحدسهم الأدبى إلى ما وصل إليه العلماء.
ثم إنى إذا كتبت رؤيتى الحدسية من واقع الممارسة والخبرة علما باعتبار أنها علم له خصوصيته فى المنهج والتعبير، رفضت باعتبار أنها غير ملتزمة بالمنهج العملى المعروف، علما بأن المنهج العملى التقليدى لا يقدر أن يحيط بمثل هذه الحدوس أصلا
فلم يبق أمامى إلا مسألة المصداقية بالاتفاق هذه، التى أحاول أن أثبت بها رؤيتى الأدبية /العلمية -إن صح التعبير- من خلال ما أسميه النصوص الموازية.
ومن حسن الحظ أن بالنصوص المعاصرة، فى بلدنا هذا فى زمننا هذامن الثراء والحدوس الأعمق ما يسهل مهمتى بالإضافة إلى النصوص التاريخية والخالدة.
النقد النفسى:
ومن هذا المنطلق، أقبل هذه المرة أن توضع هذه الدراسة تحت ما يسمى بالنقد النفسى بالمعنى التالى:
1- أن تكون كل منظومة معرفية مستقلة باعتبار أن النص الأدبى هو فى ذاته مصدر حدسى إبداعى للمعرفة من زاويته الخاصة، بلغته الخاصة
2- وبالتالى أن يكون النقد هو حوار بين أكثر من منظومة بأكثر من لغة،
3- وعلى ذلك: لا يصح أن تكون المرجعية، أو الغلبة لأحد المنظومات المعرفية أكثر من الأخرى.
(وربما جاز أن نفهم -بنفس المقياس- الحدس الإيمانى، بما يستتبعه من معلومات دينية، له حق التحاور، لا الوصاية، ولا التفسير، مع المنظومات الأخرى)
4- أن يكون التعارض المحتمل، بل الحتمى، هو إثراء لكل المنظومات المشتركة فى الحوار المتضفر. فأى تعارض هو دعوة لمواصلة الجدل للاستمرار لعل نقطة الالتقاء تقع فى منطقة أبعد لا يكشفها إلا تفجر فرض جديد من مختلف المصادر معا
5- ألا يقتصر النهل من المنظومات المعرفية النفسية على مدرسة التحليل النفسى، الذى يدور حول مفاهيم كادت تصبح ثابتة مفروضة، ولا على الطب النفس الوصفى. الذى يلجأ إلى تشخيص بعض شخوص عمل أدبى ما، بأسماء أمراض بذاتها علما بأن مسألة التشخيص فى الممارسة الطبية النفسية أصبحت مقولة بالتشكيك، بل أصبح الحديث عن ضررها البالغ فى اختزال الإنسان إلى لافتة وارد وملح، فكيف نرضى أن يختزل العمل الأدبى بدوره إلى مثل ذلك ؟ هذا فضلا عن أن التشخصيص فى العمل الأدبى محكوم بمعلومات منتهية فى حين أن التشخيص فى الممارسة الطبية مدعم بحضور المريض وأهله بما يتيحونه من معلومات جديدة تملأ المناطق الناقصة
6- وهكذا لا بد أن يتسع أفق النقد النفسى للنهل من كل مصدر علمنفسى وطبنفسى: أى:كل المدارس، وكل النظريات، وكل الفروض وكل الخبرات المهنية الذاتية والموضوعية
7- وفى هذه الدراسة كانت المصادر المرجعية أساسا هى:
المدرسة الإنجليزية للعلاقة بالموضوع، ومدارس دوامية ودورية النمو النفسى، شاملة المدرسة الإيقاعية التطورية. بمعنى النهاية المفتوحة وإعادة الولادة، امتدادا إلى نظرية الاستعادة، ثم مدرسة التحليل التفاعلاتى، هذا ابالإضافة إلى الخبرة المهنية الممتدة، والخبرة الشخصية بمرجعياتها المسجلة والمنشورة، ومرجعيتها الشخصية الواقعية، وخاصة فى العلاج النفسى والسيكوباثولوجيا
الطريقة والخطوات فى هذه القراءة تحديدا:
جرت خطوات القراءة الحالية على الوجه التالى
(1) استلهم فرض أساسى من النص عن الوحدة والسعى الصعب بادى الاستحالة إلى كسرها
(2) تفرع من هذا النص فروض فرعية
(3) تعدلت الفروض وفصلت أثناء القراءة
(4) كان النص هو الأساس، وكانت التفسيرات والحوارات المستلهمة من منظومات معرفية أخرى موازية، ومحاورة طول الوقت
(5) كان تعديل المنظومات النفسية (فرضا أو
نظرية أو معلومة) واردا من النص بنفس القدر الذى كانت هذه المنظومات تحاول أن تفسر النص.
(6) تعمدت الدراسة عدم تداخل النصوص العلمية أو الفروض العلمية فى المتن ما أمكن ذلك، وفضلت وضعه فى الهامش .
(7) اعتبرت القراءة برمتها فرضا أعلى جاهزا للتحور والنضج والتعديل، دائما أبدا
(8) اكتشفت بعد الانتهاء من المسودة الثالثة أنه يمكن إضافة مقتطفات أخروى تشير إيضا إلى تأكيد الفروض المطروحة وقد ألحقتها كمادة خام دون تعليق إملا ألا تـقـحم الصورة النهائية.
ملحق [2]
مختارات محدودة من نصوص موازية
لشرح الشيزيدية من السيكوباثولوجيا والعلاج النفسى
1- إبعاد الآخر:
= لا تقتربوا أكثر، إذ أنى، ألبس جلدى بالمقلوب: حتى يـدمى من لمس ‘الآخر’، فيخاف ويرتد، إد يصبغ كفيه. نزف حى. وأعيش أنا ألمى أدفع ثمن الوحدة
= لكن الآخر يحمل خطر الحب، إذ يحمل معه ذل الضعف، يتلمظ بالداخل غول الأخذ، وأنا جوعان مذ كنت، بل إنى لم أوجد بعد
= يا من تغرينى بحنان صادق فلتحذر، فبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص إلى جوف الكهف، وبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون هجومى لأشوه كل الحب وكل الصدق. فلتحذر،إذ فى الداخل وحش سلبى متحفز، فى صورة طفل جوعان، وحذار فقد أطمع يوما فى حقى أن أحيا مثل الناس، فى حقى فى الحب
= من فرط الجوع التهم الطفل الطفل، فإذا أطلقت سعارى بعد فوات الوقت، ملكنى الخوف عليكم، إذ قد ألتهم الواحد منكم طول الآخر، دون شبع.
2- الحاجة للشوفان، والخوف من خطأ الرؤية:
= عايـزنـى ؟ عايزينى كما الوحش الكاسـر، ولا مكسور القلب هزيل’ إ
=’أنا خايف من لــمـس أديكم، خايف تفعـصــنى أنت وهوه وتقولوا بنحب.
إيش عرفكم باللى ما كانــشى، باللى مالوهـشى، باللى ما بـانــشى.
سايح نايح، لكن باحـسب، باحسب خوفكم، خوفى منكم…
مخـى مـصـهـلل، وبيتفرج، ولا فيش فايدة’
3- الوحدة:
أنسج حولى شرنقة الصد، أهرب منكم، فى رأسى ألفى عين ترقبكم، تبعدكم فى إصرار، أمضى وحدى أتلفت
ألبس جلدى بالمقلوب، ولينزف إذ تقتربوا،ولتنزعجوا، لأواصل هربى فى سرداب الظلمة؟
4- السرداب
=’… لكن بالله عليكم، ماذا يغرينى فى جوف الكهف، وصقيع الوحدة يعنى الموت؟
= لكن الموت الميت أمـر حتمى ومـقـدر،
= أما فى بستان الحب، فالخطر الأكبر: أن تنسونى فى الظل، ألا يغمرنى دفء الشمس، أو يأكل برعم روحى دود الخوف، فتموت الوردة فى الكفن الأخضر، لا تتفتح، والشمس تعانق من حولى كل الأزهار، هذا موت أبشع’، لا …. لا تقتربوا أكثر، جلدى بالمقلوب، والقوقعة المسحورة تحمينى منكم.
5- النكوص والهرب إلى الرحم:
= فينك يامـه، نفسى اتكوم جـواكى تانى، بطنك يامـه أأمن واشرف من حركاتهم’
راجع كما كنت، قاعد ساكت تحت سرير الست، اخطف حتة نظرة، أو حبة حب، واجرى آكلها لوحدى تحت الكرسى المش باين.
6- الخوف من الحنان الغامض
من كتر مانا عطشان باخاف أشرب كده من غير حساب، لكن كمان، ماقدرشى أقول لأه ونا نفسى فى ندعة مية من بحر الحنان.
يا هلترى: أحسن أموت من العطش، ولا أموت من الغرق؟
7- الرؤية وإعادة الولادة
ياريت يامه كان فكر وبس، دى حاجات من جوه وبتتحس جوايا يامه ما بيرحمشى، ولا ليه يامه فيها ذنب، ولا قادر اختار
يا تليس يامه وما شوفشى، يارجع مالأول وأدور، واحبل واولد، نفسى مالأول وجديد، وابدى وأعيد، واتألم واصرخ من تانى، لو حد سمع، واشرب من شهد الحنية من وش سمح
-وان ما حصلشي
حايكون أهون من دا اللى حصل، يعنى عاجبك
والله يابنى مانى فاهمة يمكن عامية،
دى الدنيا ضلام، والناس الشر، لم يبطل يوم ف لسانهم قر. ياكلوك يابنى لحمة طرية ….ويغمسوا بى ورحمة ابوك
8-الألم: والحضن الزائف
عايزينى أصحى
وجهنم خوفى تسوينى، مانا لو حاصحى مانا لازم اخاف، وأموت مالخوف،
وأغير جلدى لحد ما احس
ونا خايفة أحس، وخايفه أبص،
على ما اصحى واموت وارجع أصحي
حاتكونوا نسيتوا انا مين، أو كنا ف إيه
لا ياعم، حالعبها من الناحية التانية:
أيها واحد حايقربلى، حاخده بالحضن،
وكأنى باحب
9- سدود الحب الزائف، والإغراء الجسدى
وعيون بتبربش، قال فيها دلال، وحنان، بتقولى تعالى، بس ما تقولشى لحد، ما تبصش جوه زيادة،، خليك عالقد، شوف حركة رمشى الهفهافة شوف ورد الخد
…..على فين يا أخينا، ما كفاية زواق الباب، إياك تفتحنى، حاتلاقى الهو، البيت دا مالوهشى اصحاب، دول سافروا قبل ما ييجوا، من يوم ما بنينا السد، السد الجوانى التانى، وان كان مش عاجبك سدى البرانى، يبقى فقست اللعبة، ومانيش لاعبة، أنا ماشية.
10- الخوف من الاقتراب الابتعاد:
بتقول والدمعة يا دوب حاتبان: عايزاكم – مش عايزاكم، باستخونكم..وباجيكم، وباخاف مالعين، وكلام العين، غطونى كويس، خلونى بعيد، لااتبعزق.
11- الدخول الخروح النامى:
0….ينمو اليوم، من طين الأرض،
إذ يفرز ألمك طاقة، والرعشة تصبح نبضة، فى قلب الكون الإنسان، تمضى أحد الناس: تدخل فيهم لا تتلاشى، تبعد عنهم لا تتناثر، تعطى لا تترفع، تأخذ لا تتخوف، والواحد يصبح كلا يتكامل.
ملحق [3]
نصوص إضافية دون تعليق
جوهر إشكالة الشيزيدية (ص: 38)
عندما تعلق كل شئ – أو الكثير جدا -على شخص آخر، على إنسان آخر، على امرأة أو رجل، فى هذا النمط الغريب الحميم من علاقات الأنوثة والذكورة، عندئذ تتعرض للأذى والإحباط، لا مفر، عندئذ. لا مناعة لك، لأن هذا الآخر – مهما كان قريبا إليك، مهما خيل إليك أن الفواصل بينك وبينه قد سقطت، مهما عرفت معه نعمة أن تتخفف من وحدتك الأساسية، مهما كان كريما، يظل مع ذلك آخر.
أى يظل ضعيفا، وغير مكتمل.
غير مستجيب، وربما غير عارف
(الجملتان الأخيرتان تحتاجان إلى تعليق الناق)
صعوبة رؤية الآخر بحقيقته الموضوعية (ص: 39)
ماذا نعرف نحن عن أقرب الناس إلينا؟ فى صميمهم أعني؟ ماذا نعرف عن الألم، والوحشة، والشوق، والغضب، والنفور، والبغضاء التى يحسها المحبوب – فى وقت ما – ونحدسها عنده، ولكن لا نعرفها – يعنى نعرفها – أبدا، معرفة حقيقية؟
تخليق الوجود الذاتى من خلال قبول الآخر غير المشروط (ص: 41)
- إننى مدينة له، أبديا، لأننى من خلاله تعلمت أن أقبل نفسى. كنت من قبل أمقت نفسى.
ومن زاوية، كان قبولها لنفسها عندئذ، لأنه – هو – تقبلها كما هى، بكل ما هى، دون تحفظ ودون شرط، بكل ما تفعل وكل ما تقول. على أن ذلك كلفه بطبيعة الحال آلاما لا تكاد تطاق،
عزلة فعلية (ص: 44)
عندما اعتزلت العالم تسعة شهور كاملة رقدت فيها على الصوفا فى بيتها القديم، لم تكن تخرج أو تفعل شيئا، أخذت أجازة طويلة، والمرة الثالثة عندما طلقها حسن. قالت كان ذلك اغترابا عن النفس، مرة، المرة أخرى عندما ملت القيام بدورها الماترياركى الأمومى الأبدى، وطفح بها الكيل من تقديم قرابين متصلة للآخرين، حتى لو كانوا أقرب إليها.
العجوز داخلنا (تركيبة شيزيدية) (ص: 45)
ثم تكلمت عما أسمته ‘الرجل العجوز القذر’ الكامن فى كل منا، رجالا ونساء، المهرج البذيء البصاص الطفيلى، الذى يقبله الجميع، ويرتضونه، ويسلمون له قيادهم، الذى ينظر، ولعله يرى ولا يفعل شيئا، ليس بمقدوره أن يفعل شيئا.
تشكيل الجسد البديل (ص: 46)
كأنما فى شبقية التلفظ بالكلام إشباع، أو إغواء – مرة أخري؟ – وكأنما ثم متعة بحسيتها الصراح فى إدارة الشفتين واللسان بالكلام المصبوغتين المضرجتين بدم داخلى متدفق، لحم نضر تتقلب ذبذبته التى لا تكاد تحس فى حميا وتحكم معا، إذ ينطبق وينفرج، ينضم وينفتح، يمتليء باللفظ ويفرغ، يمتد هينا هينا، حينا وينقبض، وهو يرقبها مسحورا بأداء شبقى يخايل بأنه بذيء ولكنه فى غاية البراءة والنظافة، فى النهار، على البحر، إذ تتذوق حديثها نفسه وتتمطق به، كأنه بديل عن التقبيل أو الأخذ والإمساك والتحسس والرشف بالشفتين.
تعيين المجرد(الكلام الجسد) (ص:46)
بل كان الفن الذى تحذقه أيضا هو ابتلال الفم بالألفاظ وامتلاؤه بحشوها الحار ثم اندفاقها منه، وضبط تخريجه وتنويع نغمه والتلذذ بانسيابه أو توقفه وحلاوة جرسه الطرى مرة، الحار مرة أخرى، المتلهف، أو المتأنى سيان،
الشيزيدى يشعر أنه ‘فضلة ما’
(ص:49)
كان قد قال لها: أنا طبعا شيء إضافى فى حياتك، أعرف هذا، ثانوى وربما جاء بالصدفة أو على سبيل التغيير مثلا، أو الإحسان مثلا، لا بأس به ما دام هناك على أى حال. لكن طبعا يمكن دائما الاستغناء عنه…
بصيرة الشيزيدى بحدود الجسدانية البحتة، ورفضها تقريبا (ص:51)
هل الفيزيقية المباشرة الصريحة – كان لا ينى يتساءل – هل الجسدانية البحتة هى النقية الخالصة لذاتها، وبذاتها، من غير أن تتمثل شيئا آخر، من غير أن تسرى فيها وتلوثها تشوبها وتكثفها معان أخرى، من غير أن تعنى شيئا آخر غير ذاتها؟
أم أنها تظل تتحمل، بشكل أو بآخر، رواسب المعانى والدلالات المغايرة؟
الشيزيدى لا طفولة له (ص: 55)
تعويذة وحجاب أم دمية تعوضها عن طفولة مفقودة لعلها لم تكن موجودة أصلا؟
الغائب أحضر من الحاضر (ص:63)
فرحة التشوف إلى لقائها كأنها تفوق فرحة اللقاء نفسها.
هل هى رسم حاضر – وليست رسما دارسا (البحترى) (ص 67)
رامة مازالت. ليست رسما دارسا طوحت به عاصفات الليالى، بل هى حضور. وليست هذه تحية يسديها طائف ملم إلى أشباح حائلة. حتى لو كنت على وشك الرحيل، فإننى لست أبارح هذا الحضور، ولا يبارحنى. ياجريرا، خلك أنت فى حالك، وخلنى.
الشيزيدى لا هيدونى (ص: 106)
كأنما ينكر على نفسه حق السعادة، وحق الإسعاد .
ألأنه غير جدير بأى من هذين الحقين، وهما – طبعا – لا ينفصلان ؟
وظيفة الرفض المتبادل على تجسيد الخيال (ص 107)
لست أنا عندك إلا عابرة. لا أقول نزوة، بل بالتأكيد شئ عابر، سوف يمر، مهما تصورت فى خلود المقام.
هل قالت ذلك بالفعل؟
……………
هل رفضتنى لأنها برفضها، تظل من خلالى جميلة أبدا، محبوبة أبدا، مرغوبة أبدا؟
طبيعة حلم الشيزيدى (ص: 112)
كأننى فى الحلم، حيث تنقطع الصلة بين الحافز والفعل، بين ما أريد وما أقترف، بين العلة والنتيجة، بين الرغبة والحركة. أمد يدى، متوترة، متلهفة، مشدودة الأصابع، فلا أمسك بشيء، الثمرة هناك، الثمرة فى متناول قبضتى، لكننى عندما أطبق عليها كفى أجد أن فى يدى خواء.
الشيزيدى والغياب / الحضور! (ص:113)
كأنما منارة تومض وتنطفيء من بعيد. أعرف أنه لا وصول إليها، وليس فى يدى مجداف ولا دفة.
هل هى معي؟ لماذا لا أراها؟
تصحر انفعالى وتساؤل عن التصحر العقلى وربما لإنكاره(ص:118)
رقعة الصحراء تزداد، الخضرة الريانة تصوح شيئا فشيئا . تصحر فيزيقى وانفعالى، أعقلى أيضا ؟
تجسيد المشاعر المصاحبة(ص:123)
كان فى قبلتها على فمه طعم تراب لا يكاد يحس، وهبوة من ملح العرق.
الخوف من طلب القرب، رعب من الرفض(ص:132)
ولن أطلبك أبدا.
لا أريدك إذا كان حبك رغبة كله، وسطوة كله.
قال: الحب لن يذلنى أبدا.
قال: وليست هذه عنترية، ولا صرخة دون كيشوت. بل تقرير واقع بارد.
تركيز على النهدين يوحى بفيتيشيّة (ص:163)
…………
أتشبب بهما قبلتهما اعترمتهما تحسستهما عركتهما مرة كبيرين فى يدى ومرة صغيرين فى وهمى مرة أحدس تدويرهما وتكورهما وأختبر ذلك …………
استطعمت مذاق النبقتين الناتئتين سكريتين واحدة بعد الأخرى:’ والثانية أيضا …………. حتى لا تزعل!’ مصصت الحليب ولحست اللوع بسمرته الداكنة المحببة حول الحلمتين وقد تفتحت فيهما خروم دقيقة غاية الدقة تحت مداعبة لسانى احتضنتهما بين كفى وعرفت ثقلهما ………
عرفت زنتهما وبتعثر أو بيسر ونعومة طلعتهما من قبضة السوتيان الحابكة وضعت العمود الصلب السخن بينهما وسكبت عليهما نكتار حبى انصب الدفق عليهما وهى ترفعهما بيديها …………….
الثدى بديل ‘الاخر الكلى’ وليس تثبيتا فميا بالضرورة (ص:164)
قال: أذلك تثبيت للمرحلة الفمية الشهيرة؟
قال: ارحمنى يافرويد زمانك وفريد عصرك وأوانك
قال: وبعد ذلك هل أحلم حقا بصومعتى الموحشة فى صحرائى المصرية؟
علاقة أقوى من الاقتران (؟؟ الزواج) لكنها أبدية نافية (ص:164)
قال: اقترانى بها – فى النهاية – ينقض الحلم سر أرثوذكسى جدا بل أكثر لأنه عندى سر لاينفصم …………..ما يجمعه الله – الله؟- لن يفرقه إنسان ………لقد ختم السر لقد ختم السر صوفية الوصال الجسدانى إطلاقية الوصل الجسدى لا فصل فيه ولا انفصام وحتى لو كان ذلك الوصل قد تم مرة واحدة فهو مرة واحدة وإلى الأبد ………
القناع يحل محل الأصل (ص:167)
القناع يحل محل الأصل ويقوم بدوره ويؤدى فعله كما يحدث فى السحر الشرير.
هاقد اختزلت حب الحياة كله هاقد اختزلت الحب كله فى واحدة هى أكثر من واحدة.
والخيال يتجسد قناعا (ص:167)
كيف أمكن أن يتوحد القناع مع أخيلته؟
إلغاء الواقع بإنكار الزمن: الخلود = الفناء (ص: 173)
ذراعه تحيط بجسمها ورأسها على كتفه والقطار ينطلق فى الظلمة لا يبدو أن النفق له نهاية.
نفق سرى وحميم وخاص، مستمر، سخن، بلا زمن
…………
مادام بلا زمن كيف يكون مستمرا؟
النقلات العـرضية (ص: 177)
فورا دائما كل يوم من قرار القطيعة إلى قرار الاندماج فى غضون ساعة أو أقل كل يوم كل يوم يا ربى وكل ليلة أقول: هأنذا قد انتهيت منها، لن أراها بعد، ما جدوى ذلك كله؟ وما معناه؟ سؤالى الأبدى الذى لا يبارحنى، كفاية، كفاية، كفانى ألما وكفانى سعادة، لن أعرف أبدا أفدح منهما
حبه ذاتوى بلا جذور (ص: 196)
خطر له أن حبه هذا زهرة ضخمة عملاقة فى الحقيقة، و لكن بلا جذور . زهرة شائكة ومتوحشة، نهمة وشرسة إلى العب من الحياة، لكنها تستقى ماءها من ذاتها
تأكيد لمعنى المستبدل (ص: 220)
كأنما سمعتها تقول: أنت تعرف أن الطفل المبدول، يعنى – أنت عارف الذى فيه كيان آخر، لا يشفى لا يبرأ من الغريب إلا بأن يوضع فى قبر مفتوح، ولكن معمور وليس جديدا، لم يدفن فيه أحد من أول شهر مسرى إلى آخر شهر أبيب، اثنى عشر شهرا قمريا – مع أيام النسى، بالتمام .
والرجل المبدول ؟ كيف يخرج منه الكيان الملتبس الغريب؟
كلهم (العشق والوجود و الغرام) يمحو الجسد وتجاوزه (ص: 220)
وكأنما قال: العشق هو على الأغلب اشتعال فيزيقى عابر وسريع الزوال، يحرق الكيان الغريب، يذيب شوائب الروح .
وقال أما الوجد، والغرام، فلعله حنين إلى ماوراء الجسد
الإلحاح على تأكيد دوام العلاقة: (ص:224)
-ماذا أفعل؟ أحبك، فقط . أقول لك، بطريقة ما، إننى أحبك .
قالت: أنا أيضا .. أنا أيضا … أنا لك دائما، دائما .
حتى فى غور نشوته خطر له، خطفا: دائما كلمة كبيرة .. كيف يمكن الوفاء بها ؟
الجسد المنفصل عن الذات: (ص:235)
هأنذا أرى رأسى فى الطبق المشتعل – فى وسط الاجتماع – أراه وهو مجتث بحز مصقول نظيف الدوران. أراه مع ذلك، من خارجه .. عيناى تريان الرأس المقطوع، وهما مفتوحتان تنظران إلى من هذا الرأس المقطوع نفسه. تريان رسالة لا أستطيع أن أفسرها.
الموت أهون من الانقطاع: (ص: 244)
لك جلال الكائنات التى جسدت لنفسها كتلة العالم ونعومته، ولك ابتذالها، مطروحة للعابرين، أزهار إلهية لا يمكن أن تضاهى سعة عينيك، وحياءها النهائى، هل الموت أهون من هذا الانقطاع ؟ نعم .
تجسد الكلمات: (ص: 259)
تدور شفتيها وتحتك حاء الحلاوة فى نعومة وحميمية من حافة الحلق الخفى، وللسين حسيس .. باحس .. الحس كله، الحب كله يتجسد فى تنغيم وتحديد وسيولة وانسياب هذا الجرس الصاعد من بطانة عضوية وثيرة.
الحلم يحل محل الحقيقة: (ص: 267)
أصبحت أحلامى بك الآن أقوى من كل حقيقة، أو أوشكت أن تكون، لفرط مثولها وحضورها الحى الحار الموجع . فماذا حدث للحقائق عندى، وعندك ؟
ومع ذلك ليست علاقة أوديبية: (ص:272)
أما رامة فمن تجسد، غير ذاتها بالطبع؟ هل هى تجل أخير لإستير امرأة خالى التى نمت على فخذيها الكبيرتين الدافئتين، وأنا فى السابعة، بعد أن رأيت الموت لأول مرة ينقض
بنت يانعة ألقت بنفسها من نافذة مدرسة البنات أمام بيتنا فى غيط العنب؟ بديل لأم متوهمة مشتهاة أم ‘كا’ قرينتى؟
[1] – كان الموضوع الأصلى هو: “رباعية: الجنس- الجسد- المطلق- الوعي”، في يقين العطش، لكنني اكتفيت بهذه الجزئية الآن.