اليوم السابع
الثلاثاء 17-9-2013
ماذا تقيس الصناديق؟
العلم الحديث قال لنا أن ما يسمى التفكير المنطقى الظاهر (حل المشاكل) لا يمثل إلا حوالى 10% من كل ما نفكر فيه، وأن “الإدراك” هو أداة معرفية أكثر عمقا واتساعا مما يسمى التفكير، وأن عملية معالجة المعلومات (اعتمال المعلومات) لا تقتصر فقط على مستوى التفكير، وإنما تمتد إلى مستوى الوجدان والإدراك الذى يمثل بدوره أكثر من مستوى واحد من مستويات الوعى ، كما أن العلم المعرفى العصبى والبيولوجيا العصبية قد بينا لنا أن ما يجرى فى المخ ليس فقط هو ما نعرفه (دع جانبا حكاية اللاشعور الفرويدى، والعقد النفسية فهذا لا أعنيه)، بل إن علوما أحدث فأحدث بينت لنا أن الإنسان يحمل عددا من العقول (مستويات الوعى) بطول تاريخ تطوره، (دانيال دينيث – أنواع العقول)، وأن التاريخ الطبيعى للذكاء (توم ستونير)، هو أطول وأرحب من قرارتنا التى تبدو لنا ذكية إلخ.
أما على مستوى الدين والإيمان فإن الإدراك والمعرفة البصيرية التى هى معرفة تساهم فيها كل مستويات الوعى، بحضور الجسد كله متمركزا حول القلب رمزا محوريا، فقد أخذت حقها بطريقة موضوعية رائعة “لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ”، “فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”، “وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً”.
وأخيراً فإن الأحياء قبل الإنسان قد حفظت بقاءها باستعمال برامج البقاء التى ليس فيها تعلم القراءة والكتابة، ولا المحطات الفضائية، ولا الرقم القومى، ولاخطب الجمعة والآحاد، ولا صناديق الانتخاب، وإنما هى حفظت بقاءها ضد كل عوامل الانقراض ليس لأن البقاء للأقوى (كما اشيع من قبل)، ولكن لأن البقاء للاقدر تكافلا مع أفرد نوعه، ثم مع الأنواع الأخرى بفضل الله.
بعد الاعتذار للقارئ غير المتخصص عن هذه المقدمة، دعونا نسأل أى مستوى من وعينا هو الذى يضع الورقة فى الصندوق؟ وبأى عقل نختار من نختار ليمثلنا أو ليحكمنا، وفى نهاية النهاية يقرر مصيرنا، وأحيانا مصير البشرية؟
ثم إننا لا نعلم أن أى خليفة من خلفاء المسلمين الكرام (أو حتى الظلمة) قد ولى أمر المسلمين من خلال الصناديق حتى أن البعض اعتبر الصناديق “بدعة”، و”كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار”.
كل هذا لا يعنى أننى ضد الصناديق على طول الخط، لكننى فقط انبه أنها أصبحت أصناما للأديان المزيفة الحديثة المستوردة من ثقافات أخرى بغير دعم تاريخ ولا دعم علمى، وبالتالى فإن عمرها الافتراضى مهما كانت لابديل لها فى الحياة العملية السياسية الحالية، قد انتهى، لذلك فالبحث جار عبر العالم لابتكار آليات أخرى لقياس جـُمّاع وعى البشر لتسيير أمورهم معا، للحفاظ على كرامتهم جميعا، وبقاء نوعهم، بما هو أحدث فأحدث
أختم كلمتى بإعادة التذكرة بالمثل العامى الجميل “تجمـّز بالجميز حتى يأتيك التين”، وهو ما ألهمنى قياسا بمثل أحدث يقول: “دمَقْرَطْ بالديمقراطية حتى تأتيك الحرية”، واليوم أقول “تصبـّر بقياس الرأى الظاهر حتى نستطيع قياس الوعى الاشمل والأكرم”
وسوف يبدع الإنسان العظيم ما ينقذه من عبادة كل هذه الأصنام، وذلك بفضل الله الذى أكرمه، ثم أتاح له إبداع كل هذه التكنولوجيا، ليحقق بها حريته الاقتصادية اساسا وهو يتواصل مع كل أفرد نوعه ليواصلوا حمل أمانة الوجود بكل مستويات الوعى معا فى مواجهة الهجمة الشرسة التى تشوه فطرته، وتهدد نوعه بالانفراض.