نشرت فى مجلة الهلال
عدد مارس 2005
إبداع الحلم وأحلام المبدع
حين طُلب أصحاب الفضل فى الهلال أن أسهم فى هذا العدد، تصورت من بعض ما اقترحوه أنه على أن أشترك فى “الفتوي” حول طبيعة (نفسية!!) إبداع محفوظ فى هذه الأحلام أو فى غيرها، فاعتذرت، واقترحت أن أقدم لمحة عن تصورى “كيف ساهمت الإعاقة الاضطرارية ـ فى الرؤية والسمع والأداء اليدوى ـ تحديا لمحفوظ المصر على مواصلة إبداعه (أو الذى لا يملك لإبداعه دفعا)، كيف ساهمت الإعاقة فى تحديد شكل فى هذا العمل خاصة. لكننى حين هممت بذلك تحت وهم أن هذه الأحلام، بقصرها، وتكثيفها، وقفزاتها، وفجائيتها، وغموضها…إلخ هى نتاج اضطرار محفوظ اضطرارا إلى الاختزال والتركيز هكذا لصعوبة الكتابة (إعاقة اليد)، وصعوبة مراجعة ما كتب وإعادة صياغته (إعاقة النظر) وصعوبات كثيرة أخرى لا داعى لذكرها. تصورت أن كل هذه الصعوبات هى التى تكمن وراء هذا الشكل الجديد من الكتابة القصيرة المركزة المكثفة. لكننى فوجئت أثناء مراجعة بعض خلفية مادة المقال بما يلى:
إنه بالرغم من احتمال صحة هذا الفرض، ولو جزئيا، إلى أن صدور “أصداء السيرة الذاتية” قبل كل هذه الإعاقات بسنوات، يكاد ينفى أغلب هذا الفرض فالأصداء فيها نفس التكثيف، ونفس الإيجاز، ونفس النقلات، ونفس الشطح الإبداعى الرائع، وبعض الترميز. رجعت إلى دراستى للأصداء [1] فوجدت أن بها قليلا مما أسماه محفوظ حلما، لكن فيها الكثير مما يمكن أن يصل إلى القارئ باعتباره كذلك، وكلها مازالت تقع فى ما هو إبداع يتخفى قليلا أو كثيرا تحت عباءة ما يبدو ـ تمويها ربما مقصود ـ “حلما”.
تصورت أن نجيب محفوظ بحدسه الرائع قد رأى احتمال إصابته بمثل هذه الإعاقات التى لم تظهر إلا بعد سنوات، فراح يدرب نفسه (دون أن يدرى) على كيفية تجاوزها، فكانت الأصداء تمهيدا لأحلام فترة النقاهة.
لكن الامر يمكن أن يرجع إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير، إذا نظرنا فى مجموعته “رأيت فيما يرى النائم” وأيضا فى بعض فقرات أعماله حتى الطويلة منها، بما فى ذلك الحرافيش أو “حديث الصباح والمساء”، وغيرها.
من كل هذا عدلت عن محاولة إثبات ذلك الفرض وقدرت أن أقتطف من رحلتى مع أحلام محفوظ الإبداعية ما يشير إلى بعض ما تقول، متميزة بما تقوله شكلا وموضوعا (وهما واحد فى هذا المستوى الإبداعى).
وفيما يلى مقتطفات من تلك المسيرة بترتيبها التاريخى، لكن ذلك يحتاج إلى تقديم ضرورى كالتالى:
إبداع الحلم، وأحلام المبدع:
ليس جديدا أن يبدع نجيب محفوظ حالما، أو أن يحلم مبدعا. الحلم العادى هو إبداع الشخص العادى. وإبداع المبدع هو حلم الواقع الأعمق/ القادم/ القائم حالا. نحن لا نحلم بالمعنى الذى شاع، فمسخنا الحلم رموزا وتأويلا، سواء فك شفرته ابن سيرين، أو ترجمه فرويد إلى منظومة نظريته أو شطح أوهامه. نحن نؤلف أحلامنا التى نتذكرها تأليفا فى الثوانى (أو البضع ثانية) التى تسبق اليقظة مباشرة، أو التى هى يقظة غير كاملة بعد، أما ما قبل ذلك فهو “الحلم بالقوة” الذى يسجل برسام المخ الكهربائى أثناء ما يسمى النوم النقيضى أو النوم الحالم والذى يعرف أيضا باسم نوم “حركة العين السريعة” REM الحلم الذى نحكيه، ونتصور أنه الحلم، هو الجزء الذى التقطنا أبجديته من مفردات ما تحرك فى الوعى الآخر، ثم رحنا ننسج منها ما تيسر فنصيغه على أنه الحلم. هذا هو الفرض الذى سبق أن قدمته منذ حوالى ربع قرن فى أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” [2].
يزعم هذا الفرض أننا جميعا مبدعون بالضرورة. وأن الحلم ليس إلا ما نشكله نحن فى تلك الفترة الشديدة القصر قبيل اليقظة.
لم أكن أتصور أننى سوف أستطيع تحقيق بعـض هذا الفرض ولو بعد حين. لم يكن يخطر على بالى أن أعايش مبدعا بحجم نجيب محفوظ وعمقه، حتى أستطيع أن أتابع علاقته بأحلامه مصدرا للإبداع، لتضئ بعض جوانب هـا الفرض.
نجيب محفوظ والحلم الإبداع:
اتنبهت إلى موقع نجيب محفوظ مما يمكن أن يسمى: الإبداع الحالم أو الحلم الإبداع، سواء وضعه هو تحت اسم الحلم أو الرؤية، أم تحت أى مسمى آخر (مثل ليالى ألف ليلة أو بعض قصصه القصيرة فى مجموعة خمارة القط الأسود مثلا) كان ذلك فى بداية الثمانينات حين كتبت عن مجموعة “رأيت فيما يرى النائم” الذى نشرت فيما بعد فى “قراءات فى نجيب محفوظ” [3]، ثم عاودت الكتابة عن أحلام محفوظ المبدعة أو الإبداعية فى دراستى التى لم تكتمل عن أصداء السيرة الذاتية(1)، ثم كتبت عن بعض أحلامه الإبداعية الأخيرة (أحلام فترة النقاهة) بعد نشرها، وقد عايشت ولادتها شخصيا، كتبت ما تراءى لى عن طبيعة هذا الإبداع، كما تناولت بعضها فى كل من مجلتى “إبداع” [4]، و مجلة “وجهات نظر” [5]
فقدرت أن أسترجع بعض ذلك لعل فيها ما يضاف ترابطا مفيدا.
أسئلة ليس لها إجابات:
كثرت التساؤلات حول أحلام فترة النقاهة بالذات، فيضطر محفوظ ـ ضمن آخرين ـ للرد على أغلب تلك التساؤلات بما تيسر، مع أنه ليس ملزما بالرد من جهة، ثم إنها ليست مسئوليته من جهة أخرى، وفى كثير من الأحيان: الإجابات ليست دائما فى مقدوره ـ بالمعنى الموضوعى الكافى.
بعض هذه التساؤلات الساذجة تقول: هل هى أحلام أم إبداع؟ هل هو يرصد ما جرى فى الحلم أو يضيف؟ هل هو يستقى مادة الحلم وشخوصه من الحلم فقط أم من الحلم والواقع؟ أم من الحلم والواقع والذاكرة جميعا؟ ما علاقة ما يكتب الآن بما يسمى “أحلام اليقظة”؟ كنت أتعجب عادة كيف يضطر محفوظ أحيانا أن يجيب ببعض ما يمكنه هكذا. كيف يتصدى بعض المفتيين (من العلماء والنقاد جميعا) بفتاوى وتأويلات ترد على مثل هذه الأسئلة التى لا رد لها.
رحت أراجع رحلتى مع أحلام محفوظ منذ ربع قرن فوجدتنى لا أستطيع، وحتى الآن، أن أجيب بمثل تلك الإجابات الحاسمة التى وصلتنى، كل ما استطعته هو اجتهادات واحتمالات كالتالى:
أولا: من قراءة باكرة فى:
رأيت فيما يرى النائم (1982) [6]
الحلم/ الإبداع: سعى للكشف وتطلع إلى معـرفة ممتدة
”…… فى هذه المجموعة نجد هذا اللحن المميز الضارب فى التاريخ المتطلع للمستقبل فى أكثر من حلم وأكثر من موقع:
“أهى حجرتى الراهنة: أم أخرى آوتنى فيما سلف من الزمان؟” حلم 1 (7/ص 142).
”لن أحيد عن التطلع إلى الأمام” حلم 1 (7/ص 142).”
آن أوان قراءة الطالع” حلم 4 (7/ص 147).
الإيقاع سريع فى سعى المعرفة اللاهث وهو يتواءم مع طبيعة زمن الحلم.
وشعرت طوال الوقت بأننى أسعى وراء غاية: لكنها غابت عن وعيى أو غاب عنها وعيى” حلم 11 (3/ص 163).
وقد بين محفوظ أن هذا الدافع إلى المعرفة ينبعث أساسا من مجرد أن الإنسان له “ماض”، له تاريخ.
”… فى فيضان أحلام “رأيت فيما يرى النائم” نتعرف على المغامرات المعرفية أكثر … ولكننا نجدها ملتفة بأجواء الغموض دون الإقلال من: “نشاط السعى الدؤوب”: “مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة” (7/ص 143) حلم (2) “عدوت منها، ولكنى عدوت فى مجالها وحضنها” (7/ص 143) حلم (7) وقد سبقت الإشارة إلى ارتباط المعرفة بالحزن، ويعود هذا الارتباط إلى الظهور فى نهاية حلم (3)، وتستمر المغامرات المعرفية مع مصاحباتها من حزن، أو تطلع، أو ضياع، أو ربكة، طوال الأحلام بشكل ملح: ففى حلم 14 نجد المتابعة للشاب الوسيم (الذى يمثل أمله) تحمل الرغبة الملحة لاستطلاع ما هو فاعل، وما هو وراء، ولكنه ـ كالعادة ـ ينهك ويسقط دون أن “يصل” ودون أن يعرف، تاركا وراءه الشرود والانخداع والعزاء، بما يذكرنا بالنهاية اليائسة من المعرفة، التى تدفع لمزيد من المعرفة، بعد أغلب المحاولات، وفى المقابل نرى مواجهة للرجل بالغ الكبر، “والنظر فى عينيه كبلورتين متوهجتين”…إلخ
أكتفى بهذا القدر من هذا النقد الباكر الذى يمكن للقارئ الرجوع إلى تفاصيله حيث نشر (3).
ثانيا: أحلام نجيب فى أصداء السيرة
لم تظهر الأحلام فى الأصداء بشكل مباشر إلا قليلا مثلا: حين تلاحقت ثلاثة أحلام وراء بعضها (فقرات 65,64، 66) وفيما يلى عينة لقراءة حلمين.
فقرة 58 (الأصداء):
”فى مرحلة حاسمة من العمر عندما تنسم بى الحب ذروة الحيرة والشوق همس فى أذنى صوت عند الفجر. هنيئا لك فقد حم الوداع. وأغمضت عينى من التأثر فرأيت جنازتى تسير وأنا فى مقدمتها أسير حاملا كأسا كبيرة مترعة برحيق الحياة.”
القراءة: ….. تتكثف اللحظات فى ذروة الحيرة، ويصاعد الحب، لا إلى ذروة السعادة بل إلى ذروة أروع، ذروة الحيرة والشوق، فنتعلم التمييز بين حب مخدر حتى السعادة وبين حب منتش بالحيرة محاط بالشوق، كل ذلك عند الفجر: البداية الباكرة المشقشقة، فتولد الحياة ـ كما عودنا محفوظ ـ من الموت، نعم: عادت الأصداء تمزج الحلم بالحسم وتجسد الموت، وتشق الذات البشريه ليعلن الواحد منا نهاية “مرحلة حاسمة من العمر”، ويشاهد نفسه بنفسه، وهو يتقدم المشيعين حاملا دلالات ولادته الجديدة “الكأس المترعة برحيق الحياة”، ثم يؤكد ضمنا ما ذهب إليه إدوارد الخراط فى “يقين العطش” من أن الارتواء ليس هو اليقين، وإنما تعميق الحيرة والشوق أبدا (يقين العطش إدوار الخراط) [7]
65 ـ (الأصداء) اللحن
”فى حلم ثان وجدتنى فى حجرة متوسطة يضيئها مصباح غازى يتدلى من سقفها، فى ركن منها جلس جماعة من الرجال والنساء على شلت متقابلة يتسامرون ويضحكون بأصوات مرتفعة، لم يكن فى الجدران باب ولا نافذة إلا فتحة صغيرة فى اتساع عين منظار مرتفعة بعض الشيء، فلم أر منها إلا سماء تتوارى وراء المساء. شعرت برغبة شديدة فى العودة إلى أهلى ودارى. ولم أدر كيف يمكن أن يتيسر لى ذلك.، وسألت السمار: أكرمكم الله كيف أستطيع الخروج من هنا؟ فلم يلتفت إلى أحد وواصلوا السمر والضحك، وغزت الوحشة أعماقى. عند ذاك لاح لى من خلال الفتحة وجه غير واضح المعالم وقال لى: إليك هذا اللحن إحفظه منى جيدا، وترنم به عند الحاجة، وستجد منه الشفاء من كل هم وغم.”
القراءة:
يظهر فى هذا الحلم “رحم الدنيا”، وتولد قصيدة قصيرة “سماء تتوارى وراء المساء”، وتتأكد لى العلاقة بين الموت والعودة، فكرة العودة أصيلة فى الوجود الإنسانى سواء كانت فى تعبير “أن يسترد الله أمانته” كما يفهم الموت عند أهل التقوى، أو سواء أفادت أن يرجع المنفصل منها إلى الالتحام بأصله كما يشير المتصوفة عادة، العودة إلى الأهل والدار وصلتنى هنا باعتبارها العودة إلى الأصل” الكل”، وحين تستحيل العودة إراديا (إلا بالانتحار وهو ليس عودة وإنما إجهاض) ينبغى أن نتكيف ونحن “فى الانتظار” حتى يحين الأوان.
هذا اللحن الذى هبط عليه من الفتحة التى تبدو منها السماء وهى تتوارى وراء المساء، يمكن أن يكون “دينا” له طقوس وأنغام ويمكن ـ وهذا مستبعد نسبيا ـ أن يكون اغترابا له أيضا فعل التنويم والتسكين، وأما الشفاء من الهم والغم فهو يتحقق بالتوجهين معا: ولكن واحدا إلى أعلى وواحدا إلى أسفل (الاغتراب)، إما أن يعزف الحن العبادة التصعيدية فيزول الغم، أو يخدر المغترب لحن بالإلهاء العامى فيغوص الهم، وشتان بين هذا وذاك، لكن الاحتمالين قائمان.
ثالثا قراءة باكرة لعينة من أحلام النقاهة. (6)
الحلم (26)
”جمعنا مقهى بلدى وقص علينا صاحبى قصة بوليسية من تأليفه.. وقبيل الختام دعانا إلى الكشف عن القاتل. ومن يفز يعفى من دفع ثمن طلبه، ووفقت إلى الإجابة الصحيحة وحدث بذلك غاية السعادة. وبعد ساعة استأذنت فى العودة إلى بيتى. ولانشغالى بنجاحى تهت فسرت فى طرق حتى وجدت نفسى أخيرا أمام المقهى مما أثار ضحك الجميع وتطوع أحدهم فأوصلنى إلى بيتى وودعنى وانصرف. وبيتى مكون من طابق واحد وحديقة صغيرة وشرعت فى خلع ملابسى ولما صرت بملابسى الداخلية لاحظت أن خطا من التراب يتساقط من أحد أركان الغرفة.. وكان هذا المنظر قد ورد فى القصة التى ألفها صاحبنا وكان نذيرا بسقوط البيت على من فيه فبكيت أن بيتى الصغير سينقض فوق رأسى. وملكنى الفزع فغادرت البيت بسرعة ولهوجة واستزادة فى الأمان انطلقت بعيدا عن البيت بأقصى سرعة فى الهواء الطلق”.
المكان هذه المرة هو مقهى بلدى (لاحظ البداية بتحديد المكان فى كل مرة) والبداية بقصة بوليسية يحكيها مؤلفها(يبدو أنه ألفها لتوه) وهو أحد الأصدقاء، فنستنتج أنها قصة سطحية للتسلية، وينجح الراوى (الحالم) فى حل اللغز (من القاتل)، ومع أن الجائزة تبدو تافهة (ثمن ما شرب) إلا أنه يبدو أن نشوة النجاح فى ذاتها كانت غامرة حتى أسكرته فكاد يفقد وعيه وتاه عن بيته ودار حول نفسه حتى عاد إليهم فى نفس المكان مما اضطر أحد أصحابه أن يوصله إلى بيته.
نكتشف من البداية كيف أن نشوة النجاح الذاهلة هذه لا تتناسب مع حقيقة المكسب (ثمن المشاريب)، ومع ذلك، فالنجاح هو النجاح، والتنافس هو التنافس، والجوائز هى الجوائز، والنشوة هى النشوة حتى الذهول.
حين يعود صاحبنا إلى نفسه (بيته) ويتعرى إلا قليلا (بقيت الملابس الداخلية) ينقلب الخيال إلى واقع حتى تكاد القصة ـ على تفاهتها الظاهرة ـ تصبح حقيقة، وهنا يقفز إلينا سؤال آخر غير سؤال القصة اللغز، سؤال يقول “من القتيل” (لا من القاتل؟). التعرى بعد ذهول الفوز على تفاهة الجائزة أمكن أن ينبه الراوى أنه: إذا كان شخصه بهذه الهشاشة، تسكره نشوة فوز لا قيمة له، فهو مقتول بأى فوز تافه يغرقه فى اغترابه حتى الذهول.
هكذا، فجأة، يضعنا محفوظ أمام التساؤل عن معنى النجاح ومعنى التنافس، ومعنى الفوز. يعلن محفوظ أن تمثيلية النجاح التى نمثلها جميعا هى دوامة فراغ، وأن سعار الفوز الذى يسكرنا برغم تفاهة الجائزة هو الضياع ذاته. إن الراوى برغم فوزه بمكأفاة حل اللغز هو هو القتيل بسكره بتافه الفوز وهو ـ برغم فوزه، أو حتى بسبب فوزه هذا ـ يواجه انهيار وجوده الهش الذى يعلنه تساقط التراب من أحد أركان الغرفة. فهو الفزع من خدعة فوز لا قيمة له حيث لم يمنع انهيار وجود كان هشا طول الوقت، ولم ينتبه صاحبه إلى هشاشته إلا حين غمره ذهوله بفوزه الخائب، فوجب الهرب.
لكن هل ثم سبيل إلى الإصلاح أو التعديل أو الإفاقة أو البدء من جديد؟
يترك محفوظ النهاية مفتوحة، يترك صاحبنا وهو يبحث عن الأمان بعد أن تيقن من قرب انهيار وجوده (بيته الصغير)، راح يبحث عن الأمان خارج ذاته فهو يعدو بعيدا عن بيته. يجرى بأقصى سرعة فى الهواء الطلق، يجرى من نفسه (بيته هو نفسه)، وهذا الهواء الطلق لا يعد بشيء إلا مواصلة الجرى. (المعرفة، الكدح).
رابعا: نظرة إلى حلم حديث ربما تم إملاؤه لا كتابته.
(ربما لا نجد فرقا كبيرا بين أحلام الأصداء، وأحلام النقاهة فى المرحلة التى كان محفوظ يكتب بنفسه الأحلام برغم الإعاقة الشديدة، حتى كانت تبدو “شخبطة” تكاد لا تقرأ وهى تنشر فى نصف الدنيا، لكنه حين آعيق حتى عن أداء هذه الشخبطة، وقاوم فكرة الإملاء فترة، ثم اضطر إليها لإلحاح الإبداع / الحياة، فقد يمكن أن نتصور أننا سوف نجد فى بحث مطول فروقا دالة دلالة إهم بين استرسال الكتابة فى أحلام الأصداء، وبين أحلام الشخبطة وبين أحلام الإملاء.) [8]
على أية حال قلت أختم المقال بإشارة متواضعة إلى حلم من آخر أحلامه (التى نشرت فى العدد 777 نصف الدنيا، يناير 2005)، إشارة هى التى صدرت بها بحثى الذى كتبته “عن كبت الخوف وتسطيح البشر” لمجلة سطور للنشر فى فبراير القادم.
حلم 144: “نظرت فى ظلمات الماضى فـرأيت وجه حبيبتى يتألق نورا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التى أرسلتها لها منذ أسبوع فقالت إنها وجدتها مفعمة بالحب ولكنها لاحظت أن الخط الذى كتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة، وبخاصة من الحب والزواج، ولما كنت مصابة بنفس الداء فقد عدلت عن الذهاب إليك وفكرت فى النجاة فلذت بالفرار”.
كيف عرى محفوظ الخوف من الحياة ومن العلاقة بالآخر (الحب) هكذا وهو فى هذه المرحلة مع كل الإعاقة والصعوبة! كيف كثف الزمن قفزا عبر نصف قرن كيف عمم هذا الخوف بين الطرفين بهذه الدقة! كيف كان الهرب هو الحل فى مواجهة هذا الخوف المتبادل.!
نجح نجيب محفوظ أن يلغى الزمن وأن يختزل خمسين عاما ليتواصل الحوار: خطاب العتاب من أسبوع والفراق من نصف قرن والرد المؤجل “الآن”
انطلاقا من هذا الحدس الإبداعى ألا يجدر بنا أن نتدارس هذه الظاهرة فى جذورها الأعمق بدءا من الخوف من الآخر ومن الحب ومن الحياة إلى الخوف من الحرية والخوف من الإبداع بديلا عن الدعوة المسطحة الشائعة أنه “لا تخف” ودع القلق وعليك بالسعادة وما شابه .
تعقيب: إذا قارنا أحلام فترة النقاهة بالأحلام الواردة فى الأصداء يمكن أن نتبين الفرق بينها فى مدى استرسالها، وتواضع النقلات الصارخة، وخفة درجة الغموض المتواضعة حيث تبدو أحلام فترة النقاهة أكثر تركيزا، وأعنف نقلات، وأدهش مفاجآت.
هل هذا يرجع إلى الإعاقة، أم إلى النضج، أم إلى نقلة إبداعية أعمق؟ الأرجح عندى أنه يرجع إلى كل ذلك معا.
****
وبعـد:
لا يعدو كل ذلك إلا أن يكون مقدمة متواضعة لدراسة تفصيلية تستأهل النظر فإعادة النظر، فالنقد، فمناقشة النقد، فنقد النقد.
لا يوجد لمثل هذا العمل، ولا لأعمال محفوظ كافة قراءة واحدة، ولا يصح فيها رأى واحد، ولا يجوز عليها تفسير واحد، وقد وجدتنى وأنا أعاود قراءة ما سبق أن كتبته شخصيا أعيد النظر، ثم أعيد النظر لكننى لم أتدخل فى هذه المرحلة كثيرا.
ألا يستأهل ذلك ومثله وغيره إحياء الاقتراح الذى تقدمت به مرارا لهيئة الكتاب بأن تصدر “دورية منتظمة لنقد نجيب محفوظ”، لعلها تحيى الحركة النقدية ليس فقط فى نقد محفوظ، وإنما فى النقد عامة، كما ينبغى بما ينبغى؟
[1] – يحيى الرخاوى قراءة فى أصداء السيرة الذاتية. الإنسان والتطور أعداد (عدد 61 – إبريل 1998 وعدد65-66 إبريل 1999 وعدد إبريل 1994 وعدد 60 يناير 1998 وعدد 59 آكتوبر 1997 وعدد 62 يوليو 1998).
[2] – يحيى الرخاوى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (فصول – المجلد الخامس – العدد الثانى – يناير 1985) .
[3] – يحيى الرخاوى (قراءات فى نجيب محفوظ) الهيئة العامة للكتاب عام 1991 .
[4] – يحيى الرخاوى فى “أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات أم هى أحلام يقظة”؟ مجلة إبداع العدد الأول – الثالث يناير(2002).
[5] – يحيى الرخاوى قراءة فى “أحلام نجيب محفوظ”، وجهات نظر العدد 48، يناير (2003).
[6] – نجيب محفوظ “مجموعة رأيت فيما يرى النائم” ـ مكتبة مصر 1982 .
[7] – إدوار الخراط “يقين العطش” دار شرقيات للنشر، 1996.
[8] – (نصف الدنيا عدد 777 - 2 يناير 2005)