اليوم السابع
الثلاثاء : 22-4-2014
عن الثورة والنظرية والأيديولوجيا والدين
رجعت أول ما رجعت إلى كتاب فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر، فإذا به شديد التواضع فى مقدمته حين يقول إنها عبارة عن خواطر “….. ليست لشرح أهداف ثورة 23 يوليو 1952 وحوادثها، وإنما دورية استكشاف لنفوسنا لنعرف من نحن وما هو دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات…. إلخ …” وهذا أقرب إلى الإبداع منه إلى تطبيق فلسفة أو نظرية، برغم ما صارت إليه الأمور.
قلت مرارا إن الثورة هى إبداع جماعى، والإبداع عملية حمل ومخاض وولادة وتشكيل، فهى عملية جارية، وليست تطبيق نظام له قياساته وحساباته النظرية المسبقة، هذا لا يعنى أن الثورة –أية ثورة- ليست لها أهداف محددة، أو معالم مميزة، لكن العملية التى تسمى ثورة والتى تبدأ بالتفكيك، فالفوضى، فإعادة التشكيل لا يكفيها الخطوط العامة ولا النظرية الجاهزة، وهى لا تسمى ثورة إلا إذا بدأت، ونجحت فى إعادة التشكيل، بعد مرحلة التفكيك، وهى لا تبدأ التشكيل بأن تنفذ “الماكيت” المرسوم لها، وإنما ليتخلق منها ما هو جديد جميل مختلف نافع باق، فتتخلق النظرية التى ترعى الوليد الجديد، وهى ليست أبدا الشعارات الحماسية التى صاحبت لحظات الاندفاع للتفكيك، النظرية الجديدة لابد أن تكون ضد استمرار الفوضى، وهى لا تعنى فى نفس الوقت انتهاء الثورة، بل استمرارها.
نحن الآن فى مرحلة التشكيل التى تسمح بتخليق نظرية تناسبنا، وإن كانت غير كاملة، فهى سوف تكتمل بالممارسة، قد تبدأ من خطوط عريضة ملزمة، لكننا لا بد أن نكون على استعداد طول الوقت للتعديل والتطوير دون إعاقة للمسار، أو انتظار لاستكمال التنظير.
ما هى الخطوط العريضة التى يمكن أن تساعدنا على بلورة نظرية تتناسب مع العقد الثانى من الألفية الثالثة تصلح لبلدنا هذا فى وقتنا هذا، فى محيطنا الأقرب فالأبعد؟ هل لا بد أن تكون النظرية فريدة نوعها غير مسبوقة نظرا لتميزنا القومى واللغوى والحضارى، أم يمكن أن نستلهم بعضها من التاريخ والجغرافيا ، تاريخنا وتاريخ العالم، وجغرافية بلادنا الإقليمية والعربية، وكذلك جغرافية العالم؟ هذه ليست مهمة المنظرين على المكاتب مهما بلغ علمهم ، ولكنها نتاج الممارسة السليمة ممن يديرون الدولة فى الظروف الجديدة، وهم يستوعبون الوعى الشعبى المتخلق بعد الفوضى المرعبة .
ثم ما هو زمن الامتحان الذى علينا أن نسلم بعده ورقة الإجابة مكتملة أو شبه مكتملة وفيها إجابة عن “ماهى النظرية وراء 25 يناير ” ثم ما هى النظرية وراء “ثورة 30 يونيو”..إلخ هل على الشباب (والكبار) أن يذهبوا ويذاكروا مقرر النظريات السياسية المعاصرة ويقارنوا بينها، ثم يختاروا الأصلح لنا، أم أن علينا أن نحسن الممارسة، ونحترم الوقت، ونستلهم تجارب الآخرين (وليس فقط أيديولوجياته) لنخرج بالأصلح لنا؟
هناك فرق جوهرى بين الأيديولوجيا كنظام متكامل جاهز (عادة جامد) ، وبين النظرية القابلة للتوليد المستمر إبداعا، فى إطار الالتزام والمرونة حول الهدف المحورى الضام للقوى الجديدة، مع تحديد المحكات التى نقيس بها أولا بأول. الأديان فى جوهرها رحمة من الله سبحانه تسمح بتنمية إبداع الوعى البشرى العام إلى خير كل الناس فيتوجهون مكرمين متناغمين مع الوعى الكونى إلى وجه الله، لكن حين انقلبت الأديان إلى نظرية، ثم إلى أيديولوجية، اصبحت وصية وصاية جاثمة على وعى الإيمان والإبداع وحركية التوجه إلى الله سبحانه ، فكان ما كان.
لا يمكن أن نفرض نظرية جديدة جاهزة صادرة من المكاتب على الوعى المصرى فرضا، وبالذات على وعى الشباب المصرى الذى نشأ بلا مدارس، وبلا قيم حقيقية، وبلا علاقة بربه حوارا وتوجها وصلاة وابتهالا، وبلا تواصل مع الناس الحقيقيين باحترام وعدل، كما لا يجوز أن نستسلم لنظرية مستوردة من الماضى سابقة التجهيز حتى لو أخذت اسما دينيا (إسلام الإخوان الحل)، أو مستوردة من أسواق المستغلين المستكبرين تحت أسماء معاصرة (الديمقراطية، وسياسة السوق، وحقوق الإنسان: هى الحل).
لا مفر من أن ندفع ثمن الذى كنا فيه، وليس فقط ثمن طول فترة التفكيك (الفوضى)، نحن نحتاج وقتا وصبرا وجهدا وإبداعا لتكون عندنا مدارس بمعنى: الثقافة والمجتمع والقيمة والقدوة، من سن الثالثة وحتى الثلاثين،علينا أن نصبر مقابل ما ضاع منا من وقت، وأن نرفض التبعية بكل مستوياتها مهما كانت الأزمة، ولاح الإغراء، ولن يمكن لعامة الناس أن يقبلوا التلويح بالصبر إلا إذا رأوا التغيير الإبداعى فى كل موقع، بدءا من المدرسة، إلى الشهر العقارى، مرورا بالنشر، وثقافة الحرب (الاستعداد المستمر)، والإنتاج، والاستقلال فى كل المجالات.
نحن المسلمين، نحن شعوب العالم الثالث، نحن دول البريسك، نحن روسيا بوتين، نحن الاستقلال الاقتصادى، نحن اللغة العربية التى هى حضارة قائمة بذاتها (لا الظاهرة الصوتية المفرغة)، نحن السوق العربية المشتركة، نحن التعامل بأية عملة غير الدولار، قادرون على تخليق نظرية إلى الله، لنعبده فى كل ثانية كمحور لوجودنا يحاسبنا فى كل ثانية عن كل ثانية ، لنا ولكل الناس،
وهذا ممكن لأنه خلقـَنا لهذا وليس لكى نتبع الإسلام (الأيديولوجيا) حلا، ولا الديمقراطية (الدين) حلا .