اليوم السابع
الأحد: 4-5-2014
نادين شمس: شاعرة تكتب قصيدتها الأخيرة
فى رثائى لها الذى نشر هنا فى 23 مارس2014، ودعتها كإبنة مصرية رقيقة جميلة قاصة وسيناريست، وأيضا كجارة، وزوجة لإبنى نبيل القط، وثائرة، لكننى لم أكن أعرف جوانب أخرى من إبداعها وفضلها، وحين طلب منى نبيل أن أشارك فى تأبينها بتسجيل كلمة عنها، اعتذرت لجهلى ببقية أبعاد ما تمثله وما فقدناه بفقدها، فـأتحفنى ببعض ذلك، فافتقدتها أكثر، ودعوت لها أصدق، وتأكدت من استجابة ربى لما أنهيت به كلمتى الأولى ” لا عليك يا نادين: ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، واطمئنى على هذا البلد الطيب الذى أنجبك، فهو بلد ولود، والله يحبه، ويحبك”.
أعطانى نبيل مجموعة حوارات كانت قد أجرتها مع عدد من المخرجين المبدعين، جمعها محبوها بعنوان “شهادات المخرجين”، كتبتْ لها نادين استهلالا – وصلنى قصيدة جميلة- بعنوان: “ما يشبه المقدمة” كما كان ملحقا بالعمل عدد من اللوحات التى شكّلتها بنفسها، فتأكدت أننى أمام شاعرة مبدعة على أكثر من مستوى:
الشعر الحقيقى لا يستعمِل الألفاظ إلا كوحدات بنائية لتشكيلات لغوية جديدة شكلا وإيقاعا، حالة كونها تعلن حركية الجدل الحركى الولافى بين الظاهرة الإنسانية الوجودية الأعمق وبين الواقع المتجدد بالفعل الخلاق، فى الشعر تتفجر علاقات وتركيبات جديدة، تحيل التشكيل اللغوى السابق العاجز عن استيعاب الجارى إلى تشكيل أكثر قدرة وأجمل إيقاعا وأطوع مرونة وأدق تصويرا. ينشأ الشعر، بل يلزم، حين ترفض الظاهرة المعيشة أن تـُسجن فى قوالب ألفاظ أعجز عن احتوائها، إذْ ترفض أن تنحشر فى تركيب لغوى جاهز. فالشعر- إذن – هو عملية إعادة تخليق الكيان اللغوى فى محاولة تشكيل أقرب ما يشير إلى الخبرة الوجودية المنبثقة، تشكيل يجمع بين اللغة والصورة والإيقاع فى تناسق جديد مخترق”.
دعنا نسمع نادين فى قصيدة الاستهلال وهى تعزف:
“أعرف أنك تقف هناك .. على حافة الأشياء، كبهلوان يسير على حبل مشدود وسط ساحة كرنفال.. بملابس ملونة وقناع، فلتترك عصاك ولتغمض عينيك، ولتدع قدميك لصوتى.. فقط دعنى أراك، دعنى أرى قلبك .. هلا خلعت هذا القناع”!(مخرج).
ثم إنى مررت بشهادات المخرجين فإذا بها ذات حس متماسك واحد بغض النظر عن اسم المخرج الذى يدلى بآرائه بضمير المتكلم، وشعرت بنقلة جمالية، ومسئولية تحريرية، وأمانة، وعجبت كيف جعلت نادين كلام هؤلاء المبدعين يبدو كأنهم واحد لا كـُثـْر، كيف جعلت كل هذه الشهادات تكتمل فى لحن متكامل، برغم اختلاف العازفين وكثرتهم، وسوف لا أتطرق إلى ذلك الآن.
حين اطمأننت إلى حسى النقدى، تذكرت فجأة أدونيس فى رثائه لصلاح عبد الصبور وهو يقول: الموت “ذلك الشعر الآخر”، فشعرت وأنا أستعيد دراما رحيلها أنها كانت تكتب قصيدتها الأخيرة، وهى ترسم النقلة بين الوعى الشخصى، والوعى الكونى، ونحن نعدو خلفها فى جزع الفقد نعزف لحن رحيلها البالغ الإيلام، فرجحت سلامة فرضى عن كيف أن الموت هو “أزمة نمو” تختم ملحمة “جدل الفصل الوصل”.
ثم تنتهى قراءتى لها بالإنصات إلى اللوحات الشعرية الأخير، بعنوان “الداخل ..الخارج”، فأتذكر ما تعلمته من شيخى الأول الراحل محمود محمد شاكر، من قصيدته على قصيدة الشماخ بن ضرار الغطفانى “القوس العذراء” ، وهو أن الشعر لا يـُنقد إلا شعرا، “، وفى نقدى لأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، حين اكتشفت- بدءا من الحلم رقم “53” وحتى “209”، أننى أمام لوحات شعرية مكثفة، شعرت أنه لا ينبغى أن أواصل نقدها باعتبارها طلقات قصصية سريعة، فأكملتها باجتهاد متواضع بما أسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى” فى كتابى الذى صدر من دار الشروق.
نادين شاعرة بكل معنى الكلمة، تعالوا نقرأ هذه القصيدة، اللوحة الثالثة، من قصائد (الداخل..الخارج):
“عندما أحرك رأسى مبتعدة بوجهى عن النافذة، كثيراً ما تلتقى عينانا، شيء ما فيهما ميت، أشرد فى حركاته العصبية، اتجاهات يديه، الأشكال التى ترسمها فى الهواء ثنيات الأصابع وانفرادها، كفه الصغيرة المطبقة فى تحدٍّ، تقلصات الوجه العارى من التفاصيل، تمدد شعيرات الشارب الرفيع عند انفراج الثغر، حركة الشفتين الغليظتين وهى تنطبق وتنفصل، تصبح دائرية، بيضاوية، مزمومة، منفرجة، حمراء، صفراء…”
فسمحت لنفسى أن أسترجع تقاسيمى شعراً عاميا، يصلح نقدا مناسبا لهذه الصورة الجميلة، جاء فى ديوانى “أغوار النفس” حين وصفت لعبة الصمت فى العلاج الجمعى قائلا:
فتَّــحْْ عينَـكْ بُصْ،
إنْ كنت شاطـرْ حِـسْ.
“أنا مين؟”! ما تقولشْ ْْ
مجنونْ؟ ما تخافشْ.
جرّب تانىِ، مِا لأَولْ:
… راح تتعلم تقرا وتكتب من غير ألفاظ:
مش بس عْنيك، تدويرةْْ وِشــّـك،
وسلام بُـقَّـكْ عَلَى خَدّك،
والهزّه فْ دقنـَك، وكلامِ اللون :
اللون الباهتِ الميّتْ، واللون الأرضى الكـَلـْحـَان،
واللونِ اللى يطق شرارْ، واللون اللى مالوش لونْ،
وعروق الوشْ، والرقبهْ، وخْطوط القورةْْ،
وطريقةْ بَلْعَكْ ريـقــكْ، تشويحةْْ إيدكْ……
وبعد …
دعينى أذكـّرك يا نادين أن الأكبر حين يفقد عزيزا أصغر، يتألم أفجع، حتى أننى، كما ذكرت فى رثائك الأول، كلما عشت هذه الخبرة اشعر أن علىّ أن أعتذر للصغير أو الصغيرة الراحلة، إذْ كان ينبغى علىّ أن أسبقه، ولعلك تذكرين تلك اللمسة الإنسانية المؤمنة وهى تتجلى فى حزن النبى عليه الصلاة والسلام على إبنه إبراهيم، برغم رضاه الكامل بقضاء الله وهو يقول: “وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون” وأيضا وصلنى قريب من هذا من رثاء أبى العتاهية لابنه “علىّ” قائلا:
كفى حزنا بدفنك ثم أني …… نفضت تراب قبرك عن يديّا
وكانت في حياتك لي عظات … وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وأنتِ اليوم يا نادين أقربُ، واجملُ، وأطيبْ.
لكننا لفراقك – يا نادين- لمحزونون.