نشرت فى الدستور
1-2-2006
الطبيب النفسى، ومفهوم “الإنسان” (2)
العلاج بمواكبة النمو
فى الجزء الأول نبهنا كيف أن الطبيب النفسى – أدرك ذلك ام طنـْبَـلَهُ (يعنى طنّشه بالمصرى) – إنما يمارس مهنته، رضى أم لم يرض، من خلال مفهومه عن الصحة النفسية والإنسان (عن نفسه شخصيا ضمنا). من أول أن ما يمثله هو (الطبيب) هو النموذج الأمثل، حتى قيمة التمتع بالرفاهية الوديعه، مرورا بتحقيق الطمأنينة الساكنة، وحذف المعاناة، وذلك بزعم تصحيح الكيمياء التى قالت له شركات الدواء أنها اختلت، وأن أدويتها سوف تصحح هذا الخلل (توموتيكى). هذه الاحتمالات ليست خطأ وليست عيبا وليست مرفوضة، إذ ماذا نريد من الطبيب أحسن من أن يتمنى أن يكون المريض مثله، وأن يهدئه بالسلامة، ويريحه هو وأهله، ولا مانع أن يريح الحكومة بالمرة، بأن يصحح ما اختل عنده من كيمياء.
لكن للمسألة وجوها أخرى:
خذ مثلا طبيبا يرى أن الإنسان ليس إلا “كيان دائم النمو”، وأنه يتغير باستمرار فى دورات لا تنتهى، وأن أزمات هذا التغير قد يتوقف تماما فهو المرض، أو قد تشتد معاناة المو حتى لا تطاق، فتسمى مرضا نفسيا، له أعراضه حسب درجة المعاناة، وحسب تعامل المجتمع وتفاعل الشخص، وأخيرا حسب تناول الطبيب (مع المريض ومجتمعه) لهذه الأزمة. مثل هذا الطبيب يعتبر نفسه مشاركا فى هذه المسيرة، وبالتالى هو مسئول جزئيا – أمام الله أساسا، وأمام ضميره، وأمام مهنته الحقيقية – عن مآل الأزمة، فهو يخفف المعاناة لا يقضى عليها، وهو يفهم معنى المرض من خلال فهمه لمسار نمو الإنسان وأزماته، وهو يواكب المريض – ناميا بدوره (يعنى الطبيب ينمو أيضا) – ليحققا معا ما هو ممكن بأقل قدر من الخسائر، وأكبر قدر من المكاسب النمائية، وبعض الآلام طبعا. هى مسألة صعبة لكنها – والله العظيم ممكنة – حتى المريض إذا عجز عن الخروج إيجابيا من هذه الأزمة، فإن الطبيب قد يواصل نموه هو ليفيد مريضا آخر، له فرص أفضل.
هذا ما يسمى “العلاج من منظور النمو المتصل”، وهو علاج يستعمل العقاقير كلها، ليس باعتبارها نهاية المطاف، وإنما لضبط جرعة الألم حتى لا يصبح ساحقا معوّقا، وأيضا قد تفيد العقاقير فى تثبيط مستوى بدائى فى الدماغ يريد أن يفسد مسيرة النمو بنشاطه العشوائى، ومن ثم يمكن احتواء كل مستويات فى نبضة نمو مناسبة، تتحقق ونحن نتراجع بالعقاقير تدريجيا لحساب تدريبات التكيف والتطور.
صعب؟ نعم صعب.
لكنه ممكن، إن لم يكن كله، فبعضه، صدقونى.
والله المستعان على ما تضعه شركات الدواء والاستهلاك فى أدمغة الناس عامة، والاطباء خاصة.