نشرت فى الدستور
5-4-2006
عن الموت والشباب والحركة والسياسة
فى خلال أسبوعين اشتركت فى مناقشة مؤلمة حزينة إثر رحيل أثنين من شباب مصر الذين يعيشون فى ظروف لم تكن تشير إلى مصيرهما هكذا. كان ذلك من خلال برنامج “البيت بيتك”.
الشاب الأول (20سنة) بطل فى كرة اليد، مطيع مهذب “لا عيب فيه”، ذهب ضحية لعبة الموت، (رجل الشنق Hang man) اللعبة التى يتشارك فيها شباب يخنقون أنفسهم أو يخنق بعضهم البعض حتى الغيبوبة، ثم يسارع المشاهدون منهم إلى فك الحبل أو قطعة، وإما أن يلحقوه أو يسبق إليه القدر. ولا عزاء للجمود الراكد والجبْن المتصلّب، الشاب الثانى (16سنة) دهسته سيارة فى الطريق الدائرى بعد أن ترك بيته دون إخطار ودون سبب ظاهر، دعونى للمشاركة فى تفسير خروجه من المنزل دون إذن، ودون جوازىْ سفره (الانجليزى والمصرى فوالده يعمل استاذا بالهندسة، وهو رجل أعمال بين القاهرة ولندن!).
حين دعونى للتسجيل الثانى، لم أكن أعلم نبأ وفاة الإبن بعد، أعددت نفسى للدفاع عن حق الشباب فى مواصلة نموهم بممارسة “برنامج الدخول والخروج” الذى هو أساساً قاعدة النمو من أول الخروج من الرحم والعودة إلى صدر الأم، بتكرار منتظم حتى الخروج من النوم والعودة إلى اليقظة فى إيقاع حيوى، وبالعكس. فى طريقى إلى التليفزيون، تذكرت ما أنهيت به البرنامج فى حلقة “فقيد لعبة الشنق” فى الأسبوع السابق حين سألنى المقدّمان عما أُنهى به حديثى للأهل، فقلت: علينا أن “نسمع، ونسمح، ونحتار معهم”. سألنى كثيرون بعد الحلقة عما أعنى بهذه الكلمات الأربع وكان من السهل علىّ أن أشرح الكلمتين الأولتين، (نسمع، ونسمح) مع شكى فى استقبال المستمع لما أعنى. كثير منهم فهم “نسمع” على اعتبار أننا نأخذهم على قدرهم (على قدهم)، كما فهم “نسمح” باعتبارها الحرية المزعومة أو التفويت الكاذب، أما “نحتار معهم” فلم يلتقطها إلا ندرة من المشاهدين. نحن – صغار وكبارا – محرومون من أن نحتار مع أنفسنا أو نختار لأنفسنا منذ استولوا على حقنا فى المشاركة فى الحياة السياسية خاصة مشاركة حقيقية.
دار كل ذلك فى ذهنى وأنا فى طريقى إلى التسجيل، ما إن وصلت إلى هناك حتى قابلنى الصحفىّ الشاب معدّ الحلقة وأبلغنى الخبر المؤلم وهو أنهم عثروا على الابن “الآبِقْ” جثه هامدة فى الطريق الدائرى. حضر والده المكلوم قبيل الحلقة وقمت بتعزيته وهو فى حال، ثم دخلنا معه إلى التسجيل.
حاول المتناقشون كلٌّ من موقعه أن ينبه إلى ضرورة رقابة الأسرة، وإلى الأثر السئ للإنترنت، وإلى السهولة التى يحصل بها الشباب على تعليمات وإغراءات هذه الألعاب الخطيرة، أو الأفلام المثيرة والصادمة، انتبهت ونبّهت أن كل ذلك على العين والرأس، لكنه فى تصورى لا يمثل الورطة الأساسية التى أوصلْنا إليها أطفالنا وشبابنا.
المسألة أن مجتمعنا بصفة عامة قد وصل إلى حالة من الركود والاعتمادية كادت تلغى فرص الحركة المستكشفة والحوار الخلاّق والدهشة المسئولة عند الكبار والصغار على حد سواء، وإذا كنا نحن الكبار قد تعودنا هذه الاستكانة وذلك التسليم، اللهم إلا بالسماح بفقاعات السخط والرفض تتقافز على سطح وعينا، ووسط كلماتنا، مثلما يحدث للطبيخ الحامض، فإن الشباب بطبيعة حركيته وزخم حيويته راح يقاوم أكثر، ويحاول أخطر، حتى الموت.
المصيبة لا تأتى فقط من تضييق مساحة الحركة السياسية التى تسمح بها الحكومة فى صورة أحزاب وَرِقيّة، ونشاطات ندواتيه، وانتخابات مشبوهه، المصيبة أن المجتمع كله أصبح ضد الحركة وضد الكشف وضد الدهشة وضد الإبداع. الأجوبة أصبحت جاهزة وراسخة وثابتة تتنزّلُ من أعلى بيقين راسخ كاتم سواء كانت بيانات وأرقام الحكومة، أو فتاوى ووصاية السلطة الدينية الجاهزة والجامدة والحاسمة وهى تحُدد كل تفاصيل ما ينبغى وما لا ينبغى بحيث لا يتبقى للشباب والناس إلا الطاعة العمياء أو العصيان المتشنج.
النتيجة هى أن الشباب يجد وعيه موصى عليه، مأمور بسكون خانق، مغطى بإجابات جاهزة ضد طبيعته وضد فطرته التى خلقه الله عليها، فيهرب حتى يقضى نحبه، أو يلعب حتى يشنق نفسه، ونحن نمصمص الشفاه، ونترحم عليه ثم نعود إلى سباتنا نسحب علينا غطاء العمى الساكن، أو نختبئ وراء ستائر التأجيل إلى انتخابات قادمة، أو جنة مأمولة، ناسين أننا لن ندخلها إلا بحركتنا نحو الحق سبحانه وتعالى، كدحاً لنلاقيه، وكشفا لنرى وجهه ليس كمثله شئ.
وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى!