نشرت فى الدستور
23-8-2006
… ثقافة السلام وثقافة الحياة !!!
..سألتنى المذيعة الطيبة عن كيف نربى أولادنا على “ثقافة السلام؟ ، استفسرت منها عما تعنى بثقافة السلام ؟ وما علاقتها بثقافة الحرب؟ أرتج عليها، ولم تقل لى أن هذا تكليف من رئيسها ؟ اعتذرت، وأكدت لها أننى لست ضد السلام، كما أننى لست ضد الحرب، فقط علينا أن نحدد ما نريد مما نردده.
ثقافة السلام كما تسوّق لنا هى إيهام بأنها كل ما هو “ضد الحرب”، دون قيد أو شرط، حتى نوحى لأنفسنا، وبالتالى لأطفالنا، أن الحرب غير مطروحة أصلا، لأنها “عيب” (!!) ، ثم قد نستدرك فنضيف:”إلا دفاعا عن النفس”، دون أن نؤكد أن هذا الدفاع ليس إلا حربا ضروسا.
بعد كل حرب، يتبين للجميع حجم الخراب والدمار والضحايا والآلام، فتتجه النية إلى العمل على الحيلولة دون الحرب التالية، فيتفقون على إنشاء هيئات للحفاظ على الامن والسلام (وليس بالضرورة لترويج ما يسمى ثقافة السلام كما يحدث هذه الأيام) !! وهات يا عصبة للأمم، ثم هيئة للأمم، ثم مجلس للأمن (وعقبال ” جماعة الأمم”، و”مجلس السلامة. بعد الحرب العالمية القادمة بالسلامة!!)، ثم تمر الأيام، ويثبت خداع وفشل كل ذلك من خلال غياب العدل الحقيقى، وتمادى التحيز السلطوى، ويعاد النص (الاسكريبت) من جديد.
بعد ما طرأ على العقل البشرى من قدرات، وما حقق من علوم وتكنولوجيا، وبعد ما طرأ على الوعى البشرى من بصيرة قادرة أكثر على رؤية الداخل من ناحية، واستشراف المستقبل من ناحية أخرى، أصبح للحرب معنى آخر، وللسلام معنى آخر، كما أصبح الاستقطاب بينهما، أقرب إلى مخلفات التاريخ.
الخيار المطروح على البشر الآن هو أن يفيقوا إلى أن حروب الإفناء لن تُبقى حتى على المنتصر، وأن الخداع بتبرير الخضوع والتسليم تحت لا فتة ما يسمى ثقافة السلام هو قتل لحيوية الصراع وجدل التطور بمحو الطرف الآخر.
البشر الحقيقيون يتقدمون حثيثا نحو احتواء طاقة العدوان ليحطموا بها القديم فيكون الإبداع، يتخلق السلامٌ الحقيقى حين تنبض الحياة بحيوية الصراع دون دمار أو إفناء. نحن لا نعيش الحياة نابضة زاخرة إلا حين نعيش حقيقة الموت ونتقبلها لتتفجر الحياة . هذه ليست قضايا نظرية، ولا هى قصيدة نثر، هذه هى النقلة التطورية المعروضة على البشرية مجتمعة بعد أن أتاحت ثورة التواصل لمجموع الناس- لأول مرة فى التاريخ – أن يتواصلوا عبر الكرة الأرضية دون وصاية سلطوية جاثمة.
ثقافة السلام السلبى هى ضد ثقافة الحياة، تصور أن جسدا بشريا قرر أن يتخذ ثقافة السلام فى مواجهة ما يغزوه من ميكروبات، أو تصور أن أهالى مجموعة من الأطفال اتخذوا موقفا سلميا ضد من يخطفون أطفالهم لاستعمالهم فى دعارة الأطفال، هل يجوز أن نعـدّ جسمنا حتى يروض كراته البيضاء، فلا تفرز الأجسام المضادة لغزو الميكروبات؟ أو هل يجوز أن نواصل وعظ أهل الأطفال المخطوفين، لكى يمارسوا ضبط النفس ويتفرغوا لإنجاب أطفال جدد بدلا من الذين يُخطفون منهم، حرصا على ثقافة السلام ؟ !!
ثقافة الحروب المغيرة هى ثقافة التفوق الزائف للأقوى تكنولوجيا وأموالا وتدميرا، هى ثقافة الفناء للجميع. الأمور تتغير: لم يعد المنتصر -رجالا وعتادا- هو الأولى بالبقاء كما كان الأمر يبدو قديما حين كان التفوق الكمى، والقوة التكنولوجية هما المقياس الأول لأحقية التفوق. التقدم الإنسانى الجارى رغما عن أساطير التاريخ وأوهام التحيز وبفضل التواصل المتمادى بين البشر: يعد بتعرية هذه اللعبة القذرة، حينذاك سوف يتبين المنتصر الظالم أنه يملك كل شىء إلا نفسه، وأنه لا يقف إلا على قمة هرم من الفراغ والعدم ضد الحياة، ضد نفسه. هذا الفراغ ينشأ ليس فقط من إبادة الأضعف، ولكن أساسا من تفريغ ذاته الداخلية من تاريخها، ومن شرف استمرارها بشرا يتطور.
علينا أن نتعلم من حربنا الشريفة الأخيرة هذه التى أفاقت أغلبنا أننا بشر نستحق أن نحيا مع البشر بكرامة تليق بتضيحاتنا أنثاء فى الحرب، وبحروبنا أثناء السلام، نتعلم أن ثقافة الحياة لا تستبعد الحرب بكل غبائها ومضاعفاتها التى تضطرنا أحيانا إلى قتل من كنا نود ألا نجرح طرف إصبعه. الواقع المر يجعل الحرب الحقيقية بكل تشكيلاتها وتنويعاتها حتى أقبح صورها، جزءا لا يتجزأ من ثقافة الحياة .
ثقافة الحياة هى جدل حيوى نابض يستوعب الحرب متجاوزا الفناء والإبادة، لتتواصل الحياة إبداعا يقتحم الموت ليحتويه لا لينفيه، وسلاما يحتوى حربا نشطة متفجرة خلاقة، وليس سلاما يفرض عدما ماحيا فارغا مفرغا.
عن شيخنا حامد عمار (خطى اجتزناها 2006)، عن الشاعر ممدوح الشيخ، أنه قال:
“كأنى منذ ابتداء الخليقة أقاتلْ”
…
“أقاتل من أجل ألا أقاتل”