نشرت فى جريدة الأخبار
5/12/1978
هذا الإنتحار الجماعى فى أمريكا..
محطة إنذار مبكر.. لمحنة العصر
لم يعد الجنون أو الإنتحار أو القتل مجرد ظواهر شاذة ينبغى علاجها بكذا أو كيت، أو يكتفى بالبحث عن أسبابها الفردية فى هذا الحادث أو تلك العقدة، ذلك أن النظرة العلمية الأعمق قد تخطت مجرد التصنيف والوصف والتعليل والنفى للمجانين والمجرمين، إلى محاولة ترجمة هذه الصيحات الشاذة إلى ما يفيدنا ويوقظنا معا، رغم أن هذه المحاولة الأخيرة قد أسيئ استعمالها أيضا لتبرير الشذوذ والجنون والإنحلال، والتعلية من شأن هذه المظاهر التدهورية دون أى مبرر واع شريف.
ولا أحسب إنسانا حيا على ظهر هذه الأرض قاطبة يستطيع أن يطالع الصحف هذه الأيام ويرى جثث الأطفال والنساء والرجال تمثل هرما من التحدى المر، ثم يواصل حياته كما كان يفعل من قبل بنفس النمط الإغترابى، والعمى الإغمائى. اذ لا يكفى أن تنقطع قلوبنا أسى ولوعة أن نبكى دما، أو أن ننظم قصيدة شعر والهه، أو أن نمصمص شفاهنا شفقة وترحما، أو أن نسخط على العصر والضياع والحكومات والبورصة.. وغيرها، ولم يعد يكفى أن ينشط شباب الصحافة ويلاحق المختصين باحثين عن ان اسم لاتينى لمرض تصنفونه تحت لافتة المجنون الجديد جيم جونز ثم ينتهى الأمر إلى نصيحة للشباب بأن يكون أكثر عقلا.
هذا كله ومثله لايكفى ولاينبغى أن يكفى .. فإذا كان الإنتحار الفردى والجنون الفردى صيحة إنذار يطلقها الفرد بأعلى صمت مرضه وشذوذه فإن الإنتحار أو القتل أو الجنون .. الجماعى ينبغى أن يؤخذ بإعتباره إختراقا لحاجز الإغماء الجماعى والإغتراب الجماعى فإذا لم يخترق مثل هذا الحادث حاجز إغمائنا وإغترابنا فنحن أدنى من الطيور والأسماك التى تنتحر جماعيا حفاظا على نوعها بشكل غير مباشر.
إذن فلابد أن نتذكر أن هذه الجماعات الشاذة المنشقة من أول الخوارج حتى الهيبز حتى جماعة التكفير والهجرة حتى جماعة وضحايا معبد الشعب ليسوا شواذ متعصبين فحسب، ولكنهم بالدرجة الأولى علامات منذره على طريق المسيره البشرية، ولذلك فإنى أدعو كل من جزع ومصمص وأصدر الأحكام والعظات أن يرجع البصر كرتين ليرى المقابل لهذا الانتحار والسبيل إليه، فمنذ انفصل الانسان المعاصر عن الحس الكونى الأعظم مستجيا لغرور العقل الجبان، أو انفصل عن العقل الموضوعى الشجاع المغمى عليه فى غيبوبة الخرافة، وقع فى المآسى الإغترابية التى نعتبر هذا الحادث أحدى علاماتها الا أنه لاينبغى أن ينسينا بشاعة هذا الحادث أحداثا أبشع من نفس النوع وأن كانت أخف وأخبث، فليس بعيدا عن الأذهان مأساة المانيا النازية أو حرب فيتنام. وليس ظاهرا للعيان مأساة برامج التلفزيون الإغمائية، ومدر الإعلانات اللاهثة. وليس مثيرا للإنتباه فقه الكلام معناه وبشاعة استعمال الأطفال.. الى آخر هذه الصور المعاصرة الخفية من الإنتحار- القتل الجماعى..
فشل الحل الفردى
ولعلنا نستيقظ أيضا من خلال هذه المشاركة العالمية فى تتبع هذه المأساه لندرك الفشل المحتم لأى حل فردى أو شللى أو دينى مغلق متعصب مهما بدا براقا أو صادقا أو عميقاً فالحل الذى لا يشمل كل الناس أى لا يفتح أبوابه لهم جميعا وباللغة المشتركة .. لم يعد يليق بأحد يحترم إنسانيته ويدرك حقيقة مسيرة نوعه. على أننا ينبغى أن نتسق فى الدافع الذى دفع هذه القشرات والمئات إلى الهجرة وداء هذا الساحر أو النبى أو المجنون، اذ لايكفى أن نعزو ذلك إلى مرضه أو عمق رؤيته أو حماسه وتعصبه فكل ذلك لا قيمة له إذا لم يجد حاجه ملحه يغذيها عند الملتقى والتابع، فلا شك أن هؤلاء المهاجرين أنما هاجروا هربا مما هو العن – فى نظرهم على الأقل – إذ ينبغى ونحن نترحم عليهم، أن نبحث جادين فى حقيقة هذا الذى هو ألعن، ولانكتفى بالقاء اللوم على فرد أو عدة أفراد واتهامهم – حقا وصدقا- بالجنون، مثل ذلك، مثل مراجعة سر نجاح هتلر فى قيادة بلده والعالم إلى القتل (الإنتحار الجماعى)، وعدم الإكتفاء بتصوير الأمر فى بلاهة تاريخية بأنه كان مجنونا أحيا التعصب الجرمانى، إذ لابد أنه خاطب فى هؤلاء الملايين جانبا قويا – انسانيا بالضرورة – محتاجا لجنونه احتياج البقاء ذاته، ومن ثم تمت الكارثة..
أننا أحوج ما نكون الى دراسة الأبعاد الأنسانية التى أهملناها والتى كان يغذيها الدين الحق على مر العصور، ولكن لا بالرجعة الى التعصب التحوصلى والتشنج الإغمائى بل بالبحث بأسلوب العصر عن ما يغطى هذا الجانب الهام والأساسى والأعمق من الوجود البشرى الذى مآله الى الإنتحار الشمولى لا محالة لو ظل يتباعد أكثر وأكثر من أصله (كل من ابتعد عن أصله يطلب أيام وصله) وهذا ما يفسر سر تبعية مثل هذه الجماعات الدينية.
وكل هذا ليس بعيدا عنا فى مرحلتنا الراهنة بالذات إذ نحن نمر بفرصة مراجعة حقيقية والمراجعة إذا صدقت وشملت لابد أن نعتبر من كل شئ، و أول ما يمكن دراسته ونحن نمد يدنا للسلام لمن يدعى مثل ذلك أن نقارن – مثلا- هذه العزلة فى جويانا التى انتهت بالانتحار، وبين عزلة اليهود طوال أربعة آلاف عام التى انتهت بهم الى إسرائيل غير المزعومة، ذلك أنهم – رغم أوهام شعب الله المختار وشطحاتهم الدينية الغريبة- ظلوا حريصين على التكلم باللغة السائدة علما وفنا وواقعا وعلى الإتصال بالعالم الأوسع من أى نافذة أو حتى ثقب خفى .
وقد أوردت هذه المقابلة لنعلم ماينتظرنا فى صراعنا المقبل مع صديقنا اللدود الجديد .. فإذا كانت الحرب قد بررت لنا أوهام التمييز وحددت لنا الأنتصار العضلى البدائى هدفا يبرر استمرارنا، فالمواجهة الحضارية ليس فيها الا الواقع الوطنى المر، والواقع المعاصر المغترب وواقع الصديق العدو الخاص.. وعلينا أن نكون أهلا لهذه المواجهة مستفيدين طول الوقت من محطات الإنذار الصارخة فى أى مكان .. ومن كل مصدر، وعلى هذا فلن ينفعنا بعد اليوم موقف المتتفرج المنتظر لأى شئ وكل شئ، ولن تنفعنا قصائد الشعر وأحلام المجد بديلا عن عمق الوعى ومسئولية الوجود إذ لابد لنا وعلينا – ووسط كل هذه الآلام المروعة – أن نمارس بشريتنا بوعى قادر على التفوق على حمل الأمانة ابتداء من وطننا الى نهاية العالم .