نشرت فى أخبار اليوم
4 – 4- 2011
عالِم النفس .. موجوع ! والگاتب الثائر.. مهموم!
“الأخـبار” تلملم أوجـــاع المصريين الســياســـية والاجتمــــــــــــــــاعـية في غرفة د. يحيي الرخاوي النفسية:
أجري الحوار : مجدي العفيفي
مجتمعنا لا يتحمل ألعاب الحواة وشعبنا أكثر صبراً من أيوب
المصري صديق الزمن .. يصبر علي حاكمه الظالم لثقته أنه زائل لا محالة
أغلب المصريين الآن في حالة من الترقب والتحفز والخوف والانتباه المفرط والاستعداد للانقضاض
غني عن التعريف كعالم نفس وطبيب نفسي شهير، يغوص في أعماق “الأنفس” وهو أيضا يحلق في”آفاق” المجتمع بالكلمة شعرا ورواية ومقالا، يجمع بين العالمين حتي يبين للناس أن الحق لابد أن ينتصر ولو بعد حين، عبر رحلته التي هي بحث عن الحق وصولا إلي الحقيقة المخبوءة في ضمير مثقفي هذه الأمة الذي يحملون مصابيح التنوير ويوقدون مشاعل الاستنارة ، إيمانا بأننا نثور حتي نوجد، فنوجد لنثور وهو ما يتطرق إليه في هذه المحاور، مثلما عبر عن أطروحاته في مؤلفاته التي تربو علي الأربعة والثلاثين مؤلفا ومئات الدراسات والبحوث بالعربية والانجليزية.
يشارك الدكتور يحيي الرخاوي- كمبدع ومثقف – بأسلحة القوة الناعمة، منذ زمن عصي علي التغيير ، في عملية تثوير هذا الشعب العظيم ضد كل من يقف في طريقه أو يعترض طوفانه الثوري الذي ظل يضخ فيه أعمالخ الأدبيةوالعلمية مع أقرانه من المثقفين في تحريك أمواجه سنوات مرة وأعواما مريرة، حتي حانت لحظة الانفجار الكبري زلزالا شعبيا، بشرارة شبابية، أشعلت النار “وهي بقدر ما أحرقت أضاءت” علي حد تعبيره في ثنايا هذا اللقاء.
يرفض د.الرخاوي – كعالم نفس – أية محاولات تبريرية من قبل علم النفس والطب النفسي لتصرفات بما يسميهم” بالقادة الشواذ، أو مشعلي الحروب قتلة الملايين بأسماء مرضية” كما يأبي ” اختزال صراع الشعوب ذي الأسس الاقتصادية والعنصرية إلي رموز نفسية أو أبجدية طب نفسية” ولا يميل إلي رأي “كل من يمارس ابتزاز الشخصية المصرية ووصمها بالسلبية”، فالإنسان المصري ، في منظوره، صديق الزمن، قادر علي تخضير الأصفر واستنبات القفر، صبور علي حاكمه الظالم لثقته أنه زائل لا محالة، و لا يتوافق مع الذي يتصور أن تبديلا جذريا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة، أو حتي بعد شهور، فالتغيير لا يحدث هكذا وكأنك تضغط علي زر.
هذه المحاورة مسكونة بالتحليل الموضوعي علميا وأدبيا، ومشحونة بالآراء والرؤي، وممسوكة بخيوط.. فيها من الإشارات ما يطمئن المجتمع.. وفيها من البشارات ما يؤازر المستقبل.. وفيها من التحذيرات ما يضئ الطريق حتي لا يلتوي ويفقد المصابيح التي حلمنا بأنوراها .
- في كتاباتك ثورة مكبوتة، لكنها علي طريقة (صح مني العزم لكن الدهر أبي) أليس كذلك وأنت القائل “لابد من ثورة تعيد للشعب المصري علاقته بربه..لابد من حقائق تعيد للشاب المصري علاقتة بالطين من ناحية وبالأمل من ناحية.. لابد من فرص عمل تتيح قدرا حقيقيا من الموضوعية والأمان.. لابد من حرية.. لابد من حوار” وكأنك تصرخ في آبار قديمة، وكلنا أيضا؟
لا أعتقد أنني أنفخ، أو كنت أنفخ، في آبار قديمة، ولا أن الدهر أبي!! فأنا متفائل بمجرد أنني مازلت علي قيد الحياة، وهذا عبء ليس لي اختيار غيره، الآبار مليئة بالماء الذي منه كل شيء حي، لكن غور الآبار صار بعيدا بعيدا عن أدوات انتشاله من عمق عمق البئر، ومن يريد ماء الحياة عليه أن يغوص لانتشاله ولا يكتفي بالنفخ فيه، فماء البئر لا يطفو بالنفخ مهما اشتد النفخ، أما أنه قد صحّ مني العزم فقد صحّ، لكن الدهر لم يأبَ لأنني أتعامل مع الدهر باعتباره واقعا، وأحيانا أتذكر أن علاقتي معه هي بمثابة المعادل الموضوعي لعلاقتي مع الحق سبحانه وتعالي (لا تسبوا الدهر فأنا الدهر)، والحق تبارك وتجلي لم يبخل عليّ، ورضاي عنه هو الذي يطمئنني إلي رضاه عني، وإلي وجود مياه الحياة في عمق أعماق الآبار، وأنه لو صح العزم إليه، فهو يصح باستمرار، فيأبي الدهر أن يأبي.
استشهادا بيوسف ادريس
- إلي أي مدي يمارس المثقف دور”زرقاء اليمامة” في المجتمع؟ وماذا عن دور الأعمال الأدبية والفنية في الثورات والتحولات.. تمهيدا ومواكبة وتسجيلا؟
كررت استشهادي بقول يوسف ادريس أن المبدع (والمجنون أحيانا) هو مثل “الناضوري” الذي كان له موقع أعلي ساري السفينة الشراعية يرصد منه احتمال هجوم القرصان، أو أي هجوم عدائي لينذر قائد السفينة وحراسها وراكبيها، وأيضا يمكن للناضوري أن يرصد تقلبات الجمود وينفخ في نفيره للاستعداد لها، تشبيه ذلك ب “زرقاء اليمامة” هو تشبيه جيد، وهو أقرب إلي هذا المثال وإن كان يسري علي المبدع أكثر مما يسري علي من يسمي”المثقف” بالمفهوم الشائع مؤخرا.
نبض الثورات
- أنت تري أن المثقف هو الشخص الذي يستوعب الوعي العام لمجموعة البشر الذي ينتمي إليهم، ثم هو يمثل هذا الوعي ويساهم في توجيهه إلي ما يعد به علي سلم الحضارة والتطور، ووظيفة الأدب الرائدة فيما هو تطهير وتوعية، ولما هو معرفة وإضافة لفهمنا للنفس الإنسانية بلغة الفن العظيمة، ألم المعايشة إبداعا ونقدا.. كيف تري المساحة التي يقف فيها المثقف متفرجا أو مشاركا؟
المثقف الجالس علي مكتبه، أو المنغلق في رموز كتبه، أو المتباهي بموسوعية معلوماته هو من يمكن أن تسري عليه الإجابة بالإيجاب للجزء الأول من التساؤل، حتي يمكن وصفه بالمثقف المتفرج، أو المثقف الراصد، ولا يجوز أن نعتبر أن هذا دور سلبي خالص، لأننا نحتاج من يستطيع أن يحدد لنا معالم دورات نمونا وهي ما أسميه: دورات البسط والاستيعاب التي تمثل نبض الثورات وأطوار الحضارة، أما المثقف بالمعني الذي جاء في بقية السؤال، أي الذي يستوعب الوعي العام لمجموعة البشر الذي ينتمي إليهم فيستحيل أن يتخذ موقف المتفرج أو المصفق مع المصفقين لأنه هو هو ممثل ناسه الذي يقوم بتخليق الحدث ويمثله، الحدث الثوري فالحضاري معا، حتي لو كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.
هو منبع الثورات
- الأدب سياسة وأنت دائما تتمني الحديث في السياسة والبعد عنها في آن واحد ، ولا يصح الحديث عن السياسة إلا باعتبارها علما وثقافة، ولعبة السياسة الظاهرة مؤقتة رغم فوائدها الذاتية، والموقف الفني – العلمي – الابداعي التنويري هو غاية الممكن وهو فعل سياسي في عمق وظيفته، وهو أليق لمن ابتلي بامتحان الرؤية لما تحت تحت السطح، دون التهوين بمدي نفعية الآخرين. هذه كلماتك منذ سنوات .. فكيف تراها الآن
عندك حق، فأنا بقدر ما أزعم أنني لا أعرف ما هي السياسة وأعلن جهلي بآلياتها، أجد نفسي لا أتكلم إلا في السياسة، وربما ينبغي أن أكرر رأيي الاساسي: أن الإنسان سياسي بطبعه، ليس لأحد خيار أن يشتغل بالسياسة مادام يعيش في مجتمع تديره دولة أو حتي مايشبه الدولة، الإنسان سياسي رغم أنفه حتي لو كان دوره سلبيا تماما، حتي لو لم يعرف هو ذلك، أو أنكره (مثلي)، الموقف الفني – العلمي- الإبداعي التنويري هو البنية الأساسية لما هو سياسة، أما امتحان الرؤية لما هو تحت السطح فهذا نشاط إبداعي يسهم في تشكيل الوعي العام في طور البسط للإيقاع الحيوي لمسيرة الشعوب، وهو الذي ينبعث منه الثورات بعد أن يصل إلي عتبة الانطلاق، وهذه سياسة أخري!
صراع السلطة والمال
- خطورة صراع (السلطة الملكية الخفية) و(صراع المال – السلطة التابع)، والمشاركة في كشف هذا الصراع من أي مواطن لا تحتاج لا لطب نفسي ولا لمواطنة خاصة، تتنازل من أجلها عن الدور الأصلي، تعقيبك؟.
كل مواطن دون استثناء هو حارس ناقد – بوعي أو بغير وعي – علي أداء الدولة التي تحكمه، وبقدر ما تتاح الفرص للرقابة والمحاسبة أولا بأول، تكون الفرص للتصحيح. أما إذا تمادي الثوار في فرحتهم بانتفاضة قوية، ثم توقفوا عندها وراحوا يكررونها مع الفرحة دون الانتقال إلي الاستيعاب وإعادة الملء فهذا هو الخطر بعينه، قانون الإيقاع الحيوي الذي استمد منه هذا الفكر ليس خاصا بالطب النفسي ولا بالسياسة، هو قانون الحياة البيولوجية (وغيرها) وهو قانون البقاء.
الطب النفسي السياسي
- تتداخل السياسة في كل شيء في حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا الآن وبشكل مباشر.. هل لذلك علاقة بالطب النفسي السياسي، وهو تجاوز علم النفس السياسي، وقد وصفتها أنت بأنها حكاية تساير الوهم الشائع عن طب نفسي له كيانعلمي، وما بني علي باطل فهو باطل؟ هل انت من أنصار حركة مناهضة الطب النفسي؟
لست من أنصار هذه الحركة المناهضة إطلاقا، بل إنني أعتقد أن هذه الحركة جعلت الطب النفسي التقليدي يزداد ميكنة واغترابا، دفاعاً عن جموده، هي حركة عدمية تشجب ولا تعطي بديلا، المطلوب هو طب نفسي يقرأ النص البشري لينقده، فيطلق قدراته.أما عن علم النفس السياسي والطب النفسي السياسي فأنا لا أنكر إسهام وفضل المختصين فيه، وإضافاتهم لفهم النفس الإنسانية في الصحة والمرض في السلم والحرب، حكاما ومحكومين، ومع ذلك فأنا أحذر حذرا شديدا من وصاية العلم التقليدي بما في ذلك التحليل النفسي علي مجالات تتجاوز أدواته، كما أرفض بشكل حاسم تسمية القادة الشواذ، أو مشعلي الحروب قتلة الملايين بأسماء مرضية، كما أرفض اختزال صراع الشعوب ذي الأسس الاقتصادية والعنصرية إلي رموز نفسية أو أبجدية طب نفسية.
إهانة للأديان والأوطان
- من نبوءاتك .. أن مجتمعنا لا يتحمل ألعاب الحواة علي الجانب الآخر، نعم ..! لكن الواقع والوقائع المرعب الآن يا دكتور يحيي الذي يتكشف كل يوم عن أنه “ما خفي كان أعظم”، يؤكد أنه تحمل وصبر أكثر من صبر أيوب، ونريد إضاءة علي قولك أن “الحل هو اليقظة، ومعرفة حجم الواقع، وتطبيع التحدي الجديد (وليس العلاقات) وكسر العنصرية بتذويبها في وعاء الانسانية الأكبر وليس بتصديق ادعاءات سيادتها ورشاوي تصفيقها؟
إن أي طفل في السادسة أو شاب في الرابعة عشرة، لا يتصور منطقه البسيط أن من يختلف عنه دينا أو رأيا أو موطنا فهو مصيره إلي جهنم الدنيا تحقيرا وإذلالا أو نار الآخرة، إنني اعتبر ذلك إهانة للأديان والأوطان بل هو شك في العدل سبحانه وتعالي ولا يمكن أن يستمر عالم البشر يعيش ويحارب ويتصارع تحت منطق يرفضه أي عقل سليم، وهو ما تمثله عقول الأطفال والشباب الأقرب إلي إبداع ربنا.إذن لابد ان نحترم إنسانيتنا واحتمال تواجدنا علي قمة هرم الأحياء مختلفين ظاهرا هكذا، كما لابد أن ننتقل إلي استيعاب كلية الحياة “معا” ثم إني أتعجب ممن يختزل الحل في لفظ واحد مثل “الديمقراطية هي الحل” أو “الإسلام هو الحل”… إلخ، ثم دعني أشكرك لما تفضلت أنت باقتطافه من كلامي أن كل هذا (اليقظة، ومعرفة حجم الواقع وتطبيع التحدي الجديد وكسر العنصرية بتذويبها في وعاء الإنسانية) هو طريق البقاء معا، وبرغم أن تفسير ذلك يحتاج إلي كتب موسوعية وأن تحقيقه يحتاج إلي عقود أو قرون، إلا أنه ممكن، فعمر الحياة يقاس بملايين السنين.
استغلال غرائزهم الدينية
- كأنك كنت تقرأ المستقبل حين قلت “نحن في مأزق بين بقايا السلطة الجيشية النفعية المخفية في ثياب ما يسمي النظام الحالي والحزب المزعوم، وبين تربص انقضاض السلطة الدينية الشكلية من باب الديمقراطية الخادعة، بين هذا وذاك نحن في مأزق حياة أو موت، والمستقبل يتوقف علي الإجابة عن أسئلة جوهرية تحدد هويتنا وقدراتنا”.. فماذا تري الآن خاصة بعد تكالب الذين يرون أنهم المتحدثون باسم السماء وحاملي التوكيلات الالهية من الاخوان ومن هم علي شاكلتهم؟
نحن في أول الشهر الثالث من بداية الأحداث، وللأسف فإن حدسي الباكر وأشكرك علي متابعته، كاد يتحقق خاصة بعد مناورات استغلال مرحلة الحكم الجيشي، والاستفتاء الذي وصل الناس بخبث تحت عناوين أخري، ليفيد نتائج أخري، وددت لو استعرت ما اقتطفت أنت لأكرر إن “المستقبل يتوقف علي أسئلة جوهرية تحدد هويتنا وقدراتنا” وأضيف بأن ذلك لن يتحدد بصناديق الانتخاب كل خمس سنوات، ولا بالعودة إلي ميدان التحرير كل خمس دقائق، وإنما بالممارسة الطويلة، وإبداع وسائل ديمقراطية أخري (بفضل التكنولوجيا الأحدث فالأحدث) التي قد تسمح بقياس وعي الناس أولا بأول (أقول وعي الناس وليس فقط آراءهم)، وليس باستغلال غرائزهم الدينية أو احتياجاتهم العاجلة لاستعمالها ضدهم في النهاية
توابيت الشعارات
- أراك تتحفظ علي كلمة (ثورة) مثلما تتحفظ علي الكثير من مفردات الخطاب الاجتماعي والإعلامي.. مثل تعبير ثقافة الإهمال والصعود الي الهاوية، والطب النفسي السياسي، وغير ذلك… لماذا؟
أنا فعلا أخشي وأحذر من حبس مضامين ومعانٍ حسنة النشأة والسمعة، داخل رموز صلبة الإحكام مشلولة الحركة، فتسكن هذه المضامين وتموت بل وتتعفن نتيجة الاختناق، في حين تظل التوابيت تتحدث نيابة عنها، إن لم تصبح أبجدية اللغة مثل أوتار العود تصدر أنغاما متنوعة، فلا حاجة بنا إلي توابيت الشعارات، وكذب الموميات.
حقوق المستعمرين الجدد
- حذرتَ من الانسياق وراء تقديس ما يسمي “حقوق الإنسان” كما يروج لها في الغرب بشكل مبالغ فيه يخفي حقائق أخطر من القهر السري والسحق المنتظم؟
الغرب السلطوي، وليس كل الغرب، فقد عن عمدٍ أو عن غفلة تواصله مع أصل الحياة وطبيعة التطور ونبض الناس، وهو يسخر أغلب جهوده حاليا لخدمة السلطة الحقيقية التحتية (سلطة القهر المالية الاستهلاكية)، وهو يستعمل في ذلك أرقي الألفاظ لأخبث الأغراض، لا اعتراض عندي علي حقوق الإنسان المعلنة ولكنها ليست هي كل حقوق الإنسان الأكمل والأعرق، وقياسها ليس بما هو مكتوب في المواثيق، وإنما بعائد تطبيق كل الحقوق لصالح كل البشر، وقد فضح الغرب نفسه حين طبق مؤخرا الحظر الجوي علي حاكم مجرم يقتل شعبه من المدنيين ولم يطبقها علي حكام مجرمين قتلوا ويقتلون آلاف وملايين الأبرياء من شعوب غيرهم من المدنيين أيضا، ثم يزعمون أن هذا الحظر هو تطبيق لمواثيق حقوق الإنسان هل هذه هي حقوق الإنسان. أم حقوق المستعمرين الجدد في بترول الغير، بل في أرض الغير، وأيضا في حقهم في إزهاق أرواح الغير.ثم إن هذا القهر الانتقائي والاستعمار المدعوم عالميا يتم جهارا نهارا بقرارات مجلس الأمن دون فيتو حتي مع امتناع بعض الدول المعنية أيضا بحقوق الإنسان عن التصويت، رفضت أيضا هذا الامتناع حتي أنني أفضل أن يوافقوا علي القرار بشجاعة زملائهم الأقبح لهم وللحقيقة حتي يتعري وجه الجميع، ثم تقول حقوق الإنسان؟!!
- علي ضوء ما جري ويجري وسيجري … هل لا يزال الحديث عن سلبية الشخصية المصرية قائما في المرايا النفسية؟
أنا رفضت طول الوقت – كما تعلم – المبالغة في التهويل في الحديث عن سلبية الشخصية المصرية وخاصة الشباب تحت العنوان المشهور”ماذا حدث للمصريين” رفضته قبل ما جري ويجري، لكنني أرفض الآن أيضا تصور أن تبديلا جذريا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة، أو حتي بعد شهور، التغيير لا يحدث هكذا وكأنك تضغط علي زر، الذي حدث في هذه الأسابيع هو كشف إيجابيات واعدة، كانت كامنة وتنمو طول الوقت، علينا أن نرعاها لتزدهر، وإلا فالنكسة قد تكون ألعن مما كنا نزعمه من سلبيات.
الخيط الرفيع بين المتقابلات
- وما الخيط الدقيق أو شعرة معاوية بين هذه السمات والمتقابلات ولا أقول المتناقضات : الهدوء – اللامبالاة؟.
الهدوء – ظاهرٌ تحته حركة قادرة، أما اللامبالاة فهي انسحابٌ متفرج أو ساخر
- الصبر علي الحكام – الاستسلام؟
الصبر علي الحكام ثقة بأن البقاء للأقدر من الشعوب، أما الاستسلام فهو يأس خانع مهين.
- صفحة النيل .. هادئة في السطح، والغليان في العمق؟
ما يجري تحت صفحة النيل الهادئة، ليس غليانا لكنه سريان الخصوبة والوعود
- الحاكم إلي زوال: (ليرحل لتجيله مصيبة تأخذه !) وقد حورتها أنت يا دكتور:استيعاب الغزاة حتي يصيروهم مصريون دون أن يصيروه محتلا (يبدو مهزوما)؟
شكرا لتذكيري بذلك، لعلي استلهمته من الأجانب المقيمين بيننا، الفرحين بنا أو حتي من السواح الذين بمجرد أن يصلهم عمق ما هو إنسان مصري يصبحون مصريين أكثر منا
- الشائعات تنتشر أكثر في الازمات، ثمة الوف الاشاعات التي تلقي التصديق رغم الاعلان عن انها اقاويل ويقولون وما دلالة ذلك منذ انبعاث الذي لم يخلق مثله في البلاد والتاريخ؟
الشائعات في هذه المرحلة نوعان: الأول يمكن أن ينطبق عليه أنه” لا دخان بلا نار وراءه” (مافيش دخان من غير نار)، أما الثاني: فهو نتيجة خيال مغيظ، أو شماته حاقد، وأري أننا ينبغي أن نخفف من الأول، ونحذر من الثاني حتي يقول القضاء كلمته.
كشف الغطاء
- ما تفسيركم لروح الانتماء التي ظهرت فجأة عند الشباب
أظن أن هذا لا يحتاج إلي تفسير لأن ما حدث هو كشف الغطاء عن انتماء نمي رغما عن الجميع، ولقد كتبت في ذلك مقالا أيام الفرحة بكأس الأمم الافريقية لكرة القدم بينت فيه كيف أن هؤلاء الشباب يعانون مما أسميته: “جوع إلي وطن” كما كتبت قصصا قصيرة كثيرة ، ثم تأتي أنت الآن لتدعوني أن أبحث أكثر فأكثر فيما وصلني من جذور الانتماء وتجلياته داخل شبابنا، فأكتشف أن كل ما حدث هو”الكشف عنه”.
حتي لا يُستدرجوا
- الشخصية المصرية تعرضت خلال الفترة الماضية لمجموعة من التغيرات الطارئة السلبية أخطرها استهانة المصري بالمجتمع والتمتع بلذة الإشباع الوقتية والخوف والقلق من الحاضر والمستقبل، ما تفسيرك لهذا المزاج المتقلب الذي يسيطر علي معظم المصريين الآن مع خليط من المزاج الاكتئابي والعصبي؟
أنا لا أحب أن أسمي ما يسيطر علي المصريين الآن بالمزاج الاكتئابي أو العصبي، إذا استثنينا بعض الشباب الذي غرّه المديح فراح يكرره منتشيا فحسب، وهذا حقه بعد ما كان، ثم، إذا استثينا أيضا الكثيرين منالانتهازيين الذين خططوا ويخططون للاستيلاء علي نتائج كل ما كان، فإن أغلب المصريين الآن في حالة من الترقب، والتحفز، والخوف، والانتباه المفرط، والاستعداد للانقضاض والعمل حتي لا يستدرجوا إلي فترة أخري من المناورات والكذب والظلم والفساد.
الإغارة المالية العالمية
- ما ظهر علي السطح – حتي الآن – من أخبار الأثرياء جدا الفاسدين جدا يفوق الحد، هل ردود الأفعال .. تتسم بالشماتة أم بالتشفي؟ وهل صحيح إن المصريين لا يحبون الأغنياء؟ أم هو غباء القوانين والمرجعيات العرفية (كانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه، وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد).
مازلت أوصي بانتظار أحكام القضاء، برغم احتمال ضعف الأدلة، ثم لا أنسي أن أنبه أننا في حاجة ماسة إلي احترام الأثرياء المنتجين المنتمين الأمناء بدءًا من المصريين، الشرفاء وامتدادًا للضيوف المستثمرين بنفس هذه الصفات الطيبة، نحن نحتاج إلي بناء اقتصاد وطني يمكن أن يواجه الإغارة المالية التحتية العالمية، التي أشرت إليها طوال حديثي الآن.
- ما دلالة هذه التحولات الآن: الرأسمالية أصبحت حرامية.. الاشتراكية صارت وهمية.. الدين ستارة الجماعات الدينية تسعي للهيمنة، وإن ادعت أنها بريئة.. القاتل بالأمس أصبح الآن بطلا.. الذي ظل يدعي الطهارة اكتشف انهمصدر الدنس المادي والمعنوي.. الاقنعة تسقط فتبدو الوجوه مثيرة للغثيان… هل المسألة رقص علي السلالم؟ كيف تري هذه الكمية من المتناقضات في المجتمع؟ هل هو خلل نفسي، أم مرض اجتماعي؟
هذه ليست تناقضات ولا هي خلل نفسي أو مرض اجتماعي، بقدر ما هي كشف عن المستور ومراجعة حسابات من ناحية، وتعرية شعارات زائفة مضللة من ناحية أخري، ثم من ناحية ثالثة بعضها ليس إلا مضاعفات المرحلة، ونحن نحمد الله، وطيبة شعبنا وجيشنا . لأن كل ذلك يحاول أن يحتوي الموقف بكل تعقيداته بأقل قدر من الخسائر، وعلينا أن نساهم في ذلك جميعاً كل من موقعه.
أعود إلي المربع الأول … وزرقاء اليمامة في عينيك وحدسك وحسك.. بأي منظور تري الغد في خضم ما يحدث علي الساحة: تلاطم الاتجاهات السياسية.. لهاث الجماعات الدينية اسلامية ومسيحية.. الثرثرة الدستورية.. الفضائيات التي تحولت الي مقاه وبؤر .. المتقافزون علي الكراسي.. الانتاجية التي لا يفكر فيها أحد .. لغة المليارات والملايين والملاليم.. القنابل الموقوتة: العشوائيات.. البلطجية.. ثورة الجياع ؟
أعود أتحمل مسئولية تفاؤلي: فبرغم قسوة السؤال، وصدق التساؤل، فإن إنجازات الانسان المصري التي آن الأوان ألا تنفصل عن إنجازات الإنسان المعاصر علما وفنا، نقدا وإبداعا، تكنولوجيا وتوقيرا للوقت، وعيا ومسئولية، كل هذا قادر علي مواجهة كل ما جاء من سلبيات في السؤال.حين يكون لا وجود للفرد إلا كممثل وحامل لهم مواطنيه، ولا وجود لوطن إلا إذا كان جزءًا من كل العالم الذي يحكم جميع أفراده وجماعاته بنفس القانون ونفس المقياس حين يصير ذلك كذلك ينتصر الانسان، فرداً، فوطنا، فنوعاً إلي وجه الله.هذه ليست مثالية، لكنها ألف باء الوعي الكوني البشري الجديد