نشرت فى مجلة العربى الكويتى
عدد أكتوبر 1990
المأزق فوق البرزخ بين العلم والدين
ماذا يفعل العالم فى مجتمعنا اذ يفشل أن يلحد حين يرى استحالة الالحاد – بيولوجيا – مع استمرار الحياة؟ هذا متى ما وعى بصدق علمه وأمانة موضوعية ماهية الإيمان كتناسق حتمى بين الكون الأوسط الإنسان) والكون الأعظم على طريق التكامل واستمرار التطور؟
وماذا يفعل نفس العالم إذا عجز أن يؤمن – بلغتهم – خوفا من الإرهاب الفكرى والقهر بحتمية التسليم لتفاصيل التفاصيل لمسلمات احتكروا تفسيرها، وحجروا على عقله – وهو فخره وأمانته – أن يعمل فيها؟؟
إن أمانة العالم مع نفسه، إذا يحسن استعمال عقله المكرم، ويجرؤ على تصديق حدسه الأعمق تعجزه عن الكفر، كما أن احترام العالم لعقله وخوفه من الحظر الفكرى والقهر القوالبى .. تحجزه عن إعلان إيمانه الحقيقى الأصيل فى سعية إلى موالفة صحية أعلى.
وهى قضية قديمة جديدة، ولكن الحاجة إلى ضرورة حلها اصبحت ملحة لا تحتمل أى ابطاء، وقد تحددت معالها من كل مجتهد بشكل لا يدع مجالا للتكرار، ولكن ينبغى أن ندرك أن تكرار الحديث فيها إنما يدل على الصعوبة التى تصل إلى درجة الاستحالة التى تمنع نقلها من مجال النقاش النظرى إلى مجال الفعل اليومى، وهذا هو ما يضطر المنادين بها إلى إعادة النداء والاستغاثة المتلاحقة.
فلم يعد خافيا أن الحضارة الغريبة تتعاطى دفعات مركزة من أمصال تكنولوجية تحاول أن تستعيد بها شبابها، دون جدوى، وليس بعيدا عن الأذهان ما لجأت إليه الاسعافات العصرية لأزمة اغتراب الإنسان الغربى إلى استعمال وسائل تكنولوجية، وأبحاث فسيولوجية للدعاية لأديان جديدة تناسب منطق العصر (مثل لتأمل التجاوزى بمركزيه فى سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية).
ولم يعد خافيا أن الفكر المادى يتسع فى تحايل إذا يحاول أن يحتوى الدين … وحتى الخرافة.
وهكذا تتأكد ضرورة الدين من غير أهله، ويتحتم الإيمان جوهرا لتكامل الإنسان الحق.
لحن نشاز!
وفى نفس الوقت تنتفض الأمة العربية والإسلامية انتفاضات توحى بأنها تكاد تدرك هذه الحقائق فتتأهب للقيام بدورها الحضارى الطبيعى والعالم فى أشد الحاجة إليه، وعلى هذا الطريق وفى هذا الاتجاه تتلاحق الأبحاث، وتدون الأفكار وتناقش الآارء على ورق مصقول وغير مصقول، وتموج الأحداث تلو الأحداث، وترتفع الشعارات وتعلو الصيحات على اختلافها من دوى طبول الحرب وصليل اهتزاز العروش .. إلى صخب موسيقى السلام وقرع كؤوس الوفاق، وكل هذا طيب أو ينبغى أن يكون طيبا لو استمر فى الاتجاه الصحيح وتكلم بلغة العصر، إلا أن هذه الأفكار والانتفاضات تبدو قصيرة العمر تكاد تولد مهزومة لأنها رغم تغمتها الفردية المؤملة، ليست الا لحنا نشازا بلا حركة فكرية حرة، ولا اتزام اجتماعى ولا هدف حضارى شجاع.
ويستطيع الفاحص الأمين أن يرجع ذلك إلى استقطاب العقل العربى والإسلامى بين غلاة المتعبدين فى محاريب أصنام العلم كوسيلة هروبية من قهر الدين (أعنى رجاله) ومن التفكير الحر الأشمل فى آن واحد، وبين غلاة المنغلقين فى تفسير محدود لألفاظ الدين، وهكذا أصبحنا فى موقف منشق يحد من فرصتنا فى اقتحام الطريق إلى الحقيقة غير مبالين إلا بأمانة الرؤية وتقدم الإنسان.
ولأضرب لذلك مثلا فى مجال علمى المتواضع (علم الطب النفسى وما يرتبط به من علم النفس) فالمشتغل بهذا العلم دراسة وممارسة إذ يتعرض “لماهية الإنسان” كحقيقة بيولوجية تتوازن مرة فى الصحة والسلامة، وتتنافر مرة أخرى فى المرض والتناثر، لا يستطيع إذا كان أمينا مع عقله ورؤيته أن يفصل هذه الحركة التوازنية – التنافرية عن مسار الإنسان بما فى ذلك اصله ومصيره، كفره وإيمانه، ويزداد هذا الحتم ونحن على أبواب العقد التاسع من القرن العشرين حيث أعلن فشل تفسيرات التحليل النفسى، ليس فقط بسبب لغتها الجنسية الرمزية ولكن بسبب نظرتها الحتمية السببية القاصرة، ويرتمى المشتغلون فى هذا الفرع فى أحضان الحلول الكيميائية، هربا من التهويمات الجنسية والتبريرات التثبيتية، وإذا بهم يسجنون عقولهم فى الخلية العصبية ومشتبكاتها التوصيلية، وسرعان ما ترفض عقولهم هذا الحل المسطح مرة ثانية لأنه يستهين بانسانيتهم وعقولهم جميعا إذ يختصر الظاهرة البشرية إلى تفاعلات محددة لا تمثل إلا جزءا يسيرا جدا من حقيقة التوازن البيولوجى الأكمل، ويشتد الهجوم على التحليل النفسى من جهة، وعلى العلاج الكيميائى من جهة أخرى، وتظهر فى الغرب الحركة المضادة للطب النفسى، وهى حركة، رغم وجاهة منطقها فى إعلان الفشل، إلا أنها حركة عدمية تجارى الموقف العدمى الذى ما زال فاعلا فى الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، أما عندنا ونحن لم نبلغ بعد ترف العدم، فتظهر دعوات تحاول أن ترجع علم النفس – والطب النفسى بالمرة – كتابع لرجال الدين وخادم لأغراض الدولة (لا كدعامة لجوهر الدين ومنذر على مسار الدولة) ويفرح البعض منا لفرط ما أرهقتهم السباحة ضد تيار الطبيعة البشرية فى حركة تطورها الغائية المتكاملة، حين أنكرت – أو أهملت – هذه العلوم قيمة الدين والإيمان فى التكامل، ولكن النتيجة أن الفرحة لا تتم لأن هؤلاء المرهقين قد سلموا أمرهم لغير أهله فتنازلوا مباشرة عن عمليتهم وحرية تفكيرهم معاً، ولا يعمر مثل هذا الحل قليلا أو كثيرا.
وتظهر مدارس بأكملها تحاول علمنة المفاهيم الإيمانية دون ربط مباشر، وذلك مثل مدرسة البعشخصية (أو عبر الشخصية) فى علم النفس Transpersonal Psychology، وهى مدرسة تؤكد أن الذات الفردية هى مرحلة محدودة ما بين اللاذات، وما بين التآلف الأكمل مع سائر البشر والأكوان، ويسمى هذا الفكر الحركة الرابعة فى علم النفس (باعتبار أن الحركة الثالثة هى علم النفس الإنسانى، والحركة الثانية هى علم النفس السلوكى والحركة الأولى هى التحليل النفسى) وهذه الحركة الرابعة تعلن بشكل لا مراء فيه ضرورة الوعى الدينى والامتداد الخلودى لإنسان العصر إذا كان له أن يتوازن ويستمر مكرما إذا يصعد لولب التطور الأرقى.
ويشتد المأزق:
وحين يفرح العلماء المؤمنون بهذا العلم الأعمق، ويستريحون لهذا الفكر الأكمل، لا يستطيع الواحد منهم – فى مجتمعنا – أن يجهر به فى أسلوب علمى من واقع لممارسة الكلينيكية مثلا، ذلك لأن الأوصياء يترصدون له بالحكم والتصنيف والترجمة المباشرة لتفسيرات محدودة، فيضطر إلى أن يكتم حديثه فى نفسه، أو أن يرضى باللغة العلمية القاصرة بديلا عن اللغة الإيمانية الأشمل وذلك حرصا على دينه واحتراما لعقله معا.
ويشتد المأزق بمثل هذا العالم وهو مقهور من كهنة العلم إذ يصرون على الاقتصار على التجريب وسيلة أولى لقبول أى مقولة علمية، وكأن الإنسان يستطيع أن يعيش يومه هو هو مرتين (اى ينزل نفس النهر مرتين)، وهو فى نفس الوقت مقهور من الأأوصياء على الدين لأنهم يصرون على استعمال تفاصيل تفاصيل لغتهم الخاصة، وإلا فالتفسير والنبذ جاهزان بلا رحمة.
ويشتد المأزق أكثر وأكثر حين تصبح هذه الممارسة حول ماهية الإنسان ومساره ومصيره ممارسة يومية بطبيعة المهنة، أى أنها ليست مجرد مناقشة عقلية تفلسفية أو كلامية.. فالمرض النفسى باعتباره من أهم مضاعفات مسيرة التطور، والطب التفسى باعتباره لاسعاف العلمى لهذا المضاعفات، يفرضان مواجهة هذه القضية كمعاناة واقعية، لا كتدريب عقلى شائق او مناقشات فكرية مبهجة، والعالم الطبيب إذا لم يغلق عينيه وقلبه عن “كلية” الإنسان إذ يتعرى، وعن “غائيته” الإيمانية التكاملية إذ يلم شتاته، فهو مؤمن لا محالة بما بعد الإنسان الفرد.. وهنا تنتابه رعدة الخوف من الأوصياء وأهل الربط (وليس الحل) إذا ما اقترب من عرينهم.
وقد لجأ بعض المخلصين المجتهدين ممن وجدوا أنفسهم فى هذا المأزق إلى حلول براقة أقنعت بعض الشباب الضائع، ولكنها، ويا للأسف شوهت الحقيقة الأعمق، وأعنى بذلك تفسير ألفاظ الدين بقشور العلم وبالعكس، فإذا كانت أبعاد القضية أربعة هى:
(1) قشور العلم (2) وموضوعية الحقيقة
(3) وألفاظ الدين (4) وجوهر السعى الإيمانى إلى التكامل
فإن هذه المحاولات اكتفت بتفسير البعدين السطحيين بعضهما ببعض تعسفا وتلفيقا فرفضها أهل الدين وأهل العلم جميعا.
وقد واكب هذا الحل التلفيقى حلولا هروبية وتسكينية منوعة منها تحريم ممارسة الفلسفة (رغم السماح بالحديث عنها أو حتى بعلمها)، ومنها االقتصار على شمول علم النفس، وخاصة بالنسبة للرجل العادى، على الأفكار النصائحية والرشاوى السلوكية ليدع القلق ويحسن النفاق حتى أصبح المنشور فى المجلات الثقافية والعامة (وليس العلمية المتخصصة) تحت عنوان علم النفس شئ اشبه باعلانات السجائر أن ” تعال للغفلة وستبقى للضياع” ومنها أخيرا الإفراط فى الغرق تحت الموجة العارمة من التخدير الطبى من لمهدئات والمطمئنات والمعقلات إلى آخر هذه القائمة التى – رغم فائدتها من حيث المبدأ – إنما تعلن استسهال الإنسان وتجنبه المواجهة بأسرع مما يضمن استمرار نموه.
أما الحديث عن النفس بوصفها ماهية الإنسان، وعن علم النفس بوصفه العون العلمى المنهجى على طريق تطور الإنسان، وعن المرض النفسى بوصفه أنذارات التدهور، وعن الصحة النفسية بوصفها حلاوة الإيمان الموضوعى الساعى إلى الحقيقة ووجه الله (الأقرب من حبل الوريد) فهذه هى اللغة الصعبة التى يستحسن تجنبها خوفا من رجال الطائفتين معا (الأوصياء على الدين وكهنة العلم).
شجاعة مطلوبة:
فالموقف الآن يحتاج إلى أكثر من الشجاعة، إذ على من يريد أن يخرج من هذا المأزق أن يواصل سعيه إلى الحقيقة بكل ما أوتى من وسائل علمية وأمانة ذاتية ورؤية إيمانية موضوعية، لا يحده عنها وصاية دينية مهما بدت ساحقة أو مفزعة، أو معرفة جزئية علمية مهما بدت لامعة ومريحة، ولكن كيف السبيل إلى ذلك أو بعض ذلك؟
دعونا نعلن بعض أبعاد المأزق فى شكل أسئلة تضيف إلى مسئوليتنا ولا تخفف عنا، ولكنها تؤكد احترامنا لعقولنا وديننا معا حتى لو ظلت بلا أجابة.
1- إلى أى مدى يستطيع العالم المؤمن – فى مجتمعنا – أن يطلق لفكره العنان، وأن يعطى لحدسه الأمان، وأن يثق فى يقين موضوعيته النابعة من معاناة الباحث عن الحقيقة لا يرده عنها مقولة مسبقة ولا معرفة جزئية؟
2- هل من سبيل إلى تحديد ماهية الإنسان دون وصاية إرهابية فكرية سواء كانت مادية متشنجة، أو تفسيرية محدودة بعدد الحروف وشكل الألفاظ؟
3- هل من سبيل إلى قياس حيوية الإنسان النابضة (التى تسمى السعادة أحيانا) على مسيرة تكامله، كدليل صحيح على سلامة الطريق، دون انصياع لتسليم غبى (ولا أعنى إيمانا بالغيب) يؤجل القضية، وانخداع شبه علمى يسطحها؟
4- هل من سبيل إلى الاستفادة من (تنمية وممارسة) بعض الحقائق الجوهرية فى ديننا الفطرى – مثل التوحيد والمباشرة – دون الاصرار على الاغتراب والوساطة كسبيل أوحد للحصول على بطاقة التدين.؟؟
5- هل من وسيلة يطمئن بها العالم المؤمن أن حسابه الأول والأخير هو مدى احترامه لكملته ومعناها ومسئوليتها، ومدى اطمئنانه لمعلومته ومراجعتها والتأكد منها، ومدى احترامه لعقله وموضوعيته فى تواضع العاجز المجتهد، وأخيرا مدى احترامه لألمه فى سعيه إلى الحقيقة بما فى ذلك الحقيقة الكونية دون استسهال؟؟
6- هل من أمان يؤمن العالم المؤمن إلى استبعاد تكفيره إذا ما اختلف مع أوصياءالدين أمانه مع فكره، وأستبعاد نبذه من مجتمع العلم إذا ما أختلف مع كهنة العلم احتراما لعقله، وتكريما لوجانه وحدسه؟؟
ويمكن أن تتوالى مثل هذه الاسئلة يلا تلكؤ، لتتركنا فى النهاية أما أزمة بالغة التعقيد تقول:
أن مثل هذه الصرخات والأستغاثات ما لم تجد أذنا صايغة عند “من يهمه أمر هذه الأمة” وما لم تجد قلبا شجاعا، وعقلا كريما يفتح أبواب كرامة عقل الإنسان على مصراعيها، فالأولى بنا أن نكف عن إطلاقها، وأن نرضى بالانشقاق الممزق لطبيعتنا البشرية، ونعود ننادى أن ما للعلم للعلم.. وما للدين للدين، نفعل ذلك وننتظر الحل ضمنا من أرض غير أرضنا، ترطن بلغة غير لغتنا، وتؤمن بدين أبعد عن الفطرة من ديننا، فأذا ما استوردنا الحل السعيد بعد عام أو مائة عام … عضضنا على عقولنا نت غيظ التبعية، وتمنينا لو ان لنا كرة فنقول لهم أن هذا الحل السعيد كان عندنا وزيادة، ولكنا لم نكن شجعانا حينذاك لنعلنه ونرعاه ونحافظ عليه وها نحن – مرة اخرى وليست أخيرة – التابعون المنبهرون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من يرضى بهذا ؟؟؟ من يرضيه هذا؟
هل يرضيك يا إمامنا محمد عبده، ويا جمال يا أفغانى مثل هذا، وحتى اجتهاداتكما التى أدت دورها فى حينها والتى لم تعد تكفى عصرنا حالا، حتى هذه الاجتهادات يساومون من أول وجديد.
هل يرضيك يا سيدنا عيسى هذا وأنت من أبلغتنا أنه فى البدء كان الكلمة وكان الكلمة الله؟ هل يرضيك يا سيدنا محمد هذا بعد أن علمتنا أن نؤمن بالله ثم نستقيم، وكل ما خالف الفطرة فهو ليس ديننا؟
هل يرضيك يا ربنا هذا بعد أن كرمتنا انسانيتنا بعقولنا الواعية الناظرة فى كل شئ، حسابها عليك؟
وأخيرا.
أستغفر الله العظيم