نشرت فى روز اليوسف
11 – 11 – 2005
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
كثير هو الكلام عن الحنان، وعن العطف، وعن الرحمة، وعن الشفقة، كلام كله داخل فى بعضه. لن يزيد وضوحا إذا نحن عرّفناه من شروح المعاجم، أو الموسوعات الأكاديمية، فما بالك ونحن نتناوله بما هو شائع عنه من خلال فتاوى ونصائح المرشدين والموجهين والأطباء والإعلاميين للأمهات والآباء: بأن يحبوا أولادهم جدا، بحنان بالغ جدا جدا،!! وخلاص!!!!
رجعت إلى الأغانى التى كتبتها للأطفال فوجدت أغنيتين فى الموضوع. قرأتهما كثيرا، رجّحت أن الأولاد والبنات وهم يغنونها، سوف تصل إليهم دون شرح. فماذاعن الكبار؟
حكايات الفطرة : للكبار من أغانى للأطفال (2):
هل نعرف ما هو الحنان؟ وكيف ؟
يبدو أن المسألة ليست فى أن تحب، أو أن تحنو، أو أن تشفق، أو أن ترحم، أو أن ترعى، المسألة فى أن تفعل كل ذلك، دون أن تسميه كذلك. وحتى دون أن تدرك أنه ذلك. من علّم هذه الحمامة أن تحن على هذا الكتكوت البازغ من بيضتها؟ بل حتى قبل أن يبزغ من بيضتها؟ من علّم الزرافة أو البقرة أن تطمئن رضيعها وهى تلعق جسده بلسانها الحنون؟ ثم من علّم رضيعها أن يطمئن إلى ذلك؟ من علّم القطة أن تقفز فوق الأسطح وابنها بين فكيها لا تخزه أسنانها أصلا؟ تعالوا نستمع مع الأطفال إلى أغنيتهم، أو نغنيها معهم، ثم نرى:
الأغنية الأولى : الحنّية
الحِـنّيـِّـّنْ، يعنى شايفْ
يعنى عارفْ:
“إنى عايز منّه إيه،
فين وليه”.
مش ضرورى أقولّـه عنّه
هوّا انا يعنى عرفت إنّـه إنـّـهْ … ؟
حتى لو إنى أنا ما اعرفتهوش،
هوه عارف إللى انا ما قلتهوش.
مش ضرورى يدّهولى،
ولا حتى يوعد انه يعملولى،
بس أعرف إنه عارفْ: أبقى متونس بِـشُوفُهْ:
إن خوفى مش بعيد عن شكل خوفه
إنه مِشْ ناسى، وحاسس باللى فيّـه
حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّة
***
لما اعوزك، بابـْقى مِشْ ملهوفْ عليكْ،
تكفى إيدى فى إيديكَ
هيّـا لمسة واللِّى خَلَقَك
فيها إنى: أيوه قابْـلَـكْْ
فيها كل اللى أنا مش عارف اقوله
فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ
فيها: “شُفْتَكْ”
فيها: تـِبعدْ، لمْ يهَّمكْ،
فيها: قرّبْ : آنـا جنبكْ
بس ما تقربش أكتر،
كدههْ،
تِحـْلَوّ،
تِــكـــْبرَ.
القراءة
نقرأ الأغنية بهدوء، فقرة فقرة، فالأمر متداخل :
(1) الحنان والشوفان !!
“الحنيّنْ، يعنى شايفْ، يعنى عارفْ: “إنى عايز منه إيه، فين وليه”. مش ضرورى أقولّـه عنّه، هوّا انا يعنى عرفت إنّه إنهْ ..؟، حتى لو إنى أنا ما اعرفتهوش، هوه عارف إللى انا ما قلتهوش”.
إن أول شرط لتكون هذه العاطفة المسماة “الحنان” حقيقية، هو أن “نرى” من ندعى أننا نحنّ عليه (أو يرانا من يدعى أنه يحن علينا)، أن نراه منفصلا عنا ككيان قائم بذاته، (الحنيّـن : يعنى شايف). هذا الشوفان لا يكون كذلك إلا إذا صاحبته “درجة مناسبة من المعرفة به، ليست واعية أو تفصيلية بالضرورة، معرفة تعلن أن وعيا بشريا قد اتصل بوعى بشرى آخر، بدرجة تكفى للطمأنينة. معرفة ليست لإصدار الحكم، أو مصمصمة الشفاه، الحنان غير الشفقة، والشوفان غير الفرجة. تؤكد الأغنية على الشوفان لكنها لا تشترط إعلانه ولا تهتم بتفاصيله، وكأنّ يقينا صامتا يمكن أن نتبادله فيما بينهما لدرجة لا نعود نحتاج معه إلى ما هو “فين” و”ليه”؟ وكأنه بديهى. الحنان “تعاطف تزامنى معا” synchronous ، يجعلك تتعايش مع “كل” الآخر سلوكا وإيقاعا، دون اختزال، بيقين مطمئن (راجع “يقين العطش” لإدوار الخراط). هذا التعايش المتزامن هو الذى يحدد ما هو “فين وليه”، دون تعيين بذاته.
(2) الحنان لا يشترط عطاء جاهزا
” مش ضرورى يدّهولى، ولا حتى يوعد انه يعملولى، بس أعرف إنه عارفْ: أبقى متونس بِـشُوفُهْ، إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه، إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه،
حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّهْ”
الحنان يمكن أن يوجد ويحدث أثره الطيب حتى لو لم يلحقه فعل يعلنه. لنفترض أن أما فقيرة ليس عندها عشاء أولادها وهم يتضورون جوعا، ألا يزيدها ذلك حنانا عليهم؟ صحيح أن الأولاد لن يتعشوا حنانا، وأن الأصغر منهم على الأقل سوف يواصل البكاء مهما بلغ حنان أمه عليه، ومع ذلك فالحنان موجود حتى لو لم يترتب عليه أى فعل لظروف خارجية أو داخلية.
المثل العامى يقول: “زى الوز حنّية بلا بز”، وهو مثل جيد، حين ينبه إلى أهمية ترجمة الحنان إلى رعاية وعطاء، لكنه – من عمق آخر- ينسى أشكالا أخرى لوجود الحنان من حيث المبدأ، أليس الوز، الذى هو بلا بز، والطير عامة، يدفئ بيضه حنانا حتى يفقس؟ ألا يغذى صغاره منقارا لمنقار؟
الشوفان والحنان لا ينفصلان، الشوفان من فوق قد يرسل رسالة عكسية قاسية حين يصبح حكما أو فرجة كما أشرنا، يكون الشوفان طيبا ومطمْـِنا حين يكون مشاركة ومعايشة، بمعنى أن أرى فى نفسى الجزءالمقابل الذى بدا لى فى الآخر، خاصة إذا كان صغيرا.
يتصور أغلبنا أن علينا أن نزيل خوف الأطفال بأسرع ما يمكن، ويا حبذا إنكاره ابتداء. إن برامج الأطفال ومجلاتهم قد نحت نفس المنحى إذ تحاول تجنيب الأطفال الخوف بإنكاره ورفضه من الأساس، وكأن الخوف ليس مزروعا فينا من أيام أن كان سلاحاً للإنذار، وتهيئة للاستعداد للقتال فى الغابة. إن اعتراف الكبير لنفسه وحتى لطفله بخوفه الطبيعى، هو الذى يطمئن الصغير إلى مشروعية خوفه، ثم يأتى بعد ذلك التعامل معه. إن وجه الشبه بين خوف الكبير وخوف الصغير هو الذى، يطمئن أكثر وأكثر (إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه).
(3) الذاكرة الوعى
“إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه، حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّة”
نحن لا نحتاج أن نرى بعضنا البعض جهارا نهارا وجها لوجه، طول الوقت حتى نتواجد “معا”. ثم إن الذاكرة بالمعنى الذى ورد فى هذه الفقرة ليست مجرد استعادة لذكرى مضت بقدر ما هى “وعى جاهز” حاضر، له محتواه المتكامل بعواطفه وأحداثه وشخوصه وترابطات علاقاته، حين نحمل الآخر فى ذاكرتنا وعى الذاكرة وليس فقط فى جهاز تسجيلها لنستعيد اسمه عند الطلب ، نتواصل بدون حضور مباشر. وعى الذاكرة هو ليس مجرد تذكر وحكى ذكريات مضت، هو الذى يضمن لنا الائتناس ببعضنا البعض أثناء غيب أحدنا عن الآخر. حين تقول الأغنية: “إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه”، دون أن تحدد “مش ناسى” ماذا، ولا مَن، فقط تشترط الإحساس بالحضور “الآن”، تصبح هذه “الذاكرة هى الوعى الفعال وليست شريط التسجيل. الذاكرة الوعى تحضر لتحيط، لا تسمّع قطعة محفوظات، حتى لو لم يترتب على حضورها فعل بذاته، (حتى لو ما عملشى حاجة ماللّى هيه).
(4) الحنان واللهفة والقبول
’لما اعوزك، بابقى مِشْ ملهوفْ عليكْ، تكفى إيدى فى إيديكَ، هيّ لمسة واللِّى خَلَقَك
فيها إنى: أيوه قابْـلَـكْْ، فيها كل اللى أنا مش عارف اقوله
هناك زعم شائع، خاصة فى أغانى الحب، أن اللوعة واللهفة هى دليل على حرارة الحب، وهذا ليس صحيحا، خاصة مع الأصغر. إذا كان الحنان الحاضر الواصل للطفل (أو للمحبوب عموما) هو حقيقى وراسخ، فإن اللهفة تصبح أمرا ثانويا أو حتى عكسيا. الشوق الواثق الحميم يعلن الافتقاد الهادئ بديلا عن “جوع اللهفة”. إن الطفل يريد أن يصله أن الآخر (الكبير) موجود “هناك فى الواقع:”، بقدر ما هو “هنا فى الوعى“. حتى لوعجز عن التعبير عن حاجته هذه بالألفاظ.
(5) الحنان والفطرة
فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ”
سوف يظل مفهوم الفطرة غامضا، ليس لأنه يتناول شأنا غير حقيقى، لكن لأن الفطرة كما خلقها الله هى شديدة الوضوح، هى أصل الحضور لدرجة أنها لا تحتاج إلى تمييز أو توصيف، فكأنها، لفرط بداهة حضورها، غير قابلة للوصف أو محتاجة إليه.
العلاقة بين الكبير والصغير تكون فى أحسن أحوالها حين تكون الوصلة بينهما من خلال فطرة كل منهما كما خلقها الله قبل أن نشوهها فينا وفيهم. حين اقتصرت التعليمات الدينية على الترهيب والترغيب حتى للأطفال، دون القدوة والسلوك والخلق ونبض الكتب المقدسة قبل التفسير، اختفت معالم الفطرة وراء الإرعاب والرشاوى. حين يقول النص هنا أن النظرة الحانية فيها: “كل جميع ما ربّى مديهوله” ، فهو يتكلم على لسان وعى الطفل حالة كونه أقرب إلى الفطرة كما خلقت. من يريد أن يتواصل مع فطرة الأطفال بأقل قدر من التشوية، عليه أن يعود لفطرته هو – ما أمكن ذلك – بأقل قدر من الوصاية المعقلنة، أو المبرمجة بالثواب والعقاب كجدول ضرب تفصيلى.
(6) الحنان و”برنامج الدخول والخروج”
“فيها شُفْتَكْ”. فيها: ” تبعدْ، لمْ يهَّمك”، فيها: “قرّبْ ، آنـا جنبكْ”، بس ما تقربش أكتر، كدهُـه ْ: تِحـْلَوّ، تِــكـــْبرَ”
إضافة إلى بعد الشوفان الذى جاء فى البداية، نجد هنا بعد الحركة والمسافة. الحنان ليس كمّا ثابتا نغترف منه القليل أو الكثير، وإنما هو حضور متحرك يسمح بالبعد والقرب، باستمرار، هذا ما يسمى فى مدرسة نفسية (مدرسة العلاقة بالموضوع) “برنامج الدخول والخروج”:( فيها تبعد لم يهمك، فيها قرّب آنا جنبك). إذا شُلّت هذه الحركية ، أصبحت العواطف كمّية قابلة للتجمد، أو النقصان حتى التلاشى. إن الطمأنينة التى يوفرها الحنان الحقيقى الذى يسمح بهذه الحركة المرنة هى التى تسمح ألا يكون الدخول فى وعى الآخر تهديدا بالامحاء، وأيضا ألا يكون البعد تهديدا بالاختفاء.
المسافة بين الذات والموضوع ضرورية لتكون هذه الحركة ممكنة (هذا هو ما يسمى: برنامج الدخول والخروجin-and-out program ، هذه المسافة هى التى تعطى معالم محددة متميزة للطرفين، وهى لا تقاس بالأمتار بل هى تتحدد بمدى استقلال كل منا بمعالم ذاته فى مواجهة ذات الآخر المتميزة بدورها بمعالمها .
إن اختفاء مثل هذه المسافة هو الذى يبدو كأنه تقارب حتى التلاحم:”أموت فيه ويموت فيّا، هذا ليس حنانا أو حتى حبا، حتى لو شاع عنه أنه الغرام الذى ليس كمثله غرام.
***
ننتقل الآن إلى الأغنية الثانية لتى تؤكد ما سبق عن الحركية والمسافة، كما تضيف أبعادا أخرى كما يلى:
الأغنية الثانية: الحضن الدافئ
نفسى أدفنْ راسى فيكْ
نفسى أطـَّـمِـنْ عليك
نفسى انام جوّا عيِنيِكْ
نفسى فى حضنِك يدَفِيِّنِى وانا باتغطى بيهْ
بس مش عايزُهْ يخبينى، ولا أختفى فيهْ
يحتوينى، وانا برضه أحتويهْ،
لا انا باشحتْ، ولاَ إنتَ بتشتريهْ.
دا العيال بيقولوا بدرى: إحنا أْوْلىَ
إحنا مش عايزين “كلام حُب” علاوْلَهً
إحنا تكفينا الإشارة
لمسة حلوة تغنى عن مليون عبارة
لمسة بتقول انّ انا مش بس بينكمْ
لأ، دانا عايش بروحى فيكو، منكمْ
برضه من حقى أكون نَفْسى : وحيد
بس مش بالغيك، ما هو انت مش بعيد
…. حبّة حبّة
…… يحتوينا الحضن قُــبّه
حضن كل الناس خيمتنا وأمْـنِـنَـا
حضننا لو صَح يوصل لمّا عند ربنا
كده نضمن لو خـِلى واحد بنا
مش حانغرق وسط دوّامة الضياع والمسكنة
لو حمانا حضنكم حبة كُتاَر
حضنكو الدافى اللى مش لهاليب ونار،
حضن يحمى، بس يسمح،
حضن بيطـمـَِـن، ويمنح:
فرصة للى بِـدُّه يسرح
إنه يلعب- يجرى- يشطح
وامّا يرجع يلتقيه ما زْعلشى منّهْ
ماهو لمّا راح ما كانشى غصب عنّـه
تبقى حركة مش كلبشات خانقة ماسكة
والقلوب مع بعضها، مش سايبة فـكّة
لو كده: نكبر ونعملها: نطير
كل واحد يبقى ناس حلوة كتير
بس يتريس عليهم حدّ منهم
بالتبادل والسماح مش غصب عنهم.
تفضل الحركة كده جوه وبرّه
بس يتغير رئيسها كل مرة
لمْ يبطـّـل إنه يدخل ثمّ يطلعْ
يبقى آمن، قومْ يهدّى اللعب، مش محتاج يبرطع
.
تبقى رحلة حركة دايمة مِـالـّلى هيـّـهْ
لمّا نسمح إننا نِصْغَرْ شويةْ
لاجل ما نكبر كما شجرة عفية
اتروت: حُـب وميّة
أبعاد أخرى:
هذه الأغنية ، تؤكد معظم ما سبق من أبعاد الحركية والمسافة والتحديد، وتضيف أخرى:
أولا : الحق فى الوحدة مع وجود الآخر To be alone with““
برضه من حقى أكون “نفسى” : وحيد ،
بس مش بالغيك، ما هو انت مش بعيدْ
كثيرا ما يشاع أن الوحدة هى شىء مرفوض طول الوقت، وأن الشخص الذى يمارس وحدته هو شخص انطوائى منغلق … إلخ. هذا غير صحيح. إن قبول الوحدة المرحلية هو جزء لا يتجزأ من “برنامج الدخول والخروج” ، هو أمر طبيعى بل و صحى فى حدود دورها فى الحفاظ على العلاقات الإنسانية: مرنة ومتحركة كما أشرنا.
إن الانتقال من الذات إلى الآخر وبالعكس، فى التوقيت المناسب، يزيد من فرص التعرف على هذا الآخر تعرفا متجددا باستمرار، وهو أيضا يعفى الذات من الاختناق بحضور الآخر محيطا طول الوقت. إن هذا الحق فى الوحدة قد يكون ألزم فى العلاقات الزوجية (كمثال).
تاريخ التطور يجسد لنا فائدة الانسحاب إلى البيات الشتوى فى كثير من الأحياء بما يحافظ على حيوية واستمرارية التجدد البيولوجى والتطور والحياة.
ثانيا : القاسم المشترك الأبقى
حبّة حبّة، يحتوينا الحضن قُــبّه.
حضن كل الناس خيمتنا وأمْـنِـنَـا. حضننا لو صح يوصل لمّا عند ربنا، كده نضمن لو خـِلى واحد بنا، مش حانغرق وسط دوّامة الضياع والمسكنة
التهديد الحقيقى لتشويه أو إفشال العلاقات البشرية هو أن تقتصر على اثنين بمعنى الاحتكار والاستبعاد لكل من هو خارج هذه الدائرة المغلقة بين اثنين. إن الفرق بين القدرة على الحب، وبين حالة الحب، هو الفرق بين المولد الكهربى، والبطارية. المولد الكهربائى يصدر طاقة فياضة تتجدد بالحركة، أما البطارية فهى تفرغ بالاستعمال ما لم يغذيها المولد باستمرار. الذى يحافظ على الحب الثنائى هو أن يكون ممثلا للقدرة على الحب، وليس احتكارا لفعل الحب، وهى قدرة تمتد عبر كل الناس إلى الله عز وجل الذى خلقنا ليتوجه كل من موقعه إليه عبر الناس. هذا هو ما أسميته القاسم المشترك الأبقى، وهو الذى يحمى المحب ضد مفاجآت التخلى ، يحميه من الضياع، مثلما يحميه من مذلة الاستجداء.
ثالثا: السماح و درجة الدفء
حضنكو الدافى اللى مش لهاليب ونار، حضن يحمى، بس يسمح، حضن بيطـمـَِـن، ويمنح: فرصة للى بِـدُّه يسرح. إنه يلعب- يجرى- يشطح. وامّا يرجع يلتقيه ما زْعلشى منّهْ. ما هو لمّا “راح” ما كانشى غصب عنّـه.
مع دوامية الحركة، يجرى السماح تحت مظلة من الطمأنينة، حتى لو أدى هذا السماح أحيانا لما يبدو شطحا. السماح يواكب درجة حرارة الحنان التى كلما كانت مناسبة، كانت فرص النمو أكبر. الدفء المناسب المتقطع هو الذى يجعل بيض الطيور يفقس، لو زادت درجة حرارة الاحتضان حتى اللهيب،أو زادت مدته حتى الاختناق، انسلق البيض أو فسد دون فقس.
أخيرا : التعدد والواحدية
لو كده: نكبر ونعملها: نطير، كل واحد يبقى ناس حلوة كتير، بس يتريس عليهم حدّ منهم، بالتبادل والسماح مش غصب عنهم. تفضل الحركة كده جوه وبرّه، بس يتغير رئيسها كل مرة. لمْ يبطـّـل إنه يدخل ثمّ يطلعْ، يبقى آمن، قومْ يهدّى اللعب، مش محتاج يبرطع.
نكتفى هنا – مؤقتا – أن نشير إلى أن حركية العلاقات وتبادلها وحيويتها وتجددها، كل ذلك يتيح فرصة لمستويات الوعى المختلفة أن تتشكل وتتبادل بكثرة قابلة للجمع تحت قيادة واحد منها، لكن فى لحظة بذاتها لا يوجد إلا قائد واحد هو الذى يدير الدفة حسب التوجه المناسب للموقف والمهمة، ثم تتبادل المستويات القيادة، مثل تبادل النوم واليقظة. (وهذا موضوع يحتاج إلى عودة مستقلة).
استلهام ختامى
حين كشفت عن مادة “حنَن”َ فى المعجم الوسيط، وجدت أن “الحنّان” يعنى الرحيم، ثم أضاف المعجم ما ذكّرنى أن الحنّان هو من أسماء الله الحسنى. وبرغم أننى لا أتوقف عند ما فى المعاجم كثيرا، إلى أنى فرحت بهذا الكشف حتى عدت أقرأ فى التنزيل الكريم الآية: “وحنانا من لدنّا وزكاة وكان تقيا” سورة مريم (13)، بوعى آخر. بل إننى عدت أقرأ البسلمة بشكل مختلف. اقتران الرحمن بالرحيم، ليس تكرارا، ولا ترادفا. إنه مع تذكر كيف أن الله يرانا حتى وإن لم نكن نراه، (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك) هو عين ما أردت توصيله من خلال هذه المراجعة لمعنى الحنان الذى يجمع بين الرؤية والحركة والمرونة والثقة والموضوعية. رجحت أن رؤية الرحمن الرحيم لنا، حتى لو لم نكن نراه، هى إقرار لما خلقنا به متميزين فطرة وأفرادا، هى دعوة أن نراه معا فينا، رؤيته لنا تعالى ليست فقط للمحاسبة فالثواب والعقاب، وإنما للرحمة والحنان والإقرار بحقنا أن نكون معا إليه سبحانه، ليس كمثله شىء.