نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-6-2016
السنة التاسعة
العدد: 3221
الطبنفسى الإيقاعحيوى (62)
Biorhythmic Psychiatry
الجذور (9)
تعدد دوائر النبض المخى ومستويات الوعى (1)
مقدمة:
فى غمرة حماسى لنقد أطوار النمو حسب مدرسة العلاقة بالموضوع، بينت فى النشرات السابقة كيف أنها: أطوار وليست مواقع: وأنها دائمة الاستعادة وليست موقوتة فى فترات باكرة من النمو ومشحونة وجاهزة للتنشيط ، فضلا عن رفضى للتفسيرات الانشقاقية الباكرة، أقول فى غمرة هذا الحماس، وقبله حماسى لتوضيح دور الإيقاع الحيوى اليوماوى فى الحياة العادية فى الحلم واليقظة، وعلاقة ذلك بدورات النوم واليقظة والحلم واللاحلم، أثناء هذا وذاك وغيره بدا وكأنى أزحت جانبا فروضى عن دورات تبادلية أخرى، وقد كدت أنسى فروضا أساسية، لدورات تربط بين “التفكيك” و”الإبداع” و”العادية”، مع بيان جاهزية التوقف عند “فرط العادية” أو التمادى “للجنون الصريح”، وهو ما نشر سابقا فى ملف “الصحة النفسية” ، وكان بمناسبة تطوير فروضى الباكرة عن علاقة الصحة النفسية على مسار التطور الفردى (1972)(1) وأرى الآن أنه من المناسب طرح تسلسل كل ذلك وربط بعضه ببعض:
أولاً: لم أشر فى هذا الفرض الباكر 1972 إلى علاقة هذه المستويات المتصاعدة بالإيقاعحيوى الدائم ودوراته ونبضه، واكتفيت بذكر مستويات التوازن: المستوى الدفاعى (حيث تقوم ميكانزمات الدفاع بالدور الأكبر فى حفظ التوازن والمستوى البصيرى: حيث يزيد دور البصيرة فى تحقيق التوازن بين الداخل والخارج برغم آلام الرؤية وصعوبة الواقع، ثم المستوى الإبداعى: حيث يكون للإبداع فى الداخل/الخارج اليد العليا فى حفظ التوازن).
ثانياً: ارتبطت نقلات التطور فى هذا الفرض الباكر بأزمات النمو المتلاحقة، لعل أشهرها هى “أعمار الإنسان السبعة”(2) لإريك إريكسون وأن كل أزمة نمو تعتبر مفترق طرق، لذلك اسميتها “أزمة مفترقية”، يخرج منها الشخص إلى أحد المستويات الثلاث حسب ما تهيَّأ له، وما يحاط به، ويمكن أن ينتقل من مستوى إلى أى مستوى أخر فى أى أزمة لاحقة، فالتتابع الخطى ليس شرطا، وهكذا.
ثالثاً: لم أُشِرْ إلى أى استعادة تلقائية نابضة دائمة لهذه المستويات بما يتناسب مع دوامية الإيقاعحيوى التى انكشفت لى مؤخرا.
تغير النظرة وتطور النظرية:
وهكذا نرى أنه برغم أن هذا الفرض الباكر يتكلم عن “مستويات”، و”نقلات” و”أزمات مفترقية”، إلى أنه لا يتكلم عن “دورات”، أو “نبض مخى”، أو “إيقاعحيوى” أو “استعادة”.
ثم تطورت فروضى بعد ذلك إلى تبنى فكرة النقلات المحتملة باستمرار فيما اسميته تبادل حالات الجنون بين “حالة العادية و”حالة الجنون” و”حالة الإبداع” ولم أشِرْ إلى أن أيا من هذه الحالات هى أطوارا متتالية بل حالات متبادلة على مسار النمو أو مع نبض الإيقاعحيوى، برغم أن هذا التبادل جاء لتوضيح الإضافة التى أضافتها النظرية التطورية الإيقاعية للفرض الباكر (نشرة 20/2/2016) و(نشرة 21/2/2016) و(نشرة 22/2/2016) ، لكن التبادل لم يتأكد أنه دورى ، ودائم ، ومُسْتَعاد كما رحت أؤكد بعد ذلك.
الصحة النفسية “من منظور الإيقاع الحيوى”:
الذى أضافه فرض الإيقاعحيوى هو أكثر دينامية، وأنسب نموا، حتى أنه يمكن اعتبار أن الصحة النفسية تتوقف على مدى هارمونية وسلامة هذا التزاوج بين العلاقة بين الإيقاعحيوى على مستوياته المختلفة وبين الإبداع المتحقق فى النمو على مسار تطور الفرد طول حياته،
وفيما يلى خطوط هذا الفرض الأخير من منطلق الإيقاعحيوى:
تتحقق الصحة النفسية إذا توفر لها ما يلى:
1- أن يستمر النمو طول العمر بشكل دائم فى تناوب نابض بين الاستيعاب والبسط، وكل مرحلة تحقق توازناتها بخصائصها الخاصة . معنى ذلك أنها ليست فقط مراحل عمرية سابقة ومغلقة وإنما هى مراحل يتلو بعضها بعضا، وهى هى مراحل متكررة بتكرار النبض الحيوى باستمرار، بدءا من دورات اليقظة/النوم/الأحلام(3) وتتوقف الصحة النفسية على كفاءة دورات “النوم/اليقظة”& “الحلم /اللاحلم” فى أداء وظائفها الإراحية والتنظيمية والتعليمية والتشكيلية معا من خلال هذه العملية العادية اليوماوية (السركادية)(4)
2- أن تحقق كل خطوة (وأحيانا كل لحظة) من خطوات النمو توازنها من خلال كفاءة النبض الحيوى المنتظم المستمر.
3- أن تعمل وظائف المخ وفقا لسلامة النبض الحيوى متناوبة مع بعضها البعض، ومع نبضات النمو ما بين الملء (اعتمال/فعلنة(5) المعلومات)، والإبداع (بمعناه الخاص والعام لإعادة تشكيل الشخص العادى باستمرار)
4- أن يكتسب الفرد مع كل نبضة حيوية من نبضات المخ/الكيان الحيوى عامة، قدرات أعلى تمكنه من التعامل بكفاءة مع موضوعات الواقع الحقيقية من حوله، باستمرار متغير.
5- إن هذا يعنى أنه بمزيد من اكتساب هذه الكفاءة الحيوية الناتجة من سلامة أداء الإيقاعحيوى أن يزداد الفرد وعيا باستمرار، حتى يستغنى أكثر فأكثر عن الإفراط فى استعمال الحيل النفسية العامِيَـْة المعيقة،(6) ليتقدم نحو مزيد من الابداع. وهكذا يتزواج الفرض الباكر مع هذا الفرض (الأخير مع تذكر اختلاف وحدة الزمن).
6- أن يتعامل الشخص تلقائيا مع كل طور من أطوار النبض الحيوى بما يناسبه من قواعد ومقومات وهذا يعنى أن يكون الفرد مستعدا لتلقى المعلومات برحابة تناسب طور الملء فى النبضة الحيوية، وأن يكون قادرا على إعادة التنظيم فى مرحلة البسط من نفس النبضة وباستمرار.
7- أن يتبع ذلك امتداد التناغم مع دوائر أوسع فأوسع من دوائر الوجود، بدءا بمجتمعه الأصغر، أسرته الصغيرة، امتدادا إلى المجتمع الكبير، ثم مع سائر البشر حتى التناغم مع دورات الكون فى صورة التناغم الإيمانى (أو ما شئت من تسميات). شرط ألا تتخطى الدوائر الأبعد تلك الدوائر الأقرب على أرض الواقع، أى ألا تقفز فوقها.
خلاصة القول:
إن الشخص السليم نفسيا هو الذى لديه القدرة (التلقائية، وليست بالضرورة الإرادية الواعية) على أن يعيد تنظيم ذاته، سلوكيا وبيولوجيا، وكذلك على تنظيم المعلومات التى يتحصل عليها من خلال النبض الحيوى المنتظم. وهذا يتم من خلال كفاءة الإيقاعحيوى الجارى كل يوم وليلة دون انقطاع، وهو ما أشرنا إليه بشأن كفاءة دورات النوم /الحلم/ اليقظة، وكذلك من خلال نشاطات الإبداع الإدراكى، والإبداع السلوكى المنتج ، ثم إبداع الذات المستمر باستمرار التناوب الناجح مع النبض الحيوى.
وبعد
ومع كل هذا التأكيد على دوام الاستمرار وعلى دورية النبض إلا أن ثمة دورات أخرى تتناوب أيضا بين حالات وجود متبادلة متمايزة وهو ما أشرنا إليه سابقا فى ملف الصحة النفسية باسم “حالات الوجود المتناوبة” وسوف نعود إليه غدًا.
[1] – ملحق كتاب “حيرة طبيب نفسى” (مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى) دار الغد للثفافة والنشر، 1972
[2] – Eric Erickson: “Eight Ages of Man” (1970), The New York Times Magazine.
[3] – وظيفة النوم-الحلم الإيقاعية لتحقيق الصحة النفسية:هى تمكين التبادل بين مستويات الوعى أثناء النوم، وبالذات أثناء نشاط الحلم الراتب ، وهو ما يتعلق بتلقائية الإيقاع الحيوى، حيث يجرى تنشيط “الوعى الآخر” بشكل منتظم أثناء النوم لمدة عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة. فيما يسمى نوم حركة العين السريعة (نوم الريم) ليكون هذا هو النظام الطبيعى لتبادل التنشيط المتكامل بين مستويات الوعى.
[4]- Circadian ترجمنا هذه الكلمة إلى”يوماوية” لأنها تشير إلى دورة الإيقاع الحيوى خلال 24 ساعة (ليلة ونهارا)، أما الدورة الأقل من 24 ساعة Ultradian، والأكثر Infradian، فلم نجد لها ترجمة فى الوقت الحالى، وحتى يحين استعمالها ننتظر الفرج.
[5] – Information processing