الأهرام: 21-12-1982
الوجود بلا قضية
مع تزايد الصحف والخطب والمسلسلات والاجتماعات, المناقشاتية .. يتراجع الحوار والمواجهة والتحدى القادر على إعادة خلق الحياة مع إعادة تشكيل الوعى, فيصبح العقل صندوقا مظلما محكم الاقفال رغم ظاهر الزركشة, لا يصلح إلا لترديد الأصوات النابغة من النقر على السطح, وأنا أشير فى ذلك الى حال الفرد العادي, ولا أخص بالذكر ولا أستثنى المثقف البراق.
والمتلفت حوله متأملا فى الشارع الثقافى (وينبغى أن يكون ثمة شارع ثقافى وهو ما يقابل الشارع السياسى وهو مختلف عن البرج الثقافى والمؤسسة الثقافية) لابد أن يلاحظ أنه لاتوجد قضية حقيقية تؤرق اعماق الناس وتحفزهم فى ان تؤرقهم فردا فردا كلا على حده, حتى اذا التفوا ظهرت حتما فى حوارهم وأعلنتهم همهم المشترك الناتج عن مأزق شامل مهدد أو أمل غائب ملوح.
ولابد ان اوضح ما أعنيه هنا بقضية هو امر يختلف عن السب الايديولوجى والنكتة السياسية والتعليق السريع على مسلسل لحوح طابور سجائر, فكل هذه أمور واجبة وملحة, ولها ان تحتل فكرنا وتستحوذ على اهتمامنا وتقتل وقتنا حتى يغلبنا النوم أو الموت الا أن وراء كل ذلك وأمامه يوجد مطلب اساسى يتعلق بنوع الوجود الخليق بأن ينشط فينا غريزة احترام كائنات ذات وعى فائق وهذا ما أسمية بالقضية.
وأنا لا أفرح بتبرير ‘اختفاء القضية’ بالتفسيرات الاقتصادية والاسقاط العدوانى على الغير ولا أزعم فى نفس الوقت آن أزمات التموين والاسكان والسفر بره لاينبغى أن تأتى فى المقام الأول وإنما أمل فى نفس الوقت ايضا ان تكون هذه الازمات هى مجرد الحسم الخارجى لقضية الوجود المتحدى المعاصر.
ان اللعبة التى استدرجنا اليها هى ان المشاكل الفرعية حلت محل القضايا الاساسية بدعوى أنه يستحيل تناول القضايا قبل المشاكل ولكن المتابع الأمين يستطيع ان يلاحظ ان القلة التى نجحت فى حل مشاكل التموين والاسكان والمواصلات الخاصة والسفر بره لم ينتقل من المستوى المشاكلى الى قضيتها وإنما انتقلت الى ما يمكن ان يسمى مشاكل الرفاهية وكأنه كتب علينا ان نقضى نصف حياتنا فى مشاكل التأمين الاساسى والنصف الثانى فى مشاكل الرفاهية فأين القضية؟
وقد تصورت ان الكهرباء قد انقطعت عن عائلة مجتمعة حول تليفزيون أو جماعة تسمر فى نادى هيئة تدريس أو ثلة شباب فى حلقة رقص او مجموعة تسمع كاسيت للريس جرجاوى على مصطبة الدوار وتصورت ان النوم والانصراف كانا متعذرين لسبب او لآخر, فما هو محتوى الحديث الذى سيتبادله الجلوس فى الظلام بعد الدعابة والفئران وأخبار الدورى والجمعية وطابور السوبر والاسعار واداء العمرة والسفر ‘بره’ حتى يأتى النور فنعاود الاستقبال دون الارسال أو يأتى النوم فنعاود الغيبوبة دون الحلم لا شيء لم أجد شيئا أخر واكد لى خيالى انه ليس ثمة قضية عامة نعيشها فردا فردا بمسئولية خاصة.
قضية تؤرق الناس فيما يتعلق بماهم وبمصيرهم وبحقهم فى الوعى وبتهديدهم بالعمى والكمبيوتر قضية أو قضايا تبدأ من المشاكل اليومية ولا تقف عندها.
فاذا انتقلنا محيرين مستنقذين الى مجتمع المثقفين فى لقاءاتهم ومعاركهم وتنافسهم وخلافه .. لوجدنا أن ثمة قضايا تطفو على سطح الوعى فثمة قضية للمسرح وقضية للشعر وقضية للتراث وقضية للبحث العلمى ولكن قاريء الوجوه المتحمسة قد يكتشف أن هذه القضايا إنما تمثل مسائل خارجية أكثر منها مؤرقات شخصية ومسئولية ذاتية
(اذهى عامة فى نفس الوقت)
وحتى اولئك الأعلى صوتا وأوضح ايديولوجية لايبدو انهم يعايشون الأمور بعمق وجودى خاص وإنما هم يدافعون عن انتمائهم لحل مسكن مأمول ورد الى عقولهم جاهزا كاملا لا يشكون فى نجاحه ولا يفكرون فيما بعده لا يعانون الهم المبدع ولا يواجهون التحدى المراجع.
ولا يمكن ان اختم حديثى دون الاشارة الى تبرير هروبى شائع يصور لنا القضايا باعتبارها دينية ‘من أمر ربى ‘أو فلسفية من أمر الصفوة ‘المتحدثة’ – فلينسوا بذلك ان الدين فى النهاية مسئولية كل فرد على حدة (افلا يتفكرون)
وان الفلسفة هى فعل يومى وليست وجاهة عقلية
ليس مهربا ما أدعوا اليه أو لعله كذلك
ولم لا؟!