نشرت فى الأهرام
29-11-2004
الدين: تسكين أم إبداع
كان المؤتمر (11-13 الجارى) عن “العلاج التسكينى”، وخاصة دور الدين فى مساعدة مرضى الأمراض المستعصية وأمراض النهاية. وصلتنى الدعوة للمشاركة بورقة تمثل وجهة نظر الإسلام فى هذا الصدد. الداعى هو “الفاتيكان”. كان عنوان جلسة مداخلتى مع ممثلى بعض الأديان الأخرى (اليهودية، والبوذية ..والهندوسية و”ما بعد الحداثة”!!) هو “حوار بين الأديان”. وبرغم حسن النية وكرم الدعوة، لم يكن ثم حوار ولا ديالوج ولا مناقشة، لكن المسألة كانت تستأهل. اقتصرت مداخلتى على إعلان خشيتى من احتمال اختزال الدين إلى دوره التسكينى كمخدر ضد الألم الفردى، قياسا على اختزاله، سالفا وحالا، مخدرا للشعوب. مثلما شاع فى الإسلام اختزالا لماهية ‘النفس المطمئنة’، مع أن القرآن الكريم لم يخاطب النفس بهذه الصفة (المطمئنة) إلا وهى “راجعة” إلى ربها راضية مرضية، لتدخل فى عباده تعالى فى طريقها إلى جنته سبحانه: “فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى. المهم: نبهت فى ورقتى تلك كيف أن الألم الإنسانى، عضويا و نفسيا قد يمكن معاملته بالمسكنات الكيمائية أو الدينية ما دام هو الألم المحدود الناتج عن فرط وعشوائية استثارة مستقبلات الألم العصبية، أما إذا تسبب هذا الألم فى خلخلة توازن النفس برمتها حتى الضجر والنزق والقنوط فهو “جهنم الفوضى البيولجية الوجودية”. وهو ما أسميته “جهنم النشاز” الذى لا يصيب إلا الإنسان الفارغ من المعنى، المتحوصل على ذاته، المقدس لأيامه، المغرور بنفسه، نتاجا لانفصاله عن هارمونية الناس والكون. ثم بينت كيف أن الإيمان الحقيقى لا يقتصر دوره على تحسين “نوعية الحياة”، لكنه لا بد أن يمتد إلى تحسين “نوعية الموت” حتى نقبله كنقلة رائعة لا يكتمل لحن الوجود بغيرها، ليصبح الموت ليس نقيضا للحياة بقدر ما هو حركة مميزة فى سيمفونية متصلة. وبديهى أننى أوضحت كيف أن ذلك الفرض قد وصلنى من معايشتى لجوهر دينى دون وصاية الشراح، ومن مواكبتى للإيقاع الحيوى الإنسانى والكونى قارئا (ناقدا) “للنص البشرى”، خاصة فى حالتى المرض، والإبداع.
جاء تعقيب رئيس الجلسة طيبا، كما نبهنى رئيس المؤتمر إلى اتفاق ما قدمت مع فكر بابا الفاتيكان عن حتمية اتصال هارمونية الفرد مع هارمونية الكون فى إيقاع متجدد لسيمفونية الإيمان. عوضنى هذا وذاك عن افتقارى لما سمى ديالوجا بين الأديان، وتذكرت الباب شنودة وهو ينبه أن الحوار الممكن هو بين المتدينين، وليس بين الأديان.
الحوار الحقيقى جرى على مائدة الطعام وفى أروقة الفندق بينى وبين زميلى البوذى والهندوسى خاصة، لكن حوارا أطول وأثرى امتد مع إبنى المسيحى الطيب القادم للقائى فى روما (د. رفيق حاتم)، ثم ونحن نكمل الرحلة إلى حيث عائلته الكريمة الجميلة بالقرب من باريس، لأجد نفسى ملقي، كالعادة وسط طوفان بشر مختلف، وطبيعة أخرى موقظة ببردها ومطرها وخضرتها وطزاجتها، محاطا بالحب واالحرية من مجهولين كــثر، مغمورا من داخلى بالدهشة المتجددة أبدا، لتنتهى رحلتى بيوم فى باريس أعادنى إليها، أو أعادها إلي، بكل ما كان وما لم يكن. كان يوما بصحبة إبن أصغر: مسيحيى أيضا (د. نادر عطا الله)، فتواصل الحوار أخفى وأرحب، وأنا فى حال: تتقشر عنى طبقات وعيى الواحدة تلو الأخرى كما نقشر الخسة حتى نصل إلى طزاجة القلب ومرونته. فأتضاءل حتى أعدل عن أوهام تعديل الكون!!، لكننى أصل إلى القاهرة فأجد أسراب الجراد تنتظرنى فأتساءل: ألا يمكن أن نتعلم من هذه التجمعات الجرادية الحمراء الفتية المتماسكة “الشابة” شيئا يعيننا على حفظ نوعنا البشرى “معا”برغم نتائج انتخابات أمريكا ومؤتمر شرم الشيخ؟ فأدرك أن علتى مستعصية (مازلت أتصور أن لى دورا خاصا وهاما فى الحفاظ على نوعى!!) مما قد أحتاج معه إلى علاج تسكينى مثلما تناوله المؤتمر.