الأهرام 12-7-2004
إذا عرف السبب زاد العجب!!
لا يوجد سبب (ولا أكثر) مسئول عن ظاهرة واحدة بذاتها. لم تعد المسالة هكذا، ولا هى كانت عمرها كذلك. بقدر ما أفاد الفكر الفرويدى فى كشف بعض أغوار النفس البشرية فقد أضر، هو وسوء فهمنا له، حين رحنا نعلى من دلالة ما يسمى “الحتمية السببية”: بمعنى أننا نصر على تفسير كل ما حدث أو يحدث بسبب محدد حدث عادةً فى الماضى. هذا على المستوى الفردى فى الماضى (وهو ما شاع عندنا باسم العقدة النفسية). يحدث مثل ذلك فى السواء أيضا، وفى كثير من الدراما والمسلسلات التى تصر على العقدة وحل العقدة وتسخر الحكاية للتبرير والتفسير…إلخ.
إشكالة المعرفة المعاصرة لم تعد ترتبط بكم ما نحصل عليه من معلومات (فهى كثيرة وتتكاثر بأسرع من قدرة أى شخص على ملاحقتها). قيمة المعرفة الآن هى فى مدى مصداقيتها، وجدوى فائدتها. هذه المراجعة تجعلنا نعيد النظر فى القول الشائع “إذا عرف السبب، بطل العجب” – ذلك لأن معرفة ما يسمى سببا قد يثبت أنه مجرد تبرير أو تسويغ لما حدث، ومن ثم ينبغى تحديث هذا المثل إلى أنه “إذا زعموا معرفة السبب زاد العجب”، لأنه عادة ما يثبت بالفحص الناقد أن ما صورناه لأنفسنا سببا، هو ليس السبب الحقيقى، أو ليس سببا أصلاً.
هذه ليست قضية أكاديمية منهجية بل هى موقف حياتى ثقافى هام. إن اختزال تفسير الظواهر إلى أسباب خارجة عن إرادتنا وعن مسئوليتنا قد ساد حياتنا بشكل ضاع معه التفكير النقدى، كما ضاعت معه فرص التصحيح والبعث الجديد.
بعد ظهور الحاسوب العملاق، والعلوم الأكثر تحديا مثل علم الشواش (الفوضى) والتركيبية، والعلم المعرفى، أمكن رصد كيف تتداخل عشرات الألاف من العوامل طولا (تاريخا) وعرضاً (تفاعلاً) لإحداث ظاهرة ما.
اختصار تفسير الأحداث بأسبابها الظاهرة قد يؤدى إلى استرخاء عقلى بقدر ما قد يؤدى إلى تبرير تآمرى. حتى فى الفن حين حّدثوا مأساة “ريا وسكينة” فى مسرحية فكاهية رائعة، لم يتركوها إلا وقد حشروا فيها موقفا خطابيا يفسر الميل الإجرامى للقاتلتين بأنه ليس إلا انتقام خفى من زوجة أب صعيدية قتلت أمهما أو أهانتها لا أذكر. ربما كان ذلك استدعاء لتعاطف المشاهد مع البطلتين (شادية وسهير البابلى)، لكن دلالة ما وصلنى من ذلك هى أن هذا الموقف التبريرى الحتمى أصبح غائرا فى ثقافتنا وطريقة تفكيرنا فى الحب والحرب والجريمة والدراما والبحث والسياسة.
يمتد هذا الاختزال إلى التفسير الأحدث للمرض النفسى بإرجاعه إلى زيادة فى هذه المادة أو نقص فى تلك. هذا التفسير للظاهرة الإنسانية المرضية بسبب كيميائى ميكانيكى محدود هو اختزال أقبح وأجهل من سببية فرويد وحتميته.
علينا أن ندرب أنفسنا على أن نفهم معنى الظاهرة وليس فقط أسبابها المحتملة. حرب العراق –مثلا- تعلن مدى ما وصلنا إليه من ضعف وقهر فى نفس الوقت التى هى نتيجة جشع الشركات إياها وطمع الحكومات وغباء السادة المتغطرسين.
إن قراءة الظاهرة وفهم رسالتها وتوجيهها هو نوع من التفسير الغائى الذى يسمى “السببية الغائية” وهو اهم من البحث عن أسباب ليس فى مقدورنا إزالتهاعادةِ. إن فهم معنى الظاهرة يؤدى بنا إلى تحديد ما ينبغى عمله الآن ومستقبلا، هذا إذا أحسنّا الإنصات إلى “الرسالة” التى ترسلها إلينا أية ظاهرة من أول الجنون حتى الحرب حتى المجاعة والحب والسياسة.
من خلال هذا الفهم “هنا والآن” يمكن أن نتدرب على تحمل مسئولية الإسهام فيما آل حالنا إليه، ومن ثم تعديل موقفنا بما “يمكن” إلى ما “نستطيع”، مع ما يصاحب ذلك من آلام ضرورية أشرف من الغيبوبة والتبرير ووضع اللوم على ما “كان”، وما “فعلوا بنا”.