الاهرام : 4 / 7 / 1975
التفسير “الحرباوى” أم التطبيق العلمى للقرآن؟
…. أما لفظ “الحرباوى” فهو النعت الذى وصف به استاذنا الدكتور محمد كامل حسين – وليس عليه سبهة الارتزاق من منصب دينى- بدعة التفسير العلمى للقرآن حيث قال “… والحرباوية داء قديم، يكون فى التفكير كما يكون فى الخلق، وليس أدل عليه من قول أحدهم: أن النظام الديمقراطى الاشتراكى التعاونى موجود فى القرآن، وساق دليلا على ذلك آيات كثيرة مثل قوله تعالى “وتعاونوا على البر والتقوى…الخ، ثم يختم مقاله بعد أن صنعه كل هذا الاتجاه قائلا وأرجو أن نكون قد وادناها – البدعة – فى هذا المقال الى غير رجعة.
الا أن رجاءه للأسف لم يتحقق – رغم تحذيره منذ سنوات طويلة – ربما للأسباب التى ذكرها ومنها التعالم من ناحية، وادعاء الغيرة على الاسلام من ناحية أخرى، بالاضافة الى أسباب عصرية نثرية بيروتية، والله أعلم.
وأنا لا أدعو الى انتقال باب الاجتهاد الا انى اشير الى ان هذا التفسير السطحى ليس هو سبيل الاجتهاد، بل انه قد يعوق الاجتهاد ويضر به ابلغ الضرر، فأى انسان عنده المام عابر بما وصلت اليه العلوم الحديثة من معلومات باهرة ولكنها محدودة أن دلت على شئ خاتما تدل على اصرار الانسان على المعرفة وقصور وسائله الحالية، لابد وأن يدرك مدى الخطورة المترتبة على هذا النحو من التفسير اذ لابد وأنه سيشوه الناحيتين معا.
على أن هذه البدعة لم تتجدد بالنسبة للقرآن وحده، فقد سبق للكثيرين فى القرون الوسطى أن قالوا أن بالتوراة والانجيل أسرارا عميقة بعيدة الاثر تشمل أحداث التاريخ كله قديما وحديثا، ثم تجئ مجلة اليونسكو من العلم والمجتمع فى عددها [أكتوبر – ديسمبر 1974] فننشر مقالا يفسر رحلة النبى “نزجيل” ESECHIEL الواردة فى التوراة مستعملا القياسات الخاصة بسفن الفضاء لابد وأن تقف أمامها طويلا حتى تعرف المغزى الذى يقصده المهندس كاتبها – الأمر الذى دعا الى اغفالها فى النسخة العربية للمجلة.
ولكن علينا فى نفس الوقت الا يكون هذا الرفض السطحية هو مجرد مبرر للهرب من المواجهة بين العلم والايمان حيث يكمل بعضها بعضا – بلا ضرورة تفسيرية لفظية – فكل منهما وسيلة للمعرفة الانسانية وهما يصنعان معا ومع المعرفة الفنية سبل التكامل البشرى وعلى ذلك، فأنا انما ادعو الى التطبيق العلمى لتحقيق هدف القرآن الاسمى، باستعمال كل الوسائل العلمية والسياسية والاقتصادية التى تؤكد سمو الانسان – لا مجرد ساميه – وقدرته على البقاء على ثمة الهرم الحيوى اذ يتصف بما هو أهل لانسانيته.
وبالتالى فأنا لا أرى معنى للمحاولات المنسقة للتوفيق بين التفاصيل الواردة فى بعض الفلسفات المادية وبين النصوص الدينية، تلك المحاولات التى لا تنجو من الاتهام بالتلفيق والادعاء، بل ان وسائل العلم – ان كانت صادقة واصيلة – لابد وأن تخدم أهداف القرآن حسب مقتضيات العصر، وبذلك تحقق انسانية الانسان بما يليق بما كرمه به ربه “ولقد كرمنا بنى آدم”..
ولا أجد أكثر ثقة بقوة دينه وسماحة نفسه من فيلسوفنا الشاعر محمد اقبال فى رسالة الخلود “جاويد نامه” حين يقول عن ماركس “ولما كان الحق فى باطله مضمرا، كان قلبه مؤمنا وعقله كانرا” أو حين يقول عن نيتشه “كان علاجا غريبا فى ديار” – كان يبحث عن الله، ولكن الله كان متجليا فى قلبه، الا أنه لم يكن مدركا لهذه الحقيقة”..
ان ثقة أقبال بايمانه جعلته يرى الايمان فى قلب الكاثر، لا أن يبحث عن الكنز فى كلام من التى السلام، وعندى انه كلما رسخت اقدام العلم، كلما اصبح املا لتحقيق ايمان الانسان دون خوف او تلفيق، وبالتالى يصبح العلم الذى يهدف إلى المساواة والعدل، والى الحرية واطلاق قدرات الانسان الخلاقة وسيلة أصيلة لتأصيل الايمان، ومجالا صادقا لتلبيته وتأكيده.