الاهرام 29-12-2003
عن الآمال والآلام العذبة الطيبة !!
الشائع أن التفاؤل هو النظرة الوردية للغد (ولليوم أيضا- ما المانع؟) وأن الحفاظ على الأمل هو من صفات الفرحين المنبسطين عادة، لكن يبدو أن للأمر وجها آخر (أو وجوها أخري).
أتيحت لى مؤخرا (بفضل مصرية كريمة رائعة دؤوب: هى السفيرة مشيرة خطاب أمين عام المجلس الأعلى للطفولة والأمومة) أن أشارك فى مشروع (خفض الطلب على المخدرات بين النشء)، وأن أحاضر فى أسوان (عن جريمة الختان)، كان هذا وذاك موجهين لشباب مصر وفتياتها وصبيانها أساسا!!
ضد كل حساباتى وتوقعاتى، من واقع ما وصلنى من إيجابيات، تفجرت فى وعيى آمال كنت قد واريتها بعيدا عن بؤرة وعيي. الأصعب أنها تفجرت فى منطقتين نائيتين عن حسابات تفاؤلى العنيد: المنطقة الأولى “جغرافية” (صعيد مصر)، والمنطقة الثانية “عمرية” (فتيات مصر وصبيانها). ياه !! ماذا حدث لى فى بضعة أيام فى القاهرة ثم فى يوم حافل فى أسوان ثم ما هذه المعاناة التى تصاحب تلك الآمال؟
المفروض أنه مع تفجر مثل هذه الآمال فى وعيى هكذا: أن أفرح، وأن تنكسر وحدتى قليلا أو كثيرا،وأن تتسع ابتسامتى وأنا أشعر أن مسئولية تفاؤلى المزمن لم تعد قاصرة على بذل المزيد من جهدى الفردى، وما أحاول توصيله لمن حولي. لكن الذى حدث شئ آخر:
ذلك أننى وجدت أن وعيى قد احتد بشكل أكثر إيلاما وأنا أتابع اتساع الهوة بين تحركات الشباب مع فريق السفيرة هنا وهناك على أرضية حقيقية من صدق محافظى الصعيد وتعاونهم،وبين جمود وفتور وخداع المسترخين على الكراسى هنا وهناك أيضا. لم أستطع أن ألغى ما حدث أمام ناظرى، كما لم أستطع أن أنسى أو أنكر ما يصلنى كل يوم وكل ساعة من تصريحات تحصيل الحاصل، وأرقام تزيين وتزييف الواقع المر. فتزداد آلامى باضطراد وهى تتناسب طرديا مع اتساع الهوة بين ما عايشت،وما هو حادث!! تزداد تزداد حتى أكاد لا أطيق.!! كيف هذا ولماذا؟
عدت أكتشف من جديد أن الألم ليس بالضرورة ضد اللذة، ولا هو شعور ينبغى الإسراع بالتخلص منه مثلما شاع عنه من مروجى الأحلام عن مجتمع الرفاهية وتخدير الوعى بالوعود والكيمياء الحديثة ! إن هذه الآلام التى تقفز مع تفجر الآمال هى الضمان الحقيقى ليصبح الأمل فعلا لا حلما،وينقلب الحماس خطوات عملية تقاس على أرض الواقع أولا بأول.
يبدو أن وعى ناسى، ناسنا، ما زال طازجا أكثر مما كنت أحسب، خاصة وعى فتياتنا وشبابنا. حين كنت أدافع عن حق شبابنا فى ابتداع لغتهم الجديدة فإننى كنت أفعل ذلك لأننى أتصور أنها دليل على حيويتهم،ورفضهم الاستسلام لقوالب لفظية أصبحت بغير محتوى ثم أنه قد تأكد لى من واقع ما حدث أن الشباب فتيات وفتيان قادرون على ابتداع حياة جديدة،وليس فقط لغة جديدة.
تواكب مع خبرتى هذه بين الشباب فى القاهرة والصعيد أن أتيحت لى فرصة ما أسميته “تحريك الوعي” من خلال بعض الألعاب النفسية التى تفضلت قناة النيل الثقافية بالسماح لى بتقديمها بانتظام (برنامج سر اللعبة) فإذا بى أكتشف – أيضا – أن الأمل المؤلم الذى غمرنى ليس قاصرا مصدره على الشباب.
يبدو أن أغلب ناس بلدى لم يتنازلوا عن حقهم فى النقد والإبداع، كما أنهم لم يستسلموا تماما لفتور الوعي. تأكدت أيضا أن أى تحريك للوعى بأى قدر سوف يجد رجعا ما فى كل ناس مصر،وأنه يمكن أن يكون لمثل هذا التحريك دور إبداعى نقدى غير مقتصر على مساعدة المرضى، وأن الإنسان يظل “مشروع مبدع” ما ظل حيا على ظهر هذه الأرض الطيبة، وأى أرض طيبة.
ثم إن إحياء هذه الآمال والآلام العذبة الطيبة، قد صبرنى أيضا على معايشة آلامى الخاصة الشديدة العمق،الواعدة بإفاقة صعبة.