نشرت فى الاهرام
2-5-2005
.. شم النسيم..
اعتدت – كلما أتيحت لى الفرصة – أن أقرأ مسودة مثل هذا المقال على بعض أصدقائى أو صديقاتى أو تلاميذى أو حتى مرضاى فى العيادة (هم أصدقائى وصديقاتى جدا وأولا). فعلت ذلك مع مسودة المقال الذى كنت سوف أرسله بدل هذا الذى أكتبه الآن، وإذا بصديق شاب اعتدت ألمعيته، يعلن أنه لم يفهم، فعرضته على صديقة فى العيادة اعتدت رفضها لأغلب ما أكتب فى الصحافة، فجاء احتجاجها حادا وهى تتهمنى بالالتباس والزيغ، ثم تعلن خوفها من خطورة ما يمكن أن يصل إلى الناس مما قلت فى تلك المسودة. الذى أكمل على تلك المسودة البائسة هو أننى حين قرأتها – كما اعتدت- على شيخى نجيب محفوظ وبعض الحرافيش الاحتياطى (بعد أن سرح الحرافيش الأصليين بالسفر عن هذه الأرض أو هذه الدنيا أو هذا اللقاء) عقب بأن الفكرة لم تصله. ياخبر !! إن لم تكن قد وصلت نجيب محفوظ فلمن تصل إذن؟ اعترض الصديق الثانى على مراجعتى لمقولة “الدين لله والوطن للجميع” لأنه يعتبرها مسلمة لا ينبغى المساس بها، فى حين تحمس الثالث للمراجعة حين نسبت الدين والوطن جميعا لله والناس جميعا، دون أى سلطة دينية أو دنيوية. تذكرت ثورة الصديقة الثائرة العنيدة، وتغابى الصديق الشاب الألمعى.
رجعت أراجع المسودة، وجدت أننى كنت قد حاولت فيها أن أنبه أن دعوة الفصل بين الدين والسياسة برغم وجاهتها، قد مورست خطأ ولصالح الأخبث، كما أن دعوى وصاية الدين على السياسة هى بنفس الخطورة وألعن. حاولت أن أنبه أن مجرد إعلان الفصل، دون فصل حقيقى، ليس كافيا بدليل أن ما يمارس فى السياسة أمام صناديق الانتخاب، هنا وهناك، هو ليس إلا استغلال حاجة الناس (الأساسية أو حتى البيولوجية) للإيمان الذى يتجلى فى الأديان كلها، هذا الاستغلال يجرى سرا وعلانية حين يحصل المرشح على الأصوات وكأنه يمثل الله سبحانه أو على الأقل يمثل ما أنزل الله، وأيضا حين يستغل مرشح آخر حاجة الناس إلى رضا الله، فيلعب لعبته السياسية وكأنه وكيل رب العالمين المكلف بتحقيق ذلك، ثم يأخذ أصوات خلقه ليسخرها ضد كل ما لوّح به .
ذكرنى أحد الحرافيش الاحتياطيين أن مقالى هذا سوف يظهر يوم شم النسيم. يا خبر !!! كيف نسيت وأنا لى علاقة خاصة جدا بهذا اليوم سواء بالبيض الملون أو بالبصلة الخضراء التى كانت تضعها أمى تحت الوسادة لافاجأ بها بمجرد استيقاظى: وهات يا خضرة وهات يا ناس، وهات يا جرى، وهات يا حب، معا. هذا عيد له خصوصيته عندى بقدر ما له خصوصيته عند كل المصريين. انتبهت من خلال ذلك الذى حضرنى ماثلا أمامى بطول سبعة عقود، أن الناس الحقيقيين الطبيعيين هم الناس الذين خلقهم الله لا أكثر ولا أقل، وأنه مهما طال القهر، أو تمادى الخبثاء على الجانبين من استغلال حاجاتهم الفطرية، وأيضا مهما حاول المنظرون أن ينظـّـروا، ومهما ادعى المتحاورون أن يزعموا قبول الآخر بلا آخر، ومهما صرح البابا الجديد بالانفتاح على العالم، فى نفس الوقت الذى يعلن فيه “نهاية دكتاتورية النسبية”، مهما حدث ذلك وغيره، فالناس يمارسون حياتهم معا كما خلقوا: فى الحدائق، وعلى الشواطئ، وفى الملاعب، وفى الحقول والمصانع والمدارس، كل ذلك فى رحاب الله، يمارسونها معا أشرف وأصدق من كثير من الساسة، ومن أغلب الأوصياء على تفسير وحى الله، وأيضا من المنظرين المتقعرين كما بدا لى أنى أحدهم حين أعدت قراءة المسودة البائسة.
وكل عام، والناس كما خلقهم ربهم معا، وهم يكدحون إليه كدحا ليلاقوه، بدءا من “هنا والآن”: يوم شم النسيم.