نشرت فى الاهرام
18-4-2005
نسيج شعبنا الجميل!! و”لودر” الحكومة.
… رحت أؤكد لحضرة الضابط أننى سليم، برغم غوص العربة حتى نصفها فى كثيب من الرمال على جانب الطريق، وسط سلسلة من الجبال بين نويبع ودهب، فأصر أن منظر العربة، وعمق الهوة يشيران أن الأمر خطير. شكرته، ووقعت له ما طلب (!!) فوعدنى بإرسال لودر الحكومة فورا (!)”. أثناء انتظارى لم أجد ما أفعله سوى أن أخرج كتابا عن “جاك لاكان” كان معى استعدادا لمناقشة فى جمعية النقد الأدبى عن المتخيل الثقافى والتحليل النفسى (17 الجارى)، فجأة أضاء ذهنى بما عجزت عن فهمه عن “لاكان” طول عمرى فى مسائل اللغة، والدال، والمدلول، والزمن، والموت، والآخر”..إلخ!. ما الذى حدث؟ هل جعلنى الحادث أفهم أفضل، هل أنا واحد آخر، بوعىِ أخر؟ ما هذا الوضوح والهدوء؟ توقفت العربات تباعا وتوافد الناس، وجدونى أقرأ، لابد أنهم يظنون بى الظنون، هل هذا وقته؟ أخبرتهم أنى أنتظر لودر الحكومة، ضحك بعض الأعراب. فك سائق عجوز مقطورته من عربته واستعد ليرفعنى بسلاسله، عدد الذين أحاطونى يتزايد، هذا يزيح التراب من أمام العجل، والآخر يركب الإطار الاحتياطى، والجميع يهدئون من روعى (مع أنه لم يكن بى روع، ربما من فرط الروع). أشار البعض على العجوز أن محاولته لن تنجح. فجأة وجدت عربة 4X4، تهبط علينا يقودها شاب فارس، “مكر مفر مقبل مدبر معا، كمبعوث نُبلٍ حَطّه الحب من عل”، اقترب الشاب، وربط حباله بعربتى، وطلب من الناس أن يدفعونى من خلف، ومنّى أن أقود عربتى واحدة واحدة حتى وجدت نفسى على الطريق. الجمع قارب الخمسين، أشكر مَنْ أم مَنْ؟ لم يقبل أى منهم أى مقابل، تسحب السائق العجوز إلى مقطورته بعد أن ربت على كتفى بأبوة حانية، ثلاث ساعات مرت ولم يحضر لودر الحكومة، لكن نسيج هذا الشعب الذى يسيـّر صحته واقتصاده وأمانه (دون تعليمه أو سياسته) بنفسه أمر غير مصدق. يستحيل أن تنتمى تلك الأجسام الغريبة المتطايرة المتفجرة فى خلق الله من الأقصر إلى الأزهر مرورا بهلتون طابا إلى هذا النسيج، كل خيط فى هذا النسيج هو مسؤول حتما عن تماسكه إلى آخر الزمان. مهما تأخر “لودر” الحكومة!
ملأ وعيى هاجس حسبته شعرا وكان قد هجرنى ربع قرن بالتمام، إلا ما نظمته لمحفوظ ذات عيد ميلاد، لم يتجلى الهاجس ماثلا إلا بعد عودتى ففهمت من خلاله “لاكان” بعد طول غموض، أدركت أخيرا كيف يكون الدال هو الأصل، هو القادر على تنويع مدلوله والتلاعب به ، وكيف أن “النقص” فى اللغة والحياة هو الذى نخلّق من خلاله ما نتلقى إذ نكمله، فإن شككتَ عزيزى القارئ فى ذلك فحاول أن تقرأ ما غاب مما حضرنى هناك فاستحال شعرا هنا. وقانا الله وإياك شر عقم ما نعرف، وأثرانا بما لا نعرف:
…… وأفاق ينعى ميتةً ماتت: فأحيت ميّتا لا يرتوى إلا بنبض الفرح فى زخم التلاقى عبر نهر الحزن يعلن أننا: قد نستطيعْ.
لا، لم يكن هذا الأنا….”أنا”، ما صرتُ إلا ما تبقى بعدَنا. ما كنتُ إلا طرحَ لـُُعبة الظنون، لا لن يكونْ، من لم يكن أصلا “أنا”. الموتُ ماتْ، فتساقط القطْرُ المحمََّـل باللقاحْ. وتماوجت حباته: بالوعد والألـمْ. فى جوف نبض الصخر والبشرْ. وتلولب “الدَّنـا”(DNA) ….حتى كأننا….
فتجسدتْ فيما حسبتُ أنها “هىَ”. ليست “هىَ”!!!! تلك التى لم تُخلق الدنيا لنا إلا بها، مع أنها….،
صرنا معا فى حالةٍ لسنا كمَا…، فتخلقتْ تلك البراعمُ الجديدةْ: نحو الذى ما قد نكونه بنا، لكننا…
(انتهت القصيدة فى القاهرة، ومازلت فى انتظار لودر الحكومة قرب نويبع).