نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 21-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3125
الطبنفسى الإيقاعحيوى (23)
Biorhythmic Psychiatry
الطب النفسى، ومستويات التكامل الإنساني
(من منظور إسلامى/إيمانى) (2)
مقدمة:
النشرة اليوم هى تكملة للدراسة الناقصة التى نشرتُ بعضها أمس، وقد شرحت فى نهاية النشرة مبررات تسجيلها هنا: كمدخل للطبنفسى الإيقاعحيوى توضيحا لمسار تاريخ هذا الفكر وتطوره، كما نبهت أن ما عثرت عليه منها فى ملفاتى القديمة كان ناقصا كما سترون.
………..
البقية:
……………..
يمكن أن نبدأ الآن بتحديد ما ليس كذلك لكل من الإسلام والطب النفسي:
1- فالإسلام ليس تعصبا أصلا، بل إنه يمثل جـُماع مسيرة الإنسان فى علاقته بالكون، وبالتلى فهو يحتوى ما سبقه بقدر تشكيلىّ يجعله وُلافـًـا لمفهوم الإيمان عامة على اختلاف المحتوى.
2- كما أن الإسلام ليس معتقدا سلوكيا مسطحا يُستعمل للطمأنينة، وتكرار الإعلاء من ترادف الإسلام مع اختزال مفهوم “النفس المطمئنة” هو أمر يكاد يغفل دور الإسلام فى حركته التصعيدية الولافية الإبداعية، ومِنْ حمل القول الثقيل، ومِنْ كدح الجهاد المستمر، ومن شرف الكبَد الذى خلق فيه، ومن مواصلة تعميق الوعي، ومن مغامرة الاجتهاد الإبداع، ولعل من يكررمسألة النفس المطمئنة باختزال غير مسئول لم ينتبه بالدرجة الكافية أنها إنما ذكرت فى سياق الختام (الموت/الانتقال) “ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”، أما ما هو قبل ذلك مباشرة فهو شديد الدلالة والأهمية، ويغفل أغلب القراء والمفسرين الآية المتوسطة بين “ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً”، “وبين “وَادْخُلِي جَنَّتِى” وهى التى تقول: “ادْخُلِي فِي عِبَادِى”، وكأن طريق هذه النفس إلى الجنة، لا بد أن يمر “بالدخول فى عباد الله كافة”، وما أصعبها مسئولية، وأشرفها فى نفس الوقت.
3- ليس الإسلام هو اللفظ الذى يستعمله الأصوليون التكاثريون فى مجال السياسة.
4- لايمكن أن يكون الإسلام معتقدا فكريا جامدا (أيديولوجيا جاهزة)
5- ولا هو نشاط بعض الوقت (أيام الأعياد، والمناسبات الدينية أو ليوم من أيام الأسبوع! )
6- ولا هو علاقة سرية خاصة بين الإنسان وربه.
7- ولاهو إضافة أخلاقية اجتماعية مناسبة لتحسين المعاملات.
8- ولا هو مجرد تسكين وتأجيل ووعود ووعيد.، وترهيب وترغيب.
وإنما هو فى الأساس: موقف معرفى للوجود، وحين أقرأ “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ”، أرفض أن يختزل استعمال هذا الجزء من الآية الكريمة لتصبح كلمة “الحكم” مغلقة على المعنى السياسى العصرى لإدارة شؤون الدولة وإدارة الناس دون غير ذلك، فالله سبحانه قد أنزل كل شيء بلااستثناء بمافى ذلك قوانين الطبيعة وفلسفة الجمال وبرامج التطور، “والحكم” بما أنزل الله هو الحفاظ على قوانين الحياة كلها، فجميعـُها دون استثناء قد أنزلها الله – وبرامج حفظ الحياة وتطويرها هى – بداهة – ضمن ما أنزل الله.
هذا الموقف يستتبعه فهم بديع للإنسان وطريقة متجددة للمعرفة ومنهج إبداعى للبحث: وكل ذلك يستحق ممن ينتمى إليه أن يحمل أمانته، وما أقدمه هنا يتعلق بالإسلام الكشف الإبداع كوسيلة معرفية ومنهج رؤية، كما سبق أن ذكرت، وبإيجاز جديد: يمكن أن أركز على الإسلام الذى أقدمه هنا باعتباره:
1- موقفا حياتيا
2- طريقة معرفة
3- وعى كيانى بالذات والوجود
4- امتداد تكاملى فى الـ “مابعد” (الغيب)
كل ذلك إنما يتم من خلال التوحيد والتدرج التصعيدى فى تعميق وتوسيع دوائرالوعى، وحين قارنت بين المعرفة التى يتيحها الإسلام من خلال هذا الموقف الحياتى وبين ما يجرى فى الطب النفسى المعاصر، أدركت أن ماأصاب الإسلام الرسمى من تسطيح واختزال، قد أصاب الطب النفسى الرسمى أيضا بنفس الدرجة بنفس الطريقة وربما أكثر، ويمكن البدء بتحديد معالم الطب النفسى بنفىِ ما يشاع عنه أيضا كالتالى :
1- الطب النفسى ليس وصفا لأعراض بجوار بعضها البعض.
2- ليس الطب النفسى ناتجا مباشرا لاضطراب بيوكيميائي(1)
3- ليس العلاج النفسى تصحيحا عشوائيا لهذا الاضطراب الكيميائى المفترض
4- ليس العلاج النفسى ضبطا وربطا لطاقة مفرطة، لدرجة الإخماد والتسكين.
…………..
فماذا هو الطب النفسي, بالمقابل؟
بما استلهمته من الموقف المعرفى والكيانى النابع من ثقافتى : لغتى وإيمانى؟ وبما وصلنى من الممارسة فى حدود ما ذكرت، هو: أن الطب النفسى, يتصف بما يلى:
1- الطب النفسى هو رصد إعاقة.
2- الطب النفسى هو فهم معنى العَرَض (لغة المرض)، أى ماذا يقول المرض، وأيضا وقبّلا: ماذا يقول المريض من خلال مرضِهِ إذْ هو يمرض
3- العلاج النفسى هو إكمال بسط نبضة نـمو كادت تجهض، أو بدأت فعلا.
4- العلاج النفسى هو تصحيح مسار .
5- العلاج النفسى هو احتواء متناقضات للإسهام فى مواكبة إعادة توجيهها إلى الجدل التشكيلى الخلاق.
الإنسان ومستويات الوجود:
إن أخطرما يمكن أن يتسطح به الطب النفسى (والإنسان) هواختزال الإنسان إلى مستواه الظاهر, ولم يعد ينفع ذلك التصور الفرويدى الذى يتفق مع هذا المنطلق ثم يحلـّه حلا تشريحيا، ديناميا فى نفس الوقت، وذلك من منطلق التركيز على ما أسماه “اللاشعور”، فالمسألة لم تعد شعورا ولا شعور فى استقطاب اختزالى، وإنما الرؤية الجديرة بمواكبة العصر هى رؤية الإنسان بشكل ”متعدد فى واحد”، وهذا التعدد هو أحوال متجادلة مبدعة نامية أبدا، فهو ليس مجرد كثرة متجاورة، أو هو ظاهر وباطن، وإنما هو تركيبات متصاعدة من ناحية، وجدلية من ناحية أخرى، ومتبادلة من ناحية ثالثة، ولا يمكن الإحاطة بهذه الطبيعة البشرية بما يختزل هذه التركيبات إلى غير ما هى عليه، أو بما يفضِّل بعضها على بعض بالمعنى الأخلاقى الفوقى، فيضع أحدها فى خدمة الآخر دون تبادل أدوار، ودون حراك ولافى لتخليق تنظيمات أرقى فى وحدات أشمل.
جاءت الأديان (مثلا: الإسلام الذى أعرفه) تضيف إلى هذه الرؤية، وتعرفنا بالكدح، والكشف، للتعارف فالنمو إلى تزكية المزيد من ماهية مَنْ خلقه الله ليرقى وليس “ليشقى”!!، والإنسان من هذا المنطلق يتجاوز العلم دون أن ينفيه، فالعلم قاصر على مستوى واحد عادة، أما هذا الطريق المعرفى المباشر فهو الذى يخاطب ويحرك هذه الطبقات من الوعى بالعبادة واللغة الخاصة واللغة العامة والمعلومات فى آن، ثم إن الرؤية الأعمق فالأعمق من تجليات الطب النفسي، والمدارس النفسية قد التقطت هذه المستويات التركيبية للإنسان وصاغتها فى نظريات عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر: هوجلج جاكسون، و إريك إريكسون، و هنرى إى، و ساندور رادو، والمدارس النفسية عبر الشخصية ، والنظرية الإيقاعية التطورية (الرخاوى)، هذه النظريات، وخصوصا فكر هوجلج جاكسون، وهنرى إى والرخاوى تناولت تركيب الإنسان فى مستويات أكدت جميعها على أن المسألة ليست مستويات بعضها فوق بعض، أو بعضها داخل بعض، بقدر ما أنها تمثل تركيبات متناسقة التداخل دائمة التفاعل: يصبح فيها الأقدم والأصغر هو أساس الأحدث والأقدر بحيث لا يفضل أحدها على الآخر، ولا يصلح أحدها بدون الآخر، ثم يظل احتمال الوصل/ الفصل فى حراك الولاف قائم طول الوقت.
البعد الطولى الممتد:
البعد الذى لم يأخذ حقه عند معظم هذه المدارس هو البعد الطولى الضامّ الممتد، رغم أنه شديد الارتباط بحركية الولاف الجدلية الإبداعية المستمرة(2).، لعل من أهم ما أُبـْلِـغتـُهُ من دينى وإيمانى هو التركيز على هذا البعد الطولى ملتحما مع البعد العرضى بشكل متواصل متداخل. فالتناوب الطولى بين الليل والنهار، بين النوم واليقظة، بين الحلم واللاحلم، بين استيعاب مفردات الإبداع وبسطها فى نبضة ضامة، هذا التناوب يحدث طوليا طول الوقت، وهو الذى ينظم ويتيح الفرصة للمستويات الأخرى أن تتأكد علاقاتها الجدلية على مسار التكامل الإنسانى، وأنا أتكلم هنا عن هذا المستوى الطولى الضامّ، ليس بمعنى جغرافى وصفى مكاني، وإنما بمعنى طريقة فى التناسق وحركة فى اتجاه، وباعتبار الزمن بعدا فى ذاته، وليس مقاسا طوليا بمعنى التتابع الخطي، وهكذا تتمحور المستويات المستعرضة حول البعد الطولى وإليه: باعتبار أن له قوانينه التناسقية الخاصة به، والمختلفة عن المستويات الأخرى المتعامدةعليه، والمتداخلة فيه، مما قد يحتاج إلى مزيد من الشرح:
1- إن المستوى الطولى هو مستوى زمنى، من منطلق حركية الطبيعة البشرية، وهو فى نفس الوقت هو مكانى بالضرورة، تركيزا فى فاعلية “هنا والآن”، وهو جدلى إبداعى طول الوقت.
2- إن إيقاع الحركة هو أساس التوازن الممتد، وما التنظيمات العرضية (الهيراكية)، والدوائرية المركزية، والطولية المحورية الغائية،إلا أبجدية الجدل والنابض المستمر لتخليق واحدية محورية ممتدة إلا غايتها المفتوحة!.
3- إن البسط الذى يتم دوريا يتكرر باستمرار: بدءًا من الجزء من الثانية فى ما يسمى بالميكروجينى: (فرنر، و أريتى) إلى الماكروجينى الذى وصفتُهُ فى أزمات النمو المتتابعة، إلى الأنتوجينى إلى الفيلوجينى هكذا باستمرا، وكلما حدث هذا البسط تحركت المستويات فى كل بعد بهارمونية تشكيل مستمر، وفى جدلية تسمح بتكوين مستويات جديدة على طريق النمو والتطور.
وقد استلهمت كل ذلك من واقع ممارستى، ومن دينى، وإيمانى معا، فهذا البعد الذى سوف أسميه لاحقا بعد الإيقاع الحيوى، هو البعد المستعيد للتاريخ، والمتكامل فى إبداع يتكرر كل نبضة باستمرار تام كدحى نحو المعرفة، على مستويين……..، ………. (؟).
(إلى هنا انتهى ما عثرت عليه من هذه الدراسة الأقدم)، ولم أجد البقية مع أنها كانت تعد بتفصيلٍ عن المستويين، وربما على مستويات كثيرة أخرى.
………..
وبعد
لعل ما فُقِدَ من هذه الورقة التى حضرت دون استئذان، يأتينى وأنا أواصل الآن مجددا محاولة تقديم الطبنفسى الإيقاعحيوى متكاملا بدءًا بهذه المقدمة للكتيب عن التقسيم، كل ما أرجوه من خلال هذه الوقفة، وهذا التاريخ، هو أن نتبين معا طبيعة الثقافة التى خرج منها هذا الفكر.
ونواصل الأسبوع القادم الحديث عن تقسيم الأمراض النفسية من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى، انطلاقا من هذا الكتيب الباكر فى التقسيم، وغيره، فقد مضى عليه ربع قرن.
وإلى الأسبوع القادم.
تنبيه:
انتقلَ “الثلاثاءُ الحر” إلى يوم الإربعاء ليصبح الأربعاء الحر، إذْ رأيت أن أكمل الفصل الناقص من كتاب “الأساس فى الطب النفسى” يوما واحدا فى الأسبوع، فجعلته يوم الأربعاء حتى أفصِل بين الكتابين، حتى لا تختلط المعالم، هذا علما بأن الكتابين يلتقيان فى واحد فى نهاية النهاية.
وهكذا: غدًا نلتقى بمولانا النفرى،
ويوم الأربعاء نبدأ فى إكمال ما توقفنا عنده عن “صورة الجسم” “ومخطط الجسم” ثم صورة الذات، “ومخطط الذات” وهو ما تبقى من ملف “الوظائف الجامعة”” الفصل الأول فى كتاب الأساس.
[1] – مع وجود مصاحبات واختلالات واضطرابات بيوكيميائية فى معظم الأمراض.
[2] – الإيقاعحيوية.