نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 13-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3117
الطبنفسى الإيقاعحيوى (18)
Biorhythmic Psychiatry
النظرية التطورية الإيقاعية (13)
المـــأزق
مقدمة
سوف أعرض اليوم بعض مأزقى الشخصى الذى لابد أنه يتداخل مع مأزق المتلقى (بالإضافة إلى ما يتكبده من صعوبات أخرى) ثم نرى.
أنهيت نشرة أمس بوعد بعرض ما جاء سالفا فى ملف الصحة النفسية وخاصة فيما يتعلق بالمناقشة حول فروضى الباكرة عن مستويات الصحة النفسية على مسار التطور الفردى (كتبت عام 1969 ونشرت 1972)(1) وذلك بالنسبة لما طرأ على هذه الفروض من خلال إضافة بُعد الإيقاعحيوى، إلا أننى بمراجعة ملف “الصحة النفسية” فى النشرات اليومية وجدت أننى بذلك سوف أعيد نشر عشرات الصفحات، فعدلت مؤقتا على أن يتم ذلك فى النسخة الورقية إذا اتيحت لها الظهور، وعلى من يريد أن يتابع هذا الموضوع أن يرجع إلى ما كتب فى هذه النشرات مثلا (من نشرة 26-10-2010) إلى (نشرة 4-1-2012).
حين أنتبه إلى فرط احتفائى بمصدر معلوماتى من واقع الممارسة، أخجل وأتردد لكننى لا أتراجع فالمسألة هى أننى – مع طول الممارسة – شُحِذَت منى حواس (قديمة وجديدة) أمكنتنى أن أعايش التاريخ الحيوى من خلال تعرى مرضاى أمام وعيى بما راح ينشطه تلقائيا مما أحمله من تاريخ أجدادى شخصيا، وبرغم وضوح الرؤية فإننى كثيرا ما أسارع أستنقذ بمعلومات من الأبحاث والتراث العلمى لعلها تنبهنى إلى احتمال شطحى، وإذا بها تؤكد أحقيتى فيما أرى بما فى ذلك احتمال خطئى.
توجد أرقام علمية شديدة الأهمية عن تاريخ التطور والحياة، والأحياء التى بقيت، والأحياء التى انقرضت وكلها مهمة كبداية لفهم هذه النظرية التطورية ثم الطب الإيقاعحيوى، وقد سبق أن نشرت كثيرا منها فى نشرات سابقة، مثل ما نشر منذ عام بالتمام فى نشرة 2/3/2015، والتى أكتفى بوضع بعض ما جاء فيها فى الهامش(2). هذه الأرقام تكاد لا تسمح لمجرد الخيال أن يستوعب أن الإنسان المريض، الماثل أمامى للفحص فالعلاج يمثل لى كل هذا التاريخ “هنا والآن”.
وأيضا لى رجاء خاص الرجوع إلى ما أضفته من هوامش على مقالى عن “الصحة النفسية وعصر المعلومات” (مجلة شموع عدد:44، يونيو 1997) بما يتعلق ببعد الإيقاع الحيوى، وكل هذا مجتمعا قد شغل عشرات الصفحات مما أشعرنى بالحرج لو أننى أعدت نشره حتى مع قليل من التعديلات اللاحقة.
تساؤلات متجددة:
دعونى أواصل التساؤلات التى وضعتنى فى مأزق اليوم – وهو ليس جديدا علىّ – فقد أتاح لى هذا العدول وهذا التأجيل – بالاضافة إلى توقف التعليقات (تقريبا) فى بريد الجمعة – أن أتوقف لأتساءل عن مسئوليتى عن الصعوبة، بأن أتقمص المتلقى باحترام وصبر وسماح فوجدت الآتى:
I : إذا كان المطلوب لاستيعاب هذه النظرية وما يترتب عليها هو أن يعرف من يحاول ذلك: كيف يمارس الحركة بين أجزاء الثوانى الآن، وبين بلايين السنين منذ بدء الحياة، وليس فقط عمر الانسان الحالى (الإنسان العاقل “الهوموسابينس” Homo sapiens وهو لم يكمل المليون سنة = 600.000 سنة)، فكيف يمكنه ذلك بالله عليكم وأنا شخصيا أحاوله بصعوبة بالغة، ولا أستطيع أن أزعم أننى أنجح فى كل مرة !!؟
II: إذا صحت هذه النظرية – ولو نسبيا – وصدقنا هذا الاحتمال الصعب وأن كل خلية فينا وكل “دنا” DNA ينبض باستمرار، (وليس فقط القلب أو حتى المخ) فى وحدات زمنية متناهية الصغر إلى وحدات زمنية لا نهاية لها وهو يستعيد التاريخ مع كل نبضة!، فكيف بالله عليكم – بالله علينا – نستفيد من هذه المعلومات فى طريقة تحسين حياتنا المحدودة؟ والحفاظ على نوعنا مثلنا مثل زملائنا من الأحياء الذين بقوا معنا (ولن أمل من تكرار أننا واحد من الألف من كل الأحياء: أعنى نحن البشر وكل من استطاع أن يستمر حيا حتى الآن؟)(3).
III: ونحن نعترف بهذه الصعوبة (الصعوبات الواقعية)، فكيف نطمع أن يفيدنا هذا التنظير أو هذه الفروض فى حياتنا الحالية، وبوجه خاص فى الممارسة الطبية ونحن نحاول أن نعلق عليها لافتة جديدة تشير إلى هذه الحقائق بشكل أو بآخر لافتة “الطبنفسى الإيقاعحيوى”؟
IV: إذا كان هذا العمل هو جزء من محاولة فهم الطبيعة البشرية كما خلقها بارؤها حتى نعرف كيف انحرفت أو تشوهت فيما يسمى المرض، ثم اننا نأمل أن يساعد هذا الفهم فى أن نتعرف كيف نلحقها ونعيدها إلى ربها كما خلقها، فما هى التطبيقات العملية التى يمكن أن تترتب عليها حتى نتشجع ونبذل المزيد من العمل لقبولها واستيعابها للإفادة منها؟.
V: إذا كانت تجربتى خلال ما يقترب من عشر سنوات فى محاولة الإبلاغ الإلكترونى يوميا عبر موقعى الخاص، وقبلها أكثر من نصف قرن من الممارسة والكتابة فى حدود قدراتى البشرية، وما يحيط بى من واقع، إذا كان كل هذا قد أكد لى ندرة من يهتم بهذا الذى أتصوره حقائق جوهرية أو فروضا عاملة أو نظريات محتملة، أو على الأقل معلومات مفيدة، فلمن أواصل الكتابة والأمر الواقع واقع جدا هكذا؟
الخروج من المأزق:
اليوم وجدت نفسى مجددا فى نفس المأزق وكل هذه الأسئلة تحضرنى بكل هذا الوضوح فى هذا الوقت وأنا أكاد أتجمع مع فكرى وتاريخى أختم بهما مشوارى لأبرئ نفسى من التقصير فى إعلان شهادة ما وصلنى، وأنا لا أنكر أن عددا قليلا من أصدقاء أعرفهم يصرون أن أواصل بغض النظر عن الإجابة عن هذه الأسئلة، وربما وجد عدد آخر مثلهم، لا أعرفه، ولا أظن أنه يزيد كثيرا عن من أعرفه.
انتبهت إلى أن أملى أن نواصل – نحن البشر – معركة البقاء على الطريق الصحيح سواء سجلنا هذا الطريق كتابة فى نظريات أو جربناه فى فروض، أو حدسنا طريقنا بالوعى الصميمى الذى نجح زملاؤنا من الأحياء الواحد فى المائة أن ينشطوه فيخلقون لهم وعيهم الجمعى الذى وجههم إلى الاتجاه الصحيح بفضل الله، إذا كان كل ذلك هو واقع من ناحية، تدعمه حقائق علمية من ناحية أخرى، فإن محاولة تسجيل ما يجرى، والتنظير منه، هو دعم لطريق حتمى حتى لو لم يحتج إلى تنظير أصلا، لكن مادمنا كبشر أبدعنا وتخلقت لنا آليات جديدة من العقل والنشر واللغة والتواصل: فعلينا أن نحسن استعمالها فيما خلقت له: ربما يحول ذلك دون استغلال كل هذه الآليات الأحدث – اللغة والتنظير والنشر…الخ – فى الاتجاه الآخر -، حتى لا نساهم بِصَمْتنا فى مآل الانقراض المحتمل.
تعالوا نتأمل بعض ما يبرر استمرارنا، بل يلزمنا به، ومن ذلك:
أولاً: إننا – كبشر – لا نختلف عن سائر الأحياء التى بقيت خاصة فى ضرورة اتباعنا لبرامج البقاء التى وضعها خالقها وخالقنا إذا كان لنا أن نستمر لنبقى (لا ننقرض).
ثانياً: إن هذه الأحياء من حولنا، وفى كل مكان، تعرف هذه النظرية أو مثلها وتمارسها بوعيها التلقائى، وفطرتها السليمة بدون لغة مرموزة أو كتابة أو حاسوب أو نشرات طب نفسى وبدون…… (لا أريد أن أتمادى خشية مظنة السخرية).
ثالثاً: إن نمو الإنسان المعاصر عبر العالم قد انحرف بما يهدد بعده عن هذه البرامج الطبيعة الإبداعية، وهو مسئول عن هذا الانحراف لو استسلم له مثل مسئولية الأحياء الــ 999 من الأحياء الذين انقرضوا.
رابعاً: إن مسئولية بقاء أى نوع تقع على عاتق كل فرد من هذا النوع بلا استثناء، وإن كانت النتيجة النهائية تقع على جميع الأفراد معا.
خامساً: إنه ليس بالضرورة أن كل معلومة تتكشف لنا يكون لها تطبيق محدد وفورى وعائد سريع ومرصود حتى نمارسها أو ننميها، وقد علمنا التطور كما علمنا الإبداع كما علمنا قبل هذا وبعده خالقنا خالق كل هذا وذاك: أن التغير يحدث بتراكم ما يجرى فى أجزاء الثوانى من أفعال الأحياء معا، حتى لو لم تظهر آثاره إلا بعد ملايين السنين.
سادساً: إنه برغم كل الانحراف الذى وصلت إليه مسيرة هذا النوع من الأحياء المسمى “هوموسابيانز” (الإنسان العاقل) فإن قلة منهم فى كل مجال وكل موقع ومن كل ملة ومذهب وبكل فن وعلم وحركة ونبض وتواصل وإيمان، يقاومون احتمال الانقراض بإصرار ومثابرة يعرفها منظم هذا الكون وحافظه.
سابعاً: إن الفرصة التى اتيحت لأمثالى، وهم يعايشون وعيا لعدد من البشر مرّ ويمرّ بأزمة الكسر فالتعرّى والإعاقة (المرض) إنما تسمح لهم أن يشاركوا فى تخليق “وعى بينذاتى” مع مرضاهم إلى “وعى جمعى” “فوعى مطلق” إلى “وجه خالقهم” هذه الفرصة تظل فريدة وهى تحمل صاحبها أمانة سوف يحاسب عليها، وعلى من يمارسها أن يتحمل مسئولية ما كشفت عنه دون أن يطمسها أو يتجاهلها، بما فى ذلك أن يسجلها: ملاحظات، وفروض، ونظريات فى حدود قدراته.
ثامناً: إن خبراتى اليومية العملية، حتى قبل أن أعرف حرفا واحد من هذا التنظير ومثله – كانت تجرى – غالبا– طول الوقت فى اتجاهها الصحيح بنفس هذه البرامج – غالبا– لنفس الهدف – البقاء واتساع الوعى إليه– وهى خبرة يمارسها الأمىّ الفطرى المؤمن، والطير فى “أعشاشه” والسمك فى أعماق البحار.
تاسعاً: إن الكتابة والنشر وما شابه ليست هى الأصل القادر على التغيير، وإنما هى ذرة فى محيط ، ومع ذلك فهى قد تسهم فى أن ينضم إلينا من يتلقاها بوعى متناغم مع وعى من يحاول فى نفس الوقت أيا كان موقعه ولونه ولغته ونوعه، فنتراكم، وفنتآلف، فنتعارف، ونبقى إذ يمتد وعينا إليه؟!
عاشراً: إن الله عليم بذات الصدور، وله الأمر من قبل ومن بعد، وعليه قصد السبيل ومنها جاِئر.
[1] – – يحيى الرخاوى: ملحق كتاب “حيرة طبيب نفسى” (مستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى) دار الغد للثفافة والنشر، 1972
[2] – أنا آسف، وأكرر أسفى، لكن دعونا ننظر أولا فى هذه الأرقام:
– عمر الكون 9- 20 بليون سنة، عمر الأرض 4-6 بليون سنة (أقدم تسجيل لصخورها 4 بليون سنة)، عمر الحياة على الأرض 1-2 بليون سنة، عمر الإنسان 600 ألف سنة !!!، علامات وإرهاصات نشأة اللغة منذ 100 ألف سنة، الأديان السماوية + 4000 سنة، عمر ما يسمّى العلوم الحديثة 200 سنة، عمر العلوم الأحدث 50 سنة، عمر العلوم الأحدث من الأحدث 20 سنة. هذه الأرقام تقريبية لكنها من مصادر علمية وتاريخية وهى بعض نتاج علوم كثيرة (من الجيولوجيا والباليونتولوجيا – أشكال الحياة فى العصور الجيولوجية السابقة- إلى التاريخ مروراً بالبيولوجيا ..إلخ)، أتصور أن خيالنا قاصر عن التعامل معها بما يسمح بامتزاجها بالوعى، فنسيج الثقافة الفردية فالعامة، ومع ذلك فأملى أن تقربنا مما أريد طرحه وليس العكس.
[3] – “من الممكن إدراك حجم عملية الانقراض المتواصلة، عندما نعرف أنه من بين 50 بيلون نوعا من الحيوانات والنباتات التى ظهرت على الأرض لا يوجد حيا الآن إلا ما يقرب من 40 مليون نوعا. أى أن نسبة انقراض الأنواع على مدى تاريخ الحياة هى 99.9 فى المائة”. كتاب: الانقراض جينات سيئة أم حظ سىء؟ دافيد م. روب، ترجمة: مصطفى ابراهيم فهمى، المشروع القومى للترجمة المجلس الأعلى للثقافة، 1998، ص 6 .