نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 5-1-2015
السنة الثامنة
العدد: 2684
الأساس فى الطب النفسى
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (56)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (19)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (16)
القلق
حين نذكر كلمة القلق كعرض من أعراض المرض النفسى، فإن ذلك يعنى عادة – إذا لم يوصف بصفة تالية - ما يسمّى بالقلق العام العائم، Free Floating anxiety) ) وهو ما يشير عادة إلى شعور غير محدد بتوقع حدوث خطر ما. وهذا يعنى أن الخوف هنا يكون شاملا وغير متركز حول موضوع بذاته، ولا مرتبط بفكرة أو موقف معينين. ومع ذلك فإن المريض يكون على استعداد دائم لإسقاط هذا التوقع الخائف على أى مثير خاجى أو مشكلة ظاهرة، وهذه الشمولية والتنقل السريع من مثير إلى مثير يجعل القلق غير خاص وغير متموضع ، ومن هنا تعبير القلق العام العائم
القلق حركة داخلية أساسا، وكثيرا ما يتم تفعيلها فى حركة عضلية خارجية ، تتمثل فى ما يسمى عدم الاستقرار الحركى، وأحيانا، العصبية، وسرعة الاستثارة، وكثير ما يوصف مريض القلق بفرط الحركة المصاحبة بالتوجس ودرجة من توقع خطر ما، غير محدد د فى العادة،
ويختلف التعبير عن ما يسميه الأطباء “قلقا” باختلاف الثقافات الفرعية ، ففى الريف مثلا نادرا ما يتحدث فلاح مصرى عن أنه “قلق”، وإنما يكثر الكلام عن “العصبية”، و”النرفزة”، و”قلة الاستحمال” و”الاستعجال” ومثل ذلك من علامات أغلبها حركية، فى حين أن سكان المدن، ربما تأثرا بالتليفزيون ومثله يتكلمون عن القلق مباشرة، وأحيانا يتحدثون عن التوتر، والشــَّـدّة، والغضب، و”قلة الصبر”، و”الانزعاج” دون سبب، وأحيانا يتكلمون عن توقعات عامة وغامضة، غالبا دون سبب ظاهر.
حين تكلمنا عن “الحق فى الحزن”، والحق فى الألم النفسى، والحق فى الخوف، كنت أرجع بكل وجدان من هذه الوجدانات إلى وظيفته التطورية، وأبدأ بالدعوة إلى الاعتراف بها فى حدود هذه الوظيفة، ثم كيف تطورت عند الإنسان السوى، وبالتالى أصبحت من حقوقه السوية، ثم إنها إذا زادت عن وظيفتها الأصلية حتى أعاقت أو أزعجت لدرجة لا تُحتمل تسمى عرضا أو مرضا، حين جاء دور الحديث عن وجدان القلق، وجدت أن وظيفته التطورية كانت (وربما ما زالت) قريبة من وظيفة الخوف التى تحدثنا عنها فى الأسبوع الماضى وقبله، لكننى لاحظت أن علماء الطب النفسى التطورى ربطوا القلق بما ربطوا به الخوف تقريبا من حيث توجهه إلى تهيئة الحيوان للاستعداد لمواجهة خطر قادم، من الخارج أساسا، حيث لا يمكن سبر الداخل على هذا المستوى التطورى، وبالتالى اختلط القلق بالخوف تطوريا، لكننى انتبهت إلى تفرقة تفصيلية لعلها تفيد وهى أن القلق مرتبط بحالة “الاستعداد” لاحتمالات الخطر، في حين أن الخوف هو تفاعل فى مواجهة الخطر فعلا،
وبانتقالنا للإنسان رحت أمد هذا الخط لأعبر من واقع منظور التطور عن “الحق فى القلق”، من حيث أن الاستعداد أحيانا يكون تحضيرا شديد الأهمية للمواجهة، بل إن الاستعداد قد يكون هو المحدِّد أحيانا لنوع المواجهة.
وعند الإنسان أيضا قد نجد أن التفرقة بين القلق وبين تجليات الخوف الأخرى، فى الصحة والمرض، ترتبط بعوامل ومظاهر خاصة بالإنسان دون الحيوان، وذلك لما يتميز به الإنسان من نوع الوعى والوعى بالوعى، وينتقل هذا بنا إلى التركيز على أن القلق عند الإنسان هو “الوعى بالخوف”، أكثر منه الخوف ذاته،
الوعى بالخوف حتى يكون قلقا متميزا عن الخوف من مثيرات محددة، حقيقية أو متخيلة، يكون وعيا بقدوم، أو ترجيح، أو احتمال غالب لخطر مجهول، تغلب عليه درجة من التوجس، والمبالغة فى الحسابات، والتشاؤم وخاصة بمعنى توقع الأسوأ، من الأيام ومن المجهول عادة
وبالرجوع إلى وظيفة القلق الصحية والتطورية قبل أن يكون مرضا يمكن النظر إليه على أنه حافز لمزيد من الانتباه للمخاطر الحقيقية فى الخارج، وأيضا ربما يحفز إلى فحص داخل النفس على حد سواء، بما يترتب على ذلك من حث لتوظيف ظهوره كدافع إما للتخلص من أسبابه، وإما لحركية دافعة لتطوير القدرة على مواجهة الأسباب الظاهرة والخفية
ومن علامات القلق، مقارنة بالخوف، أنه أكثر قدرة على الانتقال إلى المحيطين، وكثيرا ما تعانى الزوجة من قلق زوجها، ليس فقط نتيجة لعصبيته أو سرعة استثارته، ولكن لأنها بدورها قد تشاركه قلقه بشكل أو بآخر، وقد ينتقل القلق إلى الأطفال فى الأسرة أيضا.
وإذا أزمن القلق فإنه قد يصير طبعا للشخصية بشكل او بآخر.
خلاصة القول:
إن الأسراع باعتبار القلق عرضا ينبغى التخلص منه وفورا، وبمضادات القلق بالذات، (وهى التى تسمى بمذيبات القلق anxiolytics ) هو أمر ينبغى مراجعته فى حدود حذرنا من ترديد فكرة “دع القلق وابدأ الحياة”، وخاصة أن أغلب هذه العقاقير هى من العقاقير التى يمكن التعود عليها لدرجة الإدمان
عذرا، ونواصل بحث طيف الخوف الأسبوع القادم