نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-12-2015
السنة التاسعة
العدد: 3040
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (18)
الواحدية والذات والجسد
ثانياً: الاضطرابات المتعلقة بحدود الذات وقوتها
كثير من الأعراض السابق ذكرها تحت عناوين مختلفة، فى الفصول السابقة، يستحسن العودة إليها للنظر فى موقعها من هذا المنطلق عن الواحدية ، وما يسمى بحدود الذات، وقبل تعداد بعض معالم الأعراض المتعلقة بحدود الذات يستحسن إعادة التعرف على المقصود بهذا المصطلح، وقد سبق لى أن توقفت عند هذا المصطلح فعلا فى عملى الأصلى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى(1) وكتبت عنه ما يلى:
“… حدود الذات تعبير رمزى من ناحية ووظيفى من ناحية، إلا أننا لكى ندرك طبيعته وحقيقته يستحسن أن نترجمه إلى لغة عصبية كما اعتدنا فى هذه الدراسة، فإن الذات تكون محدودة بمدى الفصل الواضح بين مجموعة من الترابطات النيورونية أساسا ومجموعة أخرى،….. حيث أنه يدب النشاط فى الجزء الأقدم من المخ ويُضْعِف هذ الفصل بين مجموعات الترابط لأن النشاط الجديد يزاحم ويشارك فى الوظائف الشعورية، ومع ضعف هذا الفصل بين النشاطين يشعر النشاط الذى كان سائدا بأنه غير قادر على التحكم فى الداخل بالفصل (عصبيا) أى بالكبت (باللغة النفسية الدينامية) وكأن هذا الداخل مهدد دائما بالخروج بالرغم منه، أو بالإعلان عن نفسه، وهذا ما يعنيه ما جاء بالمتن: “ُفُـتِحـَت أبوابي، رق غشائى”….إلخ،
وفيما يلى بعض ألأعراض التى يمكن إدراجها تحت هذا البند:
أولا: فقد حدود الذات: (وقد ذكرت قبلا مع اضطرابات الإرادة (نشرة 16 -3-2015) وننبه هنا إلى ضرورة الحذر من تصور أن الفقد هنا يعنى الاختفاء التام، وإنما هو يعنى ضعف التحكم إلى درجة فشل الفصل بين الذات و”اللا-ذات”، وكذا العجز عن استبعاد الذوات (التنظيمات) الأخرى عن التدخل والإعاقة للذات الواعية التى ينبغى لها أن تقود وتنظم، وبعد تطور النيووبيولوجيا والعلم المعرفى العصبى، من الأفضل أن يصاغ هذا العجز عن الفصل بضعف القدرة على توظيف حزمة من النيورونات والموصلات بشكل انتقائى استبعادى لخدمة الغرض الذى توظف فيه هذه النيورونات الفاعلة فى لحطة بذاتها، ويمكن إدراج ما يلى من أعراض (على ما فى بعضها من تكرار) على الوجه التالى
أ- بعض أعراض شنايدر (أعراض الصف الأول كخبرة أو ضلالات) وأهم هذه الأعراض ما يتصل بظاهرة السلبية (الأفعال الإرادية المصنوعةMade Volitional Act، والعواطف المصنوعة Made Affects، والأفكار المصنوعة Made Thoughts، وكذلك إذاعة الأفكار Thought Broadcasting، وأيضا الأفكار المسموعة Audible Thoughts، والأصوات المعقبةVoices commenting، والأصوات المتناقشةVoices Arguing . وكل هذا يعلن أن التنظيمات الداخلية استطاعت أن تنشط مستقلة، وأن تزاحم وتقتحم، سواء أسقطت إلى الخارج فى شكل هلوسات وضلالات صريحة أو ظلت خبرة معيشة من الداخل كما تبدو أغلب أعراض شنايدر هذه. كذلك فإن الأفعال المصنوعة والوجدانات المقحمة تشيران إلى ضعف القدرة الاستبعاديةُ Exclusive لحزمة النيورونات الفاعلة فى لحظة بذاتها.
ب- الآلية العقلية: Automatic obedience: تعتبر أحد مظاهرالنشاط المزاحم المستقل الذى يعلن ضعف حدود الذات.
جـ- ضلالات السلبية: Passivity delusions: فى شكل ضلالات التأثير تشير إلى خطوة أقصى لفقد حدود الذات.
ضعف حدود الذات وعلاقته ببعض اضطرابات الشخصية:
نشير هنا إلى نوعين من الاضطراب لهما علاقة أكثربما يسمّى “اضطرابات الشخصية” عما يسمى “الأعراض” وهما خواء الشخصية، وتلون الشخصية (شخصية “كأن”)
(i)خواء الشخصية: وهذا ليس عرضا وإنما هو سمة أو نمط يصف انعدام اتصاف شخصية ما بما يميزها حقيقة وفعلا عن الآخرين، ويقال أحيانا لمثل ذلك: الشخصية الضعيفة أو الشخصية المهزوزة، وكما ذكرنا أمس إن الشخصية القوية بالمعنى التقليدى لم تعد موضع فخر كما شاع سابقا، وحل محلها الشخصية “المرنة الناقدة” التى هى فى حالة تخلق باستمرار، وقد تتكون الشخصية القوية كذلك كنوع من رد الفعل بمعنى أن القوة الظاهرة هى دليل على أنها خاوية من الداخل فتكون مظاهر قوتها وصلابتها لتغطية هذا الخواء الداخلى
(ii) “شخصية “كأن” (أو “طبع كأن”): وهى الشخصية التى وصفتها هيلين دويتش بلغة تحليلية أساسا، ويتواجد هذا النوع من الطبع أو الشخصية فى الحياة العادية بدرجات طفيفة لكنها مميزة، ذلك أن الشخص العادى فى نموه وتعامله اليومى قد يتقمص شخصا آخر – دون أن يدرى فيفهمه أكثر، أو يتعرف عليه، أو يكون مثله، وهذا أمر غير التقليد والتبعية، وهو يمارَس أحيانا بدرجة من الوعى من خلال ما يسمى بالخبرات الفينومينولوجية والمُواجدة، وكل ذلك فى حدود السواء، ويمكن أن توجد درجات ما من الوجه الإيجابى لهذه الظاهرة مثل ما يمارسه بعض المبدعين وهم يتقمصون مواضيعهم وشخوصهم فى بعض نشاطات الإبداع، وخاصة فى التمثيل المسرحى والقص الروائى، كما أن الممارسة الإكلينيكية الأمينة فى الطب النفسى، تعتمد كثيرا على القدرة على تقمص المريض بأكبر قدر من المواجدة والمسئولية. أما إذا كان التقمص مفرطا وبلا هدف تواصلى، أو تعاطفى، فإن ذلك قد يشير إلى نوع من ضعف حدود الذات، وبالتالى الجاهزية لفرط النفاذية حتى الإحلال، وقد يتمادى هذا التقمص حتى يمارسه الشخص بشكل شبه متواتر، ومع كل أنواع البشر، فيتصرف الشخص وكأنه إناء شفاف لا لون له، ومن ثم هو يتلون بلون ما يوضع فيه من سوائل، وأحيانا ما يفوق المتقمِّص هذا المتقمِّص، وهذا يقابل القول الشائع: إنه يصبح “ملكيا أكثر من الملك”، وقد يتقمص الشخصية ونقيضها حسب المحيطين به ساعتها، فمثلا هو مع المدمنين يصبح مثلهم وقد يبزهم، ومع السلفيين قد يفوقهم تمسكا بالتزمت، كل ذلك دون أن يشعر، حتى يشعر المحطين به أنه مجرد تابعة (إمّعه) حيث يجرى التقمص تلقائيا ولا شعوريا دون أى تعلم من كل خبرة على جدة.
ثانيا: شفافية حدود الذات:
صك المؤلف هذا التعبير ليصف حالة من الصلابة وفى نفس الوقت الشفافية بحيث يصبح الداخل متاحا للشوفان والإذاعة، فى حين أن الذات لا تزال متماسكة محمية من الضياع والتناثر، والفكرة أن الشفافية هنا حققت نوعا من التسوية المُرضية، إذ أنها أعطت شرعية لظهور الداخل ليكون فى المُتناول، مغذية بذلك ما يسمى الحاجة إلى “الشوفان”، حتى من الداخل، وبالتالى سحبت من هذا الداخل مبرر أن يضغط ليظهر ويزاحم ويقود، وكأن السماح بالاطلاع على الداخل بفضل الشفافية (أعراض قراءة الأفكار أو إذاعتها مثلا) قد خفف من وطأة ضغط الداخل لاقتحام الوعى مع ما يصاحبه من مخاطر التفسخ فالتناثر، وهذه الشفافية (الدفاعية ضد التناثر)، وخاصة فى المرحلة الخبراتية – قبل أن تصبح ضلالا معقلنا- توجد أكثر فى الاضطرابات الوجدانية الجسيمة، وبدايات الفصام، والفصام الوجدانى، وقد تحول أو تؤخر ظهور الذهان صراحة ما دامت قد حققت ولو الحاجة إلى الشوفان، وفى نفس الوقت حالت دون التناثر كما ذكرنا.
ثالثا: تصلب (تليف) حدود الذات:
استعملُ هذا التعبير أصلا لوصف حالة من الجمود واللاسماح التى قد تتصف بها الذات، خاصة المسماة “الشخصية القوية” كما أسلفنا، بحيث تمنع أى تبادل أو تكامل صحيين مع منظومات الذوات الأخرى. يظهر هذا بوجه خاص فى بعض اضطرابات نمط الشخصية (وبالذات الشيزيدية والوسواسية والبارانوية) ويتحقق ذلك أساسا بالاستعمال المتواصل والمتعاظم للحيل الدفاعية (الميكانزمات) وخاصة الكبت. وفى هذه الحالات فإن المريض غالبا ما ينكر أو ينسى حتى أحلامه (التى تشغل ربع ساعات النوم) أولا بأول، وأحيانا بمجرد أو بُعَيْد الاستيقاظ. ومع بعض أحوال العلاج المكثف، أو العلاج الجمعى بالذات، وأحيانا مع استعمال مضادات الاكتئاب قد يبدأ مثل هؤلاء الأشخاص يقررون (أو يشكون من) ظهور الأحلام، وأحيانا بكثرة، وهذا قد يدل على أن هذا التصلب أصبح أقل، وأن السماح للداخل بالاقتراب أصبح ممكنا مما قد يكون علامة إيجابية، وهذا التليف (التصلب) يحول دون فرصة استمرار النمو من خلال الحوار فالتوليف مع سائر مستويات الوجود، ومع العالم الخارجى، لأنه يفقد الذات مرونتها، ويضعف من إبداعيتها ، فيحول دون أى تطور أو تغير مهما عمقت التجارب.
رابعاً: ثقب فى جدار الذات:
يتم تكوين الضمير والقدرة على الانضباط الاجتماعى من خلال التقمص عادة بالوالد (ين) أو من يقوم مقامهما. فإذا كان الوالد ليس النموذج المناسب لهذا أو ذاك (الضمير والإنضباط الاجتماعى) بمعنى أنه إذا كان الوالد هو صاحب سلوك مضاد للمجتمع أو ما يقال له سلوك سيكوباتى (أو طفلى نكوصى) فمن المتوقع أن ينشأ ضمير الناشئ (بالتقمص) وبه نقطة ضعف نتيجة لتقمص هذا الوالد بما يحمل نفس الصفات ولعل هذا هو ما أسماه إريك بيرن “حالة الأنا الوالدية ذات الثقب”، Perforated Parental Ego State وفى الممارسة الإكلينيكية تظهر هذه الحالة فى شكل اضطرابات العجز عن الكف، وما يسمى اضطرابات عدم التحكم فى النزوات.
ولا يقتصر سبب وجود مثل هذا الثقب (نقطة الضعف) على وجود والد غير ملتزم أو سيكوباتى، حيث أنه يمكن أن ينشأ نتيجة أى من التقاليد الشائعة فى مجتمع ما، ممايخالف ما ينتظرالشخص النامى حين يكبر.
وأحيانا ما يكون هذا الثقب قاصرا على جانب محدود من التصرفات مثل الجانب الجنسى، أو الأمانة فيما يتعلق بالملكية (السرقة)، أو الالتتزامات الأسرية أو شرب الخمر …إلخ، وفيما عدا نقطة الضعف هذه هنا أو هناك يمكن أن يكون الفرد ملتزما وعاديا
ثم إن المؤلف وصف نوعا من ثقب حدود الذات وهو ما أسماه الثقب الصمامى، وهو يعنى أن هذا الثقب فى حدود الذات ليس ثقبا دائما، ولا هو هو عرضة لنفاذ النزوات بشكل عشوائى، وإنما هو وصف لمن ينطلق منه السلوك النزوى أو القهرى بشكل متقطع، ثم يعود بعده للتماسك والسلوك العادى، ثم إنه قد يعود يطلق السلوك النزوى أو القهرى بعد تراكم الضغط أو ضعف الميكانزمات الحاكمة، وهو فى ذلك أشبه بوعاء الطهى بالبخار الذى كلما زاد ضغط البخار به أطلق جزءا من البخار ليخفف الضغط ثم يعود للغلى حتى يزيد الضغط فيه وهكذا، وقد وصفتُُ هذا النوع من الثقب الصمامى لتفسير أعراض زملة توريت Gille de la Torette Syndrome بوجه خاص، ذلك أن معظم أعراض هذه الزملة تتصف بأنها مكرره، ونزوية وقهرية، ألا وهى اندفاعات البذاءة، واللوازم الحركية، والصرخة الحنجرية، والقهر الوسواسى. وبالتالى فإن فرض أن ثُمَّ ضغطا من محتوى اللاشعور يصل إلى درجة معينة فيــفرج عنه مرة بالصرخة الحنجرية، ومرة بالوسواس القهرى، ومرة باللازمات الحركية، ومرة بالبذاءة اللفظية، كل ذلك مما يرجح احتمال صحة هذا الفرض.
[1] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 صفحة 172.