نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 11-5-2014
السنة السابعة
العدد: 2445
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (29)
اضطرابات التفكير
(تابع) تقسيم الضلالات حسب نوع المضمون (1)
مقدمة:
لم ننته تماما من أطروحة جذور الشعور بالذنب، التى أدت بنا إلى “أزمة الفصل<=> الوصل، ومن ثم جدل “الوصل <=> الفصل”، وقد قررت مرارا العودة إلى تعداد تقسيم الضلالات نتيجة لمحتواها، وكنت قد وصلت إلى “ضلالات الإثم” وكيف أنها متنوعة المصادر والتجليات من أول احتمال تذكر ذنب عابر قديم ثم المبالغة فى تجسيم آثاره، حتى اختراع ذنب جديد لم يقترفه المريض أصلا، مرورا باحتمال تحميل المريض نفسه ذنوبا عامة ، أو مسئولية شخصية عن كوارث حدثت أو تحدث للناس فى دوائر تبدأ بأسرته وقد لا تنتهى إلا وقد شملت كل معاناة البشر، كما أن كثيرا من المرضى قد يتهمون أنفسهم فى التسبب فى موت عزيز بإهماله أو بنسيانه ….إلخ.
يرتبط كل ذلك بظاهرة لا تعتبر عرضا فى ذاتها، لكنها مسئولة كسبب مديم عن حجم وتأثير ومقاومة علاج هذا الضلال، ألا وهى ظاهرة التأثيم (أو الإشعار بالذنب)، ذلك أنه فى مجتمعاتنا خاصة، تخضع نظم التربية، وكثير من طقوس التدين – كما ذكرنا- لعمليات منظمة متلاحقة من فكر التأثيم طول الوقت، وهذا ما أشرنا إليه أيضا عند التنبيه على بعض المبالغة فى الحديث عن عذاب القبر للأطفال خاصة، وقد لاحظت الانتباه إلى هذه الظاهرة فى بعض الأعمال الأدبية(1) بشكل أكثر توضيحا مما لاحظته فى الممارسة الإكلينيكة
ثم ننتقل الآن إلى نوع آخر من الضلالات لنكمل تقسيمها حسب المحتوى
(5) ضلالات اختلال الإنية(2) (الذات) وتغير العالم:
Delusion of Depersonalization and Derealization
إن الشعور الطفيف المؤقت بتغير الذات هو أمر عادى وخاصة فى مراحل النقلات النوعية فى النمو مثل فترة المراهقة (حوالى 60 % من المراهقين يمرون بهذه الخبرة)، وقد ذكرنا فيما سبق الفرق بين خبرة الشعور بتغيـر الذات، وبين الاعتقاد الجازم المعقلن بتغير جذرى لدرجة الإبدال للذات، وهذا النوع الأخير هو الذى يطلق عليه صفة “الضلال”.
فى هذا النوع يعتقد المريض أن شخصه قد تغير، ولكى يكون هذا الاعتقاد ضلالا لا بد أن يأخذ سمات الضلال الثابت والمعقلن، أى أنه يتخطى مشاعر الإدراك المصاحبة بالدهشة من طبيعة هذا التغير، ويصبح المعتقد يقينا ثابتا لا يثير الدهشة، وأحيانا يعزو المريض هذا التغير الجذرى إلى مؤثر خارجى، يكون ضمن منظومة ضلالية أكبر، مثل أنه تغير نتيجة لفعل فاعل، سواء كان هذا الفاعل شخصا أو منظمة مثل المخابرات، أو أجهزة تجسس قامت بتبديله حتى يستعملوه لأغراضهم مثلا، أو نتيجة لأن جانّا لبسه وهو نائم، أو إثر خبرة صادمة، أو بدون هذا أو ذاك.
إن الفرق بين ضلال تغير الذات، وخبرة تغير الذات (الإنية) شديد الأهمية، ففى حين ينتمى الضلال إلى اضطرابات التفكير حتى الضلال، تنتمى الخبرة إلى اضطرابات الإدراك عادة، وهى اضطرابات لها علاقة أوثق باضطرابات الوجدان النشطة (أنظر بعد)
وأحيانا يحكى المريض اكتشافه لهذا التغير أثناء النظر فى المرآة، مثلا أثناء حلاقة ذقنه فى الصباح، فيحكى أنه فجأة اكتشف أنه يحلق لشخص آخر، ثم قد تتوقف الخبرة عند مرحلة الدهشة مع الاحتفاظ بالبصيرة النسبية، أو تستقر الفكرة وتتواصل توابعها حتى تصبح ضلال ثابتا تابعا لاضطرابات محتوى التفكير
وكما ذكرنا فى اضطرابات الإدراك فإن البداية قد تكون اختفاء صورته من المرآة للحظة، أو لفترة، ثم ظهور الصورة المختلفة بدرجة أو بأخرى، ثم قد يتطور العرض إلى اضطراب الإدراك (خبرة) أو يتثبت يقينا فى ضلال التغير (ضلال)
وإذا حدث أن التغير انصب على ما حوله أو من حوله وليس على شخصه، فإن ذلك قد يشمل عددا معينا من المحيطين أو قد يمتد إلى كل العالم.
وأحيانا ما يكون ضلال تغير العالم ذو دلالة إمراضية خاصة حين يرتبط بأحد الوالدين، فيشكو الشاب أو الفتاة بأن أمه ليست أمه، ويكون هذا فى كثير من الحالات بمثابة إعلان أن الرابطة الوجدانية بينهما لم تقم بالوظيفة الوالدية الحانية التى كان ينتظرها المريض من دور الأم أو الأب، وبالتالى فهى (أو هو) ليست (أو ليس) أمه (أو أباه)،ويسقط هذا فى شكل إعلان الضلال بنفى الأبوة أو الأمومة.
حين كنت أسمع هذا الضلال، خصوصا من البنات فى سن المراهقة وهن ينكرن الأم أو الأب، كنت أشرح هذه الظاهرة على أنها إعلان من المريضة أن الحبل السرى الوجدانى الذى يهب الحياة والاعتراف والإقرار للنشء كان ضامرا، فلم يوصل الجرعة الكافية من نبض العلاقات الإنسانية للمدة الكافية، وكان هذا الاعتراف – دون إعلانه للمريضة مباشرة – كثير ما يساعد المريضة أن تستقبل حبلا سريا علاجيا مؤقتا حتى تستطيع أن تولد من جديد ثم تتدرج حتى يعاد فطامها
كذلك فهمت وظيفة لهذا الضلال مؤخرا (الاسبوع الماضى فى مرور الثلاثاء بالمقطم) حين فسرت علاقة محارمية بين أخ وأخته طالت لمدة أكثر من خمس عشرة عاما، وكان وراءها ضلال يظهر ويختفى، ينكر به الأخ أنها أخته أصلا، فهو على يقين – حسب رأيه – أنها ابنة غريبة تربت فى بيتهم لظروف أسرتها الحقيقية، وقد فسرت ظهور هذا الضلال بأنه أصبح مبررا يسهل العلاقة المحارمية المستمرة طول هذه المدة
خبرة تغير العالم أيضا قد تكون خبرة نمائية فى فترة المراهقة لا تصل إلى حد الضلال حيث تتجدد رؤية المحيط بشكل نشط مع نقلات النمو، ويعتبر هذا تجديدا للإدراك فى حدود ما هو طبيعى نشط، إذْ لا يعتبر إعلان تغير الإدراك ضلالا إلا إذا انقلب فكرة ثابتة، وترتب عليها تصرفات دالة على رسوخها بما يتبع ذلك من تداعيات ومضاعفات عادة، ويرتبط بهذه الدرجات من الشعور بتغير المحيط والواقع ظاهرة “الرؤية السابقة” Déjà vu حين يقر المريض (أو يشكو من) أنه رأى هذا الشخص، أو هذا المكان، من قبل، وهو لا يكون قد رآه أصلا، فإذا اصر حتى اليقين دون مراجعة أو نقد، فثم احتمال للتمادى حتى الحدّة الضلالية.
فى العلاج النفسى المكثف، والعلاج الجمعى أحيانا، يعلن بعض المشاركين أنهم يمرون بتغير نوعى فى الإنية، بما يستتبعه تغير (طفيف عادة) فى نوع الإدراك بدرجات مختلفة، ويعتبر هذا تغير إيجابى، بل وعلامة من علامات نجاح العلاج النمائى التوجّه، إذا لحق ذلك تغير إيجابى فى باقى تجليات السلوك والعلاقات.
(6) ضلالات الفقر والإفقار، والموت جوعا:
قد يشكو المريض من أنه فقير أو يقول بيقين أنه سوف يموت فقيرا، أو أن الفقر قادم وسوف يلحقه إذ يفلس حتى يتسول. يحدث هذا عادة فى الاكتئاب ولكن المريض أحيانا يسقط هذه الفكرة على الأخرين معلنا إنهم هم الذين يعملون على إفقاره وهذا يوجد غالبا فى حالات البارانويا سواء صاحبها اكتئاب أم لا
ومثل عادتى بعد ان زاد اهتمامى بالإمراضية للعاديين فى محاولة البحث عن جذور كل عرض فى التركيب البشرى العادى، اكتشفت بمرور المدة أن وراء هذا الضلال شعور أساسى بعدم الامان لكفاية ما يُبقى على الحياة، وكأنه برنامج بقائى أساسى، يختفى بالنمو الطبيعى، وممارسة الأمان على كل المستويات وليس فقط على مستوى الحصول على القوت الضرورى درءا للجوع والهلاك, انطلاقا من تعميم هذا الشعور بعدم الأمان بدرجات مختلفة رحت افسر كثيرا من مظاهر الاكتناز والجمع فى الحياة العادية، الأمر الذى قد يصلح – برغم عاديته- إلى درجة من الاغتراب بحيث تحرم المستغرق فى التكاثر للتكاثر بالشعور بما يحققه من نجاح أو مكاسب بشكل يتزايد طرديا مع زيادة المكاسب المادية والسلطوية.
لاحظت كذلك أن هذا الشعور يتواتر كلما تقدم الشخص فى السن، والضعف، وبالتالى يمكن أن يفسر ذلك ظهور هذه الضلالات أكثر فى كبار السن.
أخيرا قد يصل هذا الضلال إلى فكرة اليقين بمجاعة عامة قادمة، وأن البشر لن يجدوا قريبا ما يحفظ رمقهم وهو – المريض – فى مقدمتهم، وهو قد يشكو من ذلك وكأنها مشكلة شديدة الخصوصية وحتمية الحدوث بشكل قد يصبح نواة لمنظومة ضلالية تبريرية متمادية فى اتجاه الاكتئاب، أو الاضطراب البارنوى.
ويعزو البعض هذه الضلالات أحيانا إلى شعور بالترك أو الإهمال أثناء فترة الرضاعة
(7) الضلالات العدمية:
فى هذه الحالة ينكر المريض وجود عضو من أعضائه أو ينكر وجود رأسه أو مخه أو جسده كله، وقد يكون هذا الضلال أوليا كدرجة قصوى من اللاجدوى، فما دامت الحياة بلا معنى، وما دام اللا معنى هو الصفر نفسه، فهو أيضا ليس إلا صفرا، فهو غير موجود.
كما قد يكون ضلالا تبريريا بحتا مثل شكوى مريض أنه ليس عنده معدة وبالتالى يمتنع عن الأكل نهائيا ، إذ كيف يأكل، وإلى أين يذهب الطعام، أو قد يشكو أنه ليس له مخ، وبالتالى كيف يمكنه أن يحضر الامتحان أصلا ؟ وهكذا
وقد يعتقد مريض بعدم وجوده هو شخصيا أصلا، وأن هذا الشخص الموجود (يشير إلى نفسه) هو رمز له، أو بعض بقاياه أو بديلا عنه، (دوبلير) أوغير ذلك، وقد يكون ذلك إشارة إلى يأسه المطلق وعجزه اللانهائى:
وقد يمتد اليقين بالعدم إلى العالم أجمع فينكر وجود العالم، سواء افترض أن هذا الموجود هو عالم بديل، أو علام خيالى، أو خطأ إدراك
وقد نتصور لأول وهلة أن مثل هذه الضلالات يصاحبها تواتر احتمال الانتحار، إلا أن واقع الأمر يقول إن الانتحار ليس أكثر تواترا مع هذا النوع من الضلالات، ولعل تفسير ذلك هو أنه بما أن الانتحار هو نفى الموجود، وهو غير موجود أصلا، فمم سيتخلص؟ على أن مثل هذا المريض قد يتعرض أكثر للانتحار أثناء العلاج، والعلاج النفسى خاصة، لأن هذا المريض بمجرد أن يستعيد الوعى بذاته قد ينتبه ويسارع بالتخلص منها تمسكا بضلالاته.
(8) الضلالات المُراقية Hypochondriacal delusion :
المُراق لا يصل عادة إلى مستوى الضلال، فهو نوع من الجسدنة والانشغال بالأمراض، أو بمرض بذاته، وقد يبدأ فى شكل رهاب مرض معين، جلطة فى القلب مثلا، أو روم خبيث، ثم ينقلب إلى معتقد يقينى بوجود هذا المرض أو هذا الورم، وليس فقط الخوف من الإصابة به، وقد يختلط الأمر فى تشخيصه مع كل من الأمراض النفسفسيولوجية Psycho-physiological (السيكوسوماتيهPsychosomatic ) والهستيريا التحولية Conversion Hysteria ، ولكن يفرق بينهم أن المراق هو اضطراب فى الفكر تماما، قد يصل إلى حدة ضلالية، فى حين أن الاضطراب النفسفسيولوجى هو اضطراب عضوى ناتج عن اضطراب نفسى أساسا مثل القلق الدائم، والتوتر البالغ، وذلك مثل ضغط الدم، والقولون العصبى أو الثائر، أو كثير من الأمراض الجلدية مثل الثعلبة ، والمصاب بالمراق – حتى قبل أن يصل إلى حدة ضلالية- عادة ما يمارس عادة القراءة فى كتب الأمراض والعلاج، وحاليا يقوم النت بالإسهام فى تثبيت المراق وتدعيم تصور المريض لما عنده، دون وجود أى خلل عضوى حقيقى فى أى عضو من أعضائه، كل ذلك يعتبر من الاضطرابات العصابية ما لم يصل إلى يقين ضلالى لا يمكن تصحيحه مهما طال الزمن.
وحين تصل الاعتقادات إلى درجة يقينية بوجود مرض عضوى بذاته، أو بأمراض خطيرة بصفة عامة، فإننا نكون قد انتقلنا إلى مرحلة الضلالات ، حيث لا يمكن تصحيح هذه الفكرة بأى منطق، ولا بأية فحوص طبية متكررة مهما جاءت نتائجها سلبية.
وهناك ضلالات مراقية تدل على تشويه صورة الجسد تماما، مثل شكوى مريض بادى الصحة من أن البول- يقينا- يخرج من فتحة الشرج، أو أن الثعابين قد حلت محل أمعائه فأغلقتها، وينبغى أن يكون التعامل مع هذه الشكاوى على مستوى الضلال مباشرة
ويمكن أن يدرج مع المراق نوع آخر من الضلال يرتبط بشكل الجسد، أو جزء منه، ويكثر هذا بالنسبة لاعتقاد مريض أو مريضة بأن أنفه –مثلا- أكبر من اللازم بحيث تشوه وجهه، ويلجأ مثل هذا المريض عادة لجراحى التجميل لتحسين شكله، وغالبا لا يقتنع حتى بعد عدة عمليات إذا استجاب الجراح لإلحاحه. وهنا قد لا يسمى مراقا وإنما ضلالات مراقية
[1] – وصف دوستويفسكى هذه الظاهرة بدقة بالغة فى عرضه لموقف بطرس ألكسندروفيتش، فى روايته القصيرة، أو قصته الطويلة نيتوتشكا نزفانوفا مثلا: “وينظر إلى امرأته – الكسندين – الفزعة، على حين غرة – نظرة تعبر عن الرحمة والشفقة” إلى أن قال: ثم يطفق أخيرا يبكى معها، إلا أنها كانت تنتفض فجأة انتفاضة من تيقظ ضميره وشعر أنه ليس من حقه أن يغتفر ذنبه، كانت تهولها دموع زوجها، فإذا هى تزداد لوعة واضطرابا ونحيبا فترتمى على قدميه تسأله الغفران، وسرعان ما يجود عليها به.
[2] – الإنّيـّة اصطلاح فلسفي قديم، معناه تحقّق الوجود العيني، زعم “أبو البقاء”: أنه مشتقّ من (إنَّ) التي تفيد في اللغة العربية التأكيد، والقوة في الوجود. قال: «ولهذا أطلقت الفلاسفة لفظ الإنيـَّة على واجب الوجود لذاته، وزعم بعض المحدثين أن الإنية لفظ معرَّب عن كلمة (أين) اليونانية التي معناها كان، أو وجد، ونعتقد أن اشتقاق هذا اللفظ من (إنَّ) لا يمنع أن يكون بينه وبين “أين” اليونانية تشابه.،فالإنية إذن تحقق الوجود العيني. يقول (الكندي): «ولسنا نجد مطلوباتنا من الحق من غير علة، وعلة وجود كل شيء وثباته الحق، لأن كل ما له إنيّة له حقيقة، (رسائل الكندي الفلسفية، نشرها عبد الهادي أبو ريده، ص 97 وقول (ابن سينا): «من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولاً إنّيته فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح». (رسالة القوى النفسانية، ص 150 من طبعة لاهواني”،