نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 20-4-2015
السنة الثامنة
العدد: 2789
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (20)
عودة إلى تجليات الوجود البشرى الخمسة
وعلاقتها بالإرادة
مقدمة:
رجعت أواجه نفسى لمزيد من المقارنة فيما يتعلق بالتفرقة بين إرادة البشر وإرادة الحياة، فوجدت أننى فى نشرة سابقة ميّزت بين “الإرادة” و”التوجّه”، وخاصة فيما يخص حالات الوجود الخمس الراتبة، والشاردة وصفت التوجّه بأنه:
“الالتزام الفعلى” (ليس بالضرورة الإرادى أو المعلن) بنوع من الاتجاه إلى خدمة ما يسمى الفكرة المحورية وهى عادة منظومة غائرة وقوية، وليست مجرد فكرة، سواء ظهرت فى شكل إيديولوجى أو تجمعت نحوها كل توجهات السلوك فى شكل فاعلية لا نرى إلا نتائجها.
هل يا ترى ينبغى أن نخص الإرادة البشرية باتخاذ القرار، وتعتبر “التوجه” إيجابيا هو أقرب إلى إرادة الحياة والتوجه سلبا أقرب إلى الأيديولوجيا المتجمدة؟
التوجه إيجابا وسلبا هو إرادة شاملة قوية سواء كانت ظاهرة أو خفيّة إيجابية أو سلبية،
وحين عدت إلى تجليات الوجود الخمس فيما يتعلق بكل من الإرادة والتوجه بدا لى أن المسألة برمتها تحتاج إلى مراجعة، وخاصة وأن هناك مصطلحات أخرى متداخلة مثل “القصدية” و”الاهتمام” اللذان استعملهما دانيال دينيت أو الغائية التى استعملها أنا وغيرى.
حالات الوجود الثلاث الأصلية الأقرب إلى السواء هى العادية، والتفكيكية المفترقية والإبداع وهى دائمة التبادل من خلال دوام الإيقاع الحيوى النمائى كما سيرد بعد.
فى النشرة الحالية سوف أتوقف عند جدول (شكل) تجليات الوجود فيما يتعلق بالإرادة بعد التعديل والتحديث، وبعد أن فصلنا الجنون بمعناه السلبى، عن حالة الجنون/اللاجنون التى وجدنا لها اسما أقل غموضا وتناقضا وهو “الحالة المفترقية التفكيكية”.
نحن نستطيع أن نرصد الإيقاع الحيوى اليومادى Circadian الليل/ النهار عند الإنسان بما يوازيه من إيقاع النوم والصحو بانتظام، لكن يمكن أيضا رصد أنواع أطول أكثر من أول الإيقاع فى دورات الفصول حتى نوبات تغيرات النبات والإزهار، إلى أقصر النوبات فى التفاعل الكيميائى ونبض الخلايا، ثم إنه بعد أن انطلق الابداع فى العلم المعرفى العصبى ليكشف لنا حركية المخ، وهو “يعيد بناء نفسه باستمرار”، ظهرت لنا أهمية ودلالة الزمن المتناهى الصغر حتى أجزاء الثوانى، وما يحدث فيها، فكان لزاما أن ننتبه إلى استحالة رصد كل مستويات الإيقاع الحيوى على طول مداها، لكن ما زال فى الامكان استنتاج دوام حركيته من نتائجها هذه الإيقاعية المعلنة أو الكامنة، وهذا ما يجرى بين تجليات الوجود الأساسية السالفة الذكر.
إن هذا المنطلق حتى لو ظل صحيحا على مستوى الفرض فحسب، يسمح لنا أن نحترم طاقات البشر وجاهزية المخ والجسد لاستمرار النبض فالنمو، وكل ما علينا هو أن نواكب المسيرة، كما خلقها الله وأوصلها إلى هذا المستوى الرائع من الوعى والقدرات، فندعمها ونعّدل مسارها إن هى مالت، وندفعها إن هى توقفت، وهذا هو الطب النفسى والعلاج النفسى.
مزيد من الإيضاحات:
أقدّم فى نشرة اليوم هوامش على افتراضاتى السابقة فيما يتعلق بالحالات كلها التى تحدثنا عنها، وهى كما بينا ليست صفات لبعض البشر دون غيرهم وإنما دورات فى أطوار متلاحقة تطول وتقصر حسب الفروق الفردية ومن بينها الصحة والمرض، هناك من يتوقف عند حالة (مرحلة) أكثر مما ينبغى، كما أن هناك من يستسلم للجمود حتى يخنق الإيقاع والإبداع والنمو كما أشرنا إلى بعض حالات اضطراب الشخصية.
لكن ينبغى التذكرة بأن حالة الجنون الصريح هى أكثر بعدا عن السواء من حالة فرط العادية الأقرب إلى اضطراب الشخصية، ذلك أنه فى الجنون يتخثر الوعى وتتفسخ الواحدية ويتمادى النشاز والاندمال إلى درجة الضمور، لكن يظل الحراك متصلا فى دوام حركية الإيقاع حتى فى صورتها المرضية، فى الجنون الدورى عامة، وجنون الهوس والاكتئاب خاصة.
فى يقينى أن تبنى هذا المنظور الدائم الحركة والنبض إيجابا وسلبا له تطبيقات إيجابية خاصة من حيث أنه يساهم فى المحافظة على الأمل فى استعادة المخ البشرى نظام إيقاعه النمائى النابض مهما تلكأت المسيرة عند مرحلة بذاتها أو تهددت بجمود أو تفسخ من جهة أخرى.
وفيما يلى بعض الإيضاحات اللازمة للشكل بعد التحديث
الإرادة
علاقة التجليات المتبادلة بالإيقاع الحيوى
من حيث المبدأ فإن مفهوم الحركية الإيقاعحيوية(1) يستلزم قبول تتابع الدورات الثلاث الأساسية فى كل البشر دون استثناء وهو ليس تتابعا خطيا ولا هو بالضرورة بنفس نهج مراحل نبضات القلب ولا بنفس إيقاعية تبادل النوم واليقظة والنشاط الحالم، لكنها حركية إيقاعية حيوية مستمرة بدرجات مختلفة، أما فرط العادية والجنون فهما تجليات نشاز مهما تواترت أشكال فرط العادية فى أنواع اضطرابات الشخصية.
مزيد من الشرح:
أولا: فى الحالة المسماة بالعادية تكون الإرادة كما جاء فى الشكل.
“ظاهرة ضيقة المجال، محدودة الفاعلية، زاعمة بالقدرة بقدر أكبر من الحقيقة، ومع ذلك فهى تبدو ضرورية وأساسية”
وكل ذلك تناولناه فى نشرات سابقة (نشرة: 28/12/2010، ونشرة: 25/1/2011) وهى النشرات المتعقلة “باتخاذ القرار”، وقد شكّكنا فى عمق ومدى أحقية أى قرار أن يعبر عن كل مستويات الوعى (الوجود) لمن اتخذه، وتكلمنا عن الإرادة الخفية والإرادات المعاكسة، ونضيف الآن توصية باحترام هذا المستوى من الإرادة ما دام هو المعلن، وصاحبه هو مسئول تماما عن نتائجه.
ثانيا: فى الحالة المفترقيه التفكيكية:
علاقتى بهذه الحالة علاقة وثيقة قديمة، بدأت من اهتمامى الشخصى والعلمى بما يسمى الفصام البادئ Incipient schizophrenia ، وكان لهذا علاقة برسالتى للدكتوراه (سنة 1961-1963) وهى التى تعلمت من خلالها أن هذه الحالة تختلف تماما (أحيانا لدرجة العكس) عن ما يسمى الفصام شبه العصابى Pseudomeurotic Schizophrenia ، وانطلاقا من تلك الملاحظة وهذه المنطقة بدأت أتعرف على ظواهر مترابطة دالة هدتنى إلى تقسيمات عملية حركية ساعدتنى على مواكبة العمليات النفسمراضية فى نشاطها وانطفائها بقدر ما ساعدتنى على الاهتمام بهذه الحالات المرضية النشطة باعتبار أن العلاج قادر على المساعدة فى توجيه مآلها، ليس فقط للرجوع للحالة العادية قبل المرض، وإنما لاحتمال توجيهها نحو إعادة التشكيل الأكثر إيجابية لاستعاد خطو النمو أو نتاج إبداع محدد، هذا إذا تهيأت الظروف العلاجية والنمائية المناسبة.
فى هذه الحالات المفترقية تكون الإرادة: غامضة، كلية، مهزوزة نوابية، تعرف بنتائجها، وهذه الحالات بالذات كانت مفتاحا لفروضى عن الأحلام التى نشرتها فى الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، حيث اعتبرت أن نوم الريم (النوم النقيضى أو النوم الحالم) هو ما يقابل هذه الحالة التفكيكية المفترقية.
وقد استشهدت كما ألمحت فى الجدول بناتج النوم النقيضى هذا وكيف أنه إعادة تشكيل (تنميط) المعلومات، وأنه إبداع فسيولوجى إيقاعى راتب، أما علاقته بالإرادة فإن ذلك الدور الإيجابى الذى يقوم به لا يتم إلا إذا نجح فى تنظيم المعلومات تنظيما متناسقا مع حركية المخ الإيجابية وهو يعيد ترتيب نفسه. أما إذا افتقد تلك الإرادة الإيجابية الخفية فإنه لا يقوم بدوره على الوجه الأفضل.
أما الجنون فيظهر حين تطغى بدائية من خلال تنشيط مستوى أقدم فى المخ يقرر الانسحاب من مفترق الطرق هذا إلى طريق أدنى أى على حساب تماسك المخ الأحدث، وأيضا على حساب أى جدل حركى إيقاعى نابض بين الأمخاخ (مستويات الوعى)، أن أهمية التوقف عند هذه الحالة واحترامها وتعهدها هى أنها حالة مفترقية أى أنها تقع فى مفترق الطرق بين العودة إلى سابق الحالة العادية (بكل مواصفات الإرادة العادية) وبين التقدم نحو حالة الإبداع أيضا بكل مواصفات الإرادة الإبداع، وأننا إذا لم نتعهدها أو اعتبرناها مرضا مستقرا فحسب فإن الطرق قد تتشعب إلى التوجهات السلبية سواء فرط السلبية أو الجنون مع وجود احتمال مهم وهو العودة إلى حالة العادية دون زيادة أو نقصان وهو ما يسمى التحسن باختفاء الأعراض.
ثالثا: الإرادة فى حالة فرط العادية
هى إرادة شكيلة واضحة ظاهرة، مبالغ فى قيمتها مكبّلة بسمات الشخصية الثابتة أو الأيديولوجية الجاثمة، لا تقبل المراجعة عادة، قد تتبادل قرارتها مع عكسها بنفس الجمود والوثقائية.
ليست عندى هنا ما أضيفه أكثر مما ورد فى نشرة اضطرابات الشخصية، وأيضا فيما يتعلق بآثار، بل مضاعفات التمسك بأى من أنواع الأيديولوجيا المجمّدة والمعيقة.
رابعا: الإرادة فى حالة الإبداع
سبق الحديث عنها فى نشرة كاملة بعنوان “الإرادة والإبداع” 6-4-2015، وعموما فالشكل هنا يقول:
هى إرادة فاعلة متعددة، لا تحتاج إلى قرار معلن مسبقا أما صفة “متعددة” فلا يمكن التوقف عندها إذ يلحق بها مباشرة أن تعدد الإرادات هنا هو “فى تكامل تشكيلى”، ومن هنا الجدل فالإبداع.
خامساً: أما مواصفات الإرادة فى حالة الجنون:
فهى ترتبط بالفكرة التى انتمى إليها من حيث أن الجنون (المرض النفسى عموما) هو اختيار، إذن فهو فعل إرادى سلبيا، وهذا ما يؤكده وصف محصلة الإرادة هنا بأنها مشلولة واقعا، لأنها تحقق غاية الجنون لغة أو نكوصا أو انسحابا أو اعتمادية.
وأضيف الآن أن كونها خفية لا يعنى أنها لا يمكن أن تنكشف أثناء العلاج النفسى المكثف والعلاج الجمعى أحيانا.
التوجه إرادة شاملة مشتملة (سلبيا وإيجابيا)
أعتقد الآن بعد أن اتسع مجال ما هو إرادة وتنوع بين السلبى والإيجابى، وبين المرض والإبداع أن التوجه ليس إلا نوعا من الإرادة من حيث أنه كما ورد فى بداية النشرة.
نوع من الاتجاه إلى خدمة ما يسمى الفكرة المحورية أو المنظومة الأساسية لوجود فرد أو مجموعة، وهو بهذا يتداخل ما هو “ثقافة”، وما هو “تقاليد”، وما هو “أيديولوجى” وما هو “دين” أيضا.
وعلى قدر سلامة أو متانة أو فساد هذا الاتجاه، ومع شمولية ورسوخ منظومته الأساسية الغائرة فى معظم مستويات الوعى تتوجه بقية مستويات الوعى وأغلب توجهات الفكر والسلوك إليه.
وقد كررت مرارا المثال الذى أعرف وأدور حوله عن التوجه الإبداعى الإيجابى، وهو ما وصلنى من دينى طريقا إلى إيمانى، وربطته بفكرة التوحيد المطلق لنفى الشرك بكل صوره مهما ضؤُل، حتى تصبح “لا إله إلا الله” هى الفكرة المحورية التى تتوجه إليها كل همسة، وتمتلئ بها كل ثانية إذا نجح من ينتمى إليها أن ينتبه كيف أن الشرك أخفى من دبيب النملة.
وعلى النقيض من ذلك، فحين تسود ثقافة جماعة ما، أو مجتمع ما، حفز على توجه نحو فكرة خبيئة مثل منظومة العولمة، فإن التوجه العام، وإن بدا بعيدا عن الإرادة الفردية، يعمل على أن ينتظم الجميع فى اتجاه تدعيم هذه الفكرة المغيرة الكاسحة وتعميمها وتفعيلها طول الوقت طولا وعرضا.
أتوقف الآن خوفا من التمادى فى السياسة
وبرغم إدماج التوجه ضمن الفعل الإرادى الأشمل إلا أنه يستحق إعادة التذكرة بمواصفاته من خلال الشكل دون شرح
أعيد عرض الشكل عن التوجه دون تعليق إلا تغير العنوان.
التوجّه: إرادة مشتملة
[1] – يلاحظ أننى أحللت الكلمة المصنعمة الجديدة الإيقاعحيوية محل الإيقاعية فهى أصَحّ وأدق