نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 12-4-2015
السنة الثامنة
العدد: 2781
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (17)
إرادة التصعيد بالوعى إلى الوعى المطلق: إلى ما بعده (1 من ..)
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بسؤال يقول:
ما مدى تناسب هذه الفروض مع ثقافتنا الخاصة من واقع الممارسة؟
أريد أن اعتذر عن الرد المباشر السريع الأن على هذا السؤال لسبب شخصى عملى بسيط مهم، لا مانع عندى من أن أذكره:
يبدو أننى أستمد معالم ما أسميه “ثقافتنا الخاصة” من مرضاى أساسا، ومن أهلهم أحيانا، ومن شخصى غالبا، ولا أظن أن أيا من ذلك يمكن أن أعمم منه فأدعى أنه “ثقافتنا الخاصة”.
حين رحت أهم بكتابة هذه النشرة حدث أن عايشت خبرة عائلية مؤلمة خاصة، فقدنا فيها أحد كبار أفراد الأسرة بعد صراع قصير مع المرض، وكان فى قد قارب التسعين فلم تكن مفاجأة جدا.
سمحتْ لى هذه الخبرة أن أحتك بمجموعات مختلفة من الناس الذين يمثلون ثقافتنا فعلا، أو أيضا، تتراوج المجموعة التى عايشتها من ثلاثة إلى عدة مئات، ورحت بدون قصد أتأمل طقوسهم (طقوسنا) ومشاعرهم (مشاعرنا) وتفاعلاتهم (تفاعلاتنا) وتدينهم(تديننا) وإيمانهم (إيماننا)، وإلى درجة أقل أحاديثهم واهتماماتهم، وإذا بى أنتبه أننى بعيد عن كل هؤلاء بدرجة ليست قليلة، وإن لم يجعلنى كل ذلك أعدِلُ عن فروضى التى تجمّعت لدىّ من خبراتى السالفة الذكر(ظهر كثيرا منها فى هذه النشرات)، وخاصة من خلال خبرتى فى العلاج الجمعى، مع جماعات متتالية من المتعالجين بالمجان أساسا فى قسم الطب النفسى بقصر العينى، وهم ليسوا بعيدين تماما عن من عايشتهم أثناء هذه الخبرة الخاصة الأحدث التى أتحدث عنها حالا.
كان الجزء من الخبرة الأكثر إفاقة حين كان الخطيب يقول كلاما معادا لم أسمعه كله لصعوبة فى سمعى، ولاحظت أن أكثر من تسعين بالمائة من المستمعين يطأطئون رؤوسهم بعد كل وقفة عند أية جملة، وأنا لا أفعل، وأكاد أشعر أننى أرفض ذلك بإرادتى، أو ربما لمجرد أننى لم أسمع جيدا، أو: لأنهم يصرون على هذه الحركة الآلية بتتابع شبه ميكنى لم تصلنى منه أية إرادة!
يبدو أن الخبرة التى استلهمت منها فروضى السابق طرحها عن ثقافتنا، وعن تشكيلات الوعى المتصاعدة، وعن الإدراك الأشمل كوسيلة للكدح إلى وجه ربنا، هى خبرة متكاثفة عبر عشرات السنين، وقد توّجتْها خبرتى فى العلاج الجمعى مع مجموعات متتالية من أواسط ناسنا الفقراء أو متوسطى الحال جدا (حيث العلاج بالمجان، وفي مستشفى جامعى عام)، أرجعت الفرق الهائل بين هذه الخبرة الخاصة الأحدث، وتلك الخبرة المهنية الممتدة، إلى تركيزى المهنى والشخصى على ما هو: “هنا والآن”، مع التنبيه إلى تجنب، أو على الأقل الإقلال من الأسئلة والنصائح، مقابل تنشيط “الشغل” فيما بيننا بديلا عن “النقاش” و”إبداء الآراء” ومناقشة “وجهات النظر”، تذكرت وأنا بين الجموع الغفيرة فى هذه الخبرة الأحدث أننا فى العلاج الجمعى لا نحنى رؤوسنا لما يقال، عمّال على بطـّال وإنما نواجه بعضنا البعض البعض وجها لوجه حالا (مرة ثانية: أناçè أنت & هنا: الآن) ونتواصل، ونستحضر، ونشارك، ونتفاعل، فيحل الوعى البينشخصى محل الكلمات أو معها (لم أكن أعرف ذلك أو أسميه قبلا!!)، ومنه يتخلق الوعى الجمعى ثم الوعى الجماعى فلا نحتاج أن نطأطئ رؤوسنا بعد الجمل التى تعجبنا أو المفروض أنها تعجبنا حتى لو لم نسمعها جيدا.
هذه المقارنة العشوائية التى فرضت نفسها وأنا أعد لكتابة هذه النشرة جعلتنى أتساءل:
v أى الخبرتان أكثر تمثيلا لثقافتنا التى أزمع الحديث عنها؟
v أيهما أكثر فاعلية (العامل العلاجى) فى مختلف أنواع العلاجات؟
v أيهما أكثر قربا إلى الفطرة البشرية (ربى كما خلقتنى) وقوانين البقاء؟
v هل يصدر كلاهما من نفس المستوى من الوعى والإرادة ؟
منعتُ نفسى أن أتحيز لخبرتى الخاصة على حساب ما وصلنى من مئات الحضور فى تلك الخبرة الحديثة التى أشرتُ إليها فى بداية نشرة اليوم، ورجعت أتذكر بعض ما أعرف عن ما يشيع فى ثقافتنا بين العامة البسطاء عن “العامل العلاجى” أيضا، وتساءلت من جديد:
v هل ما يدور على لسان مرضانا، وأهاليهم، وغيرهم من عامة الأصحاء البسطاء مثل قولهم: الله هو الشافى، وإذا مرضت فهو يشفينى، الشفا من الله ..إلخ هل كل هذا ومثله له علاقة بما يتخلق بيننا أثناء العلاج الجمعى بالذات؟
v هل الحقيقة الأحدث فى سلسلة إنجازات العلم المعرفى العصبى، (والنيورولجيا البيولوجية) عن أن “المخ يعيد بناء نفسه” يقلل من دور الإرادة فى عملية الشفاء أم أنه يوجهها إلى وجهة أكثر إيجابية؟
v هل القضية الفلسفية، والتاريخية والدينية للرد على السؤال “هل الإنسان مخير أو مسير” لها نصيب فى ممارسة الطب النفسى
v ما علاقة كل ذلك بما سبق أن ناقشناه عن دور الإرادة فى اختيار المرض، وبالذات اختيار الجنون (نشرة 13-7-2008 “زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون”).
v وأخيرا: كيف نستفيد من تفاعل إرادة المعالج (والوسط) وإرادة المريض (والمرض) فى عملية الشفاء في ظل هذه الصعوبات جميعا؟
وبعد
اضطررت نتيجة هذه المفاجأة الخاصة جدا أن أرجع لبعض الإشارات التى أشرت لها فى مواصفات العلاج الجمعى الذى هدانى لما أسميه ثقافتنا، وهى التى أود أن أقدمها بأقل قدر من الوثقانية، فأقتطف من نشرة سابقة ما أشك أنه وصل لأصحابه، فهو يميز بشكل شديد الوضوح الفرق بين تفاعلات تعتمد على تحريك الوعى البينشخصى، فالوعى الجمعي، وبين الجدل الكلامى، والمناقشات المنطقية التى تسمى عادة حوارات، نحسب أنها دالة على الثقافة العامة فى حين أنها لا تدل إلا على “الآراء المشتركة”،
الثقافة العامة هى غير الرأى العام، غير الرأى المشترك
فى العلاج الجمعى حاولت أن أقدم ما يجرى بأن أبدأ بنفى ما يتصوره العامة عنه، مع أنه أصل تكوين الوعى الجمعى، حتى بعيدا عن وصاية ما يسمى علاجا، وأسمح لنفسى أن أعيد بعض ما يمكن أن يظهر الفروق الشديدة الدلالة:
أفضـّل أن أحدد طبيعة الاختلاف من خلال نفى المتوقع، ويشمل هذا النفى أن هذه الخبرة الواقعية فى العلاج الجمعى:
1– ليست حوارا بين عقلين منطقيين أو أكثر،
2 – ولا هى مناقشة بين رأيين.
3 – ولا هى مناظرة بين وجهات نظر.
4- ولا هى قواعد عامة وصفية أو تطبيقية يطلقها المشارك باعتبارها رأيه فى عامة الناس مثلا (الناس/الواحد/ماهو أصل…الخ).
5 – ولا هى حديث عن من “هو” (ضمير الغائب) إلا بمقدار ما هو مقدمة لإحضاره فى “هنا والآن” (“وعى الآن”).
6 – ولا هى صفقة دفاعات (ميكانزمات) تبريرية (عادة) متبادلة.
7 – ولا هى نصائح (فوقية عادة، من المعالج أو غيره، مؤجلٌ تطبيقها)
8 – ولا هى حِكَمٌ وأمثال (حتى لو كانت مناسبة) إلا انطلاقا منها إلى ما هو “هنا والآن”.
9 – ولا هى تصحيح مباشر لأخطاء معرفية عن النفس، فى الصحة والمرض، (ولا عموما).
10 – ولا هى “إثبـِت لى” و”أثبـِت لك”.
11 – ولا هى تفريغ للإراحة والتنفيث: “أطلّع اللى جوايا”.
12 – ولا هى وعودٌ مؤجلة، لا وعد بالشفاء يصدره المعالج، ولا وعد من المشاركين مثلا باستمرار المشاركة إلخ.
13 – ولا هى تعبير مباشر عن عواطف ساخنة (أو دافئة) أو رافضة.
14 – ولا هى إرشادت عن حدود الحلال والحرام، أو الصواب والخطأ
15 – ولا هى حديث عن أحلام أو آمال مثالية مؤجلة.
16 – ولا هى توجيه لفعل معين إلا فى حدود القواعد، أو كشرط لمواصلة الحضور مع الالتزام بممارسة علاقة ما بالواقع (العمل-الدراسة مثلا)
17 – ولا هى تزجية وقت.
18 – ولا هى مقياس لألمعية ذكاء المشاركين
19 – ولا هى تصفيق لقائد.
20 – ولا هى إثبات للذات.
طيب بالله عليكم كيف تكون كل هذه الليسات هكذا، وأتصور أنها تمثل ثقافتنا؟
بصراحة أنا استلهمت عمق ثقافتنا مما انكشف لى من الوعى الجماعى وليس بشكل مباشر، بمعنى أننى لم أزعم أن ما يجرى فى العلاج الجمعى هو ثقافتنا.
وبعد
سوف أكتفى اليوم بعرض بعض الأشكال التى سوف أبدا بها غدا رسم العلاقة بين الوعى والإرادة ومعالم ثقافتنا، أعرضها دون تعليق مفصل، وقد شكلتها مما وصلنى وحاولت استيعابه عما يجرى من تصعيد الوعى البشرى تدريجيا إلى غايته المطلقة بشكل أو بآخر:
المرحلة الرابعة: وما بعدها: (أنظر بعد).
وبعد
أنا أقدم هذه الأشكال اليوم لسبب آخر غير توضيح ما يجرى فى العلاج الجمعى، وهو توضيح علاقة الوعى الجمعى بتصعيدات الوعى إلى الوعى المطلق إلى الوعى الكونى إلى وجه الله
الذى أريد أن أقدمه متجنبا أى منطلق دينى تراثى، أو رأى ثابت عقائدى، هو أن ثقافتنا الأصل تنتمى إلى هذا التصعيد لمستويات الوعى بشكل تلقائى بسيط، يتمثل أحيانا فى عادات فطرية أو تقاليد شعبية أصيلة، كما يتمثل فى تسهيل وتدعيم نوع من الترابط بين الناس أبعد وأشمل من العلاقات الشيزيدية المغلقة المستورد أغلبها، وهى التى تتحكم فيها الألفاظ والأوراق والمؤسسات الحاكمة المُحْكَمَة.
حضور الله انطلاقا من الوعى الشخصى إلى البينشخصى إلى الوعى الجمعى فى ثقافتنا – وبرغم تزايد جرعات التقليد التى شوهتنا حتى المسخ – ما زال مرتبط بالوعى الجمعى الشعبى، فالوعى الجماعى الإنسانى، وأعتقد أن هذا يغير مفاهيم كثيرة بعيدا عن الترهيب والترغيب، مفاهيم لها علاقة جذرية بعملية الشفاء التى نتحدث عنها، شريطة أن يبدأ حديثنا، وتنطلق خبرتنا من “هنا” و”الآن” جدا ودائما، إلى غيب حاضر حضور الشهادة لأنه وعى أيضا.
وهذا ما أخشى أن اخوض فيه فعلا
وفى نفس الوقت هو ما أجد لزاما علىّ أن أوصله لأصحابه البشر: إليه،
ومن يريد أن يرعى ويواصل حياته والله معه وفيه وبه وهو إليه وإلى الناس وبالناس انطلاقا من “هنا والآن” إلى المابعد، فليفعل
وكذلك فإن من يريد أن ينكر هذه الحقيقة، أو يسميها بأسماء علمية أو اغترابية، أو مستعارة فليفعل، سواء كان ذلك بناء عن ثقافته المختلفة، أو اختناقا بأيديولوجيته الجاثمة.
لكن سوف تظل مسئولية الوعى، والوعى بالوعى، هى حقائق بالغة الدلالة بالغة الأهمية فى مجالنا هذا، لغرضنا هذا: الرجوع بالإنسان، المريض أولا، إلى ما خلقه الله به وله، مستعملين كل إنجازات العلم، وإيجابيات الوعى الشخصى، والبينشخصى، وإبداعات التطور والتشكيل، وإعادة بناء المخ لنفسه باستمرار، لنواصل الاستماع إلى همس ثقافتنا من واقع ممارستنا وموضوعية نتائجنا مهما أعجزتنا اللغة الحالية.
هذا علما بأنها ليست ثقافة متميزة جدا عن غيرها،
وإنما أنا أتكلم انطلاقا مما يصلنى من ثقافتى وقبل أن تُشَوَّه، وأنا واثق أن ما يصلنى يصل لغيرى من ثقافات أخرى، ولو بأسماء أخرى.